الحدائق الناضرة - ج ١٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٦

لعموم الأدلة (١) وفائدة النذر زيادة انبعاث النفس على الفعل ، ووجوب الكفارة مع التأخير عن الوقت المعين. ولا خلاف هنا في التداخل والاكتفاء بحج الإسلام عن حج النذر. ولا بد من وجود الاستطاعة في وجوب الحج في الصورة المذكورة ، لأنه النذر انما أفاد زيادة التأكيد في الوجوب السابق.

ولو نذر مع عدم وجود الاستطاعة كان الوجوب مراعى بوجود الاستطاعة ولا يجب عليه تحصيلها ، لعدم وجوب تحصيل شرط الواجب المشروط كما تقدم والمنذور هنا ليس أمرا زائدا على حج الإسلام ، إلا ان ينذر تحصيلها ايضا فيجب.

ولو قيد النذر بسنة معينة فتخلفت الاستطاعة بطل النذر.

الموضع الثالث ـ ان ينذر حجا غير حج الإسلام ، وقد اتفقوا هنا على عدم التداخل.

ولهم في المسألة تفصيل وصور ملخصها : انه لا يخلو اما ان يكون مستطيعا حال النذر أم لا.

وعلى الأول فإن كانت حجة النذر مطلقة أو مقيدة بزمان متأخر عن عام الاستطاعة فان الواجب تقديم حجة الإسلام ، لفوريتها واتساع زمان النذر.

وهو ظاهر لا اشكال فيه.

وان كانت حجة النذر مقيدة بعام الاستطاعة ، فإن قصد الحج عن النذر مع بقاء الاستطاعة بطل النذر من أصله ، لأنه نذر ما لا يصح فعله. وان قصد الحج مع فقد الاستطاعة ، بمعنى انه يحج للنذر لو زالت الاستطاعة في ذلك العام ، قالوا : فالظاهر الانعقاد ، فتجب عند زوال الاستطاعة. وان خلا نذره من القصد بأحد وجهيه ، احتمل البطلان ـ لانه نذر في عام الاستطاعة

__________________

(١) كقوله تعالى في سورة الحج ، الآية ٢٩ (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ).

٢٢١

غير حج الإسلام ـ والصحة حملا للنذر على الوجه الصحيح وهو ما إذا فقدت الاستطاعة.

وعلى الثاني ـ وهو ما إذا تقدم النذر على الاستطاعة ـ فالظاهر انه لا إشكال في انعقاد النذر ووجوب الإتيان به مع القدرة والتمكن كسائر أفراد النذور. ولا يشترط فيه حصول الاستطاعة الشرعية التي هي الزاد والراحلة عندهم ، خلافا للدروس فإنه اعتبر في الحجة المنذورة الاستطاعة الشرعية.

ولو حصلت الاستطاعة الشرعية قبل الإتيان بالمنذورة ، فإن كان النذر مطلقا أو مقيدا بعام متأخر عن عام الاستطاعة أو بزمان يشمل ذلك العام ، فإنه يجب تقديم حجة الإسلام ، لفوريتها واتساع زمان المنذورة ، وإلا وجب تقديم حج النذر ، قالوا : لعدم تحقق الاستطاعة في ذلك العام ، فان المانع الشرعي كالمانع العقلي.

وفي هذه الصورة ما يؤيد ما قدمنا ذكره من ان النذر سبب كلي في الوجوب ، فان هذا الناذر لما نذر في حال عدم الاستطاعة الحج في السنة الفلانية من السنين القابلة انعقد وجوبها عليه بالنذر ، ثم لما تجددت الاستطاعة الشرعية في تلك السنة لم تؤثر في المنع من حج النذر في ذلك العام لانعقاده سابقا ، وصار منع النذر هنا من حج الإسلام كسائر الموانع التي تقدمت. وهو أظهر ظاهر في تأثير الأسباب الشرعية واختلاف مسبباتها باختلافها إلا ما خرج بالدليل وحينئذ فمتى كان الواجب عليه في هذا العام انما هو حج النذر ، فان كانت الاستطاعة موجودة فإنه يراعى في وجوب حج الإسلام بقاؤها إلى العام القابل.

وقال الفاضل الخراساني (قدس‌سره) في الذخيرة : وان كان النذر مقيدا بالسنة التي حصلت الاستطاعة فيها ففي تقديم الحجة المنذورة أو حج الإسلام وجهان يلتفتان الى عدم تحقق الاستطاعة الشرعية ـ لأن المانع الشرعي كالمانع العقلي ـ

٢٢٢

والى حصول الاستطاعة المعتبرة في حجة الإسلام مع عدم النذر. وانعقاد النذر فرع الشرعية والرجحان ، وهو غير متحقق. انتهى.

أقول : لا يخفى ما فيه على الفطن النبيه ، فان فرض المسألة في كلام الأصحاب على الوجه الذي فصلناه إنما هو في ما إذا نذر وهو غير مستطيع ثم تجددت الاستطاعة بعد ذلك ، فمن جملة صورها ما إذا نذر ان يحج في سنة مسماة من السنين المستقبلة واتفق انه حصلت له الاستطاعة في تلك السنة ، فان مقتضى انعقاد النذر سابقا وجوب تقديم حج النذر هنا وان النذر مانع عن حجة الإسلام. وحينئذ فقوله في تعليل الوجه الثاني : «والى حصول الاستطاعة المعتبرة في حجة الإسلام. الى آخره» لا وجه له ، فان وجود الاستطاعة بعد انعقاد النذر بالحج في هذه السنة واشتغال الذمة به في حكم العدم. والعجب من قوله : «وانعقاد النذر فرع الشرعية والرجحان ، وهو غير متحقق» فإنه كيف لا يكون النذر منعقدا والحال انه في وقت النذر عادم الاستطاعة ، فأي مانع من انعقاد نذره وشرعيته ورجحانه؟ وبالجملة فإن جميع ما ذكره في الوجه الثاني فهو غير موجه. والله العالم.

المسألة الرابعة ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ان من نذر الحج ماشيا انعقد نذره ووجب عليه الوفاء به ، وتدل عليه عمومات المقتضية لانعقاد النذور (١) وهو عبادة راجحة ، وقد ورد في جملة من الأخبار (٢) : «ما عبد الله بشي‌ء أشد ولا أفضل من المشي إلى بيته». وقد مضى وسيأتي في تضاعيف المسائل الآتية ما يدل على مشروعيته وانعقاده.

__________________

(١) كقوله تعالى في سورة الحج ، الآية ٢٩ (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ).

(٢) الوسائل الباب ٣٢ من وجوب الحج وشرائطه.

٢٢٣

ولا ينافي ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابي عبيدة الحذاء عن ابي جعفر عليه‌السلام (١) : «أنه سئل عن رجل نذر ان يمشى إلى مكة حافيا؟ فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج حاجا فنظر الى امرأة تمشي بين الإبل فقال : من هذه؟ فقالوا : أخت عقبة بن عامر ، نذرت أن تمشي إلى مكة حافية. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عقبة انطلق إلى أختك فمرها فلتركب ، فان الله غني عن مشيها وحفائها. قال : فركبت». فإنها محمولة على عدم جواز نذر الحفاء مضافا الى المشي ، لما فيه من المشقة الظاهرة. ولا يلزم من ذلك عدم انعقاد نذر المشي.

وقال العلامة في القواعد : لو نذر الحج ماشيا وقلنا المشي أفضل انعقد الوصف وإلا فلا.

وقال ولده في الإيضاح : إذا نذر الحج ماشيا انعقد أصل النذر إجماعا وهل يلزم القيد مع القدرة؟ فيه قولان مبنيان على ان المشي أفضل من الركوب أو الركوب أفضل من المشي.

قال في المدارك بعد نقل ذلك عنهما : وهذا غير سديد ، فان المنذور وهو الحج على هذا الوجه لا ريب في رجحانه وان كان غيره أرجح منه ، وذلك كاف في انعقاد نذره ، إذ لا يعتبر في المنذور كونه أفضل من جميع ما عداه. وهو جيد.

ثم قال في المدارك : واختلف الأصحاب في مبدأ المشي ومنتهاه ، والذي يقتضيه الوقوف مع المعنى المستفاد من اللفظ وجوبه من حين الشروع في أفعال الحج وانتهاؤه بآخر أفعاله وهي رمي الجمار ، لان «ماشيا» وقع حالا

__________________

(١) الوسائل الباب ٣٤ من وجوب الحج وشرائطه. واللفظ هكذا : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام ...» وفي التهذيب ج ٥ ص ١٣ و ١٤ : «سألت أبا عبد الله».

٢٢٤

من فاعل «أحج» فيكون وصفا له وانما يصدق حقيقة بتلبسه به.

أقول : ما ذكره جيد لو لم يرد في الأخبار التعبير عن نذر المشي إلا بهذا اللفظ مع انه ليس كذلك ، وهذه العبارة إنما وقعت في كلام الأصحاب وقليل من الأخبار.

والمفهوم من الاخبار الكثيرة ان المشي المنذور انما هو من البلد الى البيت فمن ذلك صحيحة ابي عبيدة المتقدمة وقول السائل فيها : «سئل عن رجل نذر ان يمشي إلى مكة حافيا. الى آخر الخبر».

ومنها ـ صحيحة رفاعة (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل نذر ان يمشي إلى بيت الله (تعالى) حافيا؟ قال : فليمش فإذا تعب فليركب».

وصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٢) قال : «سألته عن رجل جعل لله عليه مشيا الى بيت الله فلم يستطع؟ قال : يحج راكبا».

الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة المشتملة على هذه العبارة ، وهي ان

__________________

(١) التهذيب ج ٥ ص ٤٠٣ والفروع ج ٢ ص ٣٧٣ ، وفي الوسائل الباب ٣٤ من وجوب الحج وشرائطه رقم (١) عن الأول ، والباب ٨ من كتاب النذر والعهد عن الثاني ، إلا ان الوارد فيه عن رفاعة وحفص. واللفظ في المتن يوافق لفظ الفروع.

(٢) الوسائل الباب ٨ من كتاب النذر والعهد ، مضمرا كما في فروع الكافي ج ٢ ص ٣٧٣ ، إلا انه في التهذيب ج ٨ ص ٣٠٤ : «عن الكليني عن أحدهما ع» كما في المتن ، وكذا في الوافي باب (سائر النذور من أبواب النذور والايمان) من الجزء السابع. ولفظ «لله» ليس في الوسائل ولا في الفروع ولا في التهذيب. نعم في الاستبصار ج ٤ ص ٥٠ موجود.

٢٢٥

غاية المشي ونهايته بيت الله (عزوجل) وقد تقدم جملة من الأخبار الدالة على ذلك في المسألة الرابعة من المسائل الملحقة بالشروط.

وبالجملة فإن الظاهر من أكثر الأخبار هو ما ذكرناه ، والظاهر هو الرجوع في ذلك الى نية الناذر.

بقي ان السيد أشار في صدر العبارة إلى الخلاف في منتهاه ايضا واختار انه رمي الجمار ، ولم ينقل القول الآخر ولا الدليل على ما اختاره من القول المذكور ، والقول الآخر المنقول في المسألة هو ان آخره طواف النساء ، وهو ظاهر شيخنا الشهيد في الدروس ، ونسبه في المسالك الى المشهور ثم اختار القول الآخر.

والظاهر هو ما اختاره السيد السند (قدس‌سره) وتدل عليه صحيحة جميل (١) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إذا حججت ماشيا ورميت الجمرة فقد انقطع المشي».

وصحيحة إسماعيل بن همام عن ابي الحسن الرضا عليه‌السلام (٢) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام في الذي عليه المشي في الحج إذا رمى الجمرة زار البيت راكبا وليس عليه شي‌ء».

وروى هذا الخبر في الفقيه في الصحيح عن إسماعيل بن همام عن ابي الحسن الرضا عن أبيه (عليهما‌السلام) (٣) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام في الذي عليه المشي إذا رمى الجمرة زار البيت راكبا».

وروى في الفقيه عن علي بن أبي حمزة عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٤) قال :

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ٣٥ من وجوب الحج وشرائطه.

(٤) الوسائل الباب ٣٥ من وجوب الحج وشرائطه ، والرواية للكليني في الكافي ج ٤ ص ٤٥٦.

٢٢٦

«سألته متى ينقطع مشي الماشي؟ قال : إذا رمى جمرة العقبة وحلق رأسه فقد انقطع مشيه فليزر راكبا».

وتنقيح الكلام في المقام يتوقف على رسم فوائد (١) :

الاولى ـ لو اتفق له في طريقه الاحتياج إلى السفينة فالمشهور في كلامهم من غير خلاف ينقل انه يقوم في السفينة ان اضطر الى العبور فيها.

والمستند في ذلك رواية السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم‌السلام) (٢) : «ان عليا (صلوات الله عليه) سئل عن رجل نذر ان يمشي الى البيت فمر في المعبر؟ قال : فليقم في المعبر قائما حتى يجوز».

قال في المدارك نقلا عن المعتبر : وهل هو على الوجوب؟ فيه وجهان أحدهما نعم ، لأن المشي يجمع بين القيام والحركة فإذا فات أحدهما تعين الآخر. والأقرب انه على الاستحباب ، لان نذر المشي ينصرف الى ما يصلح المشي فيه فيكون موضع العبور مستثنى بالعادة. ثم قال : وما قربه (رحمه‌الله) جيد. بل يمكن المناقشة في استحباب القيام ايضا لضعف مستنده. انتهى.

أقول : لا ريب ان الحامل لهم على هذا الكلام انما هو ضعف سند هذه الرواية وليس في المقام غيرها ، ولهذا قال في المدارك بعد نقل كلام المعتبر : بل يمكن المناقشة في الاستحباب ايضا لضعف مستنده. انتهى.

ثم أقول : ان ما حكم به في المعتبر من الاستحباب لا اعرف له وجها بعد طرحه الرواية ، لأنه متى اعتمد على ان نذر المشي انما ينصرف الى ما يصلح المشي فيه

__________________

(١) أبدلنا كلمة «مسائل» ب «فوائد» تبعا للنسخة الخطية ، ويساعده الاعتبار أيضا.

(٢) الوسائل الباب ٣٧ من وجوب الحج وشرائطه.

٢٢٧

عملا بالعادة فتكون مواضع العبور غير داخلة في النذر ، وهذا موجب لطرح الرواية الدالة على الأمر بالوقوف الذي هو حقيقة في الوجوب ، كما عليه أكثر الأصحاب ، وكأنه أراد حملها على الاستحباب تفاديا من طرحها. وفيه ما عرفت في غير مقام من ما تقدم وان اشتهر ذلك بينهم.

ثم انه لا يخفى ان رواية السكوني المذكورة ظاهرة في كون نذر المشي انما هو في الطريق إلى مكة ، لقوله فيها : «نذر ان يمشي الى البيت» وقوله : «فمر في المعبر» فان هذا انما يكون في الطرق الآتية من الآفاق لا في مكة فإنه ليس فيها شط ولا نهر يحتاج في عبوره إلى سفينة.

الثانية ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو ركب طريقه وجب عليه القضاء ، ومرادهم بالقضاء الإعادة أعم من ان يكون بمعناه المتعارف أم لا ، وذلك انه ان كانت سنة النذر معينة فالقضاء بمعناه المتعارف ، ويلزمه مع ذلك كفارة خلف النذر ، وان كانت سنة النذر مطلقة فالقضاء بمعنى الفعل ثانيا ولا كفارة لبقاء الوقت.

قالوا : وانما وجب عليه اعادة الحج ثانيا لإخلاله بالصفة المشروطة وتوقف الامتثال على الإتيان بها.

ويستفاد من حكمهم بوجوب الإعادة كون الحج المأتي به فاسدا ، والظاهر ان وجهه من حيث عدم مطابقته للمنذور ، فلا يقع عن النذر لعدم المطابقة ، ولا عن غيره لانتفاء النية كما هو المفروض.

واحتمل المحقق في المعتبر الصحة واجزاءه عن المنذور وان وجبت الكفارة بالإخلال بالمشي ، قال : لأن الإخلال بالمشي ليس مؤثرا في الحج ولا هو من صفاته بحيث يبطل بفواته ، بل غايته أنه أخل بالمشي المنذور ، فان كان مع القدرة وجبت عليه كفارة خلف النذر.

٢٢٨

قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : وهو انما يتوجه إذا كان المنذور الحج والمشي غير مقيد أحدهما بالآخر ، والمفهوم من نذر الحج ماشيا خلاف ذلك. انتهى. وهو جيد.

ويؤيده انه لو تم ما ذكره للزم جريانه في جميع النذور المقيدة بزمان أو مكان ، كأن يصلي ركعتين في زمان مخصوص أو مكان مخصوص ، فإنه تصح الصلاة على غير الوجه المذكور وان لزمت الكفارة ، وهو لا يقول به.

ولم أقف في هذه المسألة على نص يدل على أحكامها المذكورة ، إلا ان ما نقلناه عنهم مطابق لمقتضى قواعد النذر مع أوفقيته بالاحتياط.

الثالثة ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ما لو ركب بعضا ومشى بعضا ، فقيل : انه ان كان مشروطا بوقت معين وجب عليه القضاء والكفارة ، وإلا وجب عليه الاستئناف ماشيا.

اما الأول فلأنه أخل بالصفة المنذورة فيجب عليه القضاء لتحصيل تلك الصفة ، والكفارة لإخلاله بإيقاع تلك الصفة في الوقت المعين الواجب بالنذر.

واما الثاني فلان الواجب عليه الحج ماشيا ولم يأت به فيبقى في عهدة التكليف.

ونقل عن الشيخ وجماعة انه تجب عليه الإعادة بأن يمشي ما ركب ويركب ما مشى ، لان الواجب عليه قطع المسافة ماشيا وقد حصل مع التلفيق فيخرج عن العهدة. هكذا احتج له في المختلف ، ثم أجاب عنه بالمنع من حصوله مع التلفيق ، إذ لا يصدق عليه انه قد حج ماشيا.

قال في المدارك بعد نقل هذا الجواب : وهو جيد ان وقع الركوب بعد التلبس بالحج ، إذ لا يصدق على من ركب في جزء من الطريق بعد التلبس بالحج انه حج ماشيا ، وهذا بخلاف ما إذا وقع الركوب قبل التلبس بالحج مع

٢٢٩

تعلق النذر بالمشي من البلد ، لان الواجب قطع تلك المسافة في حال المشي وان فعل في أوقات متعددة ، وهو يحصل بالتلفيق ، إلا ان يكون المقصود قطعها كذلك في عام الحج. انتهى.

أقول : قد عرفت ان المستفاد من الاخبار على وجه لا يكاد يعتريه الإنكار ـ كما عرفت وستعرف ان شاء الله تعالى ـ ان المراد بنذر الحج ماشيا انما هو المشي من البلد قاصدا الى البيت منتهيا الى رمي الجمرة ، فالمكلف لما أوجب على نفسه الحج ماشيا مدة طريقه وأيام حجه الى الوقت المذكور تعين عليه ، والإخلال بالمشي كلا أو بعضا موجب لعدم الإتيان بالفعل على الوجه المنذور ، فيبقى في عهدة التكليف الى ان يأتي به كذلك قضاء ان كان النذر معينا وأداء ان كان مطلقا. هذا ما تقتضيه قواعد النذر ، والمسألة خالية من النص على الخصوص فيجب الوقوف فيها على قواعد النذر المتفق عليها بينهم.

وبذلك يظهر ما في كلام العلامة في المختلف حيث قال ـ على اثر الكلام الذي قدمنا نقله عنه ـ ما لفظه : ويحتمل ان يقال بصحة الحج وان كان الزمان معينا وتجب الكفارة ، لأن المشي ليس جزء من الحج ولا صفة من صفاته ، فان الحج مع المشي كالحج مع الركوب ، فيكون قد امتثل نذر الحج وأخل بنذر المشي ، فتجب الكفارة ويصح حجه. انتهى.

وهو راجع الى ما قدمنا نقله عن المعتبر ، وقد عرفت انه انما يتم لو كان المنذور هنا شيئين : أحدهما الحج والثاني المشي ، والظاهر من الأخبار وكلام الأصحاب ان النذر انما تعلق بالحج مقيدا بالمشي ، فالمنذور شي‌ء واحد وعليه فلا يتم ما ذكره.

وبالجملة فإن الاحتياط في أمثال هذه المقامات الخالية من النصوص من ما يجب المحافظة عليه.

٢٣٠

الرابعة ـ لو عجز عن المشي فلا خلاف في جواز الركوب ، لان الوجوب يسقط بالعجز ، لإناطة التكليف بالوسع ورفع الحرج والمشقة في الدين (١).

وانما الخلاف في وجوب السياق وعدمه ، فذهب الشيخ وجمع من الأصحاب إلى الوجوب.

واستدلوا على ذلك بصحيحة الحلبي (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل نذر ان يمشي إلى بيت الله وعجز عن المشي؟ قال : فليركب وليسق بدنة ، فان ذلك يجزئ عنه إذا عرف الله منه الجهد».

وصحيحة ذريح المحاربي (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل حلف ليحجن ماشيا ، فعجز عن ذلك فلم يطقه؟ قال : فليركب وليسق الهدي».

وقال الشيخ المفيد (نور الله تعالى مرقده) في المقنعة : وإذا جعل الرجل على نفسه المشي إلى بيت الله فعجز عنه فليركب ولا شي‌ء عليه. وهو ظاهر في عدم وجوب السياق.

وهو اختيار ابن الجنيد على ما نقل عنه ، وابن إدريس على ما ذكره في المختلف ، والمحقق.

واستدلوا عليه بأصالة البراءة ، وصحيحة رفاعة بن موسى (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : رجل نذر ان يمشي إلى بيت الله؟ قال : فليمش. قلت : فإنه تعب؟ قال : فإذا تعب ركب».

ورواية عنبسة بن مصعب (٥) قال : «نذرت في ابن لي ان عافاه الله

__________________

(١) ارجع الى الحدائق ج ١ ص ١٥١ و ١٥٢.

(٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٣٤ من وجوب الحج وشرائطه.

(٥) الوسائل الباب ٨ من كتاب النذر والعهد.

٢٣١

أن أحج ماشيا ، فمشيت حتى بلغت العقبة ، فاشتكيت فركبت ، ثم وجدت راحة فمشيت ، فسألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ذلك ، فقال : اني أحب ان كنت موسرا ان تذبح بقرة. فقلت : معي نفقة ولو شئت ان أذبح لفعلت ، وعلى دين؟ فقال : اني أحب ان كنت موسرا ان تذبح بقرة. فقلت : أشي‌ء واجب افعله؟ قال : لا ، من جعل لله شيئا فبلغ جهده فليس عليه شي‌ء».

قال في المدارك بعد نقل ذلك : يتوجه عليه ان الرواية الاولى لا تنافي وجوب السياق ، لان عدم ذكره لا يعارض ما دل على الوجوب ، والرواية الثانية ضعيفة السند لأن راويها واقفي ناووسي. ثم نقل عن ابن إدريس القول بأنه ان كان النذر مطلقا وجب على الناذر توقع المكنة من الصفة ، وان كان مقيدا بسنة معينة سقط الفرض لعجزه عنه. وهذا قول ثالث في المسألة.

والعلامة في المختلف نقل عن ابن إدريس موافقة الشيخ المفيد ، ثم اختار فيه انه ان كان النذر معينا بسنة فعجز عن المشي ركب ولا شي‌ء عليه ، وان كان مطلقا توقع المكنة.

واحتج على الأول بأنه عجز عن الصفة فسقط اعتبارها ، للإجماع. الدال على سقوط ما عجز عنه الناذر من غير تفريط. ثم قال : (لا يقال) : فيسقط الحج للعجز ، كما نقل عن بعض علمائنا ذلك (لأنا نقول) : العجز انما حصل عن الصفة لا عن أصل الحج ، والنذر تعلق بأمرين ، ولا يلزم من سقوط أحد الأمرين سقوط الآخر إذا افترقا في العلة.

أقول : فيه ما تقدم من ان المنذور إنما هو شي‌ء واحد لا شيئان ، فعلى هذا فالموافق للعجز هو سقوط الحج من أصله كما نقله في المدارك عن ابن إدريس وصرح به شيخنا الشهيد الثاني في المسالك.

بقي الكلام في ان ما نقله في المدارك عن ابن إدريس غير موجود في

٢٣٢

سرائره ، وانما الموجود فيه ما قدمنا نقله عن المختلف من موافقة الشيخ المفيد وهذه عبارته في كتاب السرائر : ومن نذر ان يحج ماشيا ثم عجز عنه فليركب ولا كفارة عليه ولا يلزمه شي‌ء على الصحيح من المذهب. وهذا مذهب شيخنا المفيد في مقنعته. ثم نقل عبارة الشيخ في النهاية الدالة على وجوب سوق البدنة.

وظاهره في المدارك انه اعتمد في هذا النقل على غيره ، حيث قال بعد نقل ذلك عن ابن إدريس : وقال الشهيد في الشرح : وكأنه نظر الى ان الحج ماشيا مغاير له راكبا. وفيه نظر ، لان الحج راكبا وماشيا واحد وان اختلفا بصفة واحدة ، فإذا نذر الحج ماشيا استلزم نذر الحج المطلق وان يكون ماشيا ، فإذا تعذر أحد الجزئين لا يلزم سقوط الآخر. ثم قال (قدس‌سره) : هذا كلامه (قدس‌سره) وهو غير جيد ، لان المفهوم من نذر الحج ماشيا إيجاب الحج على الوجه المخصوص ، بمعنى كون المشي شرطا في الحج ، وذلك لا يستلزم نذر مطلق الحج ، كما ان من نذر صلاة في موضع معين لا يكون ناذرا لمطلق الصلاة. انتهى.

وهو جيد. إلا ان هذا الكلام ليس في المسالك ان أريد بالشهيد جده (قدس‌سره) وبالشرح المسالك ، ولا في شرح الشهيد على الإرشاد ان أريد بالشهيد الشهيد الأول وبالشرح الكتاب المذكور. ولا اعرف لهذه العبارة محلا غير ذلك ، ولا أدرى كيف هذا النقل ولا من اين حصل؟

وكيف كان فقد ظهر بما شرحناه ان في المسألة أقوالا أربعة : أحدها ـ وجوب الكفارة مطلقا. وثانيها ـ سقوطها مطلقا. وثالثها ـ هو التفصيل بكون النذر مطلقا فيتوقع المكنة ، وان كان معينا سقط الفرض. ورابعها ـ مثل سابقه في صورة الإطلاق ، إلا انه يفارقه في صورة التعيين فيقول بوجوب الركوب ولا شي‌ء عليه.

وقال في المدارك بعد نقل ما نقله عن ابن إدريس وكلام الشهيد وكلامه عليه حسبما قدمناه : والمعتمد ما ذهب اليه ابن إدريس ان كان العجز قبل التلبس

٢٣٣

بالإحرام ، وان كان بعده اتجه القول بوجوب إكماله وسياق البدنة وسقوط الفرض بذلك ، عملا بظاهر النصوص المتقدمة. والتفاتا إلى إطلاق الأمر بوجوب إكمال الحج والعمرة مع التلبس بهما ، واستلزام إعادتهما المشقة الشديدة. انتهى.

أقول : وهذا قول خامس في المسألة.

ثم أقول : ومن الأخبار التي وقفت عليها في هذه المسألة زيادة على ما تقدم صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) قال : «سألته عن رجل جعل لله عليه مشيا الى بيت الله فلم يستطع؟ قال : يحج راكبا».

وما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا عن نوادر احمد بن محمد ابن ابي نصر البزنطي عن عنبسة بن مصعب (٢) قال : «قلت له ـ يعني أبا عبد الله عليه‌السلام ـ اشتكى ابن لي فجعلت لله علي ان هو بري‌ء ان أخرج الى مكة ماشيا. وخرجت امشي حتى انتهيت إلى العقبة فلم أستطع أن أخطو ، فركبت تلك الليلة حتى إذا أصبحت مشيت حتى بلغت ، فهل على شي‌ء؟ قال : فقال لي : اذبح فهو أحب الي. قال : قلت له : أي شي‌ء هو الي لازم أم ليس لي بلازم؟ قال : من جعل لله على نفسه شيئا فبلغ فيه مجهوده فلا شي‌ء عليه وكان الله أعذر لعبده».

وعن ابي بصير (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ذلك (٤) فقال : من جعل لله على نفسه شيئا فبلغ فيه مجهوده فلا شي‌ء عليه».

وما رواه احمد بن محمد بن عيسى في نوادره عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٥) قال : «سألته عن رجل جعل عليه مشيا الى بيت الله فلم يستطع؟ قال : يحج راكبا».

__________________

(١) ارجع الى التعليقة ٢ ص ٢٢٥.

(٢ و ٣ و ٥) الوسائل الباب ٣٤ من وجوب الحج وشرائطه.

(٤) اللفظ في السرائر والوسائل هكذا : «سئل عليه‌السلام عن ذلك».

٢٣٤

وعن سماعة وحفص (١) قال : «سألنا أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل نذر ان يمشي إلى بيت الله حافيا؟ قال : فليمش إذا تعب فليركب».

وعن محمد بن قيس عن ابي جعفر عليه‌السلام (٢) مثل ذلك.

وعن محمد بن مسلم (٣) قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل عليه المشي إلى بيت الله فلم يستطع؟ قال : فليحج راكبا».

وعن حريز عن من أخبره عن ابي جعفر وابي عبد الله (عليهما‌السلام) (٤) قال : «إذا حلف الرجل ان لا يركب أو نذر ان لا يركب ، فإذا بلغ مجهوده ركب. قال : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحمل المشاة على بدنة».

وأنت خبير بان هذه الاخبار متى ضمت بعضها الى بعض فالذي يتضح منها هو ان العاجز في صورة نذر الحج ماشيا الذي هو ـ كما عرفت ـ عبارة عن وجوب المشي فيه من البلد الى رمي الجمرة ، متى بلغ مجهوده فان الله (عزوجل) أعذر له ، ولكن يستحب له السياق ، وانه لا فرق في ذلك بين كون النذر مطلقا أو مقيدا ، ولا كون الركوب قبل الحج ولا بعده.

وصاحب المدارك بنى في هذا الكلام على ما قدمه من ان النذر انما تعلق بالمشي حال الاشتغال بالحج. وهو غلط بالنظر الى ما سردناه من الاخبار أولا وآخرا ، ولا سيما روايتا عنبسة بن مصعب ، فإنهما صريحتان في كون النذر تعلق بالمشي من البلد وان العجز حصل له في الطريق قبل الوصول إلى مكة. وبذلك يعلم قوة قول شيخنا المفيد ومن اقتفاه ، ويعلم الجواب عن أدلة الأقوال الأخر.

ويمكن حمل القول بالتفصيل بما تضمنه من القولين على ما إذا وقع العجز في البلد ، فإنه ان كان نذره مطلقا توقع المكنة إلى العام القابل ، وان كان

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٣٤ من وجوب الحج وشرائطه.

٢٣٥

معينا بتلك السنة سقط الفرض من أصله أو الصفة بخصوصها ووجب الحج راكبا على القولين. والاخبار الواردة في المسألة غير منافية لذلك ، لان ظاهر أكثرها وصريح بعضها هو ان العذر انما تجدد في الطريق ، وبعضها وان كان مطلقا يجب حمله على المقيد منها. إلا ان ظاهر القائلين بهذا القول ما هو أعم من ما ذكرنا حيث جعلوه مقابلا للقولين الآخرين.

المسألة الخامسة ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) ـ في ان من مات وعليه حجة الإسلام واخرى منذورة قد استقرتا في ذمته ، بعد الاتفاق على ان مخرج حجة الإسلام من أصل التركة ـ في ان مخرج حجة النذر هل هو من الأصل أيضا أو من الثلث؟ قولان ، أولهما لابن إدريس وعليه أكثر المتأخرين والثاني للشيخ في النهاية والمبسوط والتهذيب ، ونقله في المختلف عن ابن الجنيد قال : ورواه الصدوق في كتابه (١).

أقول : بل الظاهر انه قائل بذلك ، فإنه لم يقتصر على مجرد نقل الرواية بل قال أولا : باب الرجل (٢) يموت وعليه حجة الإسلام وحجة في نذر عليه. ثم قال : روى الحسن بن محبوب عن على بن رئاب عن ضريس الكناسي. وساق الرواية (٣) وهو ظاهر في الفتوى بمضمون الرواية. وظاهر قوله : «وحجة في نذر عليه» ان الحجة الثانية منشأ سببها النذر ، أعم من ان يكون نذر أن يحج بنفسه أو يحج غيره ، وانه لا فرق بين الأمرين في وجوب القضاء من الثلث كما في الرواية.

__________________

(١) الفقيه ج ٢ ص ٢٦٣.

(٢) في الفقيه هكذا : «باب من يموت ...».

(٣) الوسائل الباب ٢٩ من وجوب الحج وشرائطه ، وقد تقدمت ص ٢١٠.

٢٣٦

احتج الأصحاب على ما ذهبوا اليه من وجوب القضاء من الأصل بأنها كحجة الإسلام من جملة الديون التي مخرجها من الأصل.

قال في المدارك : وهو انما يتم بعد قيام الدليل على وجوب قضائها من التركة. ولم نقف في ذلك على رواية سوى رواية ضريس التي أوردها المصنف ، وقد بينا في ما سبق ان الحج ليس واجبا ماليا بل هو واجب بدني وان توقف على المال مع الحاجة إليه كما تتوقف الصلاة عليه كذلك. ثم نقل احتجاج الشيخ برواية ضريس وأورد الرواية ، ثم قال : وأجاب عنها في المختلف بالحمل على من نذر في مرض الموت. ثم رده بأنه يتوقف على وجود المعارض. ثم قال : نعم يمكن المناقشة في هذا الاستدلال بان مورد الرواية خلاف محل النزاع ، لان موردها من نذر ان يحج رجلا ، اي يبذل له مالا يحج به. وهو خلاف نذر الحج. ولعل ذلك هو السر في إيراد المصنف الرواية بعد حكاية القولين من دون ان يجعلها مستندا لأحدهما. انتهى.

أقول : قد تقدم البحث مستوفى في المسألة وأوضحنا ما في هذا الكلام ، وانما أطلنا الكلام بنقله هنا لأنا قد وعدنا سابقا بنقله وأشرنا سابقا اليه.

ثم أقول : قال الفاضل المحقق محمد تقي المجلسي في شرحه على الفقيه ـ بعد نقل صحيحة ضريس ـ ما هذه ترجمته : المشهور بين العلماء ان كل واجب تعلق بالمال وتركه ذو المال حتى مات ، فان ترك مالا قضى عنه من أصل ماله ، وإلا فلا يجب على الولي قضاؤه ، فقضاء الولي محمول على الاستحباب على المشهور. ويمكن حمل إخراج المنذور من الثلث على انه بسبب اشتغال ذمته بحج واجب فلا يصح نذره لكن يستحب له الوفاء به لتلفظه بصيغة النذر ، فلهذا يخرج من الثلث. وأجيب بأنه لا ينعقد النذر إلا مع رجحان متعلقة وأقله الاستحباب ، ومع اشتغال الذمة بالواجب لا يجوز له ان يحج مستحبا فلا ينعقد نذره. انتهى.

٢٣٧

أقول : فيه أولا ـ ان منع صحة النذر لاشتغال الذمة بالحج الواجب على إطلاقه ممنوع وانما يتم لو نذر الحج في عام الاستطاعة ، واما إذا كان النذر مطلقا فأي مانع؟ وقد تقدم تحقيق ذلك في المسألة الثالثة (١).

وثانيا ـ انه متى لم يكن حج النذر واجبا عليه بالنذر ، وانما هو مستحب من حيث التلفظ بالصيغة فكيف يسوغ إخراجه من غير الوصية؟ والحال ان الواجب يتوقف على الوصية فكيف المستحب؟ على ان إثبات الاستحباب بمجرد التلفظ بالصيغة ممنوع ، فان الاستحباب حكم شرعي لا بد له من الدليل.

واما ما ذكره من الجواب فضعيف ، لانه مبني على ان مجرد اشتغال الذمة موجب لبطلان النذر.

وبالجملة فإن كلامه (قدس‌سره) هنا كلام عليل لا ثمرة له عند ذوي التحصيل. والله العالم.

المقصد الثالث

في حج النيابة وشرائطه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في انه يشترط في التائب شروط :

منها ـ كمال العقل فلا تجوز نيابة المجنون لانغمار عقله بالمرض المانع من النية والقصد. ولو كان ممن يعتريه الجنون أدوارا فلا مانع من نيابته إذا حصل الوثوق بتمكنه من العمل المستأجر عليه وإلا فلا. ومثله الصبي غير المميز.

وفي المميز قولان ، ظاهر الأكثر المنع.

__________________

(١) ص ٢١٥.

٢٣٨

وعلله في المعتبر بان حج الصبي انما هو تمريني ، والحكم بصحته بالنسبة الى ما يراد من تمرينه لا لانه يقع مؤثرا في الثواب.

وهو غير جيد ، لما قدمنا في كتاب الصوم من ان عبادة الصبي شرعية يستحق عليها الثواب لأنها مرادة للشارع.

نعم الوجه في المنع من نيابته أولا ـ انما هو عدم الدليل في المقام ، لان العبادات بأي كيفية وعلى اي نحو موقوفة على التوقيف ، ولم يرد في المقام نص بجواز نيابته.

وثانيا ـ انه لعلمه برفع القلم عنه (١) وعدم مؤاخذته بما يصدر منه فلا يمكن الوثوق باخباره.

وقيل بالجواز ، لانه قادر على الاستقلال بالحج. وهو ضعيف لما عرفت.

ونقل في المدارك عن بعض مشايخه المعاصرين ـ ولعله المولى المحقق الأردبيلي كما يشير اليه كثيرا بذلك ـ جواز نيابته مع الوثوق باخباره. ثم قال : وليس ببعيد من الصواب. انتهى. وفيه توقف.

ومنها ـ الإسلام فلا تصح نيابة الكافر ، لانه عاجز عن نية القربة التي هي شرط في صحة العمل المستأجر عليه.

قالوا : وكذا هذا الشرط في المنوب عنه ، فليس للمسلم ان يحج عن الكافر لقوله (عزوجل) (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) (٢) ولأنه في الآخرة مستحق للخزي والعقاب لا للأجر والثواب ، وهما من لوازم صحة الفعل.

__________________

(١) الوسائل الباب ٤ من مقدمة العبادات ، وسنن البيهقي ج ٨ ص ٢٦٤.

(٢) سورة التوبة الآية ١١٣.

٢٣٩

وفي اشتراط الايمان في النائب قولان ، ظاهر أكثر المتأخرين ـ حيث حكموا بإسلام المخالفين ـ صحة نيابتهم فلا يشترط الايمان عندهم.

قال العلامة في التذكرة : أما المخالف فيجوز ان ينوب عن المؤمن ويجزئ عن المنوب إذا لم يخل بركن ، لأنها تجزئ عنه ولا تجب عليه الإعادة لو استبصر ، فدل ذلك على ان عبادته معتبرة في نظر الشرع يستحق بها الثواب إذا رجع الى الايمان إلا الزكاة ، لأنه دفعها الى غير مستحقها. ويدل على ذلك ما رواه بريد بن معاوية العجلي (١). ثم ساق الرواية.

وقيل بالعدم ، وهو الحق ، واليه مال في المدارك.

وقد تقدم تحقيق المسألة ودلالة جملة من الاخبار على بطلان عبادة المخالف وان اتى بها على الوجه المشترط عند أهل الإيمان فضلا عن أهل نحلته ، وان سقوط القضاء عنه بعد الرجوع الى الايمان انما هو تفضل من الله (عزوجل) لا لصحة عبادته كما توهمه (قدس‌سره).

ومنها ـ خلو ذمته عن حج واجب عليه بالأصالة أو بالنذر أو الاستئجار أو الإفساد ، فلو وجب عليه الحج بسبب أحد هذه الأمور لم يجز له ان ينوب عن غيره إلا بعد أداء ما في ذمته. كذا صرح به العلامة في التذكرة ، ومثله في غيرها.

والأظهر ان يقال : انه إنما يجب خلو ذمة النائب من الحج الواجب إذا كان مخاطبا في ذلك العام على الفور وحصول التمكن منه ، اما لو كان واجبا موسعا أو في عام بعد ذلك ـ كمن نذره كذلك أو استؤجر له ـ فإنه لا مانع من صحة نيابته قبله. وكذا لو وجب عليه في ذلك العام وعجز عنه ولو مشيا حيث لا يشترط فيه الاستطاعة ، كالمستقر من حج الإسلام ، فإنه يجوز له الاستنابة في ذلك

__________________

(١) ص ١٥٩.

٢٤٠