الحدائق الناضرة - ج ١٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٦

فيمكن العمل بالرواية بالنسبة إلى المرأة في صورة نذرها بمالها وقوفا على مورد الخبر ، ويبقى ما عداه من نذر غيرها وغير العبد ـ كما تقدم ـ أو نذرها بغير مالها باقيا على الإطلاق وصحة انعقاد النذر من غير توقف على اذن ، عملا بإطلاق الأدلة الواردة في النذور (١).

وبما ذكرناه من التحقيق يعلم الدليل على الحكمين المتقدمين وصحة ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم).

وتلحق بهذه المسألة فوائد الأولى ـ هل المراد من قولهم (عليهم‌السلام) في الاخبار المتقدمة : «لا يمين لولد مع والده. الى آخره» هو بطلان اليمين بدون الإذن ، لنفى اليمين على أحد الوجوه الثلاثة المحمول على نفي الصحة ، لأنه أقرب المجازات الى نفي الماهية ، أو ان الاذن ليس شرطا في الصحة بل النهي مانع منها؟ قولان ، المشهور الثاني ، وبالأول صرح شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) والظاهر انه الأقرب.

وتظهر فائدة القولين في ما لو زالت ولاية الثلاثة قبل الحل ، كما إذا وقع فراق الزوج أو موت الأب أو عتق العبد ، فعلى القول المشهور تنعقد اليمين واما على ما تقدم عن شيخنا المذكور فتبطل.

الثانية ـ حيث ثبت بما ذكرناه وجوب الحج على العبد والمرأة بالنذر مع اذن المولى والزوج ، فلو أتيا به كان صحيحا ، ولو نهياهما عنه لم يجب إطاعتهما لوجوب تقديم حق الله (عزوجل) على حقهما.

ونقل عن العلامة في المنتهى انه يجب على المولى اعانة المملوك على أداء الحج بالحمولة إن احتاج إليها ، لأنه السبب في شغل ذمته ، ورد بان سببيته في شغل الذمة لا يقتضي ذلك.

__________________

(١) كقوله تعالى في سورة الحج ، الآية ٢٩ (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ).

٢٠١

قال في المدارك بعد نقل ذلك : نعم لو قيل بوجوب تمكينه من تحصيل ما يتوقف عليه الحج لتوقف الواجب عليه كان وجها قويا. انتهى.

أقول : فيه ان هذا الدليل الذي ذكره ان صلح لتأسيس حكم شرعي عليه وجب القول به وان لم يقل به أحد ، والحكم الشرعي تابع للدليل لا للقائل. على انهم بناء على أصولهم وقواعدهم إنما منعوا من احداث القول في المسألة في مقابلة الإجماع ، ولم يدعه أحد منهم في المقام. وان لم يصلح ـ وهو الظاهر ـ فلا يجب تمكينه من تحصيل ما يتوقف عليه الحج ، إذ لا يخفى ان المتبادر من وجوب مقدمة الواجب انما هو بالنسبة الى من خوطب بذلك الواجب ـ مثلا : متى وجب عليه الحج بحصول الاستطاعة وجب عليه السعي في تحصيل مقدماته من السفر وأسباب السفر ونحو ذلك ، ومن وجبت عليه الصلاة وجب عليه السعي في ما يتوقف عليها صحتها من الشرائط ونحو ذلك ـ لا بالنسبة إلى شخص آخر كما في ما نحن فيه ، فان الحج هنا انما وجب على العبد بالنذر والتمكين انما هو من السيد ، فكيف يجب عليه بناء على وجوب مقدمة الواجب؟ وبالجملة فإن وجوب المقدمة تابع لوجوب ذي المقدمة ، فكل من خوطب بالواجب صريحا خوطب بمقدماته ضمنا ، كما ذكرنا من الأمثلة.

والتحقيق انه ان أمكن العبد الإتيان بما نذره وجب عليه الإتيان به وإلا توقع المكنة ، واما خطاب السيد والإيجاب عليه فلا وجه له ولا دليل عليه

وبالجملة فلا اعرف لكلامه (قدس‌سره) هنا وجه استقامة.

الثالثة ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله تعالى عليهم) من غير خلاف يعرف بأنه لا يشترط في الحج بالنذر وأخويه شرائط حجة الإسلام بل يكفي في وجوبه التمكن منه من غير مشقة شديدة. وهو كذلك ، لأن الاستطاعة التي

٢٠٢

هي المدار في وجوب حج الإسلام إنما وقعت في الآية (١) شرطا لحج الإسلام خاصة فلا يتقيد بها غيره ، ويبقى الحج على حكم غيره من النذور التي المدار في وجوب الإتيان بها على القدرة والإمكان.

المسألة الثانية ـ إذا نذر الحج فاما ان ينذره مطلقا غير مقيد بسنة أو مقيدا فان نذره مطلقا فالمقطوع به في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه يجوز له التأخير الى ان يتضيق وقته بظن الوفاة وان استحب له المبادرة والتعجيل ، فان مضى زمان يمكنه الإتيان به فيه ولم يفعله حتى مات وجب ان يقضى عنه ، لانه قد وجب عليه بالنذر واستقر بمضي زمان التمكن. اما لو منعه مانع عن الفورية فإنه يصبر حتى يزول المانع ، فان مات قبل زوال المانع لم يجب القضاء عنه ، لفوات شرط الوجوب وهو القدرة والتمكن. وان نذره مقيدا بسنة مخصوصة فأخل مع القدرة وجب القضاء والكفارة في ما قطع به الأصحاب أيضا وان منعه مانع من مرض أو عدو لم يجب القضاء ، لعدم الاستقرار في الذمة ، وتمسكا بأصالة العدم حتى يقوم دليل الوجوب.

قيل : ولا يخفى ان طروء المانع من فعل المنذور في وقته لا يقتضي بطلان النذر ، لوقوعه صحيحا ابتداء وان سقط الواجب بالعجز عنه. وهذا بخلاف نذر غير المقدور ابتداء كالطيران ونحوه ، فان النذر يقع فاسدا من أصله كما هو واضح.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الخلاف هنا قد وقع في القضاء في الصورتين المذكورتين هل يجب أم لا؟ المقطوع به في كلام الأصحاب الأول وظاهر السيد السند في المدارك الثاني.

__________________

(١) وهو قوله تعالى في سورة آل عمران ، الآية ٩٧ (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً).

٢٠٣

ثم انه على تقدير الوجوب هل هو من الأصل أو من الثلث؟ المشهور الأول وقيل بالثاني.

قال السيد السند في المدارك ـ بعد قول المصنف (قدس‌سره) : ولو تمكن من أدائه ثم مات قضى عنه من أصل تركته ـ ما هذا لفظه : واما وجوب قضائه من أصل التركة إذا مات بعد التمكن من الحج فمقطوع به في كلام أكثر الأصحاب ، واستدلوا عليه بأنه واجب مالي ثابت في الذمة فيجب قضاؤه من أصل ماله كحج الإسلام. وهو استدلال ضعيف (أما أولا) ـ فلان النذر انما اقتضى وجوب الأداء ، والقضاء يحتاج إلى أمر جديد كما في حج الإسلام ، وبدونه يكون منفيا بالأصل السالم من المعارض. (واما ثانيا) فلمنع كون الحج واجبا ماليا ، لأنه عبارة عن المناسك المخصوصة وليس بذل المال داخلا في ماهيته ولا من ضرورياته. وتوقفه عليه في بعض الصور كتوقف الصلاة عليه في بعض الوجوه ، كما إذ احتاج الى شراء الماء أو استئجار المكان أو الساتر ونحو ذلك مع القطع بعدم وجوب قضائها من التركة. وذهب جمع من الأصحاب إلى وجوب قضاء الحج المنذور من الثلث ، ومستنده غير واضح ايضا. وبالجملة فالنذر إنما تعلق بفعل الحج مباشرة وإيجاب قضائه من الأصل أو الثلث يتوقف على الدليل. انتهى كلامه زيد مقامه.

أقول : اما ما ذكره (قدس‌سره) من ضعف الوجه الأول فيمكن المناقشة فيه بان قوله ـ : ان النذر إنما اقتضى وجوب الأداء ، والقضاء يحتاج إلى أمر جديد ـ مردود بأنه لا ريب ان النذر قد اقتضى شغل الذمة اليقيني بالمنذور واستقر وجوبه بعد مضي زمان التمكن منه ، والظاهر بقاء الاشتغال والتعلق بالذمة حتى يحصل الإتيان بالفعل من المكلف أو نائبه ، وتخرج الأخبار الواردة في حج الإسلام شاهدا على ذلك ، فإنه بعد استقرار حج الإسلام في الذمة

٢٠٤

واشتغالها به لا يزول ذلك إلا بالإتيان به في الحياة أو بعد الموت.

وقولهم ـ : ان القضاء يحتاج إلى أمر جديد ـ الظاهر انه ليس على إطلاقه بل ذلك مخصوص بالواجبات الموقتة ، فان توجه الأمر بالإتيان بالفعل في ذلك الوقت لا يتناول ما بعده من ما خرج عنه الذي هو القضاء ، بل لا بد في إيجاب القضاء في الصورة المذكورة من أمر على حده ، وما نحن فيه ليس كذلك ، فان مقتضى النذر اشتغال الذمة بالمنذور مطلقا ، وليس في الاخبار ما يدل على اختصاص الخطاب حال الحياة ليكون القضاء بعد الموت يحتاج إلى أمر جديد ، وإنما إطلاق الاستقرار واشتغال الذمة اقتضى بقاء ذلك الى ان تحصل البراءة بالإتيان بالفعل.

واما ما ذكره أخيرا ـ من ان النذر انما تعلق بفعل الحج مباشرة ـ فيمكن الجواب عنه أيضا بأن النذر اقتضى هنا شيئين : أحدهما ـ اشتغال الذمة بذلك الفعل المنذور كما قدمنا ، والآخر ـ مباشرة الناذر للإتيان بالفعل ، والثاني قد امتنع بالموت فيبقى الأول على حاله حتى يحصل موجب البراءة منه. وهذا الحكم عام في جميع افراد النذور ، ولا ريب انه الأوفق بالاحتياط في الدين.

ومن ما يؤيد ما قلناه ما سيأتي (١) ـ ان شاء الله تعالى ـ من نقل جملة من الروايات الصحيحة في وجوب قضاء حجة النذر في ما إذا نذر ان يحج رجلا (٢) وهو كما يحتمل ان يكون المراد يعني : يعطيه ما لا يحج به ، كما ذكره السيد في ما سيأتي ان شاء الله تعالى ـ في مسألة من مات وعليه حجة الإسلام وحجة منذورة ـ من جوابه عن صحيحة ضريس ، كذلك يحتمل ان يكون المراد انما هو ان يمضي بذلك الرجل حتى يوصله المناسك ويأتي بجميع أفعال الحج وهو قائم بمؤنته ، بل هذا هو الظاهر من اللفظ ، إذ المتبادر من مادة الأفعال هو المباشرة لا السببية ،

__________________

(١) ص ٢٠٩.

(٢) الوسائل الباب ٢٩ من وجوب الحج وشرائطه.

٢٠٥

فإذا قلت : «أخرجته أو أدخلته» يعني : توليت إدخاله وإخراجه وباشرت ذلك لا بمعنى : أمرت بذلك من يفعل به. وحينئذ فتكون هذه الأخبار ـ باعتبار الاحتمال الذي استظهرناه ـ دالة على وجوب قضاء حجة النذر في الجملة.

بقي الكلام في ان موردها القضاء في من نذر ان يحج رجلا ، وهو خارج عن ما نحن فيه من نذر الرجل ان يحج بنفسه. ويمكن ان يقال : انها لما دلت على وجوب قضاء الحج المنذور فقد ثبت بها ان نذر الحج يجب قضاؤه بعد الموت. وبه يظهر بطلان قول المانع : ان النذر انما اقتضى وجوب الأداء ، والقضاء يحتاج إلى أمر جديد. وكون متعلق ذلك النذر حجه بنفسه أو ان يحج غيره لا مدخل له في تغير الحكم ، فان الموجب للقضاء هو النذر وتمكنه من الفعل وتفريطه حتى مات. والظاهر انه لهذا الوجه استدل الشيخ بصحيحة ضريس في ما يأتي ان شاء الله (تعالى) (١) على مسألة من نذر الحج بنفسه فمات ، مع ان موردها من نذر ان يحج غيره.

وما ذكرناه من التوجيه لا يخلو من قوة ، وبه تكون الأخبار الآتية قابلة للاستدلال على محل النزاع. وسيأتي تحقيق الكلام زيادة على ما ذكرنا هنا ان شاء الله تعالى.

واما ما ذكره (قدس‌سره) من الوجه الثاني ـ وهو منع كون الحج وأجاب ماليا ـ فتحقيق الكلام فيه ان يقال : انه لا ريب ان ما ذكروه ـ من الفرق بين الواجب المالي والواجب البدني من إخراج الأول من الأصل والثاني مع الوصية به من الثلث ـ فلم أقف فيه على مستند من النصوص وان كان مشهورا في كلامهم ومتداولا على رؤوس أقلامهم.

قال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك في هذه المسألة : وتعتبر الأجرة من

__________________

(١) في المسألة الخامسة من مسائل المقام.

٢٠٦

أصل التركة كحج الإسلام ، لأنه واجب مالي وان كان مشوبا بالبدني.

وقال أيضا في كتاب الوصايا ـ بعد قول المصنف : انه لو اوصى بواجب وغيره بدئ بالواجب من الأصل ـ ما صورته : إنما يخرج الواجب من أصل المال إذا كان واجبا ماليا حتى يكون متعلقا بالمال حال الحياة ، سواء كان مالي محضا كالزكاة والخمس والكفارات ونذر المال أم ماليا مشوبا بالبدن كالحج ، فان جانب المالية متغلب من حيث تعلقه به في الجملة ، اما لو كان الواجب بدنيا محضا كالصلاة والصوم فإنه يخرج من الثلث مطلقا ، لانه لا يجب إخراجه عن الميت إلا إذا اوصى به ، فيكون حكمه حكم التبرعات الخارجة من الثلث مع الوصية بها وإلا فلا. انتهى.

وعلى هذه المقالة جرت كلمتهم وبنيت قاعدتهم.

والذي يستفاد من النصوص بالنسبة إلى الواجب المالي المحض هو ما ذكروه من تعلق بالأصل ، كما في رواية عباد بن صهيب عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) : «في رجل فرط في إخراج زكاته في حياته فلما حضرته الوفاة حسب جميع ما كان فرط فيه من ما لزمه من الزكاة ثم اوصى به ان يخرج ذلك فيدفع الى من تجب له؟ قال : فقال : جائز يخرج ذلك من جميع المال ، انما هو بمنزلة الدين لو كان عليه ليس للورثة شي‌ء حتى يؤدى ما اوصى به من الزكاة. قيل له : فان كان اوصى بحجة الإسلام؟ قال : جائز يحج عنه من جميع المال». فان ظاهر الخبر المذكور بل صريحه ان جملة الديون المتعلقة بالذمة من الأموال على اختلاف أسبابها تخرج من الأصل.

واما بالنسبة إلى المالئ المشوب بالبدن كالحج فإشكال ، إلا ان ظاهر اتفاق كلمة الأصحاب انه كالسابق. والمفهوم من الاخبار الآتية التفرقة بين الحج

__________________

(١) الوسائل الباب ٢١ من المستحقين للزكاة ، والباب ٤٠ من الوصايا.

٢٠٧

الإسلام فمن الأصل وحج النذر فمن الثلث.

واما بالنسبة إلى الواجب البدني محضا مثل الصوم والصلاة فإن المستفاد من النصوص انها بعد الموت تتعلق بالولي ، كما في صحيحة حفص بن البختري (١) : «في الرجل يموت وعليه صلاة أو صيام؟ قال : يقضي عنه اولى الناس بميراثه». وفي مرسلة حماد (٢) : «اولى الناس به».

وفي مرسلة ابن ابي عمير عن الصادق عليه‌السلام (٣) : «في الرجل يموت وعليه صلاة أو صيام؟ قال : يقضيه اولى الناس به».

واما انه لو لم يكن له ولي واوصى الميت بقضائه عنه ، فهل تكون مخرجة من الثلث ـ كما عليه الأصحاب بناء على القاعدة المتقدمة ـ أو من الأصل؟ لم أقف فيه على نص يدل على شي‌ء من الأمرين ، وشيخنا الشهيد الثاني في ما تقدم من كلامه انما علله بما عرفت.

ويمكن ان يستدل على ما ذكره الأصحاب من ان مخرج قضاء حجة النذر من الأصل بما ذكرناه ، وحاصله ان الحج ـ إسلاميا أو نذرا ـ واجب مالي وان كان مشوبا بالبدن ، وكل ما كان واجبا ماليا فمخرجه من الأصل ، فيكون مخرج الحج من الأصل. اما الصغرى فلان الحج وان كان عبارة عن المناسك المخصوصة لكن الإتيان به متوقف على المال وان تفاوت قلة وكثرة باعتبار مراتب البعد والقرب ، ولهذا انه متى مات بعد استقراره انتقل الحكم الى ماله إجماعا نصا وفتوى ، فوجب القضاء عنه من ماله واما الكبرى فللنصوص المتقدمة الدالة على ان كل ما كان دينا فمخرجه من الأصل (٤) وهي مسلمة عند الخصم.

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٢٣ من أحكام شهر رمضان.

(٣) الوسائل الباب ١٢ من قضاء الصلوات عن كتاب غياث سلطان الورى.

(٤) ص ٢٠٧ وأورد ما يدل على ذلك في الوسائل في الباب ٢٨ من الوصايا.

٢٠٨

واما ما ذكره من المعارضة بالصلاة فهي مناقشة واهية ، فإن ما عدده من الصور في توقف الصلاة على المال أمور نادرة وقد لا تقع بالكلية وان كان فرضها ممكنا ، بخلاف الحج فان توقفه على المال ولا سيما من الآفاقي أمر ضروري اتفاقي ، والأحكام الشرعية إنما تبنى على الافراد المتكثرة الشائعة المتكررة ، فوصف الحج بكونه واجبا ماليا باعتبار توقفه على المال صحيح لا ريب فيه ، والصلاة لا توصف بذلك باعتبار هذه الفروض النادرة وانما توصف بكونها واجبا بدنيا كما هو الشائع المتكرر في إيقاعها ، وتوقفها نادرا على ذلك لا يقدح في كونها واجبا بدنيا.

وبالجملة فإنه لما كان الواجب في حال الحياة ـ على المكلف بالحج من أهل الآفاق والبلدان الذين هم الفرد الغالب المتكثر بل وغيرهم من حاضري مكة ـ أمرين : صرف المال والمباشرة بالبدن ، وبعد الموت تعذرت المباشرة بقي الوجوب المتعلق بالمال على حاله. والمكلف بالصلاة لما كان الواجب عليه فيها انما هو المباشرة بالبدن ، والمال لا مدخل له فيها في حال الحياة ، فبعد الموت سقط الخطاب عن ماله وتوقف وجوب الإتيان بها على الوصية. إلا أنه سيأتي في المقام ما يظهر منه المنافاة لما قررناه من هذا الكلام.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه قد روى ثقة الإسلام في الكافي والشيخ في التهذيب في الصحيح عن مسمع بن عبد الملك (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : كانت لي جارية حبلى فنذرت لله (تعالى) ان ولدت غلاما أن أحجه أو أحج عنه؟ فقال : ان رجلا نذر لله في ابن له ان هو أدرك ان يحجه أو يحج عنه ، فمات الأب وأدرك الغلام بعد ، فاتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الغلام فسأله عن ذلك ، فأمر

__________________

(١) الوسائل الباب ١٦ من كتاب النذر والعهد.

٢٠٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ان يحج عنه من ما ترك أبوه».

وروى الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن ابي يعفور (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل نذر لله لان عافى الله ابنه من وجعه ليحجنه الى بيت الله الحرام ، فعافى الله الابن ومات الأب؟ فقال : الحجة على الأب يؤديها عنه بعض ولده. قلت : هي واجبة على ابنه الذي نذر فيه؟ فقال : هي واجبة على الأب من ثلثه ، أو يتطوع ابنه فيحج عن أبيه».

قال في الوافي بعد نقل هذه الرواية : إنما كان على الأب لأنه هو الذي أوجب على نفسه. انتهى.

وروى الشيخ في التهذيب والصدوق في الفقيه في الصحيح عن ضريس الكناسي (٢) قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل عليه حجة الإسلام نذر نذرا في شكر ليحجن رجلا إلى مكة ، فمات الذي نذر قبل ان يحج حجة الإسلام ، ومن قبل ان يفي لله بنذره الذي نذر؟ قال : ان كان ترك مالا يحج عنه حجة الإسلام من جميع المال واخرج من ثلثه ما يحج به رجل لنذره ، وقد وفى بالنذر ، وان لم يكن ترك مالا إلا بقدر ما يحج به حجة الإسلام حج عنه بما ترك ويحج عنه وليه حجة النذر ، انما هو مثل دين عليه».

وظاهر هذه الأخبار انه متى نذر ليحجن رجلا ثم مات قبل ان يحجه فإنه يجب القضاء عنه ، وان ذلك من الثلث لا من الأصل. وحينئذ فإن حملنا العبارة

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٩ من وجوب الحج وشرائطه.

(٢) التهذيب ج ٥ ص ٤٠٦ ، والفقيه ج ٢ ص ٢٦٣ ، وفي الوسائل الباب ٢٩ من وجوب الحج. وقد أورد موارد الاختلاف بينهما في اللفظ بعضها على طبق التهذيب وبعضها على طبق الفقيه. والراوي في التهذيب هو ضريس بن أعين.

٢١٠

المذكورة على ان المراد ان يعطي رجلا مالا يحج به ، كما تأول به السيد صحيحة ضريس في ما سيأتي ان شاء الله (تعالى) في كلامه ، أشكل ذلك بان الواجب على هذا التقدير يكون ماليا محضا ، وقد عرفت من كلامهم ـ بل من ظاهر الاخبار التي قدمناها ـ ان الواجب المالي مخرجه من الأصل. وبذلك يظهر ان تأويل السيد (رحمه‌الله) للرواية غير تام. وان حملناها على ما قدمنا ذكره من تنفيذ ذلك بنفسه ـ وهو الأظهر كما عرفت ـ كان ذلك من قبيل الواجب البدني وان توقف على المال كحج الإسلام ، وينبغي على قياس حج الإسلام بالتقريب الذي قدمنا ذكره ـ كما عليه ظاهر اتفاق كلمة الأصحاب ـ ان يكون مخرجه من الأصل ، مع ان هاتين الصحيحتين المذكورتين صريحتان في ان مخرجه من الثلث.

ولعل القول الفصل والمذهب الجزل في جميع الأحكام هو التوقف على ورود النص الصريح أو الظاهر في ذلك الحكم ، فان وجد وجب الحكم بمقتضاه وإلا فالتوقف عن الحكم وعدم الاعتماد على هذه التقريبات والقواعد المستنبطة والتخريجات التي لم ترد بها النصوص ، وان أمكن التقريب فيها كما قدمناه سابقا. وقد سبق نظير ذلك في المسألة الخامسة من المقصد السابق في المسألة قضاء الحج من البلد أو الميقات ، وفي مسألة تزاحم دين الحج مع غيره من الديون كما أوضحناه ثمة. وحينئذ فالواجب هو الوقوف على ما دلت عليه الاخبار في كل جزئي جزئي ان وجدت وإلا فالتوقف.

وبذلك يظهر ما في كلام المحقق المدقق الشيخ حسن ابن شيخنا الشهيد الثاني (نور الله مرقديهما) في كتاب منتقى الجمان ، حيث قال بعد نقل صحيحة ضريس وصحيحة ابن ابي يعفور : قلت : لا يخفى ما في هذين الخبرين من المخالفة للأصول المقررة عند الأصحاب ، وليس لهم في تأويلهما كلام يعتد به ، والوجه

٢١١

عندي في ذلك فرض الحكم في ما إذا قصد الناذران يتعاطى تنفيذ الحج المنذور بنفسه فلم يتفق له. ولا ريب ان هذا القصد يفوت بالموت ، فلا يتعلق بماله حج واجب بالنذر بل يكون الأمر بإخراج الحج المنذور واردا على وجه الاستحباب للوارث. وكونه من الثلث رعاية لجانبه واحترازا من وقوع الحيف عليه ، كما هو الشأن في التصرف المالي الواقع للميت من دون ان يكون مستحقا عليه. وحج الولي أيضا محمول في الخبر الأول على الاستحباب ، وفي الثاني تصريح بذلك ، وقد جعله الشيخ شاهدا على ارادة التطوع من الأول أيضا. وفيه نظر ، لان الحج في الثاني مذكور على وجه التخيير بينه وبين الإخراج من الثلث ، وهو يستدعي وجود المال ، وفي الأول مفروض في حال عدم وجوده. وقوله : «فإنما هو دين عليه» ينبغي ان يكون راجعا الى حج الإسلام وان كان حج النذر أقرب إليه ، فإن الظاهر كونه تعليلا لتقديم حج الإسلام حيث يكون المتروك بقدره فحسب. وبقي الكلام في قوله : «هي واجبة على الأب من ثلثه» وارادة الاستحباب المتأكد منه غير بعيدة ، وقد بينا في ما سلف ان استعمال الوجوب في هذا المعنى موافق لأصل الوضع ، ولم يثبت تقدم معنى العرفي له الآن بحيث يكون موجودا في عصر الأئمة (عليهم‌السلام) ليقدم على المعنى اللغوي. وذكرنا ان الشيخ (قدس‌سره) يكرر القول في ان المتأكد من السنن يعبر عنه بالوجوب ، وله في خصوص كتاب الحج كلام في هذا المعنى لا بأس بإيراده وهو مذكور في الكتابين ، وهذه صورة ما في التهذيب : قد بينا في غير موضع من هذا الكتاب ان ما الاولى فعله قد يطلق عليه اسم الوجوب وان لم يكن يستحق بتركه العقاب. وأنت خبير بان اعتراف الشيخ بهذا يأبى تقدم العرف واستقراره في ذلك العصر ، فيحتاج إثباته الى حجة وبدونها

٢١٢

لا أقل من الشك المنافي للخروج من الأصل. وبما حررناه يعلم ضعف ما اختاره الشيخ هنا من وجوب إخراج الحجة المنذورة من الثلث. هذا كله على تقدير نهوض الحديثين بإثبات الحكم ، وإلا استغنى عن تكلف البحث في معناهما وكان التعويل في المسألة على ما تقتضيه الأصول. انتهى كلامه زيد إكرامه.

أقول : لا يخفى ان السبب الموجب لارتكابه (قدس‌سره) ما ارتكبه من هذه التأويلات البعيدة في هاتين الصحيحتين انما هو المخالفة لما زعمه من القواعد المقررة بين الأصحاب ، وذلك هو انه متى حمل قوله عليه‌السلام في الخبرين : «ليحجنه» : بمعنى ان يعطى رجلا مالا يحج به ، كان ذلك من قبيل الواجب المالي الذي يكون خروجه من الأصل مع ان الخبرين دلا على كون مخرجه من الثلث. ومتى حمل على المعنى الذي ذكره من تنفيذ الحج المذكور بنفسه ، فالواجب هو إخراجه من الثلث حيث انه واجب بدني ، إلا ان إخراج الواجب البدني يتوقف على الوصية بمقتضى قواعدهم مع ان الخبرين دلا على الإخراج وان لم تكن وصية ، فلا علاج انه تأول الخبرين بهذه التأويلات المتعسفة والتخريجات المتكلفة ، وبعدها أظهر من ان يخفى على ذي مسكة.

والحق ان ارتكاب ما ذكره يتوقف على المعارض سيما مع إضافة الصحيحة الثالثة إلى الصحيحتين المذكورتين.

على ان ما ذكره ـ من انه قصد ان يتعاطى تنفيذ الحج بنفسه ، وان هذا القصد يفوت بعد الموت ، فلا يتعلق بماله حج واجب بالنذر ـ ممنوع ، فإنه لا ريب ان قصد هذا تضمن شيئين : أحدهما ـ مباشرة التنفيذ بنفسه. وثانيهما ـ القيام بما يحتاج اليه الرجل من الزاد والراحلة مدة الحج ، وبالموت إنما فاتت المباشرة ، واما ما تعلق بالمال فيبقى على حاله ، فكيف يتم ما ذكره انه لم يتعلق بماله حج واجب؟ وهذا بعينه جار في حج الإسلام ، فان الواجب

٢١٣

عليه السفر اليه بنفسه ومباشرته ولكن السفر يتوقف على المال ، ومن أجل ذلك تعلق الحج بالمال بعد الموت.

وما ذكره من مخالفة قواعد الأصحاب إنما يتم لو كانت تلك القواعد مستندة الى دليل من سنة أو كتاب. ومع تسليم الدليل لها فالتخصيص باب مفتوح في كلامهم ، فيجوز خروج هذا الحكم بهذه الأخبار الصحيحة الصريحة في وجوب القضاء ، واي مانع منه؟

وبالجملة فإن حمل القضاء في الاخبار المذكورة على الاستحباب بعيد غاية البعد عن مناطيقها.

واما حمل قوله عليه‌السلام ـ : «هي واجبة على الأب من ثلثه» على الاستحباب المؤكد ، وسجل عليه بما ذكره ـ ففيه أولا ـ انه لو لم يكن منشأ الوجوب إلا من التعبير بلفظ الوجوب في هذا المكان لربما تم ما ذكره ، كيف؟ وظواهر الأخبار الثلاثة كلها متفقة على ذلك ، فان قوله عليه‌السلام في صحيحة مسمع : «فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ان يحج عنه من ما ترك أبوه» صريح في الوجوب ، فإن أوامره صلى‌الله‌عليه‌وآله كاوامر الله (سبحانه) مراد بها الوجوب إلا مع قيام قرينة عدمه ، ولا ريب ان هذا اللفظ عند كل سامع انما يتبادر منه الوجوب ، فلو أراد الإمام عليه‌السلام به الاستحباب من غير قرينة في المقام لكان في ذلك تعمية على السائل وإيهام عليه ، حيث يجيبه عن حكم مستحب بما هو ظاهر في الوجوب. وقوله في صحيحة ضريس : «ان كان ترك مالا يحج عنه حجة الإسلام من جميع المال واخرج من ثلثه ما يحج به رجل لنذره» ظاهر في الوجوب. وقوله في صحيحة ابن ابي يعفور : «الحجة على الأب» ظاهر أيضا في ذلك. وبالجملة ظهور الوجوب من هذه الاخبار أظهر من ان يقابل بالإنكار.

٢١٤

وثانيا ـ ان ظاهر كلامه هو إنكار استعمال لفظ الوجوب في كلامهم (عليهم‌السلام) وعرفهم بالمعنى الأصولي وانما المستعمل في عرفهم هو المعنى اللغوي. وهي دعوى عجيبة. وما أبعد ما بين هذه الدعوى وبين من يدعى حمل الوجوب في كلامهم (عليهم‌السلام) على المعنى الأصولي كما هو ظاهر المشهور في كلام الأصحاب. وكل من الدعويين وقعا في التفريط والإفراط. والحق في ذلك ما قدمناه من لزوم الأوساط ، وهو ان هذا اللفظ من ما استعمل في كلامهم (عليهم‌السلام) في كل من المعنيين المذكورين. وقد حققنا ايضا ان جملة من الألفاظ جرت هذا المجرى ، وانه بسبب الاشتراك والشيوع في كلامهم كذلك لا يجوز ان يحمل على أحدهما إلا مع القرينة ، والقرينة على ما ندعيه هنا من المعنى الأصولي موجودة بما أشرنا إليه من تلك المواضع المذكورة في الروايات.

وثالثا ـ ان قوله : «هذا كله على تقدير نهوض الحديثين بإثبات الحكم. الى آخره» فانى لا اعرف له معنى واضحا ، فإنه بعد بحثه في متن الخبرين وتأويله لهما لم يبق إلا السند والسند صحيح باصطلاحهم ، فكيف لا ينهضان بالحجة من جهة السند؟ وبماذا يطعن به عليهما حتى انه يستغني عن تكلف تأويلهما والبحث في معناهما ويكون المرجع في حكم المسألة الى ما ذكره.

وصاحب الذخيرة قد نقل كلام المحقق المذكور وجمد عليه ، وقال بعد نقله : وهو حسن.

وبالجملة فالواجب الوقوف على ظاهر الاخبار حيثما كان إذا لم تعارض بما هو أرجح منها. والاحتياط من ما لا ينبغي تركه سيما في أمثال هذه المقامات. والله العالم.

المسألة الثالثة ـ قد ذكر الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان ناذر الحج

٢١٥

متى كان مستطيعا اما ان ينذره مطلقا بان لا يقصد حج الإسلام ولا غيره ، أو ينذره بنية حج الإسلام أو بنية غيره ، فالكلام هنا يقع في مواضع ثلاثة :

الأول ـ ان يطلق النذر ، وقد اختلف الأصحاب في هذه الصورة ، فذهب الأكثر ـ ومنهم الشيخ في الخلاف والجمل وابن البراج وابن إدريس والعلامة في جملة من كتبه ـ الى عدم التداخل ، التفاتا الى ان اختلاف السبب يقتضي اختلاف المسبب.

ورد بان هذا الاقتضاء انما هو في الأسباب الحقيقية دون المعرفات الشرعية ، ولهذا حكم كل من قال بانعقاد نذر الواجب بالتداخل إذا تعلق النذر بحج الإسلام من غير التفات الى اختلاف الأسباب.

أقول : الظاهر ان مراده ان كون ذلك قاعدة كلية انما هو في الأسباب الحقيقية دون الأسباب الشرعية ، فإنها لا يطرد فيها ذلك بل قد تكون كذلك وقد لا تكون ، فهي منوطة بالدليل الوارد في كل حكم ، فقد يتفق فيه التداخل إذا اقتضاه الدليل وقد يتفق التعدد كذلك.

وقال الشيخ في النهاية : ان نوى حج النذر أجزأه عن حج الإسلام ، وان نوى حج الإسلام لم يجزئ عن النذر.

احتج الشيخ على هذا القول بما رواه في الصحيح عن رفاعة بن موسى (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل نذر ان يمشي إلى بيت الله الحرام فمشى هل يجزئه ذلك عن حجة الإسلام؟ قال : نعم. قلت : أرأيت ان حج عن غيره ولم يكن له مال وقد نذر ان يحج ماشيا ، أيجزئ عنه ذلك من مشيه؟ قال : نعم».

__________________

(١) التهذيب ج ٥ ص ٤٠٦ و ٤٠٧ ، وفي الوسائل الباب ٢٧ من وجوب الحج وشرائطه.

٢١٦

وما رواه الشيخ والكليني في الحسن أو الصحيح عن رفاعة (١). الحديث الأول إلى قوله : قال : «نعم».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (٢) قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل نذر ان يمشي إلى بيت الله فمشى ، أيجزئه عن حجة الإسلام؟ قال : نعم».

أقول : والتقريب في هذه الروايات ان الظاهر ان المراد من قوله : «رجل نذر ان يمشي إلى بيت الله. الى آخره» إنما هو بمعنى نذر الحج ماشيا والغرض من السؤال ان هذا الحج المنذور بهذه الكيفية بعد الإتيان به هل يكفي عن حجة الإسلام أم لا؟ فأجابوا (عليهم‌السلام) ب «نعم». ولا معنى للسؤال عن نذر المشي خاصة ، إذ لا وجه لترتب السؤال على ذلك ، إذ ترتب حج الإسلام على مجرد نذر المشي لا يعقل له وجه حتى يجوز ان يسأل عنه ، بل المعنى الصحيح انما هو الأول ، ويدل عليه صريح السؤال الثاني في الرواية الاولى.

وهذا المعنى هو الذي فهمه الأصحاب من الرواية ممن استدل بها ومن ردها ، ولهذا ان العلامة في التذكرة والمختلف انما أجاب عن صحيحة رفاعة

__________________

(١) هذا الحديث رواه الشيخ بسند واحد صحيح في التهذيب ج ٥ مرتين : مرة ص ١٣ واقتصر فيه على السؤال الأول ، ومرة ص ٤٠٦ و ٤٠٧ وجمع فيه بين السؤالين. ورواه في الكافي ج ٤ ص ٢٧٧ بسند فيه إبراهيم بن هاشم وجمع فيه بين السؤالين. وأورد الحديث ـ على نحو ما ذكرناه ـ في الوسائل في الباب ٢٧ من وجوب الحج وشرائطه.

(٢) التهذيب ج ٥ ص ٤٥٩ ، وفي الوسائل الباب ٢٧ من وجوب الحج وشرائطه.

٢١٧

الأولى ـ حيث لم ينقل سواها ـ بالحمل على ما إذا قصد بالنذر حجة الإسلام.

والعجب منهم (رضوان الله عليهم) في ارتكاب مثل هذا التأويل البعيد عن ظاهر الخبر مع عدم المعارض سوى تعليلهم العليل الذي قدمنا نقله عنهم ، فانى لم أقف لهم على دليل سواه ، وقد عرفت ضعفه.

ثم العجب من صاحب الوسائل في اقتفائه القول المشهور ومتابعة الأصحاب (رضوان الله عليهم) في تأويل هذه الاخبار ، مع انه لا مستند لهم على أصل الحكم ـ كما ادعوه ـ سوى ما عرفت. وهذا من جملة غفلاته وخطراته فإنه لا ريب ان ارتكاب التأويل في الأخبار وإخراجها عن ظاهرها إنما يصار اليه عند المعارض الأقوى في المسألة لا بمجرد الشهرة وان لم تستند الى دليل. والحكم بالتداخل على الوجه المذكور في الأخبار ليس فيه مخالفة للأصول والقواعد ، بل اخبار تداخل الأغسال (١) ـ كما عرفت ـ مؤيدة له ، فما الموجب الى رده؟

وأجاب العلامة في المنتهى عن الرواية باحتمال ان يكون النذر إنما تعلق بكيفية الحج لا به نفسه ، فيكون النذر انما تعلق بالمشي وهو طاعة هنا ، كما يدل عليه صحيحة عبد الله بن سنان (٢) من قوله عليه‌السلام : «ما عبد الله بشي‌ء أشد من المشي ولا أفضل». وفيه ما عرفت. وبذلك يظهر ان الأظهر ما ذكره في النهاية.

قال في المدارك : ويدل على هذا القول ايضا صدق الامتثال بالفعل الواحد ، على حد ما قيل في تداخل الاغتسال ، فان من اتى بالحج بعد الاستطاعة يصدق عليه انه امتثل الأوامر الواردة بحج الإسلام ، ووفى بنذره.

__________________

(١) الوسائل الباب ٤٣ من الجنابة.

(٢) الوسائل الباب ٣٢ من وجوب الحج وشرائطه.

٢١٨

أقول : الأظهر أن يجعل هذا الوجه مؤيدا لا دليلا ، فإنه قاصر عن الدلالة كما لا يخفى ، والأحكام الشرعية موقوفة على النصوص في كل حكم. وورود ذلك في تداخل الأغسال لا يستلزم القول به هنا لو لم يقم عليه بخصوصه دليل

بقي الكلام في ان مورد الأخبار المذكورة بالتقريب الذي ذكرناه هو الدلالة على الحكم الأول من الحكمين المنقولين عن النهاية ، واما الحكم الثاني ـ وهو ما إذا نوى حج الإسلام وانه لا يجزئ عن المنذور ـ فعلله في المدارك بان الحج انما ينصرف الى النذر بالقصد ، بخلاف حج الإسلام فإنه يكفي فيه الإتيان بالحج ولا يعتبر فيه ملاحظة كونه حج الإسلام. انتهى ، ولا يخفى ما فيه من عدم الصلوح لتأسيس حكم شرعي وبنائه عليه.

ولعل الأظهر ان يقال : ان العبادات أمور توقيفية يتوقف الحكم فيها على ظهور الأدلة الشرعية والاخبار النبوية ، قام الدليل على التداخل في الصورة الاولى ، وكذا دلت صحيحة رفاعة (١) على انه إذا حج عن غيره وقد كان عليه حج النذر ماشيا انه يجزئه عن حج النذر. وهي صريحة في التداخل في هذه الصورة أيضا. وحينئذ فيجب القول بالتداخل في هاتين الصورتين.

وفي هذه الرواية ما يشير الى ضعف ما ذكره في المدارك من ان الحج انما ينصرف الى النذر بالقصد ، فإنه هنا نوى الحج عن غيره ولم يقصد حج النذر مع انه حكم عليه‌السلام باجزائه عن حج النذر. وبقي الباقي على مقتضى الأصل من التعدد وعدم التداخل.

وبذلك يظهر لك ما في كلام صاحب الذخيرة هنا حيث انه ـ بعد ان نقل عبارة الشيخ في النهاية الدالة على التفصيل ـ قال ما صورته : وحكى عن الشيخ ايضا القول بالتداخل من غير تفصيل. والأقرب التداخل ، لحصول امتثال

__________________

(١) ص ٢١٦.

٢١٩

الأمرين بفعل واحد ، وعدم دليل دال على لزوم التعدد. انتهى.

أقول : اما ما نقله عن الشيخ من القول بالتداخل مطلقا فلم أقف عليه في كتب الأصحاب. والظاهر ان ما علل به القول بالتداخل مطلقا ـ واختاره لذلك ـ مأخوذ من كلام المدارك المتقدم وهو قوله : «ويدل على هذا القول. الى آخره» مع ان صاحب المدارك إنما أراد به بالنسبة إلى الصورة التي اختار الشيخ التداخل فيها ، وإلا فظاهر كلامه في الصورة الثانية إنما هو عدم التداخل كما يؤذن به تعليله من اندراج حج الإسلام تحت قصد حج النذر وعدم اندراج حج النذر تحت قصد حج الإسلام لاحتياجه الى القصد.

وكيف كان فما اختاره من القول بالتداخل مطلقا قياسا على الأغسال ضعيف جدا ، بل لا يخرج عن القياس. والاستدلال بحصول الامتثال بفعل واحد مصادرة ، فإنه عين الدعوى. وبذلك يظهر ما في قوله : «وعدم دليل دال على لزوم التعدد» فإنه كما لم يوجد ما يدل على لزوم التعدد لم يوجد ايضا ما يدل على التداخل.

ولقائل أن يقول : ان ما ذكره الأصحاب في تعليل التعدد باعتبار تعدد الأسباب جيد لا بأس به ، وذلك لأن استطاعة الحج أوجبت اشتغال الذمة بحج الإسلام ، ثم انه لما نذر الحج مطلقا فقد علم ان النذر أوجب حجا زائدا على الحج الواجب أولا ، لكن لما قام الدليل الشرعي على التداخل في الصورة المفروضة وجب القول بذلك ، وبقي ما عداها على حكم التعدد.

وبالجملة فما ذكره الفاضل المذكور من القول بالتداخل مطلقا بعيد عندي غاية البعد.

الموضع الثاني ـ ان ينذر حج الإسلام ، والأشهر الأظهر انعقاد نذره

٢٢٠