الحدائق الناضرة - ج ١٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٦

(عليه‌السلام) في رجل اوصى بحجة فلم تكفه من الكوفة إنها تجزئ حجته من دون الوقت».

وما رواه فيه ايضا عن عمر بن يزيد (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : رجل اوصى بحجة فلم تكفه؟ قال : فيقدمها حتى يحج دون الوقت».

وظاهر الخبرين المذكورين ان الرجل اوصى بمال للحج فلم يكف للاستئجار عنه من البلد ، كما هو صريح الأول وظاهر الثاني. وأجاب (عليه‌السلام) بأنه يستأجر بها من اي موضع يسعه المال بعد البلد. وفيه إيماء إلى انه لو كفى من البلد لوجب وان لم يعين البلد في الوصية.

ومنها ـ ما رواه في الكافي عن احمد بن محمد بن ابي نصر عن محمد بن عبد الله (٢) قال : «سألت أبا الحسن الرضا (عليه‌السلام) عن الرجل يموت فيوصي بالحج ، من اين يحج عنه؟ قال : على قدر ماله ، ان وسعه ماله فمن منزله وان لم يسعه ماله من منزله فمن الكوفة ، فان لم يسعه من الكوفة فمن المدينة».

أقول : ظاهر الخبر المذكور انه ان كان في مال الموصى سعة الحج من المنزل فهو الواجب أولا ، وإلا فيبني على ما يسعه من البلدان المتوسطة. وظاهر الخبر ان السؤال عن رجل من خراسان. وبهذا التقريب ينطبق على ما قدمناه من الاخبار.

ومنها ـ صحيحة الحلبي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) انه قال : «وان

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٢ من النيابة في الحج.

(٣) لم أقف على هذه الصحيحة في الوسائل في مظانها ، ولم يذكرها في الوافي باب (الوصية بالحج) من كتاب الوصية. نعم ذكرها صاحب المدارك في نفس المسألة ، وهي المسألة الثانية من المسائل الأربع في المقدمة الثانية

١٨١

اوصى ان يحج عنه حجة الإسلام ولم يبلغ ماله ذلك فليحج عنه من بعض المواقيت». والتقريب فيها ما تقدم.

والسيد السند في المدارك لما اعتضد بروايتي علي بن رئاب وزكريا بن آدم المتقدمتين على ما اختاره من القول المشهور ـ وهو وجوب الحج من الميقات مطلقا ، وكان هذان الخبران ظاهري المنافاة لذلك ـ أجاب عنهما بعد ذكرهما بأنهما إنما تضمنا الحج من البلد مع الوصية ، ولعل القرائن الحالية كانت دالة على ارادة الحج من البلد ، كما هو الظاهر من الوصية عند الإطلاق في زماننا ، فلا يلزم مثله مع انتفاء الوصية. انتهى.

وفيه : ان بعده ظاهر ، وما ذكره تكلف لا ضرورة تلجئ إليه ، فإن ما ذكرناه هو المعنى الذي تنطبق جملة أخبار المسألة عليه. وتوهم الدلالة على

__________________

ونسبها الى الشيخ (قدس‌سره) وكذا نسبها صاحب الذخيرة إلى الشيخ في نفس المسألة ، ومن قبلهما العلامة في المنتهى ج ٢ ص ٨٧١. ولم أجدها في التهذيب في مظانها. إلا ان الشيخ (قدس‌سره) ـ بعد ان أورد في التهذيب ج ٥ ص ٤٠٥ من الطبع الحديث صحيح الحلبي المتضمن للوصية بالحج وان حجة الإسلام تخرج من أصل المال والحج مستحب يخرج من الثلث ، وان النائب يتعين بتعيين الموصي ، وأورده في الوسائل في الباب ٢٥ من وجوب الحج وشرائطه برقم ٢ ـ قال : «فإن اوصى ان يحج عنه حجة الإسلام ولم يبلغ ماله ذلك فليحج عنه من بعض المواقيت ، وروى ذلك ...» ثم ذكر صحيح علي بن رئاب المتقدم. وهذه العبارة بقرينة قوله : «روى ذلك» من كلام الشيخ (قدس‌سره) لا من لفظ الحديث. وعدم نقل صاحبي الوسائل والوافي لهذه الصحيحة شاهد قطعي على ذلك.

١٨٢

اعتبار الميقات من الخبرين اللذين اعتضد بهما قد بينا ضعفه.

وزاد بعضهم في الجواب عن الخبر المذكور : ان يراد بماله ما عينه اجرة للحج بالوصية ، قال : فإنه يتعين الوفاء به مع خروج ما زاد عن أجرته من الميقات من الثلث اتفاقا. وهو أبعد وأبعد.

وبالجملة فإن الظاهر عندي من هذه الروايات ـ باعتبار ضم بعضها الى بعض وحمل مجملها على مفصلها ومطلقها على مقيدها ـ هو انه متى اوصى بالحج فإنه ينظر في ماله ، فان وسع الحج من بلده ومنزله وجب ، وإلا فيترتب باعتبار ما يسع المال ولو من مكة. وهذا هو قول شيخنا الشهيد في الدروس. مثلا : لو كان الموصى في بلد خراسان ، فان وسع ماله للحج من خراسان وجب ، وإلا فينظر في البلدان والأماكن المتوسطة من خراسان إلى مكة فأيها وسع الحج منه وجب. وعلى هذا فلا حجة في شي‌ء من هذه الاخبار للقول المشهور ، بل هي ظاهرة في خلافه.

نعم يبقى الكلام في ان مورد هذه الروايات الوصية فحمل ما نحن فيه عليها يحتاج الى دليل. إلا ان لقائل أن يقول : انه إذا دلت هذه الاخبار ـ كما أوضحناه ـ على ان الواجب مع الوصية هو النظر إلى سعة المال ، فان وسع من بلده وجب الحج من البلد وإلا فمن حيث يسع ، فينبغي القول بذلك في من لم يوص مع معلومية اشتغال ذمته ، لان الواجب الإخراج عنه أوصى أو لم يوص. ولهذا تكلف الأصحاب إرجاع بعض هذه الروايات الى ما ذهبوا اليه واستدلوا بها عليه وان كان خلاف ما يستفاد منها كما عرفت.

وان ارتد مزيد تحقيق للمقام بتوفيق الملك العلام وبكرة أهل الذكر (عليهم‌السلام) فاستمع لما يتلى عليك من الكلام :

فنقول : لا يخفى ان هذه الأخبار بالتقريب الذي ذكرناه فيها دافعة لما ذكروه من الدليل المتقدم على القول المشهور ، لان مرجع كلامهم ـ وان أكثروا

١٨٣

من العبارات ـ الى ان اخبار القضاء الواردة بقضاء الحج لم تشتمل على الطريق بل على قضاء الحج خاصة ، والحج إنما هو عبارة عن المناسك المخصوصة ، ووجوب قطع الطريق على الحي انما هو من حيث عدم تمكنه من الحج إلا بذلك ، ومتى مات سقط هذا التكليف عنه ووجب الحج خاصة.

وفيه أولا ـ انه لو كانت الطريق لا مدخل لها في القضاء عنه ، وان الواجب انما هو الحج من الميقات مطلقا ، فكيف تخرج هذه الاخبار مصرحة بالترتيب مع الوصية بالقضاء من البلد وإلا فمن حيث وسعه المال كما أوضحناه آنفا؟ لان قاعدتهم هذه جارية في المقامين وكلامهم شامل للمسألتين.

وثانيا ـ الأخبار الدالة على وجوب استنابة الممنوع من الحج بمرض أو شيخوخة أو عضب ، وانه يجهز رجلا من ماله ليحج عنه (١) ومن الظاهر ان التجهيز انما هو من البلد ، فإنه لا يقال لمن كان في بغداد ـ مثلا ـ ثم أمر رجلا ان يستأجر له رجلا من الميقات انه جهز رجلا يحج عنه ، فان التجهيز انما هو ان يعطيه أسباب السفر وما يتوقف عليه الى ذلك المكان بل ورجوعه. وهو ظاهر الأصحاب أيضا حيث انه لم يطعن أحد في دلالة هذه الاخبار مع انها ظاهرة في ما ذكرناه. ومقتضى ما ذكروه ـ من الدليل المتقدم الذي اعتمدوا عليه في هذه المسألة ـ ان الواجب إنما هو الحج من الميقات والطريق لا مدخل لها. وبعين ذلك نلزمهم في المسألة المذكورة ، فإن هذا الممنوع بسبب العذر قد سقط عنه وجوب السعي ببدنه وتعلق الحج بماله ، والحج انما هو عبارة عن المناسك المخصوصة والطريق لا مدخل لها ، فمن اين يجب عليه ان يجهز رجلا من بلده؟ مع ان الاخبار قد دلت على خلاف ذلك. وهو مؤذن ببطلان قاعدتهم التي اعتمدوها.

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٤ من وجوب الحج وشرائطه.

١٨٤

وثالثا ـ ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر من كتاب مسائل الرجال (١) رواية عبد الله بن جعفر الحميري واحمد بن محمد الجوهري عن احمد بن محمد عن عدة من أصحابنا قالوا : «قلنا لأبي الحسن ـ يعني علي بن محمد (عليهما‌السلام) ـ : ان رجلا مات في الطريق واوصى بحجة وما بقي فهو لك ، فاختلف أصحابنا ، فقال بعضهم : يحج عنه من الوقت فهو أوفر للشي‌ء ان يبقى عليه. وقال بعضهم : يحج عنه من حيث مات؟ فقال عليه‌السلام : يحج عنه من حيث مات».

والتقريب فيها انه لو كان الطريق لا مدخل له في الحج عن الميت بالتقريب الذي ذكروه لأمر عليه‌السلام بالحج من الميقات ولم يأمر بالحج من الموضع الذي مات فيه ولعل الرجل كان من خراسان ـ مثلا ـ فمات بعد خروجه بفرسخين أو ثلاثة ، وانه عليه‌السلام أوجب الحج من ذلك الموضع.

فأي دليل في بطلان ما اعتمدوه أظهر من هذه الأدلة؟

(فإن قيل) : ان الاخبار قد وردت في هذه المواضع بما ذكرتم فوجب المصير إليها ، ولا يلزم من ذلك المصير الى ما ذكرتم في هذه المسألة.

(قلنا) : نعم الأمر كما ذكرت ولكن الغرض من إيراد هذه الاخبار انما هو بيان بطلان هذا الدليل الذي اعتمدوه ، وفساد هذه القاعدة التي اتفقوا عليها ، فإنه لو كان ذلك حكما كليا وضابطا جليا ـ كما ظنوه ـ لم تخرج هذه الاخبار بخلافها مع ان ما تضمنته من جزئياتها ، فهو دليل على فسادها.

ورابعا ـ انا نقول : ان ظاهر الاخبار الدالة على شرطية الاستطاعة في وجوب الحج شمولها بإطلاقها للحي والميت ، بمعنى ان الواجب عليه في حال الحياة الحج متى استطاع الإتيان به بزاد وراحلة وغيرهما من ما يتوقف عليه الحج

__________________

(١) الوسائل الباب ٢ من النيابة في الحج.

١٨٥

أولا وان قل في بعض الفروض ، كما إذا حصلت الاستطاعة في الميقات مثلا ، لأن الاستطاعة عندنا ـ كما حققناه آنفا ـ عبارة عن القدرة على الإتيان بالحج كيف اتفق من غير مشقة ، وكذلك بعد الموت يجب الحج عنه على الوجه الذي استقر في الذمة. والتمسك بإطلاق قولهم (عليهم‌السلام) في اخبار القضاء : «من مات مستطيعا يقضى عنه الحج» (١) يراد به على الوجه الذي فات عليه. وتشهد بذلك الأخبار التي ذكرناها في الوجوه الثلاثة المتقدمة. على ان اللازم من ما ذكروه ـ من عدم شرطية الاستطاعة في القضاء عن الميت ـ انه لو مات مستطيعا للحج من الميقات وجب ان يقضى عنه من الميقات. وهو باطل إجماعا. وقولهم ـ : انه لو أفاق المجنون عند الميقات ، أو استطاع في ذلك المكان ، أو اتفق حضوره الميقات ، لم يجب عليه قصد البلد ـ صحيح ، لأنا لا نوجب في القضاء عنه الحج من البلد مطلقا ، وانما ترتبه على انه بعد حصول الاستطاعة كائنا ما كان لو مات وجب القضاء عنه من محل الموت ، فلو مات أحد من هذه الأفراد المعدودة ـ اعني المجنون وما بعده ـ لم نوجب القضاء عنه إلا من ذلك المكان ، كما سمعت من حديث السرائر. والأخبار الخارجة بالبلد في الوصية ـ كما قدمناها ـ انما خرجت مخرج الغالب والأكثر من حصول ذلك في بلد الاستيطان ، فلا ينافي ذلك ما اتفق على غير هذا الوجه.

فعليك بالفكر الدقيق في هذا التحقيق الرشيق ، فإنه حقيق ان يكتب بالتبر على الأحداق لا بالحبر على الأوراق ، إلا ان الالف بالمشهورات ـ سيما إذا زخرفت بالإجماعات ـ شنشنة اخزمية وطريقة لا تخلو من عصبية.

وكيف كان فانا في المسألة من المتوقفين لعدم النص الصريح ، والاحتياط

__________________

(١) هذا مضمون ما أورده في الوسائل الباب ٢٨ من وجوب الحج وشرائطه.

١٨٦

عندي واجب بنحو ما ذكره شيخنا في الدروس ، فان كلامه هو الأظهر لصوقا بالأخبار كما عرفت. والله العالم بحقائق أحكامه ، وحملة شريعته القوامون بمعالم حلاله وحرامه.

ويجب ان يلحق بهذه المسألة فوائد الأولى ـ قد صرح الأصحاب بأنه انما يقضي الحج من أصل التركة متى استقر في الذمة بشرط ان لا يكون عليه دين وتضيق التركة عن قسمتها على الدين واجرة المثل.

قال في المدارك بعد ذكر المصنف ذلك : واما انه مع ضيق التركة يجب قسمتها على الدين واجرة المثل بالحصص فواضح ، لاشتراك الجميع في الثبوت وانتفاء الأولوية. ثم ان قامت حصة الحج من التوزيع أو من جميع التركة مع انتفاء الدين بأجرة الحج فواضح ، ولو قصرت عن الحج والعمرة من أقرب المواقيت ووسعت لأحدهما فقد أطلق جمع من الأصحاب وجوبه. ولو تعارضا احتمل التخيير لعدم الأولوية ، وتقديم الحج لأنه أهم في نظر الشرع. ويحتمل قويا سقوط الفرض مع القصور عن الحج والعمرة ان كان الفرض التمتع ، لدخول العمرة في الحج على ما سيجي‌ء بيانه. ولو قصر نصيب الحج عن أحد الأمرين وجب صرفه في الدين ان كان معه وإلا عاد ميراثا. انتهى.

أقول : لا يخفى انه قد تقدمت (١) صحيحة معاوية بن عمار أو حسنته دالة على ان من عليه خمسمائة درهم من الزكاة وعليه حجة الإسلام ولم يترك إلا ثلاثمائة درهم ، فإنه يقدم الحج أولا من أقرب الأماكن ويصرف الباقي في الزكاة.

ومثلها ـ ما رواه الشيخ في التهذيب عنه ايضا عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٢) «في رجل مات وترك ثلاثمائة درهم ، وعليه من الزكاة سبعمائة درهم ، واوصى ان

__________________

(١) ص ١٨٠.

(٢) الوسائل الباب ٤٢ من الوصايا.

١٨٧

يحج عنه؟ قال : يحج عنه من أقرب المواضع ويجعل ما بقي في الزكاة».

وظاهر الخبرين المذكورين بل صريحهما انه يجب أولا الحج عنه من أقرب الأماكن ثم يصرف الباقي في الزكاة كائنا ما كان ، وانه لا تحاص بينهما.

ولا يخفى ما في ذلك من الدلالة على بطلان ما ذكروه من التفصيل.

وبيان ذلك من وجوه : منها ـ انهم اعتبروا توزيع التركة بالحصص كما في الديون المجتمعة ، وجعلوا حصة الحج اجرة المثل ، والنص (١) يدل على وجوب البدأة بالحج وانه لا يصرف في الزكاة شي‌ء إلا بعد الحج ، فيصرف فيها ما فضل.

ومنها ـ ان ظاهرهم ان اجرة المثل باعتبار الميقات ، والنص (٢) يدل على انه من أقرب الأماكن ، والمراد مكة بالتقريب الذي أوضحناه آنفا.

ومنها ـ ان ظاهر النص (٣) تقديم الحج مطلقا تمتعا كان فرضه أو غيره.

ومنها ـ قوله : «ثم ان قامت حصة الحج من التوزيع. الى آخره» فان ظاهر النص (٤) انه لا توزيع بل يقدم الحج أولا ويصرف الفاضل في الزكاة.

ومن ذلك ايضا يظهر بطلان قوله : «ويحتمل قويا سقوط الفرض مع القصور» وقوله : «لو قصر نصيب الحج عن أحد الأمرين».

وبالجملة فإن جميع هذه الأحكام وقعت تفريعا على وجوب التوزيع بالحصص كما في سائر الديون ، والنص (٥) ، قد دل على وجوب تقديم الحج ـ كما عرفت ـ واختصاص الفاضل بالزكاة.

ولا ريب انهم بنوا في هذه المسألة على مسألة تزاحم الديون وان الحكم فيها التوزيع بالحصص والحج دين ، والنص (٦) ظاهر في إخراج دين الحج من

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦) وهما خبرا معاوية بن عمار المذكوران.

١٨٨

هذه القاعدة التي بنوا عليها.

وهذا من ما يؤيد ما قدمناه في أصل المسألة من انه لا يكفي في إثبات الحكم الشرعي مثل هذه الأدلة ، لجواز خروج موضع البحث عنها. وهو مؤيد لما حققناه في غير موضع من توقف الفتوى في المسألة والحكم على النص الصريح الواضح الدلالة ، فإن الناظر في كلامهم هنا في الموضعين لا يكاد يختلجه الريب في صحة ما ذكروه بناء على القاعدتين المذكورتين ، والنصوص ـ كما ترى ـ في الموضعين على خلاف ذلك.

الثانية ـ هل المراد بالبلد على تقدير القول بالاستئجار من البلد بلد موته أو بلد استيطانه ، أو بلد يساره التي حصل وجوب الحج عليه فيها؟ أوجه :

اختار في المدارك الأول ، حيث قال : الظاهر ان المراد بالبلد الذي يجب الحج منه على القول به محل الموت حيث كان ، كما صرح به ابن إدريس ودل عليه دليله. انتهى.

أقول : في استفادة ذلك من دليل ابن إدريس ـ وهو ما قدمنا نقله عنه ـ إشكال ، لأنه احتج بأنه كان يجب عليه الحج من بلده. وظاهر ذلك إنما هو بلد استيطانه ، وإذ لا يصدق عرفا على من كان من أهل الكوفة فاتفق موته في البصرة ان البصرة بلده وإنما يصدق على الكوفة. بل دعواه (قدس‌سره) : ان ابن إدريس صرح ببلد الموت ايضا غريب ، فانا لم نقف عليه في كلامه ولا نقله عنه غيره ومن تبع أثره كالفاضل الخراساني وغيره.

وهذه صورة عبارته في كتاب السرائر من أولها إلى آخرها ، قال (قدس‌سره) : فان كان متمكنا من الحج والخروج فلم يخرج وأدركه الموت وكان الحج قد استقر عليه ، وجب ان يخرج عنه من صلب ماله ما يحج به من بلده ، وما يبقى بعد ذلك يكون ميراثا ، فان لم يخلف إلا قدر ما يحج به من بلده

١٨٩

وكانت الحجة قد وجبت عليه قبل ذلك واستقرت ، وجب ان يحج به عنه من بلده وقال بعض أصحابنا بل من بعض المواقيت ، ولا يلزم الورثة الإجارة من بلده بل من بعض المواقيت. والصحيح الأول ، لأنه كان يجب عليه نفقة الطريق من بلده فلما مات سقط الحج عن بدنه وبقي في ماله بقدر ما كان يجب عليه لو كان حيا من مؤنة الطريق من بلده ، فإذا لم يخلف إلا قدر ما يحج به من بعض المواقيت وجب ايضا ان يحج عنه من ذلك الموضع. وما اخترناه مذهب شيخنا ابي جعفر في نهايته ، وبه تواترت أخبارنا ورواية أصحابنا. والمقالة الأخرى ذكرها في مبسوطه ، وأظنها مذهب المخالفين (١) انتهى.

وهذه العبارة على طولها وتكرار لفظ «بلده» فيها ليس فيها تعرض لذكر بلد الموت ، فأين التصريح الذي ذكره (قدس‌سره)؟ والمتبادر ـ كما عرفت ـ من بلده انما هو بلد الاستيطان والإقامة مدى الزمان لا بلد الموت ، كان يموت عابر سبيل في بلد من البلدان. وبذلك يظهر عدم الاعتماد على المنقول وان كان من أجلاء الفحول.

ثم انه في المدارك لم يذكر لما استظهره دليلا يدل عليه ولا مستندا يرجع اليه.

ثم قال في المدارك على اثر العبارة التي قدمناها عنه : وقال في التذكرة : ولو كان له موطنا قال الموجبون للاستنابة من البلد : يستناب من أقربهما. وهو غير واضح ، لان دليل الموجبين انما يدل على ما ذكرناه. انتهى.

أقول : أشار بدليل الموجبين الى ما تقدم في صدر عبارته من دعوى كون دليل ابن إدريس الذي هو القائل بهذا القول دل على محل الموت. وقد عرفت ما فيه.

__________________

(١) نسبه في المغني ج ٣ ص ٢٤٣ الى الشافعي.

١٩٠

بقي الكلام في ما نقله هنا عن التذكرة ، فإنه وان كان كذلك إلا انه لا يخلو من نوع مدافعة لما قدمه في التذكرة في صدر المسألة ، حيث قال : مسألة : وفي وجوب الاستئجار من البلد الذي وجب على الميت الحج فيه ـ اما من بلده أو من الموضع الذي أيسر فيه ـ قولان : أحدهما هذا ، وبه قال الحسن البصري وإسحاق ومالك في النذر (١) والثاني انه يجب من أقرب الأماكن إلى مكة وهو الميقات ، وبه قال الشافعي (٢) وهو الأقوى عندي. ثم استدل بنحو ما قدمنا نقله عنهم ، ونقل رواية حريز ورواية علي بن رئاب بالتقريب الذي قدمنا نقله عنهم في ذيلها. الى ان قال : احتج الآخرون بأن الحج وجب على الميت من بلده فوجب ان ينوب عنه منه ، لان القضاء يكون على وفق الأداء كقضاء الصلاة والصيام. ثم قال : ونحن نمنع الوجوب من البلد وإنما ثبت اتفاقا ، ولهذا لو اتفق له اليسار في الميقات لم يجب عليه الرجوع الى بلده لإنشاء الإحرام منه ، فدل على ان قطع المسافة ليس مرادا للشارع. ثم قال : تذنيبات : لو كان له موطنان قال الموجبون للاستنابة من بلده : يستناب من أقربهما ، فإن وجب عليه الحج بخراسان ومات ببغداد ، أو وجب عليه ببغداد فمات بخراسان قال احمد يحج عنه من حيث وجب عليه لا من حيث موته (٣) ويحتمل ان يحج عنه من أقرب المكانين ، لانه لو كان حيا في أقرب المكانين لم يجب عليه من أبعد منه ، فكذا نائبه. انتهى.

أقول : لا يخفى ان ظاهر كلامه في صدر المسألة ان الخلاف في المسألة على قولين ، أحدهما وجوب الاستئجار من البلد الذي وجب على الميت الحج فيه

__________________

(١ و ٢ و ٣) نسبه في المغني ج ٣ ص ٢٤٣.

١٩١

سواء كان بلده أو غيره من الموضع الذي أيسر فيه ، والثاني من الميقات. وهذا الكلام يشعر بان مراد القائلين بالبلد انما هو بلد الاستطاعة ، كما هو أحد الوجوه التي قدمنا نقلها عنهم. وهو ظاهر الحجة التي نقلها عن أصحاب هذا القول. وحينئذ فقوله في التهذيب الأول ـ : لو كان له موطنان قال الموجبون للاستنابة من بلده : يستناب من أقربهما ـ لا ينطبق على القول الأول وإنما ينطبق على القول ببلد الاستيطان مطلقا استطاع فيها أو لا ، كما هو أحد الوجوه المتقدمة ، لأنه لا معنى لحصول الاستطاعة في بلدين متعددين. وهذا القول لم يذكره ولم يتعرض له كما عرفت من عبارته ، فكيف يفرع عليه هذا الفرع؟ ويؤيد ما ذكرناه تمثيله بمن وجب عليه الحج بخراسان فمات ببغداد وبالعكس ، فان هذا انما يجري على ما ذكرناه من البلد مطلقا. وما نقله عن احمد هنا هو الموافق لما نقله آنفا عن الحسن البصري وإسحاق ومالك ، وان خصه بعضهم بالنذر كما أشار اليه.

وكيف كان فظاهر بحثه هنا انما هو مع المخالفين ، بل الظاهر ان الاحتمالات الثلاثة في البلد ـ كما قدمنا نقله عنهم ـ انما هو عند المخالفين (١) لأن القائلين بالبلد من أصحابنا ظاهر كلامهم انما هو بلد الاستيطان ، كما عرفت من كلام ابن إدريس.

الثالثة ـ قال في المدارك : الموجود في ما وقفت عليه من كتب الأصحاب حتى في كلام المصنف في المعتبر ان في المسألة قولين كما نقلناه ، وقد جعل

__________________

(١) قال في المغني : ويستناب من يحج عنه من حيث وجب عليه ، اما من بلده أو من الموضع الذي أحصر فيه. الى ان قال : وقال الشافعي : يستأجر من يحج عنه من الميقات.

١٩٢

المصنف هنا الأقوال ثلاثة ، ولا يتحقق الفرق بين القولين الأخيرين إلا على تقدير القول بسقوط الحج مع عدم سعة المال للحج من البلد على القول الثاني. ولا نعرف بذلك قائلا ، مع انه مخالف للروايات كلها. انتهى.

أقول : هذا القول وان لم ينقل صريحا عن أحد من المتقدمين كما ذكره إلا انه صريح شيخنا الشهيد في الدروس ، كما عرفت من عبارته التي قدمناها في صدر المسألة.

والتحقيق في ذلك ان يقال : ان أصل مطرح الخلاف في المسألة بين الخاصة والعامة ـ كما سمعته من كلام التذكرة ـ إنما هو بالنسبة الى من في ماله سعة الحج من البلد ، هل يجب عليه ان يحج عنه من بلده بالتقريب الذي ذكره أصحاب هذا القول كما تقدم ، أو انما يجب الحج عنه من الميقات خاصة بالتقريب المتقدم في كلامهم؟ ومقتضى ذلك ان من لم يخلف سعة من المال يحج به من البلد يسقط الحج عنه على تقدير القول بالبلد ، كما ذكره (قدس‌سره) وهو ظاهر المنقول عن العامة القائلين بهذا القول ، كما يشعر به كلام التذكرة المتقدم ، والخلاف في هذه المسألة ليس مختصا بالخاصة حتى يدعي انه لم يعرف بذلك قائلا. إلا ان ابن إدريس الذي هو القائل بالبلد من أصحابنا وافق الأصحاب في الاستئجار من الميقات في ما إذا لم يخلف إلا قدر ما يحج به من الميقات ، كما تقدم في عبارته. واما مع وجود السعة للحج من الأماكن المتوسطة بين البلد وبين الميقات فلم يتعرض له في كلامه بالمرة ، وهذا القائل قد تعرض له وأوجب الاستئجار من كل مكان وسعه المال من البلد فصاعدا الى الميقات. وحينئذ فالظاهر تخصيص كلام ابن إدريس ، اما بحمل كلامه على ما يرجع به الى القول الثالث ، وهذا هو ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، حيث قال بعد نقل القولين ـ الوجوب من الميقات والثاني من البلد ـ : «ومراد صاحب هذا القول ان ذلك مع سعة المال وإلا فمن

١٩٣

حيث يمكن» والظاهر بعده عن ظاهر عبارته المتقدمة ، واما بان يحمل المراد من قوله : «لم يخلف إلا قدر ما يحج به من الميقات» على ما إذا لم يخلف من المال ما فيه سعة الحج من البلد تجوزا ، فعلى هذا ليس عنده إلا الحج من البلد ان وسعه المال أو الميقات ان لم يسعه ، فعلى هذا لو وسع من الأماكن المتوسطة فالحج من الميقات. وأمثال هذا التجوز في عبارات المتقدمين كثير. ومرجع ذلك الى ما عرفت آنفا من ان محل الخلاف في المسألة إنما هو الاستطاعة من البلد ، فالأصحاب الغوا ذلك وأوجبوا من الميقات خاصة ، وابن إدريس أوجب الحج من البلد في الصورة المذكورة ووافق الأصحاب في ما عدا ذلك.

وكيف كان فقول الدروس هو الأوفق بالأخبار التي قدمناها بالتقريب الذي ذكرناه في ذيلها.

والظاهر ان مراد السيد السند (قدس‌سره) بقوله : «مع انه مخالف للروايات كلها» إنما هي روايات الوصية ، لما عرفت من ان أصل هذه المسألة خالية من الروايات بالكلية.

الرابعة ـ قال في المدارك : لو اوصى بالحج من البلد ، فان قلنا بوجوبه كذلك بدون الوصية كانت اجرة المثل لذلك خارجة من أصل المال ، وان قلنا الواجب الحج من الميقات كان ما زاد على اجرة ذلك محسوبا من الثلث ان أمكن الاستئجار من الميقات ، وإلا وجب الإخراج من حيث يمكن وكانت اجرة الجميع خارجة من الأصل ، كما هو واضح. انتهى.

أقول : اما ما ذكره من كون الأجرة من الأصل على القول الأول فواضح ، وكذا كون ما زاد على اجرة الميقات من الثلث على القول الثاني فهو ظاهر. واما تقييد ذلك بناء على القول الثاني بإمكان الاستئجار من الميقات ـ وإلا وجب الإخراج من حيث يمكن وكانت اجرة الجميع من الأصل ـ فلا اعرف له

١٩٤

معنى مستقيما ، فإنه متى كان الواجب عليه انما هو الحج من الميقات فالذي يتعلق بالذمة من المال انما هو مثل اجرة هذه المسافة ، وهذا لا يتفاوت بين إمكان الاستئجار منه وعدمه ، بل فرض الحج هنا من الميقات أو ما أمكن غير ممكن ، لأن الوصية تعلقت بالحج من البلد ، فالواجب حينئذ هو الاستئجار من البلد ولا يجزئ غيره.

وإنما الكلام في قدر الأجرة التي يجب إخراجها ، فعلى هذا القول يجب ان يخرج اجرة الميقات من الأصل وما زاد عليه من الثلث. وحينئذ فقوله ـ : «وإلا فمن حيث أمكن وكانت اجرة الجميع خارجة من الأصل» ـ لا اعرف له معنى مع فرضه أصل المسألة في من اوصى بالحج من البلد ، إذ لا معنى للحج من البلد إلا الاستئجار للسعي منه.

ويشير الى ما ذكرناه ما هو المصرح به في كلام أكثر الأصحاب في فرض هذه المسألة ، فإنهم يجعلون ما قابل اجرة المثل من الأصل والزائد من الثلث.

قال العلامة (قدس‌سره) في المنتهى : إذا اوصى بحجة الإسلام ولم يعين المقدار انصرف الى أجرة المثل من جميع المال. ثم استدل على كل من الأمرين الى ان قال : اما لو عين المقدار ، فان كان بقدر اجرة المثل فلا بحث يخرج من صلب المال ، وان كان أكثر من اجرة المثل اخرج مقدار اجرة المثل من صلب المال والزائد من الثلث ، لانه ضمن وصيته شيئين أحدهما واجب والآخر تطوع ، فيخرج الواجب من الأصل والتطوع من الثلث ، انتهى.

وكلامه (قدس‌سره) مبني على ما هو المشهور عندهم من الحج من الميقات فلو اوصى للحج من الميقات بما يسع الحج من البلد فإنه يخرج الزائد عن اجرة المثل من الثلث. وهو صحيح بناء على هذا القول. ولم يتعرض لشي‌ء من هذا التفصيل الذي ذكره ، وهو آت في ما نحن فيه ، فإنه متى اوصى بالحج من البلد فهو

١٩٥

في قوة الوصية بمال من البلد ، فيجب إنفاذه ، ويخرج اجرة ما زاد على الميقات من الثلث ، لما ذكره من التعليل.

وبالجملة فإني لا اعرف لكلامه (قدس‌سره) معنى صحيحا يحمل عليه ، ولعله لقصور فهمي العليل وجمود ذهني الكليل.

المقصد الثاني

في حج النذر وشبهه وشرائطه ، وفيه مسائل :

الأولى ـ لا خلاف في انه يشترط في انعقاد النذر وشبهه ـ من اليمين والعهد ـ التكليف ، فلا يصح من الصبي وان كان مراهقا ، ولا المجنون المطبق أو في حال الجنون لو كان غير مطبق ، لحديث رفع القلم (١) ونحو ذلك السكران والمغمى عليه والساهي والغافل.

ولا خلاف أيضا في اشتراط الحرية أو اذن المولى ، فلا ينعقد نذر العبد بدون الاذن اتفاقا.

قال في المدارك : ويدل عليه مضافا الى عموم ما دل على الحجر عليه صحيحة منصور بن حازم عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يمين لولد مع والده ، ولا لمملوك مع مولاه ، ولا لمرأة مع زوجها». وغير ذلك من الاخبار.

أقول : ومن ما ورد بهذا المضمون ايضا ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن عبد الله بن ميمون القداح عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «لا يمين للولد مع والده ، ولا للمرأة مع زوجها ، ولا للمملوك مع سيده».

__________________

(١) الوسائل الباب ٤ من مقدمة العبادات ، وسنن البيهقي ج ٨ ص ٢٦٤.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ١٠ من كتاب الايمان.

١٩٦

وما رواه في الفقيه (١) عن منصور بن حازم في الصحيح عن ابي جعفر عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا رضاع بعد فطام. ولا وصال في صيام. ولا يتم بعد احتلام. ولا صمت يوما الى الليل. ولا تعرب بعد الهجرة. ولا هجرة بعد الفتح. ولا طلاق قبل نكاح. ولا عتق قبل ملك. ولا يمين لولد مع والده ، ولا لمملوك مع مولاه ، ولا للمرأة مع زوجها. ولا نذر في معصية. ولا يمين في قطيعة».

وقال في كتاب الفقه الرضوي (٢) : واعلم انه لا يمين في قطيعة رحم. ولا نذكر في معصية الله. ولا يمين لولد مع الوالدين ، ولا للمرأة مع زوجها ، ولا للمملوك مع مولاه.

أقول : ومورد هذه الاخبار كلها إنما هو اليمين ، وظاهر الأصحاب ـ كما عرفت من كلام المدارك ـ الاستدلال بهذه الروايات على حكم النذر ايضا. وفيه ما لا يخفى.

نعم قد روى الحميري في كتاب قرب الاسناد عن الحسن بن ظريف عن الحسين بن علوان عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) (٣) : «ان عليا عليه‌السلام كان يقول : ليس على المملوك نذر إلا ان يأذن له سيده». وبذلك يتم الاستدلال على الحكم المذكور.

وظاهر الأصحاب أيضا الاتفاق على انه لا يصح نذر المرأة إلا بإذن بعلها.

__________________

(١) الوسائل الباب ٥ من ما يحرم بالرضاع من كتاب النكاح ، والباب ١١ من كتاب الايمان.

(٢) ص ٣٧.

(٣) الوسائل الباب ١٥ من كتاب النذر والعهد.

١٩٧

قال في المدارك بعد ان نقل نحو ذلك : يمكن المناقشة في توقف نذر الزوجة على اذن الزوج ، لان الروايات إنما تضمنت توقف اليمين على ذلك والنذر خلاف اليمين.

أقول : فيه ان هذا يرد عليه في نذر العبد أيضا ، فإنه لم يعتمد في ذلك إلا على حديث اليمين كما عرفت ، والنذر غير اليمين.

وتحقيق البحث في المقام يقتضي بسطا من الكلام تنكشف به غياهب الإبهام وتزول به الشكوك والأوهام.

فنقول : المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) اشتراط اذن الزوج والمولى في انعقاد نذر الزوجة والمملوك ، وألحق بهما العلامة في بعض كتبه والشهيد في الدروس الولد وانه يتوقف نذره على إذن الأب أيضا.

وقد صرح جملة من متأخري المتأخرين بأنهم لم يقفوا لهم على نص يدل على ذلك. وربما علل ذلك بوجود النص في اليمين وانسحاب الحكم في النذر لمشاركته اليمين في بعض الأحكام. وهو ضعيف لا يلتفت إليه ، فإنه وان كان قد ورد في اليمين من النصوص المتقدمة انه لا يمين لأحد من الثلاثة المذكورين إلا بإذن الوالد والزوج والمولى ، إلا ان إلحاق النذر به قياس لا يجري على مذهبنا.

ثم انه لا يخفى ان هذا الإيراد الذي أوردوه على من قال بتوقف نذر الولد على اذن والده وارد عليهم أيضا في توقف نذر الزوجة والمملوك بدون اذن الزوج والسيد ، لانه ليس عندهم إلا أحاديث اليمين المتقدمة ولم يوردوا في المقام غيرها ، والنذر غير اليمين ، فان صح الاستناد الى هذه الاخبار ففي المواضع الثلاثة ، فلا معنى لاعتراضهم هنا وإيرادهم بعدم الوقوف على نص بهذا القول ، وإلا فلا وجه لحكمهم بذلك في الفردين المتقدمين.

١٩٨

واما ما نقل عن الدروس ـ من الاستدلال على ما قدمنا نقله عنه بإطلاق اليمين على النذر في الخبر المروي عن الكاظم عليه‌السلام (١) : «لما سئل عن جارية حلف عليها سيدها بيمين ان لا يبيعها فقال : لله على ان لا أبيعها. فقال عليه‌السلام : ف لله بنذرك». فإن إطلاق اليمين على النذر وان كان في كلام الراوي إلا ان تقرير الامام عليه‌السلام على ذلك حجة ، ومتى ثبت ذلك جرى الحكم المذكور في اليمين في باب النذر ـ

فهو ضعيف سخيف ، أما أولا ـ فلما ذكره بعض الأجلاء من ان الظاهر من قوله : «ف لله بنذرك» دون ان يقول «بيمينك» إنما هو الرد عليه في تسمية النذر يمينا لا التقرير. ولو سلم فالتقرير على هذا الإطلاق لا يوجب كونه حقيقة فيه بل هما حقيقتان متمايزتان ، لنص أهل اللغة على ان اليمين : القسم ، والنذر وعد بشرط. وحينئذ لا يتم ما ذكروه.

أقول : ومن ما يدل على إطلاق اليمين على النذر ما في موثقة سماعة (٢) من قوله عليه‌السلام : «انما اليمين الواجبة التي ينبغي لصاحبها ان يفي بها ما جعل لله عليه في الشكر ان هو عافاه من مرضه أو عافاه الله من أمر يخافه أو رد عليه ماله أورده من سفر أو رزقه رزقا ، فقال : لله علي كذا وكذا شكرا. فهذا الواجب على صاحبه ينبغي له ان يفي به». وكان الاولى لشيخنا المشار اليه الاستدلال بهذا الخبر في إطلاق اليمين على النذر.

إلا انه بمجرد هذا الإطلاق ـ مع معلومية كونهما حقيقتين متمايزتين

__________________

(١) وهو خبر الحسن بن على الوارد في الوسائل الباب ١٧ من كتاب النذر والعهد. وسيأتي منه (قدس‌سره) ان اللفظ فيه : «ف لله بقولك له».

(٢) الوسائل الباب ١٧ من كتاب النذر والعهد.

١٩٩

لغة وشرعا كما عرفت ـ لا يلزم السحاب حكم أحدهما في الآخر.

وما أحسن ما قال شيخنا البهائي (قدس‌سره) في كتاب الأربعين ، حيث قال : وأمثال هذه الدلائل الضعيفة لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية.

واما ثانيا ـ فإن الذي وقفت عليه في التهذيب في موضعين أو ثلاثة (١) ـ وهو الذي نقله عنه المحدث الكاشاني في الوافي من متن الخبر المذكور ـ انما هو بهذه العبارة : «ف لله بقولك له» وكذلك نقله شيخنا الشهيد الثاني في المسالك بهذه العبارة ، فما ذكره في الدروس ـ وان تبعه عليه شيخنا البهائي في كتاب الأربعين ـ لا اعرف له سندا ، إلا ان يكون سهوا من شيخنا المشار اليه ، أو نقل الخبر من موضع آخر.

نعم قد وقفت في حكم نذر المرأة على خبر لم يتعرض له الأصحاب في هذه المسألة ، وهو ما رواه الصدوق في الفقيه (٢) في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : «ليس للمرأة مع زوجها أمر في عتق ولا صدقة ولا تدبير ولا هبة ولا نذر في مالها إلا بإذن زوجها ، إلا في حج أو زكاة أو بر والديها أو صلة قرابتها».

وربما تطرق الطعن الى هذا الخبر بان ما تضمنه ـ من توقف تصرف المرأة في مالها وصرفه في هذه الوجوه المذكورة في الخبر على اذن الزوج ـ لا قائل به من الأصحاب ، مع خروجه عن مقتضى الأدلة المتعلقة بهذه الأبواب.

اللهم إلا ان يقال : ان ترك الخبر لمعارض أقوى لا يستلزم ترك ما لا معارض له ، كما صرحوا به في غير المقام وجعلوا ذلك من قبيل العام المخصص. وحينئذ

__________________

(١) ج ٨ ص ٣٠١ و ٣١٠.

(٢) الوسائل الباب ١٥ من كتاب النذر والعهد.

٢٠٠