الحدائق الناضرة - ج ١٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٦

الخمس ، فلا يحصل العفو به ، بخلاف غيرهما من العبادات فإنه حق لله (عزوجل) وقد تفضل الله به عليهم لما دانوا بالولاية.

قيل : وربما كان مستند ابن الجنيد وابن البراج الأخبار الدالة على بطلان عبادة المخالف (١) كما سيأتي بعض منها في المقام ان شاء الله تعالى.

وما رواه الشيخ عن ابي بصير عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «لو ان رجلا معسرا أحجه رجل كانت له حجة ، فان أيسر بعد ذلك كان عليه الحج. وكذلك الناصب إذا عرف فعليه الحج وان كان قد حج».

أقول : ومثلها رواية علي بن مهزيار (٣) قال : «كتب إبراهيم بن محمد ابن عمران الهمداني الى ابي جعفر عليه‌السلام : اني حججت وانا مخالف وكنت صرورة فدخلت متمتعا بالعمرة إلى الحج؟ قال : فكتب إليه : أعد حجك».

والجواب عن ذلك ظاهر من الاخبار المتقدمة ، اما الاخبار الدالة على بطلان عبادة المخالف فهي مسلمة ، ولكن هذه الأخبار قد دلت على تفضل الله (تعالى) عليه بقبول ذلك كالصلاة والصيام ، لدخوله في الايمان. واما الروايتان المذكورتان فإنك قد عرفت تكرر الأمر بالإعادة في تلك الاخبار وانه الأحب إليهم (عليهم‌السلام) حتى انه عليه‌السلام في الرواية الأخيرة أمر بأن يجعل الأخيرة حجة الإسلام والأولى نافلة ، تأكيدا لاستحبابها والحث عليها.

وينبغي التنبيه في هذه المسألة على أمور :

الأول ـ قال السيد السند (قدس‌سره) في المدارك : اعتبر الشيخ وأكثر

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٩ من مقدمة العبادات.

(٢) الوسائل الباب ٣١ من مقدمة العبادات ، والباب ٢١ و ٢٣ من وجوب الحج وشرائطه.

(٣) الوسائل الباب ٣١ من مقدمة العبادات ، والباب ٢٣ من وجوب الحج وشرائطه.

١٦١

الأصحاب في عدم اعادة المخالف الحج ان لا يكون قد أخل بركن منه ، والنصوص خالية من هذا القيد ، ونص المصنف في المعتبر ـ والعلامة في المنتهى والشهيد في الدروس ـ على ان المراد بالركن ما يعتقده أهل الحق ركنا لا ما يعتقده الضال تدينا ، مع انهم صرحوا في قضاء الصلاة بأن المخالف يسقط عنه قضاء ما صلاه صحيحا عنده وان كان فاسدا عندنا. وفي الجمع بين الحكمين اشكال. ولو فسر الركن بما كان ركنا عندهم كان أقرب الى الصواب ، لان مقتضى النصوص ان من حج من أهل الخلاف لا تجب عليه الإعادة ، ومن اتى منهم بحج فاسد عندهم كان كمن لم يأت بالحج. ومن هنا يظهر انه لا فرق في الاجزاء بين ان يوافق فعله النوع الواجب عندنا كالتمتع وقسيميه أولا. انتهى. وهو جيد.

إلا ان مقتضى صدر كلامه ان تقييد الشيخ وأكثر الأصحاب ـ عدم الإعادة بان لا يكون قد أخل بركن ـ ليس في محله ، بل الأظهر العمل بإطلاق الاخبار وهو عدم الإعادة وان أخل بركن. وهو باطل كما صرح به في آخر كلامه من ان من اتى بحج فاسد عندهم كان كمن لم يأت بالحج. وحينئذ فلا بد من تقييد الأخبار المذكورة كما ذكره الشيخ والأكثر. نعم ما نقله عن المعتبر والمنتهى والدروس ـ من ان المراد بالركن ما يعتقده أهل الحق ركنا ـ ليس بجيد لما ذكره ، وإطلاق الاخبار المذكورة أعم منه.

الثاني ـ قال (قدس‌سره) : إطلاق العبارة وغيرها يقتضي عدم الفرق في المخالف بين من حكم بكفره ـ كالناصب ـ وغيره. وهو كذلك ، وقد وقع التصريح في صحيحة بريد (١) بعدم اعادة الناصب ، وفي صحيحة الفضلاء (٢) بعدم إعادة الحرورية ، وهم كفار لأنهم خوارج. انتهى.

أقول : لما كان الناصب عند متأخري أصحابنا (رضوان الله عليهم) عبارة عن من أظهر العداوة لأهل البيت (عليهم‌السلام) وهو محكوم بكفره

__________________

(١ و ٢) ص ١٥٩.

١٦٢

عندهم ـ فهو أخص من مطلق المخالف ، والمخالف الغير الناصب عندهم من المسلمين المحكوم بإجراء أحكام الإسلام عليهم ـ أشار (قدس‌سره) الى ان الاخبار الواردة بعدم الإعادة شاملة للفردين المذكورين ، وان المراد بالناصب في رواية بريد هو هذا الفرد المذكور.

أقول : والتحقيق المستفاد من اخبار أهل البيت (عليهم‌السلام) ـ كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في كتاب الشهاب الثاقب ـ ان جميع المخالفين العارفين بالإمامة والمنكرين القول بها كلهم نصاب وكفار ومشركون ليس لهم في الإسلام ولا في أحكامه حظ ولا نصيب ، وإنما المسلم منهم هو الغير العارف بالإمامة ، وهم في الصدر الأول من زمان الأئمة (عليهم‌السلام) أكثر كثير ، ويعبر عنهم في الاخبار بأهل الضلال وغير العارف والمستضعف. ومن الاخبار الواردة بهذا الفرد توهم متأخرو أصحابنا الحكم بإسلام المخالف الغير المعلن بالعداوة. والحكم بعدم الإعادة هنا شامل لهذين الفردين ، والى الفرد الأول يشير في صحيحة بريد السؤال الأول وهو قوله : «رجل حج وهو لا يعرف هذا الأمر» والى الفرد الثاني السؤال الثاني وهو قوله : «قال : وسألته عن رجل وهو في بعض هذه الأصناف. الى آخره» ومثلها صحيحة ابن أذينة الثانية برواية الكليني (١) ومن أحب الوقوف على صحة ما ذكرناه فليرجع الى كتابنا المذكور.

ويأتي على ما ذكروه خلو الاخبار عن المخالف الغير الناصب ، لأنها ـ كما قدمناها ـ إنما اشتملت على فردين : الناصب ومن لا يعرف ، والمراد بمن لا يعرف إنما هو المعبر عنه بالمستضعف في الاخبار وأهل الضلال ، وهو غير مراد في كلامهم ، وحينئذ فلو حمل الناصب على المخالف المظهر للعداوة ـ كما يدعونه ـ للزم ما ذكرناه.

وبالجملة فإن المستفاد من الأخبار ـ كما أوضحناه في الكتاب المتقدم ـ ان

__________________

(١) ص ١٦٠.

١٦٣

الناس في زمانهم (عليهم‌السلام) ثلاثة أقسام : مؤمن وهو من أقر بالإمامة ، وناصب كافر وهو من أنكرها ، ومن لم يعرف ولم ينكر وهم أكثر الناس في ذلك الزمان ، ويعبر عنه بالمستضعف والضال.

الثالث ـ الظاهر ـ كما استظهره في المدارك ـ ان الحكم بعدم وجوب الإعادة في الروايات المتقدمة إنما وقع تفضلا من الله تعالى ، لقيام الأخبار الصحيحة الصريحة على بطلان اعمال المخالفين وان كانت مستكملة لشرائط الصحة واقعا فضلا عن شرائط مذهبهم.

ومن الاخبار في ذلك صحيحة أبي حمزة (١) قال : «قال لنا على بن الحسين عليه‌السلام : اي البقاع أفضل؟ فقلنا : الله ورسوله وابن رسوله اعلم فقال لنا : ان أفضل البقاع ما بين الركن والمقام ، ولو ان رجلا عمر ما عمر نوح عليه‌السلام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، يصوم النهار ويقوم الليل في ذلك المكان ثم لقي الله (تعالى) بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئا».

وصحيحة محمد بن مسلم (٢) قال : «سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : كل من دان الله (عزوجل) بعبادة يجهد فيها نفسه ولا امام له من الله فسعيه غير مقبول ، وهو ضال متحير ، والله شانئ لأعماله ، ومثله كمثل شاة ضلت عن راعيها وقطيعها فهجمت ذاهبة وجائية يومها ، فلما جنها الليل بصرت بقطيع غنم مع راعيها فحنت إليها واغترت بها فباتت معها في مربضها ، فلما ان ساق الراعي قطيعة أنكرت راعيها وقطيعها ، فهجمت متحيرة تطلب راعيها وقطيعها ، فبصرت بغنم مع راعيها فحنت إليها واغترت بها ، فصاح بها الراعي الحقي

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٩ من مقدمة العبادات.

(٢) الكافي ج ١ ص ١٨٣ ، وفي الوسائل الباب ٢٩ من مقدمة العبادات.

١٦٤

براعيك وقطيعك فإنك تائهة متحيرة عن راعيك وقطيعك ، فهجمت ذعرة متحيرة تائهة لا راعي لها يرشدها الى مرعاها أو يردها ، فبينا هي كذلك إذا اغتنم الذئب ضيعتها فأكلها. وكذلك ـ والله يا محمد ـ من أصبح من هذه الأمة لا امام له من الله (تعالى) ظاهر عادل أصبح ضالا تائها ، وان مات على هذه الحال مات ميتة كفر ونفاق. واعلم يا محمد ان أئمة الجور واتباعهم لمعزولون عن دين الله قد ضلوا وأضلوا ، فأعمالهم التي يعملونها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون من ما كسبوا على شي‌ء ، ذلك هو الضلال البعيد (١)».

ورواية أبي إسحاق الليثي المروية في أمالي الشيخ وفي كتاب العلل عن الباقر عليه‌السلام (٢) وفيها : «قد سألتني عن المؤمنين من شيعة مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وعن زهاد الناصبة وعبادهم. من ههنا قال الله (عزوجل) (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٣) ومن هنا قال الله (عزوجل) (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ، تَصْلى ناراً حامِيَةً ، تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) (٤) ثم ساق الكلام الى ان قال

__________________

(١) اقتباس من الآية ١٨ في سورة إبراهيم : «مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ ...».

(٢) لم أجده في أمالي الشيخ ، وأورده في العلل ص ٦٠٦ الطبع الحديث ، إلا ان اللفظ يوافق ما أورده في البحار كتاب الايمان والكفر ج ١ ص ٢٨ من الطبع القديم وج ٦٧ ص ١٠٢ الى ١٠٨ من الطبع الحديث ، حيث قال : وجدت في بعض الكتب مرويا. ثم أورد الحديث بتمامه ، ثم قال : بيان ـ قد مر هذا الخبر نقلا من العلل مع اختلاف ما وزيادة ونقص.

(٣) سورة الفرقان الآية ٢٣.

(٤) سورة الغاشية الآية ٣ و ٤ و ٥.

١٦٥

عليه‌السلام : قال الله (تعالى) (إِنْ هُمْ إِلّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (١) ما رضى الله ان يشبههم بالحمير والبقر والكلاب والدواب حتى زادهم فقال «بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً» يا إبراهيم قال الله (عزوجل) في أعدائنا الناصبة (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٢) وقال (عزوجل) (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (٣) وقال (عزوجل) (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْ‌ءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) (٤) وقال (عزوجل) (أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) (٥). الحديث» وهو صريح في ان جميع المخالفين نصاب كفار مبغضون لأهل البيت (عليهم‌السلام).

وروى في الكافي عن الصادق عليه‌السلام (٦) قال : «لا يبالي الناصب صلى أم زنى».

وروى النجاشي في كتاب الرجال (٧) في ترجمة محمد بن الحسن بن شمون بسنده اليه قال : ورد داود الرقي البصرة بعقب اجتياز ابي الحسن موسى عليه‌السلام في سنة تسع وسبعين ومائة فصار بي أبي اليه وسأله عنهما فقال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : سواء على الناصب صلى أم زنى.

وقد نظم ذلك جملة من أصحابنا : منهم ـ شيخنا أبو الحسن الشيخ سليمان ابن عبد الله البحراني (قدس الله تعالى سره) فقال :

خلع النواصب ربقة الإيمان

فصلاتهم وزناؤهم سيان

قد جاء ذا في واضح الآثار عن

آل النبي الصفوة الأعيان

__________________

(١) سورة الفرقان الآية ٤٤.

(٢) سورة الفرقان الآية ٢٣.

(٣) سورة الكهف الآية ١٠٤.

(٤) سورة المجادلة الآية ١٨.

(٥) سورة النور الآية ٣٩.

(٦) الروضة ص ١٦٠.

(٧) ص ٢٥٨ و ٢٥٩ طبع مطبعة المصطفوي.

١٦٦

وقال الخليفة الناصر العباسي (١) :

قسما ببكة والحطيم وزمزم

والراقصات وسعيهن إلى منى

بغض الوصي علامة مكتوبة

كتبت على جبهات أولاد الزنى

من لم يوال في البرية حيدرا

سيان عند الله صلى أو زنى

الى غير ذلك من الاخبار التي يطول بنقلها الكلام.

وبذلك يظهر ضعف ما ذكره العلامة في المختلف على ما نقله عنه في المدارك حيث قال : وقال العلامة في المختلف : ان سقوط الإعادة إنما هو لتحقق الامتثال بالفعل المتقدم ، إذ المفروض عدم الإخلال بركن منه ، والايمان ليس شرطا في صحة العبادة. ثم اعترض عليه بأنه فاسد ، ورده بالأخبار التي قدمناها.

__________________

(١) نسب الأبيات ـ في النصائح الكافية ص ٩٩ طبع النجف ـ اليه بنحو القطع كما في المتن ، وفي أعيان الشيعة ج ٨ ص ٣٣ والكنى والألقاب ج ٣ ص ٢٠٢ هكذا : ومن ما ينسب الى الناصر. الى آخره. وذكر ابن شهرآشوب في المناقب ج ٣ ص ١١ البيتين الأخيرين بتغيير يسير ولم ينسبهما الى أحد. ومن المعلوم ان ابن شهرآشوب كان من معاصري الناصر فإنه توفي سنة ٥٨٨ وقد بويع للناصر سنه ٥٧٥ ودامت خلافته سبعا وأربعين سنة وتوفي ٦٢٢. وقد نسب إليه ـ في النصائح الكافية عقيب هذه الأبيات ـ الأبيات التالية :

لو ان عبدا اتى بالصالحات غدا

وود كل نبي مرسل وولي

وعاش ما عاش آلافا مؤلفة

خلوا من الذنب معصوما من الزلل

وقام ما قام قواما بلا كسل

وصام ما صام صواما بلا ملل

وطار في الجو لا يأوي إلى حلل

وغاص في البحر لا يخشى من البلل

فليس ذلك يوم البعث ينفعه

إلا بحب أمير المؤمنين علي

١٦٧

أقول : لم أقف على هذه العبارة التي نقلها في المدارك في المختلف في هذه المسألة ، نعم ـ بعد ان نقل احتجاج ابن الجنيد وابن البراج بان الايمان شرط العبادة ولم يحصل ـ : أجاب عن ذلك بالمنع من كون الايمان شرطا في العبادة. فلعل السيد نظر الى ما يلزم من هذه العبارة وهو ما ذكره. وفيه بعد ويحتمل ان يكون في موضع آخر غير موضع المسألة.

وكيف كان فينبغي ان يعلم ان القول بصحة اعمال المخالفين ليس مختصا بالعلامة في هذا الكتاب ، كما ربما يوهمه ظاهر تخصيص النقل عنه بذلك. بل هذا القول هو المشهور بين المتأخرين ، كما صرح به الشهيد في الدروس حيث قال : واختلف في اشتراط الايمان في الصحة والمشهور عدم اشتراطه.

ويرد عليه ـ زيادة على ما ذكرنا ـ ان الواجب عليهم ان يحكموا بدخول المخالفين الجنة ، لأنهم متفقون على وجوب الجزاء على الله (تعالى) كما دلت عليه ظواهر الآيات القرآنية ، وحينئذ فمتى كانت أعمالهم صحيحة وجب الجزاء عليها في الآخرة ، فيلزم دخولهم الجنة. مع ان جملة منهم صرحوا بان الحكم بإسلامهم إنما هو باعتبار إجراء أحكام الإسلام عليهم في الدنيا من الطهارة والمناكحة والموارثة وحقن المال والدم ، واما في الآخرة فإنهم من المخلدين في النار.

وبالجملة فإن كلامهم في هذا المقام لا يخلو عن مجازفة ناشئة عن عدم تتبع الأدلة والتأمل فيها كما هو حقها.

الرابع ـ قال شيخنا الشهيد (قدس‌سره) في الدروس : ولو حج المحق حج غيره ففي الإجزاء تردد ، من التفريط ، وامتناع تكليف الغافل. مع مساواته المخالف في الشبهة.

قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : أقول : لا يخفى ضعف الوجه

١٦٨

الثاني من وجهي التردد ، لأن إيجاب الإعادة بعد العلم لا يستلزم تكليف الغافل. والحاقه بالمخالف قياس مع الفارق. والأصح اختصاص الحكم بالمخالف ، واعتبار استجماع الشرائط المعتبرة في غيره ، لعدم تحقق الامتثال بدونه. انتهى.

أقول : لا يخفى ان مراد شيخنا المذكور (قدس‌سره) من هذا الكلام إنما هو بالنسبة إلى أصل الحج الواقع من المكلف ، بان يكون من أهل الحق وقد حج حج المخالفين جاهلا بحج الشيعة وكيفيته ، فهل يحكم ببطلانه بناء على عدم معذورية الجاهل ، لتفريطه بالإخلال بعدم تعلم الأحكام الشرعية ، أو يحكم بصحته بناء على انه غافل ويمتنع تكليف الغافل ، لأن الأوامر والنواهي الشرعية إنما تتوجه الى العالم؟ ومرجع ذلك الى معذورية الجاهل ـ كما وقع الحكم به في جملة من أحكام الحج ـ وعدمها. وحينئذ فقول السيد (قدس‌سره) ـ انه لا يخفى ضعف الوجه الثاني. ثم ذكر في بيان ضعفه : ان إيجاب الإعادة بعد العلم لا يستلزم تكليف الغافل ـ خروج عن محل المسألة ، إذ الكلام إنما هو بالنسبة إلى أصل الحج لا الإعادة ، ولا ريب انه متى كان الفعل صحيحا ـ بناء على معذورية الجاهل كما ذكره شيخنا المذكور ـ فإنه لا إعادة البتة.

نعم يبقى الكلام في انه لو كان حج المخالفين مستلزما لترك شي‌ء من الأركان عند أهل الحق ـ وهذا المحق قد حج حجهم وترك بعض الأركان ، والحال انه لا عذر في ترك الركن ، كما هو ظاهر الأصحاب من الحكم ببطلان الحج بترك بعض أركانه عمدا وجهلا ـ فالحكم بالصحة مشكل.

وكيف كان فتفريع هذه المسألة على ما نحن فيه ـ بناء على ما عرفت من بطلان عبادة المخالف ، وان عدم الإعادة عليه بعد دخوله في الايمان إنما هو تفضل من الله (عزوجل) لا لصحة عبادته ، وان المحق يجب عليه الإتيان بالعبادة على وجهها فمتى أخل بذلك عمدا وجب عليه الإعادة ـ ليس في محله.

١٦٩

نعم يفرق بين ما يعذر فيه وبين ما لا يعذر فيه.

واما ما أشار إليه شيخنا المتقدم في آخر كلامه ـ من مساواته للمخالف في الشبهة ، إشارة إلى الوجه في صحة إعمال المخالفين كما قدمنا نقله عنه ، وبيانا للعذر لهم في الخروج عن الدين المبين ، وبذلك ايضا صرح المحدث الكاشاني في المفاتيح في مسألة العدالة تبعا لشيخنا الشهيد الثاني في المسالك ـ فقد أشبعنا الكلام في رده وإبطاله في باب صلاة الجمعة من شرحنا على كتاب المدارك.

وليت شعري إذا كانت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية قد اتفقت على وجوب الرجوع الى أهل البيت (عليهم‌السلام) وأخذ الأحكام منهم ـ ولا سيما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) : «اني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي. ـ وفي بعض طرق هذا الخبر (٢) خليفتين ـ لن تضلوا ما ان تمسكتم بهما ، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض». وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) : «أهل بيتي كسفينة نوح عليه‌السلام من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق». وهما مرويان من طريق الجمهور بطرق عديدة وقد اعترف جملة من علمائهم بمضمونهما ، كما أوضحنا ذلك في سلاسل الحديد في تقييد ابن ابي الحديد ، وحديث الغدير المروي متواترا من طرق القوم (٤) وأمثال ذلك ـ فأي شبهة بعد هذه الاخبار وأمثالها؟

__________________

(١ و ٢) ارجع الى كتاب فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ٢ ص ٤٣ الى ٥٢ فإنه ذكر الحديث بألفاظه ومصادره.

(٣) ارجع الى كتاب فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ٢ ص ٥٦ الى ٥٨ فإنه ذكر الحديث بألفاظه ومصادره.

(٤) ارجع الى كتاب الغدير ج ١ ص ١٤ الى ١٥١ وص ٢٩٤ الى ٣١٣ الطبعة الثانية.

١٧٠

ولكن القوم إنما قابلوا بالعناد وتمسكوا بالعصبية واللداد ، كما يوضحه تصريح جملة من أساطين علمائهم ـ منهم الغزالي والزمخشري وغيرهما ـ بمخالفتهم السنن النبوية لكون الشيعة يعملون بها ، كمسألة تسنيم القبور ـ قال الغزالي (١) : «ان السنة هو التسطيح ولكن عدلنا عنه الى التسنيم مراغمة للرافضة» ـ والتختم باليمين ، واضافة آل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إليه في الصلاة عليه (صلى الله عليه وعليهم) والتكبير على الجنازة ، ونحو ذلك من ما أوضحناه في كتابنا المشار اليه ، فإذا كان هذا اعتراف علمائهم فأي شبهة لهم في الخروج عن الدين حتى يعتذر به أصحابنا عنهم وبالجملة فإن كلامهم في هذا المقام وقع غفلة عن تدبر الاخبار والنظر فيها بعين الاعتبار ، كما أوضحناه في شرحنا على المدارك في البحث مع المحدث الكاشاني.

المسألة الرابعة ـ قد اختلفت الاخبار في أفضلية المشي على الركوب وبالعكس. فمن ما يدل على الأول

صحيحة عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «ما عبد الله (تعالى) بشي‌ء أشد من المشي ولا أفضل».

وصحيحة الحلبي (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن فضل المشي فقال :

__________________

(١) الوجيز ج ١ ص ٤٧ باختلاف في اللفظ ، ومثله في كتاب رحمة الأمة على هامش الميزان للشعراني ج ١ ص ٨٨ ، وقد قدمنا كلامهم في ذلك في التعليقة (١) ص ١٢٤ ج ٤ من الحدائق. وقد ذكر الحجة المقرم في مقتل الحسين عليه‌السلام ص ٤٤٣ من الطبعة الثانية الموارد التي صرح القوم بمخالفة السنة فيها لأنها أصبحت شعارا للرافضة.

(٢) الوسائل الباب ٣٢ من وجوب الحج وشرائطه.

(٣) الوسائل الباب ٥٢ من الصدقة ، والباب ٣٢ من وجوب الحج وشرائطه.

١٧١

ان الحسن بن علي (عليهما‌السلام) قاسم ربه ثلاث مرات ، حتى نعلا ونعلا وثوبا وثوبا ودينارا ودينارا ، وحج عشرين حجة ماشيا على قدميه».

وعن محمد بن إسماعيل بن رجاء الزبيدي عن ابي عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «ما عبد الله بشي‌ء أفضل من المشي».

وقال في الفقيه (٢) : روى انه ما تقرب العبد الى الله (عزوجل) بشي‌ء أحب إليه من المشي إلى بيته الحرام على المتقدمين ، وان الحجة الواحدة تعدل سبعين حجة. الحديث.

وروى في ثواب الأعمال (٣) بسنده عن الربيع بن محمد المسلي عن رجل عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : «ما عبد الله بشي‌ء مثل الصمت والمشي إلى بيته». ومثله في الخصال (٤) عن ابي الربيع الشامي عنه عليه‌السلام.

وروى في الكافي عن أبي أسامة عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٥) قال : «خرج الحسن بن علي (عليهما‌السلام) الى مكة سنة ماشيا فورمت قدماه ، فقال له بعض مواليه : لو ركبت لسكن عنك هذا الورم. فقال : كلا إذا أتينا هذا المنزل فإنه يستقبلك اسود ومعه دهن فاشتر منه ولا تماكسه. الحديث». وفيه : انه وجد الأسود واشترى منه.

وروى البرقي في المحاسن (٦) عن ابي المنكدر عن ابى جعفر عليه‌السلام قال : قال ابن عباس : ما ندمت على شي‌ء صنعت ندمي على ان لم أحج ماشيا ، لأني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : من حج بيت الله ماشيا كتب الله له سبعة آلاف حسنة من حسنات الحرم. قيل : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وما حسنات الحرم؟

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦) الوسائل الباب ٣٢ من وجوب الحج وشرائطه.

١٧٢

قال : الحسنة بألف ألف حسنة. وقال : فضل المشاة في الحج كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم. وكان الحسين بن علي (عليهما‌السلام) يمشي إلى الحج ودابته تقاد وراءه.

واما ما يدل على الثاني فصحيحة رفاعة وابن بكير عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) «انه سئل عن الحج ماشيا أفضل أو راكبا؟ قال : بل راكبا ، فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حج راكبا».

وروى الكليني عن رفاعة في الصحيح (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن مشي الحسن عليه‌السلام من مكة أو من المدينة؟ قال : من مكة. وسألته : إذا زرت البيت أركب أو أمشي؟ فقال : كان الحسن عليه‌السلام يزور راكبا. وسألته عن الركوب أفضل أو المشي؟ فقال : الركوب. قلت : الركوب أفضل من المشي؟ فقال : نعم ، لان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ركب».

وظاهر هذا الخبر ان مشي الحسن (عليه‌السلام) المذكور في الاخبار انما كان من مكة إلى منى وعرفات ، فان معنى سؤال السائل : ان مشيه (عليه‌السلام) هل كان من خروجه من المدينة قاصدا إلى مكة ، أو من مكة في قصده الى عرفات ومنى؟ فأجاب بان ذلك انما هو من مكة. إلا ان حديث أبي أسامة المتقدم ظاهر المنافاة لذلك ، ومثله موثقة عبد الله بن بكير الآتية (٣). وقوله : «إذا زرت البيت أركب أو أمشي؟». يعنى : من منى الى مكة لطواف الزيارة.

وروى الشيخ في الموثق أو الحسن عن رفاعة (٤) قال : «سأل أبا عبد الله

__________________

(١ و ٤) الوسائل الباب ٣٣ من وجوب الحج وشرائطه.

(٢) الكافي ج ٤ ص ٤٥٦ ، وفي الوسائل الباب ٣٣ من وجوب الحج وشرائطه.

(٣) ص ١٧٤.

١٧٣

(عليه‌السلام) رجل : الركوب أفضل أم المشي؟ فقال : الركوب أفضل من المشي لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ركب».

وروى في الكافي في الموثق عن عبد الله بن بكير (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : انا نريد ان نخرج إلى مكة مشاة؟ فقال لنا : لا تمشوا واخرجوا ركبانا. قلت : أصلحك الله (تعالى) انه بلغنا عن الحسن بن علي (صلوات الله عليهما) انه كان يحج ماشيا؟ فقال : كان الحسن بن علي (عليهما‌السلام) يحج ماشيا وتساق معه المحامل والرحال».

أقول : ظاهر قول السائل : ـ «بلغنا عن الحسن بن علي (عليهما‌السلام)» بعد سؤاله عن الخروج إلى مكة مشاة ، ونهيه عليه‌السلام عن المشي ـ ان مشى الحسن عليه‌السلام كان الى مكة ، ومثله رواية أبي أسامة المتقدمة. والجمع بينهما وبين ظاهر صحيحة رفاعة لا يخلو عن اشكال.

وروى الكليني والشيخ في الصحيح عن سيف التمار (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : انا كنا نحج مشاة فبلغنا عنك شي‌ء فما ترى؟ قال : ان الناس ليحجون مشاة ويركبون. قلت : ليس عن هذا أسألك. قال : فعن أي شي‌ء سألت؟ قلت : أيهما أحب إليك ان نصنع؟ قال : تركبون أحب الي ، فان ذلك أقوى لكم على الدعاء والعبادة».

وللأصحاب في الجمع بين هذه الاخبار طرق : أحدها ـ وهو المشهور ـ ان المشي أفضل ان لم يضعفه عن الدعاء وإلا فالركوب أفضل. ويشهد لهذا الجمع صحيحة سيف المذكورة.

وثانيها ـ ان المشي أفضل لمن ساق معه ما إذا أعيا ركبه. ذكره الشيخ

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٤ ص ٤٥٥ و ٤٥٦ ، والتهذيب ج ٥ ص ١٢ ، وفي الوسائل الباب ٣٣ من وجوب الحج وشرائطه.

١٧٤

في كتابي الاخبار ، واستدل عليه بموثقة عبد الله بن بكير المتقدمة.

وثالثها ـ ان الركوب أفضل لمن كان الحامل له على المشي توفير المال مع استغنائه عنه ، دون ما إذا كان الحامل له على المشي كسر النفس ومشقة العبادة.

وهذا الوجه نقله شيخنا الشهيد الثاني في المسالك وسبطه في المدارك عن العالم الرباني الشيخ ميثم البحراني في شرح النهج ، قال في المدارك : وهو جيد لان الشح جامع لمساوئ العيوب ، كما ورد في الخبر (١) فيكون دفعه اولى من العبادة بالمشي.

ويدل على هذا الوجه ما رواه ثقة الإسلام (عطر الله تعالى مرقده) عن ابى بصير (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن المشي أفضل أو الركوب؟ فقال : إذا كان الرجل موسرا فمشى ليكون أقل لنفقته فالركوب أفضل».

ورابعها ـ ان الركوب أفضل لمن يضعف بالمشي عن التقدم للعبادة. احتمله الشيخ في كتابي الاخبار ، واختاره شيخنا الشهيد في الدروس.

واحتج عليه الشيخ بما رواه عن هشام بن سالم في الحسن أو الموثق (٣) قال : «دخلنا على ابى عبد الله (عليه‌السلام) انا وعنبسة بن مصعب وبضعة عشر رجلا من أصحابنا ، فقلنا : جعلنا الله فداك أيهما أفضل المشي أو الركوب؟

فقال : ما عبد الله بشي‌ء أفضل من المشي. فقلنا : أيما أفضل نركب إلى مكة فنعجل فنقيم بها الى ان يقدم الماشي أو نمشي؟ فقال : الركوب أفضل».

__________________

(١) نهج البلاغة ج ٣ ص ٢٤٥ مطبعة الاستقامة بمصر في الكلمات القصار «البخيل جامع المساوئ العيوب».

(٢) الكافي ج ٤ ص ٤٥٦ ، وفي الوسائل الباب ٣٣ من وجوب الحج وشرائطه.

(٣) التهذيب ج ٥ ص ١٣ ، وفي الوسائل الباب ٣٢ و ٣٣ من وجوب الحج وشرائطه.

١٧٥

وسيأتي إتمام الكلام في ذلك ـ ان شاء الله تعالى ـ في حج النذر.

المسألة الخامسة ـ لا خلاف بين الأصحاب في انه إذا استقر الحج في ذمته ثم مات فإنه يقضى عنه من أصل تركته. نقل الإجماع على ذلك العلامة في المنتهى والتذكرة. وقد تقدمت جملة من الاخبار الدالة على ذلك في صدر المسألة الثانية.

انما الخلاف في المكان الذي يجب الاستئجار منه ، والمتداول في كتب أكثر الأصحاب ان الخلاف هنا منحصر في قولين :

أحدهما ـ انه من أقرب الأماكن إلى مكة ، وهو الذي عليه الأكثر. قالوا : والمراد بأقرب الأماكن أقرب المواقيت إلى مكة ان أمكن الاستئجار منه وإلا فمن غيره مراعيا الأقرب فالأقرب ، فإن تعذر الاستئجار من أحد المواقيت وجب الاستئجار من أقرب ما يمكن الحج منه الى الميقات.

وثانيهما ـ انه من بلده ، وهو قول الشيخ في النهاية ، وبه قال ابن إدريس

والمفهوم من عبارة المحقق في الشرائع ان في المسألة قولا ثالثا ، وهو التفضيل بين ما إذا وسع المال فمن بلده وإلا فمن حيث يمكن.

وهذا القول وان لم نظفر به في كلام المتقدمين إلا انه صريح الشهيد في الدروس ، حيث قال : يقضى من أصل تركته من منزله ، ولو ضاق المال فمن حيث يمكن ولو من الميقات على الأقوى. انتهى.

استدل أصحاب القول المشهور على ذلك بان الواجب قضاء الحج وهو عبارة عن المناسك المخصوصة ، وقطع المسافة ليس جزء منه ولا واجبا لذاته ، وانما وجب لتوقف الواجب عليه ، فإذا انتفى التوقف انتفى الوجوب. على انا لو سلمنا وجوبه لم يلزم من ذلك وجوب قضائه ، لأن القضاء إنما يجب بدليل من خارج ، وهو انما قام على وجوب قضاء الحج خاصة. كذا في المدارك.

واستدل المحقق في المعتبر على هذا القول أيضا بأن الواجب في الذمة

١٧٦

ليس إلا الحج فلا يكون قطع المسافة معتبرا. وبان الميت لو اتفق حضوره بعض المواقيت لا بقصد الحج أجزأه الحج من الميقات ، فكذا لو قضى عنه.

وزاد العلامة في المختلف : ان المسافر لو اتفق قربه من الميقات فحصلت له الشرائط وجب عليه ان يحج من ذلك الموضع ، وكذا لو استطاع من غير بلده لم يجب عليه قصد بلده وإنشاء الحج منه بلا خلاف ، فعلم ان قطع المسافة ليس واجبا هنا ، فلا يجب الاستئجار منه.

أقول : وهذه الوجوه بحسب ما يتراءى منها في بادئ الرأي مؤيدة لما ادعوه ، إلا ان في صلاحها لتأسيس الأحكام الشرعية وبنائها عليها اشكالا ، كما سيظهر لك ان شاء الله (تعالى) فإنه من الجائز ان يكون حكم القضاء عن الميت غير مترتب على هذه الوجوه التي ذكروها ، فلا بد فيه من دليل صريح يدل على ما ادعوه.

احتج ابن إدريس ـ على ما نقلوا عنه ـ بتواتر الأخبار بذلك. وبان المحجوج عنه كان يجب عليه الحج من بلده ونفقة طريقه ، فمع الموت لا تسقط النفقة.

ورده المحقق في المعتبر بالمنع من تواتر الأخبار بذلك ، قال : ودعوى المتأخر تواتر الأخبار غلط ، فانا لم نقف في ذلك على خبر شاذ فكيف يدعى التواتر؟ وبانا لا نسلم وجوب الحج من البلد ، بل لو أفاق المجنون عند بعض المواقيت أو استغنى الفقير وجب ان يحج من موضعه. على انه لم يذهب محصل الى ان الإنسان يجب عليه ان ينشئ حجة من بلده. فدعواه هذه غلط وما رتبه عليها أشد غلطا. انتهى.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان المسألة خالية من النصوص كما سمعت من كلام المحقق ، والنصوص الواردة باعتبار الميقات أو البلد أو ما بينهما إنما وردت في الوصية بالحج ، مع انها بحسب ظاهرها لا تخلو من تدافع وتعارض. والأصحاب

١٧٧

قد تعلقوا بجملة منها في الدلالة على ما ادعوه في هذه المسألة من تخصيص الوجوب بالميقات ، وأجابوا عن ما دل بظاهره على خلاف ذلك. وظاهرهم ان المسألتين في التحقيق من باب واحد. وهو كذلك. إلا ان في دلالة ما أورده من الاخبار على ما ادعوه منها تأملا.

وها أنا أسوق إليك جملة ما وقفت عليه من الاخبار المذكورة ، مذيلا كلا منها بما ادى اليه فهمي القاصر وذهني الفاتر ، واسأل الله (عزوجل) العصمة من طغيان القلم وزلة القدم ، فأقول :

من الاخبار المشار إليها صحيحة حريز عن ابي عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل اعطى رجلا حجة يحج بها عنه من الكوفة فحج عنه من البصرة؟ قال : لا بأس ، إذا قضى جميع المناسك فقد تم حجه».

أقول : وهذه الرواية وان لم تكن من عداد الروايات المشار إليها إلا انها من جملة ما اعتضد به أصحاب القول المشهور فذكرناها أولا لذلك.

والتقريب فيها انها دلت بظاهرها على ان المخالفة في الحج من الكوفة إلى الحج من البصرة غير موجب لفساد الحج ، وما ذاك إلا من حيث ان الغرض من إعطاء الحجة الإتيان بالمناسك المذكورة وان الطريق لا مدخل لها في الحج. وفيه ما سيأتي ان شاء الله (تعالى) في مسألة من استؤجر على طريق فحج على غيره من الخلاف في ذلك.

وصاحب المدارك الذي هو ممن اعتضد بهذه الرواية في هذه المسألة ، حيث اختار في تلك المسألة عدم صحة الحج كذلك أجاب عن هذه الرواية ـ حيث ان الشيخين استدلا بها على الجواز ـ فقال بأنها لا تدل صريحا على جواز المخالفة ،

__________________

(١) الوسائل الباب ١١ من النيابة في الحج.

١٧٨

لاحتمال ان يكون قوله : «من الكوفة» صفة ل «رجل» لا صلة ل «يحج». انتهى. ولا يخفى انه بناء على هذا الاحتمال الذي ذكره يبطل تعلقه بها هنا فكيف يحتج بها؟

ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن رئاب (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل اوصى ان يحج عنه حجة الإسلام فلم يبلغ جميع ما ترك إلا خمسين درهما؟ قال : يحج عنه من بعض المواقيت التي وقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من قرب».

قالوا : وهذه الرواية مؤيدة للقول المشهور باعتبار انه عليه‌السلام أطلق الحج عنه من بعض المواقيت ولم يستفصل عن إمكان الحج بذلك من البلد أو غيره من ما هو أبعد من الميقات ، فدل على عدم وجوبه.

وفيه بعد ، فإنه من المحتمل قريبا ـ بل الظاهر انه الأقرب ـ انه عليه‌السلام إنما أمر من بعض المواقيت لعلمه ان الخمسين بحسب العادة والعرف ليس فيها وفور لما يسع من ما قبل الميقات من نفقة الحج وكراية الدابة تلك المدة كما هو ظاهر. وما ذكرناه ان لم يكن أظهر فلا أقل ان يكون مساويا لما ذكروه من الاحتمال ، وبذلك يبطل الاستدلال.

ومنها ـ رواية زكريا بن آدم (٢) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل مات واوصى بحجة له ، أيجوز ان يحج عنه من غير البلد الذي مات فيه؟ فقال : ما كان دون الميقات فلا بأس».

أقول : ان ظاهر هذه الرواية انه لا يتعين الحج من البلد ، بل الواجب ان يستأجر عنه من قبل الميقات كائنا ما كان بما تسعه الأجرة ، والأظهر حملها على

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٢ من النيابة في الحج.

١٧٩

عدم سعة المال للحج من البلد. ومفهومها انه لا يصار الى الميقات مع سعة المال لما زاد على ذلك. وهي بالتقريب المذكور منافية للقول المشهور ، والاعتضاد بها ـ كما ذكره في المدارك ـ لا يخلو من القصور.

ومنها ـ ما رواه الشيخ في التهذيب والصدوق في الفقيه عن ابي سعيد عن من سأل أبا عبد الله عليه‌السلام (١) عن رجل اوصى بعشرين درهما في حجة؟ قال : يحج بها عنه رجل من حيث يبلغه.

أقول : ظاهر هذا الخبر ان العشرين لو لم تبلغ الحج من أحد المواقيت المشهورة يحج من ما بعد الميقات إلى مكة ، كادني الحل والحديبية والجعرانة.

ويصير هذا من قبيل من لم يتمكن من وصول الميقات والخروج إليه ، فإنه يحرم من هذه الأماكن ولو من مكة. هذا ما يفهم من الخبر.

ومنها ـ ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن بإبراهيم عن معاوية بن عمار (٢) قال : «قلت له : رجل يموت وعليه خمسمائة درهم من الزكاة وعليه حجة الإسلام ، وترك ثلاثمائة درهم ، واوصى بحجة الإسلام وان يقضى عنه دين الزكاة؟ قال : يحج عنه من أقرب ما يكون ويخرج البقية في الزكاة».

أقول : ظاهر الخبر هنا ان الحج من مكة لأنها أقرب ما يكون بالتقريب الذي ذكرناه.

ومنها ـ ما رواه في الكافي عن عمر بن يزيد (٣) قال : «قال أبو عبد الله

__________________

(١) رواه في التهذيب ج ٩ ص ٢٢٩ ، وفي الفقيه ج ٢ ص ٢٧٢ ، إلا انه عن ابي بصير مضمرا ، ورواه في الكافي ج ٤ ص ٣٠٨ ، وفي الوسائل الباب ٢ من النيابة في الحج.

(٢) الوسائل الباب ٢١ من المستحقين للزكاة.

(٣) الوسائل الباب ٢ من النيابة في الحج.

١٨٠