الحدائق الناضرة - ج ١٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٦

عنه ، والعبادات تابعة للنيات والقصود.

ومن ما يعضد القول الأول هنا ما تقدم (١) من الاخبار في المسألة الاولى من مسائل هذا المقصد الدالة على ان من اعطى رجلا مالا يحج عنه فحج عن نفسه فإنها تقع عن صاحب المال. فإنه متى صح كونها عن صاحب المال بدون نية الإحرام عنه فمعها اولى.

وبذلك صرح شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد فقال : ويمكن ان يحتج للشيخ برواية ابن أبي حمزة عن الصادق عليه‌السلام. ثم ساق الرواية كما قدمناه (٢) ثم قال (قدس‌سره) : فإذا كان يجزئ عن المنوب لا مع نية الإحرام فلأن يجزئ بنيته اولى.

ورد ذلك في المدارك بضعف الرواية. وفيه انك قد عرفت من ما قدمنا ثمة ان بعض هذه الروايات من مرويات صاحب الفقيه ، وهو كثيرا ما يعتضد بها بناء على ما ذكره في ديباجة كتابه.

وبالجملة فالمسألة لا تخلو من شوب الاشكال وان كان قول الشيخ ـ لما عرفت ـ لا يخلو من قوة. والله العالم.

المسألة العاشرة ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو اوصى للحج بقدر معين ، فان كان الحج واجبا أخرج أجرة المثل من الأصل ، وما زاد ـ ان كان في ذلك المقدار زيادة ـ من الثلث كما هو شأن الوصايا ، وان كان الحج ندبا فالجميع من الثلث.

وما ذكروه في الواجب ، اما في حجة الإسلام فلا اشكال فيه ، واما في غيره من النذر وشبهه فهو مبني على الخلاف المتقدم ، وان كان المشهور عندهم انه كحج الإسلام من الأصل.

__________________

(١ و ٢) ص ٢٥٨.

٣٠١

ومن ما يدل على ان حج الإسلام من الأصل والمندوب من الثلث ما رواه الصدوق في الصحيح عن معاوية بن عمار عن ابي عبد الله عليه‌السلام (١) «في رجل مات واوصى ان يحج عنه؟ فقال : ان كان صرورة حج عنه من وسط المال وان كان غير صرورة فمن الثلث».

وما رواه الصدوق ايضا عن الحارث بياع الأنماط (٢) : «أنه سمع أبا عبد الله عليه‌السلام وسئل عن رجل اوصى بحجة؟ فقال : ان كان صرورة فمن صلب ماله ، انما هي دين عليه ، فان كان قد حج فمن الثلث».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل مات واوصى ان يحج عنه؟ قال : ان كان صرورة فمن جميع المال ، وان كان تطوعا فمن ثلثه».

وروى نحوه في الصحيح عن الحلبي عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٤) وزاد : «فإن اوصى ان يحج عنه رجل فليحج ذلك الرجل».

__________________

(١) الفقيه ج ٤ ص ١٥٨ ، وفي الوسائل الباب ٢٥ من وجوب الحج وشرائطه ، والباب ٤١ من الوصايا. واللفظ هكذا : «سألته عن رجل مات ...».

(٢) الفقيه ج ٢ ص ٢٧٠ ، وفي الوسائل الباب ٢٥ و ٢٩ من وجوب الحج وشرائطه. واللفظ في الراوي هكذا : «حارث بياع الأنماط» وفي المتن هكذا : «انه سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل» وما ذكر من اللفظ في الراوي والمتن انما هو في التهذيب ج ٩ ص ٢٢٩.

(٣) الوسائل الباب ٢٥ من وجوب الحج وشرائطه ، والباب ٤١ من الوصايا.

(٤) الوسائل الباب ٢٥ من وجوب الحج وشرائطه.

٣٠٢

وهذه الاخبار وما جرى مجراها انما دلت على الوصية بالحج من غير الوصية بقدر معين له ، والظاهر ان التعيين يرجع فيه الى أجرة المثل كما فهمه الأصحاب فيكون المخرج من الأصل والثلث هو اجرة المثل ، وحينئذ فيكون الزائد عليها مع التعيين يخرج من الثلث كما تقدم.

ولبعض الأصحاب في المسألة تفصيل حسن لا بأس بذكره قال : من اوصى بالحج ، فاما ان يعين الأجير والأجرة معا أو لا يعينهما أو يعين الأجير دون الأجرة أو بالعكس ، ثم اما ان يكون الحج واجبا أو مندوبا ، فالصور ثمان :

الاولى ـ ان يعين الأجير والأجرة معا ويكون الحج واجبا ، فيجب اتباع ما عينه الموصي ، ثم ان كانت الأجرة المعينة مقدار اجرة المثل أو أقل نفذت من الأصل ، وان زادت كانت اجرة المثل من الأصل والزيادة من الثلث ان لم يجز الورثة. ولو امتنع الموصى له من الحج بطلت للوصية واستؤجر غيره بأقل ما يوجد من يحج به عنه.

أقول : الحكم ببطلان الوصية هنا مطلقا بامتناع الموصى له ـ حتى انه يصير في حكم ما لو لم يوص بالكلية ، فيستأجر غيره بأقل ما يوجد من يحج به عنه ـ لا اعرف له وجها ظاهرا ، لأنه قد أوصى بأمرين الأجير والأجرة والحج واجب لا بد من إخراجه ، وتعذر الأجير لامتناعه لا يوجب بطلان تعيين الأجرة ، إلا ان يعلم ان التعيين انما وقع من حيث خصوصية ذلك الأجير الموصى له وهو هنا غير معلوم. وسيأتي في كلامه ما يشير الى ما ذكرناه.

قال العلامة في المنتهى في هذه الصورة : فإن رضي الموصى له فلا بحث وإلا استؤجر غيره بالمعين ان ساوى اجرة المثل أو كان أقل ، وان زاد فالوجه ان الزيادة للوارث لأنه اوصى بها لشخص معين بشرط الحج ولم يفعل الموصى له فتكون للوارث ، ولا شي‌ء للموصى له ، لأنه إنما اوصى له بشرط قيامه بالحج. انتهى.

٣٠٣

وبذلك يظهر ان حكمه بالاستئجار بأقل ما يوجد من يحج بها عنه محل نظر.

ثم قال الثانية ـ الصورة بحالها والحج مندوب ، فيجب إخراج الوصية من الثلث إلا مع الإجازة فتنفذ من الأصل. ولو امتنع الموصى له من الحج فالظاهر سقوطه ، لأن الوصية انما تعلقت بذلك المعين فلا تتناول غيره. نعم لو علم تعلق غرض الموصى بالحج مطلقا وجب إخراجه ، لأن الوصية على هذا التقدير في قوة شيئين فلا يبطل أحدهما بفوات الآخر.

أقول : هذا من ما يؤيد ما ذكرناه آنفا ، لانه متى ثبت ذلك في التعدد الضمني ففي التعدد المصرح به أظهر.

ثم قال الثالثة ـ ان يعين الأجير خاصة والحج واجب ، فيجب استئجاره بأقل اجرة يوجد من يحج بها عنه. واحتمل الشهيد في الدروس وجوب إعطائه أجرة مثله ان اتسع الثلث. وهو حسن ، بل لا يبعد وجوب اجابته الى ما طلب مطلقا مع اتساع الثلث تنفيذا للوصية بحسب الإمكان ، فيكون الزائد عن الأقل محسوبا من الثلث إلا مع الإجازة. ولو امتنع الموصى له من الحج وجب استئجار غيره بمهما أمكن.

أقول : ما ذكره هنا ـ من وجوب استئجاره بأقل اجرة يوجد من يحج بها عنه ـ قد نقله في الدروس عن المبسوط. ونحوه قال العلامة في المنتهى حيث قال : وان عين الأجير دون الأجرة فقال : أحجوا عني فلانا. ولم يذكر مبلغ الأجرة فإنه يحج عنه بأقل ما يوجد من يحج عنه.

إلا ان الظاهر من عبارة التذكرة هنا هو ان الواجب الاستئجار بأجرة المثل حيث قال : إذا اوصى ان يحج عنه ، فاما ان يكون الحج واجبا أو مندوبا ، فان كان واجبا فلا يخلو اما ان يعين قدرا أولا ، فإن عين فان كان بقدر اجرة المثل أخرجت من الأصل وان زادت عن اجرة المثل أخرجت أجرة المثل من الأصل والباقي

٣٠٤

من الثلث ، وان لم يعين أخرجت أجرة المثل من أصل المال. وهو ظاهر في كون المخرج في هذه الصورة هو اجرة المثل لا أقل اجرة يوجد من يحج بها.

وعلى هذا فإنما يرجع الى الثلث في ما زاد على اجرة المثل لا ما زاد عن الأقل كما ذكروه.

وما ذكروه من التخصيص بهذا الأقل لم يوردوا عليه دليلا ولم يذكروا له وجها ، وكأنهم لحظوا في ذلك رعاية جانب الوارث ، مع ان المستفاد من الأخبار التي قدمناها في الوصية بالحج هو البناء على سعة المال من البلد فنازلا الى الميقات ، وهو لا يلائم هذا التقييد بل انما ينطبق على اجرة المثل كما لا يخفى. على انهم قد صرحوا بأنه إذا اوصى ان يحج عنه ولم يعين الأجرة انصرف ذلك الى أجرة المثل وتخرج من الأصل. والفرق بين المسألتين غير واضح.

ثم قال الرابعة ـ الصورة بحالها والحج مندوب ، والكلام فيه كما سبق من احتساب الأجرة كلها من الثلث. فلو امتنع الموصى له من القبول سقطت الوصية ، إلا إذا علم تعلق غرض الموصى بالحج مطلقا كما بيناه.

الخامسة ـ ان يعين الأجرة خاصة والحج واجب ، فان كانت مساوية لاجرة المثل صرفها الوارث الى من شاء ممن يقوم بالحج ، وكذا ان نقصت ، وان كان أزيد كان ما يساوي أجرة المثل من الأصل والزائد من الثلث.

السادسة ـ الصورة بحالها والحج مندوب ، وحكمها معلوم من ما سبق من احتساب الأجرة كلها من الثلث إلا مع الإجازة.

السابعة ـ ان لا يعين الأجير ولا الأجرة والحج واجب ، فالحج عنه من أصل المال بأقل ما يجد من يحج به عنه. أقول : قد عرفت ما في ذلك من الاشكال ، ومقتضى إطلاق كلام التذكرة الذي قدمناه هو اجرة المثل.

٣٠٥

الثامنة ـ الصورة بحالها والحج مندوب ، والأجرة من الثلث إلا مع الإجازة كما تقدم. انتهى.

المسألة الحادية عشرة ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه لو قصر ما عينه اجرة للحج عن ذلك بحيث لا يرغب فيه أجير أصلا فإنه يصرف في وجوه البر ، وقيل يعود ميراثا.

واستدل في المنتهى على القول المشهور ـ بعد ان قطع به ـ بان هذا القدر من المال قد خرج عن ملك الورثة بالوصية النافذة ، ولا يمكن صرفه في الطاعة التي عينها الموصى ، فيصرف الى غيرها من الطاعات لدخولها في الوصية ضمنا.

واعترضه في المدارك بأنه يتوجه عليه أولا ـ منع خروجه عن ملك الوارث بالوصية ، لأن ذلك انما يتحقق مع إمكان صرفه فيها والمفروض امتناعه ، ومتى ثبت الامتناع المذكور كشف عن عدم خروجه عن ملك الوارث.

وثانيا ـ ان الوصية انما تعلقت بطاعة مخصوصة وقد تعذرت ، وغيرها لم يدل عليه لفظ الموصى نطقا ولا فحوى ، فلا معنى لوجوب صرف الوصية إليه. الى ان قال : ومن هنا يظهر قوة القول بعوده ميراثا.

وفصل المحقق الشيخ علي (قدس‌سره) في هذه المسألة فقال : ان كان قصوره حصل ابتداء بحيث لم يمكن صرفه في الحج في وقت ما كان ميراثا ، وان كان ممكنا ثم طرأ القصور بعد ذلك لطروء زيادة الأجرة ونحوه فإنه لا يعود ميراثا ، لصحة الوصية ابتداء فخرج بالموت عن الوارث ، فلا يعود اليه إلا بدليل ولم يثبت ، غاية الأمر انه قد تعذر صرفه في الوجه المعين فيصرف في وجوه البر كما في المجهول المالك. واستوجهه الشارح (قدس‌سره) ولعل الحكم بعوده ميراثا مطلقا أقرب. انتهى.

٣٠٦

أقول : والقول بالعود ميراثا منقول عن ابن إدريس والشيخ في أجوبة المسائل الحائريات.

ثم لا يخفى ان كلامهم (رضوان الله عليهم) في هذه المسألة ـ وخلافهم فيها وتعليل كل منهم ما اختاره بهذه التعليلات الواهية ـ انما نشأ عن عدم الوقوف على الاخبار التي وردت في هذه المسألة ، وإلا فهي مكشوفة القناع واجبة الاتباع لا يعتريها مناقشة ولا نزاع ، وهي متفقة الدلالة على القول المشهور متعاضدة المقالة على ذلك لا يعتريها قصور ولا فتور.

ومنها ـ ما رواه المشايخ الثلاثة (رضوان الله عليهم) عن علي بن مزيد صاحب الصابري (١) قال : «اوصى الي رجل بتركته وأمرني أن أحج بها عنه فنظرت في ذلك فإذا شي‌ء يسير لا يكفي للحج. فسألت أبا حنيفة وفقهاء أهل الكوفة ، فقالوا : تصدق بها عنه. فلما حججت لقيت عبد الله بن الحسن في الطواف فسألته وقلت له : ان رجلا من مواليكم من أهل الكوفة مات واوصى بتركته الي وأمرني أن أحج بها عنه ، فنظرت في ذلك فلم يكف للحج ، فسألت من قبلنا من الفقهاء فقالوا : تصدق بها. فتصدقت بها ، فما تقول؟ فقال لي : هذا جعفر بن محمد في الحجر فأته واسأله. قال : فدخلت الحجر فإذا أبو عبد الله عليه‌السلام تحت الميزاب مقبل بوجهه الى البيت يدعو ، ثم التفت الي فرآني فقال : ما حاجتك؟ فقلت : جعلت فداك اني رجل من أهل الكوفة من مواليكم فقال : دع ذا عنك ، حاجتك. قلت : رجل مات واوصى الي بتركته ان أحج بها

__________________

(١) الفروع ج ٢ ص ٢٣٩ الطبع القديم ، والتهذيب ج ٩ ص ٢٢٨ ، والفقيه ج ٤ ص ١٥٤ ، وفي الوسائل الباب ٣٧ و ٨٧ من الوصايا. واسم الراوي في الفروع هكذا : «علي بن فرقد صاحب السابري».

٣٠٧

عنه ، فنظرت في ذلك فلم يكف للحج ، فسألت من عندنا من الفقهاء فقالوا : تصدق بها. فقال : ما صنعت؟ قلت : تصدقت بها ، فقال : ضمنت إلا ان لا يكون يبلغ ان يحج به من مكة ، فإن كان لا يبلغ ان يحج به من مكة فليس عليك ضمان ، وان كان يبلغ ان يحج به من مكة فأنت ضامن».

والشيخ في التهذيب (١) رواه بحذف حكاية لقاء عبد الله بن الحسن هكذا : «فلما حججت جئت الى ابي عبد الله عليه‌السلام فقلت : جعلني الله فداك مات رجل واوصى. الحديث» وهو ـ كما ترى ـ صريح في المدعى.

ومن ما يدل على ان المال بالوصية ينتقل عن الورثة ـ وانه مع تعذر صرفه في ما اوصى به يجب صرفه في أبواب البر ـ ما رواه المشايخ الثلاثة (رضوان الله عليهم) بأسانيدهم عن محمد بن الريان (٢) قال : «كتبت الى ابي الحسن عليه‌السلام ـ وفي الفقيه (٣) يعني : علي بن محمد ـ اسأله عن إنسان أوصى بوصية فلم يحفظ الوصي إلا بابا واحدا منها ، كيف يصنع بالباقي؟ فوقع (عليه‌السلام) : الأبواب الباقية اجعلها في البر».

ومن ما ينتظم في سلك هذا النظام ويلج في حيز هذا المقام ما رواه ثقة الإسلام في الكافي (٤) والشيخ في التهذيب (٥) عن ياسين الضرير عن ابي جعفر عليه‌السلام (٦) في حديث يتضمن ان رجلا أوصى بألف درهم للكعبة فسأل أبا جعفر

__________________

(١) ج ٩ ص ٢٢٨.

(٢) الوسائل الباب ٦١ من الوصايا.

(٣) ج ٤ ص ١٦٢ ، واللفظ هكذا : «كتبت إليه ـ يعني : علي بن محمد عليهما‌السلام ـ اسأله ...».

(٤) ج ٤ ص ٢٤١.

(٥) ج ٩ ص ٢١٢.

(٦) الوسائل الباب ٢٢ من مقدمات الطواف.

٣٠٨

عليه‌السلام فقال : ان الكعبة غنية عن هذا انظر الى من أم هذا البيت فقطع به أو ذهبت نفقته أو ضلت راحلته ، وعجز ان يرجع الى أهله ، فادفعها إلى هؤلاء».

وهذه الاخبار كلها ـ كما ترى ـ متفقة الدلالة واضحة المقالة في انه متى تعذر إنفاذ الوصية في الوجوه الموصى بها فإنها لا ترجع ميراثا كما توهموه ، بل يجب صرفها في أبواب البر ، وان دل هذا الخبر الأخير على هذا المصرف الخاص.

وبذلك يظهر لك ما في قول صاحب المدارك بعد جوابه عن كلام العلامة : ومن هنا يظهر قوة القول بعوده ميراثا. وكذا ما في تفصيل الشيخ علي (قدس‌سره) بل استدلال العلامة (رفع الله مقامهم ومقامه) ولكن العذر لهم ظاهر في عدم الوقوف على هذه الاخبار. وهذا من ما يؤيد ما قدمناه في غير مقام من ان بناء الأحكام على هذه التخريجات ـ وان كان ربما يتراءى منه الموافقة للقواعد ـ غير جيد ، بل لا بد من النص القاطع في المسألة وإلا فالوقوف عن الحكم.

والظاهر ان المتقدمين انما ذكروا هذه المسألة استنادا الى هذه الاخبار ولكن حيث لم تصل للمتأخرين تكلفوا هذه التعليلات العليلة. والله العالم.

المسألة الثانية عشرة ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بان الحج كما يصح بالاستئجار يصح ايضا بالارتزاق بان يقول : حج عني وأعطيك نفقتك أو أعطيك كذا وكذا. ولو استأجره بالنفقة لم يصح للجهالة. كذا صرح به في التذكرة.

ثم ان الاستئجار ضربان : أحدهما ـ استئجار عين الشخص بان يقول المؤجر : آجرتك نفسي لا حج عنك أو عن ميتك بنفسي بكذا وكذا. وثانيهما ـ إلزام ذمته بالعمل بأن يستأجره ليحصل له الحج اما بنفسه أو بغيره.

وقال العلامة في المنتهى : الإجارة على الحج على ضربين : معينة وفي الذمة فالمعينة ان يقول له استأجرتك لتحج عني هكذا بكذا. فههنا يتعين على الأجير

٣٠٩

فعلها مباشرة ولا يجوز له ان يستنيب غيره ، لأن الإجارة وقعت على فعله بنفسه. ولو قال : على ان تحج عني بنفسك. كان تأكيدا ، لأن إضافة الفعل إليه في الصورة الأولى تكفي في ذلك. فلو استأجر النائب غيره لم تنعقد الأجرة. واما التي في الذمة بأن يستأجره ليحصل له حجة فيقول : استأجرتك لتحصل لي حجة ويكون قصده تحصيل النيابة مطلقا ، سواء كانت الحجة الصادرة عنه من الأجير أو من غيره ، فان هذا صحيح ويجوز للأجير ان يستنيب فيها ، لأنه كالمأذون له في فعل ما استؤجر فيه لغيره ، وكان كما لو صرح له بالاستنابة.

أقول : وينبغي ان يحمل على هذا القسم الثاني ما رواه الشيخ عن عثمان بن عيسى عن الصادق عليه‌السلام (١) قال : «قلت له : ما تقول في رجل يعطى الحجة فيدفعها الى غيره؟ قال : لا بأس». وما رواه في موضع آخر (٢) عن عيثم ابن عيسى.

وبعض الأصحاب حمله على الاذن لفهمه منه الحمل على الصورة الاولى والأظهر ما ذكرناه. والله العالم.

__________________

(١) التهذيب ج ٥ ص ٤١٧ ، وفي الوسائل الباب ١٤ من النيابة في الحج. والمروي عنه هو الرضا (عليه‌السلام) واللفظ هكذا : «قلت لأبي الحسن الرضا (عليه‌السلام) : ما تقول في الرجل ...».

(٢) التهذيب ج ١ ص ٥٧٩ الطبع القديم ، وفي الطبع الحديث ج ٥ ص ٤٦٢ عن «عثمان بن عيسى» ايضا كما هو احدى النسختين في الطبع القديم.

٣١٠

المقدمة الرابعة

في أقسام الحج

ولا خلاف بين العلماء في أنها ثلاثة : تمتع وقران وافراد ، وعلى ذلك تدل الاخبار :

ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح أو الحسن عن معاوية بن عمار (١) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : الحج ثلاثة أصناف : حج مفرد ، وقران ، وتمتع بالعمرة إلى الحج. وبها أمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والفضل فيها. ولا نأمر الناس إلا بها».

وما رواه في الكافي والفقيه عن منصور الصيقل (٢) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : الحج عندنا على ثلاثة أوجه : حاج متمتع ، وحاج مقرن سائق الهدي ، وحاج مفرد للحج».

وروي الصدوق (رحمه‌الله) في الصحيح عن احمد بن محمد بن ابي نصر البزنطي عن علي بن أبي حمزة عن ابي بصير وزرارة بن أعين عن ابي جعفر عليه‌السلام (٣) قال : «الحاج على ثلاثة وجوه : رجل أفرد الحج وساق الهدي ورجل أفرد الحج ولم يسق الهدي ، ورجل تمتع بالعمرة إلى الحج».

وينبغي ان يعلم ان حج التمتع انما نزل في حجة الوداع وان الحج قبل ذلك انما هو حج قران أو افراد لحاضري مكة والبعيد عنها ، وتخصيص هذين

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من أقسام الحج. والشيخ يرويه عن الكليني.

(٢) الوسائل الباب ١ من أقسام الحج.

(٣) الخصال ج ١ ص ٧١ ، وفي الوسائل الباب ١ من أقسام الحج.

٣١١

الفردين بحاضري مكة والتمتع بالبعيد ـ كما دلت عليه الآية (١) والرواية (٢) ـ انما وقع بعد نزول حج التمتع يومئذ :

روى الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار عن ابي عبد الله عن آبائه (عليهم‌السلام) (٣) قال : «لما فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من سعيه بين الصفا والمروة أتاه جبرئيل عليه‌السلام عند فراغه من السعي وهو على المروة ، فقال : ان الله (تعالى) يأمرك أن تأمر الناس ان يحلوا إلا من ساق الهدي. فأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الناس بوجهه ، فقال : يا ايها الناس هذا جبرئيل ـ وأشار بيده الى خلفه ـ يأمرني عن الله (عزوجل) ان آمر الناس ان يحلوا إلا من ساق الهدي فآمرهم بما أمر الله به. فقام اليه رجل فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نخرج إلى منى ورؤسنا تقطر من النساء ، وقال آخرون : يأمرنا بشي‌ء ويصنع هو غيره. فقال : يا ايها الناس لو استقبلت من امري ما استدبرت صنعت كما صنع الناس ولكني سقت الهدي ولا يحل من ساق الهدي حتى يبلغ الهدي محله. فقصر الناس وأحلوا وجعلوها عمرة. فقام إليه سراقة بن مالك بن جشعم المدلجي فقال يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال : بل لا بد الى يوم القيامة وشبك بين أصابعه. وانزل الله تعالى في ذلك قرآنا (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)» (٤).

وقد استفاضت الاخبار بان أفضل الثلاثة للبعيد بعد الإتيان بالفرض هو

__________________

(١) وهي قوله تعالى في سورة البقرة الآية ١٩٦ «ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ».

(٢) الوسائل الباب ٣ من أقسام الحج.

(٣) التهذيب ج ٥ ص ٢٥ ، وفي الوسائل الباب ٣ من أقسام الحج.

(٤) سورة البقرة ، الآية ١٩٦.

٣١٢

حج التمتع وان جاز له القران والافراد إلا انه خلاف الأفضل ، وربما ورد في بعض الاخبار تعيينه وانه لا يجوز غيره. وهو محمول على الفرض دون النافلة. ومن ذلك ما تقدم في صحيحة معاوية بن عمار.

ومن ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي عن ابي عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة ، لأن الله (تعالى) يقول (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (٢) فليس لأحد إلا ان يتمتع ، لان الله (تعالى) انزل ذلك في كتابه وجرت به السنة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله». وهذا الخبر محمول على الفرض.

وما رواه المشايخ الثلاثة (رضوان الله عليهم) في الصحيح عن إبراهيم بن أيوب الخزاز (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام اي أنواع الحج أفضل؟ فقال : التمتع ، وكيف يكون شي‌ء أفضل منه ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : لو استقبلت من امري ما استدبرت لفعلت مثل ما فعل الناس».

وما رواه في الكافي عن احمد بن محمد بن ابي نصر البزنطي عن ابى جعفر الثاني (عليه‌السلام) (٤) قال : «كان أبو جعفر (عليه‌السلام) يقول : المتمتع

__________________

(١) الوسائل الباب ٣ من أقسام الحج.

(٢) سورة البقرة الآية ١٩٥.

(٣) الكافي ج ٤ ص ٢٩١ ، والتهذيب ج ٥ ص ٢٩ ، والفقيه ج ٢ ص ٢٠٤ وفي الوسائل الباب ٣ من أقسام الحج. واسم الراوي في الكافي «أبو أيوب الخزاز» وفي التهذيب «أبو أيوب إبراهيم بن عيسى» وفي الفقيه «أبو أيوب إبراهيم بن عثمان الخزاز».

(٤) الوسائل الباب ٤ من أقسام الحج.

٣١٣

بالعمرة إلى الحج أفضل من المفرد السائق للهدي».

وصحيحة زرارة عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «المتعة والله أفضل ، وبها نزل القرآن وجرت السنة».

وصحيحة عبد الله بن سنان (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام): انى قرنت العام وسقت الهدي؟ فقال : ولم فعلت ذلك؟ التمتع والله أفضل لا تعودن».

الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة.

قيل : ووجه التسمية ، اما في الافراد فلانفصاله عن العمرة وعدم ارتباطه بها ، واما القران فلاقتران الإحرام بسياق الهدي ، واما التمتع فهو لغة : التلذذ والانتفاع ، وانما سمي هذا النوع بذلك لما يتخلل بين عمرته وحجه من التحلل المقتضى لجواز الانتفاع والتلذذ بما كان حرمه الإحرام قبله ، مع الارتباط بينهما وكونهما كالشي‌ء الواحد ، فيكون التمتع الواقع بينهما كأنه حاصل في أثناء الحج أو لأنه يربح ميقاتا ، لانه لو أحرم بالحج من ميقات بلده لكان يحتاج بعد فراغه من الحج الى ان يخرج إلى أدنى الحل فيحرم بالعمرة منه ، وإذا تمتع استغنى عن الخروج ، لانه يحرم بالحج من جوف مكة ، قال الله تعالى (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (٣) ومعنى التمتع بها الى الحج الانتفاع بثوابها والتقرب بها الى الله (تعالى) قبل الانتفاع بالحج الى وقت الحج ، فيجتمع حينئذ التقربان أو المنتفع بها إذا فرغ منها باستباحة ما كان محرما الى وقت التلبس بالحج ، فالباء سببية. وهذان المعنيان ذكرهما الزمخشري في الكشاف والنيشابوري في تفسيره على ما نقله في المدارك.

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٤ من أقسام الحج.

(٣) سورة البقرة الآية ١٩٥.

٣١٤

وكيف كان فالكلام هنا يقع في مطلبين :

المطلب الأول في حج التمتع

وصورته : ان يحرم من الميقات بالعمرة التمتع بها ثم يدخل مكة فيطوف بالبيت سبعا ويصلي ركعتين بالمقام ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعا ويقصر ، ومتى فعل ذلك أحل ، ثم ينشئ إحراما آخر للحج من مكة يوم التروية على الأفضل وإلا فبقدر ما يعلم انه يدرك الموقف بعرفات ، ثم يأتي عرفات فيقف بها الى غروب الشمس ثم يفيض الى المشعر ويبيت ليلة العاشر به ويقف به بعد طلوع الفجر ثم يفيض إلى منى فيحلق بها يوم النحر ويذبح هديه ويأكل منه ويرمي جمرة العقبة ، ثم يأتي مكة في يومه لطواف الحج وصلاة ركعتيه والسعي بين الصفا والمروة وطواف النساء ، ثم يعود إلى منى ليرمي بها ما تخلف من الجمار وان شاء اقام بمنى حتى يرمي جماره الثلاث يوم الحادي عشر ، ومثله يوم الثاني عشر ، ثم ينفر بعد الزوال ، وان أقام إلى النفر الثاني جاز.

وتفاصيل هذه المسائل كما هو حقها يأتي ـ ان شاء الله تعالى ـ عند ذكرها مفصلة.

وان أحببت الوقوف على صورة حج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك العام الذي نزل فيه حج التمتع فهو ما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار ـ ورواه في الكافي عنه ايضا ـ عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (١) «ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أقام بالمدينة عشر سنين لم يحج ، ثم انزل الله (تعالى) عليه (وَأَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (٢) فأمر المؤذنين أن يؤذنوا بأعلى

__________________

(١) التهذيب ج ٥ ص ٤٥٤ ، والكافي ج ٤ ص ٢٤٥ ، وفي الوسائل الباب ٢ من أقسام الحج.

(٢) سورة الحج الآية ٢٧.

٣١٥

أصواتهم بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحج في عامه هذا ، فعلم به من حضر المدينة وأهل العوالي والاعراب فاجتمعوا لحج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانما كانوا تابعين ينظرون ما يؤمرون به فيتبعونه أو يصنع شيئا فيصنعونه ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أربع بقين من ذي القعدة فلما انتهى الى ذي الحليفة فزالت الشمس اغتسل ثم خرج حتى اتى المسجد الذي عند الشجرة فصلى فيه الظهر وعزم بالحج مفردا ، وخرج حتى انتهى الى البيداء عند الميل الأول فصف الناس له سماطين ، قلبي بالحج مفردا وساق الهدي ستا وستين أو أربعا وستين حتى انتهى الى مكة في سلخ اربع من ذي الحجة ، فطاف بالبيت سبعة أشواط ثم صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم عليه‌السلام ثم عاد الى الحجر فاستلمه وقد كان استلمه في أول طوافه ، ثم قال (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) (١) فابدأوا بما بدأ الله (تعالى) به. وان المسلمين كانوا يظنون ان السعي بين الصفا والمروة شي‌ء صنعه المشركون فانزل الله (عزوجل) (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (٢) ثم اتى الصفا فصعد عليه واستقبل الركن اليماني فحمد الله واثنى عليه ودعا مقدار ما يقرأ سورة البقرة مترسلا ثم انحدر إلى المروة فوقف عليها كما وقف على الصفا ثم انحدر وعاد الى الصفا فوقف عليها ثم انحدر إلى المروة حتى فرغ من سعيه ، فلما فرغ من سعيه وهو على المروة اقبل على الناس بوجهه فحمد الله (تعالى) واثنى عليه ثم قال : ان هذا جبرئيل ـ وأومأ بيده الى خلفه ـ يأمرني أن آمر من لم يسق هديا ان يحل ولو استقبلت من امري ما استدبرت لصنعت مثل ما أمرتكم ولكني سقت الهدي ولا ينبغي لسائق الهدي ان يحل حتى يبلغ الهدي محله. قال : فقال له رجل من

__________________

(١ و ٢) سورة البقرة الآية ١٥٨.

٣١٦

القوم : لنخرجن حجاجا وشعورنا تقطر؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اما انك لن تؤمن بهذا ابدا. فقال له سراقة بن مالك بن جشعم الكناني : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علمنا ديننا كأننا خلقنا اليوم ، فهذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم لما يستقبل؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل هو للأبد إلى يوم القيامة ، ثم شبك أصابعه ، وقال : دخلت العمرة في الحج هكذا (١) الى يوم القيامة. قال : وقدم على من اليمن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وهو بمكة فدخل عليه‌السلام على فاطمة (عليها‌السلام) وهي قد أحلت ، فوجد ريحا طيبة ووجد عليها ثيابا مصبوغة ، فقال : ما هذا يا فاطمة؟ فقالت : أمرنا بهذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج علي عليه‌السلام الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مستفتيا فقال يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اني رأيت فاطمة قد أحلت وعليها ثياب مصبوغة؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اني أمرت الناس بذلك فأنت يا على بما أهللت قال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إهلالا كإهلال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قر على إحرامك مثلي وأنت شريكي في هديي. قال : ونزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة بالبطحاء هو وأصحابه ولم ينزل الدور ، فلما كان يوم التورية عند زوال الشمس أمر الناس ان يغتسلوا ويهلوا بالحج ، وهو قول الله (عزوجل) الذي أنزله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله : فاتبعوا ملة أبيكم إبراهيم (٢) فخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه مهلين بالحج حتى اتى منى فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخر والفجر ، ثم غدا والناس معه ، وكانت قريش تفيض من المزدلفة وهي جمع ويمنعون الناس ان يفيضوا منها ، فاقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقريش ترجو ان تكون إفاضته من حيث كانوا يفيضون ، فانزل الله (عزوجل) عليه : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ

__________________

(١) لفظ «هكذا» في الوافي باب (حج نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله).

(٢) سورة آل عمران الآية ٩٥ «فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً».

٣١٧

وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) (١) يعني : إبراهيم وإسماعيل وإسحاق في إفاضتهم منها ومن كان بعدهم ، فلما رأت قريش أن قبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد مضت كأنه دخل في أنفسهم شي‌ء للذي كانوا يرجون من الإفاضة من مكانهم ، حتى انتهى الى نمرة وهي بطن عرنة بحيال الأراك ، فضربت قبته وضرب الناس أخبيتهم عندها ، فلما زالت الشمس خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه قريش وقد اغتسل وقطع التلبية حتى وقف بالمسجد فوعظ الناس وأمرهم ونهاهم ، ثم صلى الظهر والعصر بأذان وإقامتين ، ثم مضى الى الموقف فوقف به ، فجعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته يقفون الى جانبها فنحاها ففعلوا مثل ذلك ، فقال : ايها الناس ليس موضع أخفاف ناقتي بالموقف ولكن هذا كله ، وأومأ بيده الى الموقف ، فتفرق الناس ، وفعل مثل ذلك بالمزدلفة ، فوقف الناس حتى وقع القرص قرص الشمس ، ثم أفاض وأمر الناس بالدعة حتى انتهى الى المزدلفة ـ وهو المشعر الحرام ـ فصلى المغرب والعشاء الآخرة بأذان واحد وإقامتين ثم اقام حتى صلى فيها الفجر ، وعجل ضعفاء بني هاشم بليل ، وأمرهم ان لا يرموا الجمرة جمرة العقبة حتى تطلع الشمس ، فلما أضاء له النهار أفاض حتى انتهى الى منى فرمى جمرة العقبة ، وكان الهدي الذي جاء به رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أربعا وستين ، أو ستا وستين ، وجاء علي عليه‌السلام بأربع وثلاثين ، أو ست وثلاثين فنحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ستا وستين ، ونحر علي عليه‌السلام أربعا وثلاثين بدنة ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ان يؤخذ من كل بدنة منها حذوة من لحم ثم تطرح في برمة ثم تطبخ ، فأكل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي عليه‌السلام وحسيا من مرقها ، ولم يعطيا الجزارين جلودها ولا جلالها ولا قلائدها وتصدق به ، وحلق وزار البيت ورجع الى منى واقام بها حتى كان اليوم الثالث من آخر أيام التشريق ، ثم رمى

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٩٨.

٣١٨

الجمار ونفر حتى انتهى الى الأبطح ، فقالت له عائشة : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ترجع نساؤك بحجة وعمرة معا وارجع بحجة؟ فأقام بالأبطح وبعث معها عبد الرحمن بن ابى بكر الى التنعيم فأهلت بعمرة ، ثم جاءت فطافت بالبيت وصلت ركعتين عند مقام إبراهيم وسعت بين الصفا والمروة ، ثم أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فارتحل من يومه ، ولم يدخل المسجد الحرام ولم يطف بالبيت. ودخل من أعلى مكة من عقبة المدنيين وخرج من أسفل مكة من ذي طوى».

أقول : عندي في هذا الخبر إشكال ، لأنه تضمن ان عليا عليه‌السلام لم يعين في إهلاله حجا ولا عمرة ، وانما قال : «إهلالا كإهلال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله» فأقره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على ذلك وجعله شريكه في هديه الذي ساقه فكان حجه حينئذ حج قران مثله. ثم ان الخبر تضمن ان الهدي الذي جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أربعة وستون أو ستة وستون وجاء علي عليه‌السلام بأربعة وثلاثين أو ستة وثلاثين. وهذا لا يخلو من نوع مدافعة لما تقدم ، لأن عليا عليه‌السلام لم يهل بالقران الذي يقتضي سياق هذه البدن المذكورة وانما قال : «إهلالا كإهلال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله» مع انه قال له : «أنت شريكي في هديي» فكيف يتم ان عليا عليه‌السلام اتى بهذه البدن معه وعقد بها إحرامه.؟

والصدوق ابن بابويه في الفقيه (١) قد نقل مضمون الخبر وان لم يسنده بما هو أوضح من هذا النقل وأسلم من هذا الاشكال ، حيث انه ذكر بعد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وأنت شريكي في هديي» قال : وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ساق معه مائة بدنة ، فجعل لعلي عليه‌السلام منها أربعا وثلاثين ولنفسه ستا وستين ونحرها كلها بيده. الى ان قال : وكان علي عليه‌السلام يفتخر على الصحابة ويقول : من فيكم مثلي وانا شريك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في هديه؟ من فيكم مثلي وانا الذي ذبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هديي بيده؟. انتهى.

__________________

(١) ج ٢ ص ١٥٣ ، وفي الوسائل الباب ٢ من أقسام الحج.

٣١٩

ومن الظاهر ان الصدوق لا يذكره إلا بعد وصول الخبر له به ، وان لم يسنده في الكتاب المذكور. وهذا هو الصواب الذي لا يعتريه الاشكال والارتياب. ويشير الى بعض ما ذكرناه ما في صحيحة الحلبي أو حسنته المروية في الكافي. (١) والله العالم. وتحقيق البحث في هذا المطلب ينتظم في مسائل

الأولى ـ اجمع العلماء (رضوان الله عليهم) على ان فرض من نأى عن مكة هو التمتع لا يجوز لهم غيره إلا مع الضرورة. قاله في التذكرة.

وفي المنتهى : قال علماؤنا أجمع : فرض الله على المكلفين ـ ممن نأى عن المسجد الحرام وليس من حاضريه ـ التمتع مع الاختيار لا يجزئهم غيره ، وهو مذهب فقهاء أهل البيت (عليهم‌السلام) قال : وأطبق الجمهور كافة على جواز النسك بأي الأنواع الثلاثة شاء وانما اختلفوا في الأفضل. ثم نقل اختلافهم في ذلك (٢).

قيل : والأصل في وجوب التمتع على النائي قوله تعالى (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ). الى قوله (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (٣) والظاهر عود الإشارة الى جميع ما تقدم. وحكى المحقق في المعتبر عن بعض فضلاء العربية انهم قالوا : تقديره ذلك التمتع. وهو جيد لما نص عليه أهل العربية من ان «ذلك» للبعيد.

واستدل على ذلك بصحيحة معاوية بن عمار المتقدمة (٤) في صدر المقدمة وصحيحة الحلبي المتقدمة ثمة (٥).

__________________

(١) الوسائل الباب ٢ من أقسام الحج.

(٢) المغني ج ٣ ص ٢٧٦.

(٣) سورة البقرة الآية ١٩٥.

(٤) ص ٣١٢.

(٥) ص ٣١٣.

٣٢٠