الحدائق الناضرة - ج ١٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٦

وصحيحته الأخرى عن ابي عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحج ، فقال : تمتع. ثم قال : انا إذا وقفنا بين يدي الله (تعالى) قلنا : يا ربنا أخذنا بكتابك. وقال الناس : رأينا رأينا. ويفعل الله بنا وبهم ما أراد».

ورواية معاوية بن عمار عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «من حج فليتمتع ، انا لا نعدل بكتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وروايته (٣) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ما نعلم حجا لله غير المتعة ، انا إذا لقينا ربنا قلنا : ربنا عملنا بكتابك وسنة نبيك صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقوم القوم : عملنا برأينا. فيجعلنا الله وإياهم حيث يشاء».

والظاهر ان التقريب فيها من جهة ان الخطاب فيها مع أهل الآفاق الخارجين عن حاضري مكة ، وإلا فإن غاية ما تدل عليه هو أفضلية التمتع أو تعينه ، ولا تعرض فيها لذكر النائي ولا غيره ، والأظهر هو الاستدلال بالأخبار الآتية كما سنشير اليه ان شاء الله تعالى.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الأصحاب قد اختلفوا في حد البعد المقتضي لتعين التمتع على البعيد على قولين :

أحدهما ـ وهو المشهور ـ انه عبارة عن ثمانية وأربعين ميلا من كل ناحية ، ذهب اليه الشيخ في النهاية والتهذيب ، وابنا بابويه وأكثر الأصحاب (رضوان الله عليهم) وربما ظهر من كلام الشيخ ان البعد انما يتحقق بالزيادة عن الثمانية والأربعين. والظاهر ان الأمر في ذلك هين ، لأن الحصول على رأس المسافة المذكورة من غير زيادة ولا نقصان نادر.

وثانيهما ـ انه عبارة عن اثنى عشر ميلا فما زاد من كل جانب ، ذهب إليه

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ٣ من أقسام الحج.

٣٢١

الشيخ في المبسوط ، وابن إدريس ، والمحقق في الشرائع ، مع انه رجع عنه في المعتبر وقال : انه قول نادر لا عبرة به. وبه قال العلامة في الإرشاد.

ومن أصحاب هذا القول من اعتبر هذا التقدير بالنسبة إلى مكة ، ومنهم من اعتبره بالنسبة الى المسجد الحرام ، وهو قول الشيخ في بعض كتبه كما نقله العلامة في التذكرة.

ولم نقف للقائلين بهذا القول على دليل ، وقد اعترف بذلك جملة من الأصحاب : منهم ـ المحقق في المعتبر والشهيد في الدروس وغيرهما ، وقال في المختلف : وكأن الشيخ نظر الى توزيع الثمانية والأربعين من الأربع جوانب فكان قسط كل جانب ما ذكرناه. ثم قال : وليس بجيد. قال في المدارك : لان دخول ذات عرق وعسفان في حاضري مكة ينافي ذلك.

والمعتمد هو القول الأول ، ويدل عليه ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة عن ابي جعفر عليه‌السلام (١) قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : قول الله (تعالى) في كتابه (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (٢)؟ قال : يعني أهل مكة ليس عليهم متعة كل من كان اهله دون ثمانية وأربعين ميلا ، ذات عرق وعسفان ، كما يدور حول مكة فهو ممن دخل في هذه الآية ، وكل من كان اهله وراء ذلك فعليه المتعة».

وذكر في القاموس : ان عسفان كعثمان : موضع على مرحلتين من مكة. وذات عرق بالبادية ميقات أهل العراق.

ومن ما يعضد ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبيد الله الحلبي وسليمان ابن خالد وابي بصير عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «ليس لأهل مكة ـ ولا لأهل مر ، ولا لأهل سرف ـ متعة ، وذلك لقول الله عزوجل : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ

__________________

(١ و ٣) الوسائل الباب ٦ من أقسام الحج.

(٢) سورة البقرة ، الآية ١٩٥.

٣٢٢

حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» (١).

وبهذا المضمون رواية سعيد الأعرج (٢). قال في المعتبر : ومعلوم ان هذه المواضع أكثر من اثني عشر ميلا. ويؤيده ما ذكره في القاموس : ان بطن «مر» موضع من مكة على مرحلة ، و «سرف» ككتف موضع قرب التنعيم.

وروى في الكافي عن ابي بصير عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «قلت : لأهل مكة متعة؟ قال : لا ، ولا لأهل البستان ، ولا لأهل ذات عرق ولا لأهل عسفان ونحوها».

قال في الوافي : البستان بستان ابن عامر قرب مكة مجتمع النخلتين : اليمانية والشامية.

وما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة عن ابى جعفر (عليه‌السلام) (٤) قال : «سألته عن قول الله عزوجل (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (٥)؟ قال : ذلك أهل مكة ليس لهم متعة ولا عليهم عمرة ، قال : قلت : فما حد ذلك؟ قال : ثمانية وأربعون ميلا من جميع نواحي مكة دون عسفان وذات عرق».

وعن علي بن جعفر (٦) قال : «قلت لأخي موسى بن جعفر (عليه‌السلام) : لأهل مكة ان يتمتعوا بالعمرة إلى الحج؟ فقال : لا يصلح ان يتمتعوا لقول الله عزوجل (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)» (٧).

أقول وبهذه الأخبار ينبغي ان يستدل على تعين التمتع على النائي والفردين الآخرين على الحاضر ، لا بتلك الأخبار المتقدمة ، فإنها مجملة كما عرفت وان كان ما وقفت عليه في كلام أصحابنا إنما اشتمل على الاستدلال بتلك الأخبار

__________________

(١ و ٥ و ٧) سورة البقرة ، الآية ١٩٥.

(٢ و ٣ و ٤ و ٦) الوسائل الباب ٦ من أقسام الحج.

٣٢٣

بقي الكلام في انه قد روى ثقة الإسلام في الكافي في الحسن عن حريز عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (١) : «في قول الله عزوجل (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (٢)؟ قال : من كان منزله على ثمانية عشر ميلا من بين يديها وثمانية عشر ميلا من خلفها وثمانية عشر ميلا عن يمينها وثمانية عشر ميلا عن يسارها فلا متعة له ، مثل «مر» وأشباهه».

قال في المدارك بعد ذكر الخبر المذكور : ويمكن الجمع بينه وبين صحيحة زرارة المتقدمة بالحمل على ان من بعد ثمانية عشر ميلا كان مخيرا بين الافراد والتمتع ، ومن بعد الثمانية والأربعين تعين عليه التمتع.

وروى الشيخ في الصحيح عن حماد بن عثمان عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٣) «في (حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)؟ قال : ما دون الأوقات إلى مكة».

وعن الحلبي عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : «في (حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)؟ قال : ما دون المواقيت إلى مكة فهو حاضري المسجد وليس لهم متعة».

وهذان الخبران بحسب ظاهرهما لا يخلوان من الإشكال ، لأن ما دون الأوقات أعم من ان يكون ثمانية وأربعين ميلا أو أزيد. ولا قائل بذلك. مع ظهور مخالفتهما لصحيحة زرارة المتقدمة وروايته الأخرى. وحينئذ فيجب تقييدهما بعدم الزيادة على الثمانية وأربعين ميلا.

واما ما ذكره في الذخيرة بعد ذكر الاحتمال الذي ذكرناه ـ من انه يحتمل الحمل على التقية لموافقته المحكي عن أبي حنيفة ـ فلا اعرف له وجها ، لأن المحكي عن أبي حنيفة ـ كما نقله في التذكرة ، قال : وقال أبو حنيفة : وحاضر والمسجد الحرام

__________________

(١ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٦ من أقسام الحج.

(٢) سورة البقرة ، الآية ١٩٥.

٣٢٤

أهل المواقيت والحرم وما بينهما (١) ـ مخالف لما دل عليه ظاهر الخبرين المذكورين من تفسير الحاضرين بمن دون المواقيت ، المؤذن بخروج أصحاب المواقيت ، فكيف يمكن حمل الخبرين على مذهبه؟

نعم يمكن ان يقال : ان أقرب المواقيت إلى مكة ـ كما ذكره في التذكرة ـ ذات عرق ، وهي مرحلتان من مكة ، والمرحلتان ـ كما سيأتي بيانه ان شاء الله (تعالى) ـ عبارة عن مسافة يومين. وقال في موضع آخر من التذكرة ايضا : ان قرن المنازل ويلملم والعتيق على مسافة واحدة ، بينها وبين مكة ليلتان قاصدتان.

وعلى هذا فتكون هذه المواقيت من مكة على مسافة ثمانية وأربعين ميلا التي هي الحد الشرعي في ان من كان دونها إلى مكة فهو من حاضري المسجد الحرام ، وإلا فلا.

وتوضيح ذلك انهم قد ذكروا في مسافة التقصير انها عبارة عن أربعة وعشرين ميلا ، وهو بياض يوم باتفاق الاخبار والأصحاب ، وثمانية وأربعون ميلا عبارة عن يومين ، وإذا ثبت ان هذه المواقيت على مسافة ثمانية وأربعين ميلا فكل من كان دونها إلى مكة فهو من حاضري المسجد الحرام. وبه يصح معنى الخبرين من غير اشكال.

ويظهر هذا المعنى ايضا من رواية زرارة ، حيث انه جعل فيها الحد لحاضري مكة هو ما دخل في مسافة ثمانية وأربعين ميلا من جميع نواحي مكة ، ثم قال : دون عسفان وذات عرق. فإنه ظاهر في كونهما على مسافة ثمانية وأربعين ميلا من مكة.

إلا انه ينقدح هنا اشكال آخر في المقام ، وهو ان ظاهر صحيحة زرارة ورواية أبي بصير ان عسفان وذات عرق من جملة حاضري مكة ، وانهما داخلان

__________________

(١) في بدائع الصنائع ج ٢ ص ١٦٩ : حاضرو المسجد الحرام هم أهل مكة وأهل الحل الذين منازلهم داخل المواقيت الخمسة.

٣٢٥

في مسافة الثمانية والأربعين إلى مكة ، مع انه في القاموس صرح بان عسفان على مرحلتين ، والعلامة في التذكرة صرح بان ذات عرق على مرحلتين ، وصاحب المدارك وغيره نقلوا ذلك ، ولم يذكروا معنى المرحلة وانها عبارة عن ما ذا ، والذي وقفت عليه في تفسيرها ما ذكره الفيومي في المصباح ، فإنه قال : والمرحلة المسافة التي يقطعها المسافر في نحو يوم ، والجمع مراحل. وظاهر هذه العبارة كونها عبارة عن مسافة يوم ، بان يكون «نحو» في كلامه بمعنى «مثل» كما هو الظاهر. وعلى هذا فتكون المرحلتان عبارة عن مسافة يومين. وفي كتاب شمس العلوم قال : يقال : بينهما مرحلة ، اي مسيرة يوم. وهو صريح في ما ذكرناه.

ومن هنا ينقدح الاشكال المشار إليه ، لأن الثمانية والأربعين ميلا التي جعلت مناطا للفرق بين حاضري مكة وغيرهم عبارة عن يومين ايضا ، لما عرفت من ما صرحوا به في مسافة التقصير من ما قدمنا ذكره آنفا. وبذلك يلزم الإشكال في صحيحة زرارة ، ورواية أبي بصير ، وكذا كلام الأصحاب الذين صرحوا بان عسفان وذات عرق من توابع مكة ، بمعنى انها داخلة في مسافة الثمانية والأربعين ميلا ، والحال ان عسفان ـ كما ذكره في القاموس ـ على مرحلتين من مكة ، وذات عرق كذلك ، كما تقدم في كلام العلامة في التذكرة ، وبموجب كون المرحلتين عبارة عن مسافة يومين كما نقلناه عن أهل اللغة ـ واليومان عبارة عن ثمانية وأربعين ميلا ـ يكون الموضعان المذكوران خارجين عن حدود مكة وملتحقين بالآفاق الموجبة لحج التمتع. ولم أقف على من تنبه لذلك من أصحابنا (رضوان الله عليهم).

وقد عرفت من ظاهر روايتي حماد بن عثمان والحلبي ما يؤيد ما ذكره في القاموس والتذكرة من خروج هذين الموضعين عن حدود مكة وعدم الدخول في حاضري المسجد.

واحتمال حمل صحيحة زرارة ورواية أبي بصير على التقية ـ لما عرفت من ان

٣٢٦

مذهب أبي حنيفة تفسير حاضري مكة بأهل المواقيت وأهل الحرم وما بينهما ـ وان أمكن إلا ان ظاهر صحيحة زرارة يشعر بان ذات عرق وعسفان داخلان في حدود المسافة المذكورة لا خارجان عنها.

وبالجملة فالمسألة محل توقف واشكال ، ولا مناص للخروج من الإشكال إلا بالطعن في عبارتي القاموس والتذكرة بأن الموضعين المذكورين على مرحلتين ، بان يقال : انهما أقل من ذلك وقوفا على الصحيحة المذكورة ، أو بان يقال : ان المرحلة ليست عبارة عن ما ذكر في المصباح وكتاب شمس العلوم بل أقل من ذلك. والكل مشكل. والله العالم.

المسألة الثانية ـ لا خلاف ولا إشكال في ان من كان فرضه التمتع فإنه لا يجوز له العدول اختيارا الى غيره وانما يجوز له مع الاضطرار بلا خلاف كضيق الوقت عن الإتيان بأفعال العمرة قبل الوقوف ، أو حصول الحيض المانع من الإتيان بطواف العمرة وصلاة ركعتيه.

ومن ما يدل على ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابان بن تغلب عن ابي عبد الله عليه‌السلام (١) في حديث قال : «أضمر في نفسك المتعة فإن أدركت متمتعا وإلا كنت حاجا».

وما رواه في الصحيح عن جميل بن دراج (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المرأة الحائض إذا قدمت مكة يوم التروية؟ قال : تمضي كما هي الى عرفات فتجعلها حجة ، ثم تقيم حتى تطهر فتخرج الى التنعيم فتحرم فتجعلها عمرة». قال ابن ابي عمير : كما صنعت عائشة.

والاخبار في ذلك تأتي ان شاء الله تعالى.

__________________

(١) الوسائل الباب ٢١ من أقسام الحج ، والباب ٢١ من الإحرام.

(٢) الوسائل الباب ٢١ من أقسام الحج.

٣٢٧

نعم انه وقع الخلاف في حد الضيق الموجب للعدول ، وكذا وقع الخلاف في الحائض.

والكلام هنا يقع في مقامين الأول ـ في تحقيق حد الضيق الموجب للعدول :

فقال الشيخ المفيد (قدس‌سره) : من دخل مكة يوم التروية وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فأدرك ذلك قبل مغيب الشمس أدرك المتعة ، فإذا غابت الشمس قبل ان يفعل ذلك فلا متعة له ، فليقم على إحرامه ويجعلها حجة مفردة

وقال الشيخ علي بن الحسين بن بابويه (قدس‌سره) : الحائض إذا طهرت يوم التروية قبل زوال الشمس فقد أدركت متعتها ، وان طهرت بعد الزوال يوم التروية فقد بطلت متعتها ، فتجعلها حجة مفردة. قيل : وهو منقول عن المفيد ايضا.

وقال الصدوق (قدس‌سره) في المقنع : فان قدم المتمتع يوم التروية فله ان يتمتع ما بينه وبين الليل ، فان قدم ليلة عرفة فليس له ان يجعلها متعة بل يجعلها حجة مفردة ، فإن دخل المتمتع مكة فنسي أن يطوف بالبيت وبالصفا والمروة حتى كان ليلة عرفة فقد بطلت متعته ويجعلها حجة مفردة.

ونقل الشهيد في الدروس عن الحلبي من قدماء أصحابنا انه قال : وقت طواف العمرة إلى غروب الشمس يوم التروية للمختار ، وللمضطر الى ان يبقى ما يدرك عرفة في آخر وقتها.

وقال الشيخ في النهاية : فإذا دخل مكة يوم عرفة جاز له ان يتحلل ايضا ما بينه وبين زوال الشمس ، فإذا زالت الشمس فقد فاتته العمرة وكانت حجة مفردة.

والى هذا القول ذهب ابن الجنيد وابن حمزة وابن البراج والسيد السند في المدارك وقال ابن إدريس : تبقى المتعة ما لم يفت اضطراري عرفة. واستقرب العلامة في المختلف اعتبار اختياري عرفة ، وقواه في الدروس.

٣٢٨

هذا ما حضرني في المسألة من أقوال أصحابنا (رضوان الله عليهم).

واما الاخبار فهي مختلفة غاية الاختلاف ، فمنها ما يدل على ما ذكره الشيخ في النهاية من فوات المتعة بزوال الشمس من يوم عرفة ، وبه استدل في المدارك :

كرواية جميل بن دراج عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «المتمتع له المتعة إلى زوال الشمس من يوم عرفة ، وله الحج الى زوال الشمس من يوم النحر». قال في المدارك : وهو نص في المطلوب.

ووصفها في المدارك بالصحة تبعا للشهيد في الدروس ، مع ان في طريقها محمد ابن عيسى وهو مشترك ، ولا قرينة على انه الأشعري. وهو كثيرا ما يرد هذا السند بالاشتراك ، لاحتمال العبيدي وحديثه عنده في الضعيف. فوصفه بالصحة هنا سهو ظاهر نشأ من الاستعجال.

ومثل هذه الرواية ما رواه في الكافي عن العدة عن سهل ، رفعه عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٢) : «في متمتع دخل يوم عرفة؟ قال : متعته تامة الى ان يقطع التلبية». وقطع التلبية هنا كناية عن الزوال من يوم عرفة ، لأنه وقت قطع التلبية

وكيف كان فالخبران ضعيفان لا يصلحان للاستدلال على قاعدته.

ومنها ـ ما يدل على العدول إذا خاف فوت الموقف ، نحو حسنة الحلبي (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل أهل بالحج والعمرة جميعا ، ثم قدم مكة والناس بعرفات ، فخشي ان هو طاف وسعى بين الصفا والمروة أن يفوته الموقف؟ قال : يدع العمرة ، فإذا أتم حجه صنع كما صنعت عائشة ولا هدي عليه».

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٢٠ من أقسام الحج.

(٣) الوسائل الباب ٢١ من أقسام الحج.

٣٢٩

وما رواه الكليني والشيخ عنه عن يعقوب بن شعيب الميثمي (١) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : لا بأس للمتمتع ان لم يحرم من ليلة التروية متى ما تيسر له ما لم يخف فوت الموقفين».

قال في الوافي : في بعض النسخ : «ان يحرم من ليلة عرفة» مكان «ان لم يحرم من ليلة التروية».

أقول : الظاهر من الخبرين المذكورين ان المراد بالموقف فيهما الموقف الاختياري ، بمعنى انه متى قدم مكة والناس في عرفات ، وخشي انه ان اشتغل بأفعال العمرة ـ وبينه وبين عرفات أربعة فراسخ ـ لم يلحق الموقف الاختياري ، فإنه يدع العمرة وينقل حجه الى الافراد ويبادر الى عرفات ليدرك الموقف الاختياري ، والحمل على الاضطراري ـ كما رجحه في الذخيرة ـ الظاهر بعده بل عدم استقامته. ولهذا ان صاحب المدارك اعتضد بحسنة الحلبي المذكورة بعد استدلاله برواية جميل. ومن الظاهر ان رواية جميل إنما أريد منها ذلك ، فان المراد من قوله : «المتمتع له المتعة إلى زوال الشمس من يوم عرفة» انه ان عرف انه يأتي بأفعال العمرة من الصبح على وجه يدرك الناس بعرفات بقي على متعته وأدرك الموقف ، وان عرف انه لا يفرغ منها إلا الى الزوال فإنه ينقل حجه الى الافراد ويمضي الى عرفة ويدرك الموقف.

وبهذا التقريب يرجع كلام الشيخ والاخبار المذكورة الى ان المدار في ذلك على انه ان عرف ادراك الموقف بقي على ما اعتمر وبقي على متعته ، وان عرف فواته نقل نيته الى الافراد وبادر الى عرفات. وهو ما صرح به العلامة في المختلف والشهيد في الدروس. وهو صريح عبارة الشيخ الآتي نقلها (٢) عن التهذيب.

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٠ من أقسام الحج.

(٢) ص ٣٣٧.

٣٣٠

وعلى هذا القول يدل صحيح زرارة (١) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن الرجل يكون في يوم عرفة وبينه وبين مكة ثلاثة أميال وهو متمتع بالعمرة إلى الحج؟ فقال : يقطع التلبية تلبية المتعة ، ويهل بالحج بالتلبية إذا صلى الفجر ، ويمضي الى عرفات فيقف مع الناس ويقضي جميع المناسك ، ويقيم بمكة حتى يعتمر عمرة المحرم ، ولا شي‌ء عليه». ىوهو ظاهر في العدول متى لم يدرك اختياري عرفة ، وإلا فإن الاضطراري في الصورة المذكورة يمكن إدراكه.

وما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن سرو (٢) ـ وهو مجهول ، إلا ان المحقق الشيخ حسن قال في كتاب المنتقى : محمد بن سرو ، وهو ابن جزك ، والغلط وقع في اسم أبيه من الناسخين. وحينئذ فالخبر صحيح ، لان محمد بن جزك ثقة ـ قال : «كتبت الى ابى الحسن الثالث (عليه‌السلام) ما تقول في رجل متمتع بالعمرة إلى الحج وافى غداة عرفة وخرج الناس من منى الى عرفات ، اعمرته قائمة أو قد ذهبت منه؟ الى اي وقت عمرته قائمة إذا كان متمتعا بالعمرة إلى الحج فلم يواف يوم التروية ولا ليلة التروية ، فكيف يصنع؟ فوقع (عليه‌السلام) : ساعة يدخل مكة ـ ان شاء الله تعالى ـ يطوف ويصلي ركعتين ويسعى ويقصر ويخرج بحجته ويمضي إلى الموقف ويفيض مع الامام».

وما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن محمد بن أبي حمزة عن بعض أصحابه عن ابى بصير ـ ورواه في الفقيه عن ابى بصير (٣) ـ قال : «قلت

__________________

(١) الوسائل الباب ٢١ من أقسام الحج.

(٢) الوسائل الباب ٢٠ من أقسام الحج. وفي الاستبصار ج ٢ ص ٢٤٧ «ويحرم بحجته».

(٣) الكافي ج ٤ ص ٤٤٧ ، والتهذيب ج ٥ ص ٤٧٥ ، والفقيه ج ٢ ص ٢٤٢ ، وفي الوسائل الباب ٢٠ من أقسام الحج. وفي غير الكافي : «وتلحق الناس بمنى فلتفعل».

٣٣١

لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : المرأة تجي‌ء متمتعة فتطمث قبل ان تطوف بالبيت فيكون طهرها ليلة عرفة؟ فقال : ان كانت تعلم انها تطهر وتطوف بالبيت وتحل من إحرامها وتلحق الناس فلتفعل».

وهو ظاهر ـ كما ترى ـ في اشتراط لحوق الناس في عرفات الذي هو عبارة عن الموقف الاختياري ، كما أشار إليه في الخبر الأول بقوله : «ويفيض مع الامام».

ومن ما يدخل في سلك نظام هذه الاخبار ايضا ما رواه ثقة الإسلام في الكافي والصدوق في الفقيه في الصحيح عن محمد بن ميمون (١) قال : «قدم أبو الحسن (عليه‌السلام) متمتعا ليلة عرفة فطاف وأحل واتى بعض جواريه ، ثم أهل بالحج وخرج».

ومنها ـ ما يدل على ان الاعتبار بإدراك الناس بمنى ، بمعنى انه ان امكنه الإتيان بالعمرة وادراك الناس بمنى أدرك التمتع وإلا فلا.

ومن ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «المتمتع يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ما أدرك الناس بمنى».

وفي الصحيح عن مرازم بن حكيم (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : المتمتع يدخل ليلة عرفة مكة ، أو المرأة الحائض ، متى يكون لهما المتعة؟ قال : ما أدركوا الناس بمنى».

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٤٤٣ ، والفقيه ج ٢ ص ٢٤٢ ، وفي الوسائل الباب ٢٠ من أقسام الحج.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٢٠ من أقسام الحج.

٣٣٢

وفي الموثق عن ابن بكير عن بعض أصحابنا (١) «انه سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن المتعة متى تكون؟ قال : يتمتع ما ظن انه يدرك الناس بمنى».

وفي الصحيح عن هشام ومرازم وشعيب عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٢) : «في الرجل المتمتع يدخل ليلة عرفة فيطوف ويسعى ثم يحل ثم يحرم ويأتي منى؟ قال : لا بأس».

وعن ابي بصير (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : المرأة تجي‌ء متمتعة فتطمث قبل ان تطوف بالبيت فيكون طهرها ليلة عرفة؟ فقال : ان كانت تعلم انها تطهر وتطوف بالبيت وتحل من إحرامها وتلحق الناس بمنى فلتفعل».

ورواية شعيب العقرقوفي (٤) قال : «خرجت انا وحديد فانتهينا الى البستان يوم التروية ، فتقدمت على حمار فقدمت مكة ، فطفت وسعيت وأحللت من تمتعي ، ثم أحرمت بالحج ، وقدم حديد من الليل ، فكتبت الى ابي الحسن عليه‌السلام أستفتيه في امره؟ فكتب الي : مره يطوف ويسعى ويحل من متعته ، ويحرم بالحج ويلحق الناس بمنى ، ولا يبيتن بمكة».

ومنها ـ ما يدل على توقيت التمتع بآخر نهار التروية :

ومنه ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن عيص بن القاسم (٥) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المتمتع يقدم مكة يوم التروية صلاة العصر تفوته المتعة؟

__________________

(١ و ٤) الوسائل الباب ٢٠ من أقسام الحج.

(٢) التهذيب ج ٥ ص ١٧١ ، وفي الوسائل الباب ٢٠ من أقسام الحج.

(٣) الوسائل الباب ٢٠ من أقسام الحج. وقد نقل الحديث ص ٣٣١ عن المشايخ الثلاثة ، ولم يذكر فيه لفظ «بمنى» كما هي رواية الكليني (قدس‌سره).

(٥) التهذيب ج ٥ ص ١٧٢ ، وفي الوسائل الباب ٢٠ من أقسام الحج.

٣٣٣

فقال : لا ، له ما بينه وبين غروب الشمس. وقال : قد صنع ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وما رواه عن إسحاق بن عبد الله (١) قال : «سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام عن المتمتع يدخل مكة يوم التروية؟ فقال : للمتمتع ما بينه وبين الليل».

وما رواه في الصحيح عن عمر بن يزيد عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «إذا قدمت مكة يوم التروية وأنت متمتع فلك ما بينك وبين الليل ان تطوف بالبيت وتسعى وتجعلها متعة».

وما رواه عن عمر بن يزيد ايضا عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «إذا قدمت مكة يوم التروية ، وقد غربت الشمس فليس لك متعة ، امض كما أنت بحجك».

وما رواه عن زكريا بن عمران (٤) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن المتمتع إذا دخل يوم عرفة؟ قال : لا متعة له ، يجعلها عمرة مفردة».

وما رواه عن إسحاق بن عبد الله عن ابي الحسن عليه‌السلام (٥) قال : «المتمتع إذا قدم ليلة عرفة فليست له متعة ، يجعلها حجة مفردة ، إنما المتعة إلى يوم التروية».

وما رواه عن موسى بن عبد الله (٦) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المتمتع يقدم مكة ليلة عرفة؟ قال : لا متعة له ، يجعلها حجة مفردة ويطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويخرج إلى منى ، ولا هدى عليه ، انما الهدي على المتمتع».

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٢٠ من أقسام الحج.

(٣) الوسائل الباب ٢١ من أقسام الحج.

(٤) الوسائل الباب ٢١ من أقسام الحج. وقد أورد اسم الراوي كما جاء في الاستبصار ج ٢ ص ٢٤٩. وفي التهذيب ج ٥ ص ١٧٣ «زكريا بن آدم».

(٥ و ٦) التهذيب ج ٥ ص ١٧٣ ، وفي الوسائل الباب ٢١ من أقسام الحج.

٣٣٤

وما رواه عن علي بن يقطين (١) قال : «سألت أبا الحسن موسى (عليه‌السلام) عن الرجل والمرأة يتمتعان بالعمرة إلى الحج ، ثم يدخلان مكة يوم عرفة ، كيف يصنعان؟ قال : يجعلانها حجة مفردة ، وحد المتعة إلى يوم التروية».

ومنها ـ ما يدل على التوقيت بزوال الشمس من يوم التروية ، كصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع (٢) قال : «سألت أبا الحسن الرضا (عليه‌السلام) عن المرأة تدخل مكة متمتعة فتحيض قبل ان تحل ، متى تذهب متعتها؟ قال : كان جعفر (عليه‌السلام) يقول : زوال الشمس من يوم التروية. وكان موسى (عليه‌السلام) يقول : صلاة الصبح من يوم التروية. فقلت : جعلت فداك عامة مواليك يدخلون يوم التروية ويطوفون ويسعون ثم يحرمون بالحج؟ فقال : زوال الشمس. فذكرت له رواية عجلان ابي صالح فقال : لا ، إذا زالت الشمس ذهبت المتعة. فقلت : فهي على إحرامها أو تجدد إحرامها للحج؟ فقال : لا هي على إحرامها. فقلت فعليها هدي؟ فقال : لا ، إلا ان تحب ان تطوع. الحديث».

أقول : ورواية عجلان ابي صالح هي ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن درست عن عجلان ابي صالح (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام)

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٢١ من أقسام الحج.

(٣) روى الكليني هذا الحديث في الكافي ج ٤ ص ٤٤٦ بطريقين ، ونقل في الوسائل الحديثين في الباب ٨٤ من الطواف برقم ٢ و ٦. وقوله (عليه‌السلام) : «فإذا قدمت مكة طافت بالبيت طوافين ثم سعت بين الصفا والمروة» يختص به أحد الطريقين وينتهي بقوله : «ما خلا فراش زوجها» والطريق الثاني يفقد الفقرة المتقدمة ويشتمل على تتمة ، وهي قول الراوي : وكنت انا وعبيد الله بن صالح. الى آخره. والمصنف (قدس‌سره) جمع بين ألفاظ الطريقين ونقل الحديث بالصورة المذكورة.

٣٣٥

متمتعة قدمت مكة فرأت الدم ، كيف تصنع؟ قال : تسعى بين الصفا والمروة وتجلس في بيتها ، فان طهرت طافت بالبيت ، وان لم تطهر فإذا كان يوم التروية أفاضت عليها الماء وأهلت بالحج وخرجت إلى منى فقضت المناسك كلها ، فإذا قدمت مكة طافت بالبيت طوافين ثم سعت بين الصفا والمروة ، فإذا فعلت ذلك فقد حل لها كل شي‌ء ما عدا فراش زوجها. قال : وكنت انا وعبيد الله بن صالح سمعنا هذا الحديث في المسجد ، فدخل عبيد الله علي ابي الحسن (عليه‌السلام) فخرج الي فقال : قد سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن رواية عجلان فحدثني بنحو ما سمعنا من عجلان».

أقول : ظاهر هذا الحديث ـ كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى في المقام الثاني ـ هو البقاء على المتعة من غير عدول ، وقضاء طواف العمرة بعد الإتيان بالمناسك

وروى في الكتاب المذكور (١) في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج في حديث طويل قال : «أرسلت الى ابى عبد الله (عليه‌السلام) ان بعض من معنا من صرورة النساء قد اعتللن ، فكيف تصنع؟ قال : فلتنظر ما بينها وبين التروية فإن طهرت فلتهل بالحج ، وإلا فلا يدخل عليها يوم التروية إلا وهي محرمة».

وروى الشيخ في التهذيب والصدوق في الفقيه في الصحيح عن جميل بن دراج (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن المرأة الحائض إذا قدمت مكة يوم التروية؟ قال : تمضي كما هي الى عرفات فتجعلها حجة ، ثم تقيم حتى تطهر ، وتخرج الى التنعيم فتحرم وتجعلها عمرة» وزاد في التهذيب (٣) : قال ابن ابى عمير : «كما صنعت عائشة».

__________________

(١) ج ٤ ص ٣٠٠ و ٣٠١ ، وفي الوسائل الباب ٩ و ٢١ من أقسام الحج.

(٢) الوسائل الباب ٢١ من أقسام الحج.

(٣) ج ٥ ص ٣٩٠.

٣٣٦

وقد تقدم في رواية علي بن يقطين : «وحد المتعة إلى يوم التروية».

وقال في كتاب الفقه الرضوي (١) : وإذا حاضت المرأة من قبل ان تحرم فعليها أن تحتشي إذا بلغت الميقات وتغتسل وتلبس ثياب إحرامها وتدخل مكة وهي محرمة ، ولا تقرب المسجد الحرام ، فان طهرت ما بينها وبين يوم التروية قبل الزوال فقد أدركت متعتها ، فعليها ان تغتسل وتطوف بالبيت وتسعى بين الصفا والمروة وتقضي ما عليها من المناسك ، وان طهرت بعد الزوال يوم التروية فقد بطلت متعتها ، فتجعلها حجة مفردة.

ولا يخفى ان عبارة الشيخ علي بن بابويه المتقدمة إنما أخذت من هذه العبارة ، على عادته التي أشرنا إليها في غير موضع من ما تقدم.

ومنها ـ ما يدل على التحديد بسحر عرفة ، كما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : الى متى يكون للحاج عمرة؟ قال : الى السحر من ليلة عرفة».

أقول : لا يخفى ما في هذه الاخبار من الاشكال والداء العضال والتدافع بينها في هذا المجال.

قال الشيخ (قدس‌سره) في التهذيب : المتمتع بالعمرة إلى الحج تكون عمرته تامة ما أدرك الموقفين ، سواء كان ذلك يوم التروية أو ليلة عرفة أو يوم عرفة الى بعد زوال الشمس ، فإذا زالت الشمس من يوم عرفة فقد فاتت المتعة ، لأنه لا يمكنه ان يلحق الناس بعرفات والحال على ما وصفناه. إلا ان مراتب الناس تتفاضل في الفضل والثواب ، فمن أدرك يوم التروية عند زوال الشمس يكون ثوابه

__________________

(١) ص ٣٠.

(٢) الوسائل الباب ٢٠ من أقسام الحج.

٣٣٧

أكثر ومتعته أكمل ممن لحق بالليل ، ومن أدرك بالليل يكون ثوابه دون ذلك وفوق من يلحق يوم عرفة الى بعد الزوال. والاخبار التي وردت ـ في ان من لم يدرك يوم التروية فقد فاتته المتعة ـ المراد بها فوت الكمال الذي يرجوه بلحوقه يوم التروية. وما تضمنت من قولهم (عليهم‌السلام) : «ويجعلها حجة مفردة» فالإنسان بالخيار في ذلك بين ان يمضي المتعة وبين ان يجعلها حجة مفردة إذا لم يخف فوت الموقفين وكانت حجته غير حجة الإسلام التي لا يجوز فيها الافراد مع الإمكان حسبما بيناه ، وانما يتوجه وجوبها والحتم على ان تجعل حجة مفردة لمن غلب على ظنه انه ان اشتغل بالطواف والسعي والإحلال ثم الإحرام بالحج يفوته الموقفان. ومهما حملنا هذه الاخبار على ما ذكرناه لم يكن قد دفعنا شيئا منها. انتهى كلامه زيد مقامه.

أقول : وهذا الكلام جيد في حد ذاته إلا ان انطباق الاخبار عليه في غاية الاشكال ، وان كان أصحابنا قد تلقوه بالقبول في هذا المجال ، فإن الأخبار الدالة على التوقيت بيوم التروية قد دلت جملة منها على انه بعد انقضاء يوم التروية فلا متعة له بل يجعلها حجة مفردة ، فقوله ـ : ان المراد بفوات المتعة يوم التروية فوات الكمال ـ لا يلائم الأمر بالعدول الى الافراد الذي هو حقيقة في الوجوب.

واما قوله في الجواب عن ذلك ـ : انه محمول على غير حجة الإسلام ، وانه مخير في ذلك بين ان يمضي المتعة وبين ان يجعلها حجة مفردة ـ

ففيه أولا ـ مع عدم ظهور قرينة على الحمل على غير حجة الإسلام ، وكذا على التخيير الذي ادعاه ـ ان ظاهر الأمر بالعدول الى حجة الافراد ـ بناء على تسليم ما ذكره ـ يقتضي ان الأفضل هو الافراد ان جاز المضي على التمتع ، مع ان الروايات قد استفاضت بأفضلية حج التمتع في مثل هذه الصورة ، وعاضدها اتفاق

٣٣٨

كلمة الأصحاب على ذلك ايضا ، فكيف يجعل الأفضل هنا حج الافراد ، وتتفق هذه الأخبار على ان الأفضل حج الافراد في صورة الاستحباب كما زعمه؟

والعلامة في المنتهى حمل الأخبار المشار إليها على من خاف فوت الموقفين للجمع بين الروايات.

ولا يخفى ما فيه ، فان من جملة الأخبار المشار إليها صحيحة جميل بن دراج المتقدمة ، وهي قد اشتملت على القدوم يوم التروية الذي يخرج الناس فيه بالحج ، مع انه أمر المرأة بالمضي الى عرفات وان تجعلها حجة مفردة ، ونحوها الأخبار الأخر فإنها ظاهرة في إدراك الموقف الاختياري كما لا يخفى.

وثانيا ـ ان صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج ظاهرة بل صريحة في حج الإسلام ، لقوله فيها : «ان بعض من معنا من صرورة النساء» والمراد بالصرورة انما هو من لم يحج كما عرفت آنفا ، فهو ظاهر في كون حج المرأة المذكورة انما هو حج الإسلام ، ومع ذلك جعل المناط فيها يوم التروية ، فإن طهرت أحلت في يوم التروية وإلا مضت في إحرامها تنقله الى الافراد.

وثالثا ـ قول الرضا (عليه‌السلام) في كتاب الفقه (١) : «وان طهرت بعد الزوال يوم التروية فقد بطلت متعتها فتجعلها حجة مفردة». وهي صريحة في المدعى. وقد عرفت من ما قدمنا في غير موضع ان الكتاب معتمد ، ومنه أخذ علي بن الحسين بن بابويه عبارته المتقدمة ، كما نبهنا عليه مرارا في ما سلف. ومن ما يعضد كلامه في الكتاب المذكور صحيح محمد بن إسماعيل بن بزيع عنه (عليه‌السلام) (٢).

وبالجملة فإن الأخبار المذكورة ظاهرة تمام الظهور في ما قلناه ، ولهذا

__________________

(١) ص ٣٠.

(٢) ص ٣٣٥.

٣٣٩

ذهب المشايخ المتقدم ذكرهم الى القول بمضمونها. وتأويل الشيخ (رضوان الله عليه) لها بما ذكره بعيد غاية البعد ، لكن أصحابنا المتأخرين حيث رأوا الأخبار بهذا الاختلاف الزائد ولم يهتدوا الى وجه يجمعون به بينها جمدوا على كلام الشيخ المذكور.

والأظهر عندي في اختلاف هذه الاخبار انما هو الحمل على التقية ، على الوجه الذي قدمنا ذكره في المقدمة الاولى من مقدمات الكتاب ، من انهم (عليهم‌السلام) كثيرا ما يلقون الاختلاف بين الشيعة في الأحكام لما يرونه من المصلحة التي تقدمت الإشارة إليها في المقدمة المذكورة وان لم يكن شي‌ء منها مذهبا للعامة.

وأنت خبير بان روايات التحديد بإدراك منى ، وكذا روايات التحديد بآخر نهار التروية ، وروايات التحديد بيوم التروية ، كلها متقاربة يمكن حمل بعضها على بعض ، والمخالفة التامة إنما تحصل بين هذه الاخبار والاخبار الأولة الدالة على ان المدار في ذلك على ادراك الموقفين. والجمع بينهما ـ كما عرفت ـ مشكل. ويمكن ترجيح الأخبار الأولة بأنها أوفق بقواعد الاخبار والأصحاب ، والثانية بأنها أكثر عددا.

وظاهر الفاضل الخراساني في الذخيرة الميل الى ما ذهب اليه الشيخ المفيد وابن بابويه ، حيث قال : ولا يخفى ان مقتضي صحيحة جميل تعين العدول يوم التروية ، ومقتضى صحيحة محمد بن إسماعيل توقيت متعتها بزوال الشمس يوم التروية. والاولى العمل بذلك كما هو محكي عن علي بن بابويه والمفيد ، وقد سبق حكايته. انتهى.

والمسألة لا تخلو من شوب الاشكال. ولعل الترجيح للقول المشهور. والله العالم

المقام الثاني ـ المشهور بين الأصحاب ان الحائض والنفساء إذا منعهما عذرهما عن التحلل وإنشاء الإحرام بالحج لضيق الوقت فإنهما تبقيان على إحرامهما وتنقلان حجهما الى الافراد.

٣٤٠