الحدائق الناضرة - ج ١٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٩٦

جميعا عن ابي جعفر عليه‌السلام (١) قال : «من أصاب مالا من اربع لم يقبل في أربع : من أصاب مالا من غلول أو رباء أو خيانة أو سرقة ، لم يقبل منه في زكاة ولا صدقة ولا حج ولا عمرة».

وما رواه في كتاب عقاب الأعمال (٢) بسنده عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال في آخر خطبة خطبها : «من اكتسب مالا حراما لم يقبل الله منه صدقة ولا عتقا ولا حجا ولا اعتمارا ، وكتب الله له بعدد اجزاء ذلك أو زارا ، وما بقي منه بعد موته كان زاده الى النار».

وما رواه فيه ايضا بسند صحيح الى حديد المدائني عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «صونوا دينكم بالورع ، وقووه بالتقية والاستغناء بالله عن طلب الحوائج من السلطان ، واعلموا أنه أيما مؤمن خضع لصاحب سلطان أو لمن يخالفه على دينه طلبا لما في يده ، خمله الله ومقته عليه ووكله الله إليه ، فإن هو غلب على شي‌ء من دنياه وصار في يده منه شي‌ء ، نزع الله البركة منه ولم يأجره على شي‌ء ينفقه في حج ولا عمرة ولا عتق».

وما رواه البرقي في المحاسن عن النوفلي عن السكوني عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٤) : «ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حمل جهازه على راحلته وقال : هذه حجة لا رياء فيها ولا سمعة. ثم قال : من تجهز وفي جهازه علم حرام لم يقبل الله منه الحج».

وما رواه ثقة الإسلام في الكافي في الموثق عن زرعة (٥) قال : «سأل أبا عبد الله عليه‌السلام رجل من أهل الجبال عن رجل أصاب مالا من اعمال السلطان فهو يتصدق منه ويصل قرابته ويحج ليغفر له ما اكتسب ، وهو يقول : (إِنَّ الْحَسَناتِ

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل الباب ٥٢ من وجوب الحج وشرائطه.

١٢١

يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (١). قال : فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ان الخطيئة لا تكفر الخطيئة ولكن الحسنة تحط الخطيئة. الحديث».

واما ما رواه في الفقيه مرسلا (٢) ـ قال : «وقال الصادق عليه‌السلام : لما حج موسى عليه‌السلام نزل عليه جبرئيل عليه‌السلام فقال له موسى : يا جبرئيل ما لمن حج هذا البيت بلا نية صادقة ولا نفقة طيبة؟ فقال : لا أدرى حتى ارجع الى ربي. الحديث». وقد تقدم في المقدمة الاولى من المقدمات المذكورة في صدر هذا الكتاب (٣) وفيه : «ان الله سبحانه قال لمن حج كذلك : أهب له حقي وارضي عليه خلقي». ـ فيجب حمله على ما لو كان المال حلالا ظاهرا وكان في نفس الأمر حراما أو انه من ما فيه شبهة كجوائز السلطان ونحوها ، جمعا بين الاخبار المذكورة.

ويمكن بناء على الفرق بين الصحة والقبول ـ كما عليه جملة من الأصحاب ـ ان يقال بصحة الحج كما صرح به الأصحاب هنا ، وان كان غير مقبول كما هو ظاهر الأخبار المذكورة. إلا ان الذي حققناه في غير موضع من زبرنا ان الأظهر عدم الفرق بينهما. ويمكن بناء على هذا حمل الأخبار المذكورة على عدم القبول الكامل ، كما ورد عدم قبول الصلاة في مواضع ، وانه ربما يقبل منها نصفها أو ثلثها أو نحو ذلك (٤) فإنه محمول على القبول الكامل ، بناء على ما هو المشهور بين الأصحاب من اتحاد الصحة والقبول.

وبالجملة فإن المسألة غير خالية من شوب الاشكال. والله سبحانه وأولياؤه العالمون بحقيقة الحال.

__________________

(١) سورة هود الآية ١١٤.

(٢) الوسائل الباب ٥٢ من وجوب الحج وشرائطه.

(٣) ص ١٩.

(٤) ج ٦ ص ١٠.

١٢٢

الرابع من الشروط المتقدمة ـ ان يكون له ما يمون عياله الواجبي النفقة عليه من مأكول وملبوس ونحو ذلك ، قالوا : لانه حق سابق على وجوب الحج فيكون مقدما عليه.

ويدل على ذلك رواية أبي الربيع الشامي (١) قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن قول الله (عزوجل) (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (٢) فقال : ما يقول الناس؟ قال : فقيل له : الزاد والراحلة (٣) قال : فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : قد سئل أبو جعفر عليه‌السلام عن هذا فقال : هلك الناس إذا ، لئن كان من كان له زاد وراحلة قدر ما يقوت به عياله ويستغني به عن الناس ينطلق اليه فيسلبهم إياه لقد هلكوا. فقيل له : فما السبيل؟ فقال : السعة في المال إذا كان يحج ببعض ويبقى بعضا يقوت به عياله ، أليس قد فرض الله الزكاة فلم يجعلها إلا على من يملك مائتي درهم».

ويؤيد ذلك صحيحة معاوية بن عمار عن ابي عبد الله عليه‌السلام (٤) «في رجل مات ولم يحج حجة الإسلام ، ولم يترك إلا قدر نفقة الحج ، وله ورثة؟

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٢٦٧ ، والتهذيب ج ٥ ص ٢ ، والفقيه ج ٢ ص ٢٥٨ وفي الوسائل الباب ٩ من وجوب الحج وشرائطه.

(٢) سورة آل عمران الآية ٩٧.

(٣) المغني ج ٣ ص ٢١٩ ، وبداية المجتهد ج ١ ص ٢٩٣ ، وبدائع الصنائع ج ٢ ص ١٢٢.

(٤) الكافي ج ٤ ص ٣٠٥ ، والتهذيب ج ٥ ص ٤٠٥ ، إلا ان اللفظ فيهما يختلف عن ما أورده ويتفق مع ما أورده في الفقيه ج ٢ ص ٢٧٠ عن هارون بن حمزة الغنوي. وقد أورده في الوسائل عنه وعن الكافي والتهذيب في الباب ١٤ من وجوب الحج وشرائطه.

١٢٣

قال : هم أحق بميراثه ، ان شاءوا أكلوا وان شاءوا حجوا عنه».

والحكم اتفاقي لا خلاف فيه.

وانما الخلاف في انه هل يشترط في الوجوب الرجوع الى كفاية من مال أو صناعة أو حرفة أم لا؟ ذهب الأكثر ـ ومنهم المرتضى وابن ابي عقيل وابن الجنيد وابن إدريس وجملة من المتأخرين ـ الى الثاني ، وذهب الشيخان إلى الأول ونسبه المرتضى (رضي‌الله‌عنه) الى كثير من أصحابنا ، وبه قال أبو الصلاح وابن البراج وابن حمزة ، على ما نقله في المختلف ، قال : ورواه أبو جعفر ابن بابويه في كتاب من لا يحضره الفقيه.

وهو ظاهر شيخنا علي بن سليمان البحراني (قدس‌سره) في حاشيته على كتاب المختصر ، حيث قال : مقتضى قوله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (١) اشتراط الرجوع الى عمل أو ضيعة أو صناعة أو حرفة لمن ليس له سبيل في المعيشة غير ما ذكر عادة. الى ان قال : اما لو كان بيت مال يعطى منه ، أو كان ممن تتيسر له الزكاة والعطايا عادة ممن لم يتحرج من ذلك ، فلا يشترط في حقه. انتهى وادعى ابن إدريس رجوع الشيخ عن القول المذكور في الاستبصار والخلاف ، ورده العلامة في المختلف ، ونقل كلام الشيخ في الكتابين المذكورين. ولا ريب ان ما ذكره الشيخ لا يتضمن الرجوع كما توهمه ابن إدريس.

ويدل على القول المشهور عموم قوله (عزوجل) (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (٢) وهذا مستطيع.

ولو قيل : ان مقتضى عموم الآية أيضا حصول الاستطاعة بالزاد والراحلة

__________________

(١) سورة الحج الآية ٧٨.

(٢) سورة آل عمران الآية ٩٧.

١٢٤

وان لم يجد النفقة إلى عياله مدة غيبته.

قلنا : نعم الأمر كذلك ولكن قام الدليل ـ كما تقدم ـ على وجوب ذلك فيخص به عموم الآية ، واما هنا فلم يقم دليل على ذلك كما سيتضح لك ان شاء الله تعالى.

وتدل عليه ايضا الروايات المتقدمة في الشرط الثالث ، مثل صحيحة محمد بن يحيى الخثعمي (١) المشتملة على ان كل من كان صحيحا في بدنه مخلى سربه له زاد وراحلة فهو ممن يستطيع الحج ، وحسنة الحلبي المشتملة على ان من عرض عليه ما يحج به فاستحى من ذلك فهو ممن يستطيع الحج (٢) ونحوهما من ما تقدم.

احتج الشيخ ـ على ما نقله في المختلف ـ بأصالة البراءة ، والإجماع ، ورواية أبي الربيع الشامي المتقدمة (٣).

ورد بأن أصالة البراءة إنما يصار إليها إذا لم يدل على خلافها دليل. والإجماع غير ثابت. والخبر غير دال على ما ادعاه ، بل ظاهره إنما هو الدلالة على نفقة عياله مدة ذهابه وإيابه لا الرجوع الى كفاية.

نعم قد روى هذه الرواية الشيخ المفيد في المقنعة (٤) بزيادة ربما توهم ما ذهبا إليه ، فإنه روى الرواية هكذا : «قد قيل لأبي جعفر عليه‌السلام ذلك فقال : هلك الناس ، إذا كان من له زاد وراحلة لا يملك غيرهما ومقدار ذلك ما يقوت به عياله ويستغني به عن الناس فقد وجب عليه ان يحج بذلك ثم يرجع فيسأل الناس بكفه ، لقد هلك الناس اذن. فقيل له : فما السبيل؟ قال : السعة في المال وهو ان يكون معه ما يحج ببعضه ويبقى البعض يقوت به نفسه وعياله».

__________________

(١) ص ٨٠ و ١٢٩.

(٢) ص ٨٤.

(٣) ص ١٢٣.

(٤) ص ٦٠ ، وفي الوسائل الباب ٩ من وجوب الحج وشرائطه.

١٢٥

وأجيب عنها بعدم الدلالة على ما ادعياه من اشتراط الرجوع الى تلك الأشياء المعدودة التي فسروا بها الرجوع الى كفاية ، فإن غاية ما تدل عليه اعتبار بقاء شي‌ء من المال حتى لا يكون بعد رجوعه يحتاج إلى سؤال الناس ، وبه يصدق قوله : «يبقى البعض يقوت به نفسه وعياله» فيحمل ذلك على قوت السنة له ولهم. وهذا لا يستلزم ما ذكراه (نور الله تعالى مرقديهما).

وبذلك ايضا يجاب عن ما نقله الصدوق في الخصال (١) عن الأعمش عن جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) في حديث طويل قال فيه : «وحج البيت واجب على من استطاع اليه سبيلا ، وهو الزاد والراحلة مع صحة البدن ، وان يكون للإنسان ما يخلفه على عياله وما يرجع اليه بعد حجه». فان اشتراط بقاء شي‌ء الى بعد رجوعه يكفي فيه مؤنة بعض السنة أو مؤنة السنة ، ولا يستلزم ما ذكراه.

وبالجملة فإن الخروج عن ظاهر الآية والروايات العديدة الصحيحة الصريحة بمثل هذين الخبرين المجملين مشكل.

الخامس من الشروط ـ إمكان السفر ، وهو يشتمل على الصحة ، وتخلية السرب ، والاستمساك على الراحلة ، وسعة الوقت لقطع المسافة.

وحينئذ فالكلام هنا يقع في مقامات ثلاثة الأول ـ لا خلاف نصا وفتوى في ان المريض الذي يتضرر بالركوب على القتب أو في المحمل ان وسعته الاستطاعة لا يجب عليه الحج.

ويدل على ذلك ـ مضافا الى ما دل على نفي المشقة والحرج في التكليف آية ورواية (٢) ـ صحيحة ذريح عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «من مات ولم

__________________

(١) الوسائل الباب ٩ من وجوب الحج وشرائطه.

(٢) راجع الحدائق ج ١ ص ١٥١.

(٣) الوسائل الباب ٧ من وجوب الحج وشرائطه.

١٢٦

يحج حجة الإسلام ـ لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به أو مرض لا يطيق به الحج أو سلطان يمنعه ـ فليمت يهوديا أو نصرانيا».

وصحيحة معاوية بن عمار عن ابي عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «قال الله تعالى (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (٢)؟ قال : هذه لمن كان عنده مال وصحة. الحديث».

وصحيحة هشام بن الحكم (٣) وفيها : «ومن كان صحيحا في بدنه ، مخلى سربه ، له زاد وراحلة».

واما المريض مرضا لا يتضرر بالسفر فإنه كالصحيح في الوجوب عليه ، ولو احتاج في سفره الى الدواء فهو كالزاد.

وكذا يسقط التكليف مع عدم الاستمساك على الراحلة كالمعضوب ومقطوع اليدين والرجلين غالبا ، لعين ما تقدم من الأدلة.

بقي الكلام في انه هل تجب الاستنابة متى حصلت الاستطاعة وعرض المانع من مرض ونحوه من الأعذار أم لا؟ قولان ، أولهما للشيخ وابي الصلاح وابن البراج وابن الجنيد وغيرهم ، والثاني لابن إدريس ، واختاره العلامة في المختلف.

والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة روايات :

منها ـ صحيحة الحلبي عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : «ان كان موسرا

__________________

(١) الوسائل الباب ٦ من وجوب الحج وشرائطه.

(٢) سورة آل عمران الآية ٩٧.

(٣) الوسائل الباب ٨ من وجوب الحج وشرائطه.

(٤) الوسائل الباب ٢٤ من وجوب الحج وشرائطه.

١٢٧

حال بينه وبين الحج مرض أو حصر أو أمر يعذره الله تعالى فيه ، فان عليه ان يحج عنه من ماله صرورة لا مال له».

وصحيحة محمد بن مسلم عن ابى جعفر (عليه‌السلام) (١) قال : «كان علي (عليه‌السلام) يقول : لو ان رجلا أراد الحج فعرض له مرض أو خالطه سقم فلم يستطع الخروج ، فليجهز رجلا من ماله ثم ليبعثه مكانه».

وصحيحة عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «ان أمير المؤمنين (عليه‌السلام) أمر شيخا كبيرا لم يحج قط ولم يطق الحج لكبره ان يجهز رجلا يحج عنه».

ورواية علي بن أبي حمزة (٣) قال : «سألته عن رجل مسلم حال بينه وبين الحج مرض أو أمر يعذره الله تعالى فيه. فقال : عليه ان يحج من ماله صرورة لا مال له».

ورواية عبد الله بن ميمون القداح عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) (٤) «ان عليا (عليه‌السلام) قال لرجل كبير لم يحج قط : إن شئت ان تجهز رجلا ثم ابعثه ان يحج عنك».

ورواية سلمة أبي حفص عن ابى عبد الله عن أبيه (عليهما‌السلام) (٥) «ان رجلا اتى عليا (عليه‌السلام) ولم يحج قط فقال : انى كنت رجلا كثير المال وفرطت في الحج حتى كبرت سني؟ قال : فتستطيع الحج؟ قال : لا. فقال علي (عليه‌السلام) : ان شئت فجهز رجلا ثم ابعثه يحج عنك».

وروى الشيخ المفيد في المقنعة عن الفضل بن عباس (٦) قال : «أنت

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٦) الوسائل الباب ٢٤ من وجوب الحج وشرائطه.

(٥) التهذيب ج ٥ ص ٤٦٠ ، وفي الوسائل الباب ٢٤ من وجوب الحج وشرائطه.

١٢٨

امرأة من خثعم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : ان ابى أدركته فريضة الحج وهو شيخ كبير لا يستطيع ان يلبث على دابته؟ فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فحجي عن أبيك».

وهذه الروايات ـ كما ترى ـ كلها ظاهرة الدلالة على القول المشهور فيكون هو المعتمد المنصور. ومن ذلك يظهر ان هذا الشرط إنما هو شرط في وجوب الحج البدني لا الوجوب المالي ، لوجوبه بهذه الأخبار مع عدم التمكن من الحج بنفسه.

احتج العلامة (قدس‌سره) في المختلف بأصالة البراءة ، وبان الاستطاعة شرط وهي مفقودة ، فيسقط الوجوب قضية للشرط.

وبصحيحة محمد بن يحيى الخثعمي (١) قال : «سأل حفص الكناسي أبا عبد الله عليه‌السلام وانا عنده عن قول الله (عزوجل) (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (٢) ما يعنى بذلك؟ قال : من كان صحيحا في بدنه ، مخلي سربه ، له زاد وراحلة ، فهو ممن يستطيع الحج». قال : دل بمفهومه على ان فاقد الصحة ليس بمستطيع.

وأجيب عن ذلك بان الأصل يرتفع بالدليل وقد تقدم. والاستطاعة شرط في وجوب الحج مباشرة.

وظاهر إطلاق هذه الاخبار هو وجوب الاستنابة مطلقا سواء كان المرض والعذر مرجو الزوال أم لا ، وظاهر الأصحاب الاتفاق ـ كما نقله في المنتهى ـ على انه لو رجا البرء لم تجب الاستنابة. فيختص وجوب الاستنابة عندهم بالمرض

__________________

(١) الوسائل الباب ٨ من وجوب الحج وشرائطه.

(٢) سورة آل عمران الآية ٩٧.

١٢٩

الغير المرجو الزوال ، واما ما كان مرجو الزوال فقالوا فيه بالاستحباب.

قال في المدارك : وإنما تجب الاستنابة مع اليأس من البرء ، فلو رجا البرء لم تجب عليه الاستنابة إجماعا ـ قاله في المنتهى ـ تمسكا بمقتضى الأصل السالم من معارضة الأخبار المتقدمة ، إذ المتبادر منها تعلق الوجوب بمن حصل له اليأس من زوال المانع. والتفاتا إلى انه لو وجبت الاستنابة مع المرض مطلقا لم يتحقق اعتبار التمكن من المسير في حق أحد من المكلفين. إلا ان يقال : ان اعتبار ذلك إنما هو في الوجوب البدني خاصة. انتهى.

أقول : لا يخفى ان إطلاق أكثر الأخبار المتقدمة ظاهر في مطلق المرض مأيوسا من برئه أم لا ، فان قوله (عليه‌السلام) في صحيحة الحلبي ـ : «ان كان موسرا حال بينه وبين الحج مرض أو أمر يعذره الله فيه». ـ شامل لما هو أعم من ما ذكروه ، ومثلها رواية علي بن أبي حمزة ، وأظهر منها صحيحة محمد بن مسلم من قوله (عليه‌السلام): «لو ان رجلا أراد الحج فعرض له مرض. الحديث». نعم الأخبار المتضمنة للشيخ الكبير ظاهرة في ما ذكروه ، إلا انها لا دلالة فيها على الاختصاص بما ادعوه. وخصوص السؤال لا يخصص الجواب.

وبذلك يظهر لك ما في قوله في المدارك من ان المتبادر من الاخبار المذكورة تعلق الوجوب بمن حصل له اليأس من زوال المانع ، فادعى لذلك سلامة الأصل من المعارض. وفيه ما عرفت ، فإن الأخبار التي أشرنا إليها ظاهرة في العموم فيجب الخروج عن ما ادعوه من الأصل بها. على انه لا مانع من العمل بهذه الاخبار على إطلاقها مع وجوب الإعادة مع البرء ، كما صرحوا به بالنسبة الى غير المرجو الزوال.

١٣٠

وبالجملة فإني لا اعرف لهم حجة واضحة على التخصيص سوى الإجماع المدعى في المقام.

ولعله لما ذكرنا ذهب في الدروس الى وجوب الاستنابة مطلقا ، وان وجبت الفورية بالنسبة إلى المأيوس من البرء والعدم بالنسبة إلى مرجو الزوال ، فان ظاهر كلامه مشعر بذلك ، حيث قال بعد ذكر المعضوب : والأقرب ان وجوب الاستنابة فوري إن يئس من البرء وإلا استحب الفور. وفي حكم المعضوب المريض والهرم والممنوع بعدو ، سواء كان قد استقر عليه الوجوب أم لا ، خلافا لابن إدريس. فإن ظاهر كلامه ظاهر في ما قلناه ، وكذلك فهمه الأصحاب.

قال في المسالك : وإنما تجب الاستنابة مع اليأس من البرء ، ومعه فالوجوب فوري كأصل الحج ، ومتى لم يحصل اليأس لم يجب وان استحب ، ويظهر من الدروس وجوب الاستنابة على التقديرين وان لم تجب الفورية مع عدم اليأس. انتهى.

وقول الشهيد (رحمه‌الله) ـ عندي هنا لا يخلو من قوة وان نسبه في المدارك الى الضعف ، لدلالة ظاهر الاخبار المتقدمة عليه ، مع تأيد ذلك بالاحتياط المطلوب في الدين.

على ان ما ادعوه من الاستحباب لا اعرف له دليلا في المقام ، إذ ليس في المسألة سوى ما قدمناه من الاخبار ، وهي عندهم محمولة على العذر الغير المرجو الزوال ، وقد صرحوا بأن النيابة فيها على جهة الوجوب. ومن ذلك يعلم انه لا دليل لهذا الاستحباب وان نقلوه عن الشيخ (رحمه‌الله تعالى) وتبعوه فيه ، كما هي قاعدتهم غالبا.

بقي الكلام هنا في فوائد تتعلق بالمقام الأولى ـ ظاهر الأصحاب (رضوان الله عليهم) الاتفاق على انه لو تقدمت الاستطاعة على حصول العذر وجبت الاستنابة قولا واحدا ، وقد صرح بذلك جملة منهم ، ويدل عليه

١٣١

صريحا ورواية سلمة أبي حفص المتقدمة (١).

ولا ينافي ذلك قوله عليه‌السلام : «ان شئت فجهز رجلا» فإنه ليس المراد هنا التخيير له بين التجهيز وعدمه ، بل هذه العبارة ـ كثيرا ما يرمى بها في أمثال هذه المقامات ـ المراد منها الوجوب ، كما وقعت أيضا في رواية القداح المتقدمة (٢) وكأن المراد منها : ان شئت أداء ما وجب عليك وخلاص ذمتك.

وبذلك يظهر ما في كلام صاحب الذخيرة حيث انه توهم من هذه الكلمة التخيير وعدم الوجوب ، فقال بعد نقل الخبر المشار اليه : وفيه اشعار بعدم الوجوب. فإنه لا يخفى على من أحاط خبرا بالأخبار انه كثيرا ما يؤتى بهذه الكلمة في مقام الوجوب ، ويؤيد ذلك استدلال الأصحاب بهذين الخبرين المذكورين على الوجوب في المسألة ، وما ذاك إلا من حيث فهمهم من هذه الكلمة الحمل على غير المعنى المتبادر منها.

وبالجملة فموضع الخلاف في المسألة عندهم ما إذا عرض المانع قبل استقرار الوجوب.

الثانية ـ حيث ان الأصحاب صرحوا باستحباب الاستنابة لمن يرجو زوال العذر ، فرعوا عليه انه لو حصل اليأس بعد رجاء البرء وقد استناب أولا ، فإنه تجب عليه الاستنابة ثانيا مع بقاء الاستطاعة.

قال العلامة في التذكرة ـ بعد ان صرح في صدر المسألة بأن المريض إذا كان مرضه يرجى زواله ونحوه غيره من ذوي الأعذار يستحب له الاستنابة ـ ما لفظه : فلو استناب من يرجو القدرة على الحج بنفسه ثم صار مأيوسا من برئه فعليه ان يحج عن نفسه مرة أخرى ، لأنه استناب في حال لا تجوز

__________________

(١ و ٢) ص ١٢٨.

١٣٢

الاستنابة فيها فأشبه الصحيح. قال الشيخ (قدس‌سره) : ولان تلك الحجة كانت عن ماله وهذه عن بدنه. انتهى.

أقول : فيه انه قد صرح باستحباب الاستنابة في صدر المسألة ، فكيف يتم هنا قوله : «انه استناب في حال لا تجوز»؟ بل كان الأظهر في التعبير ان يقال : «في حال لا تجب» لان المستحب لا يكفى عن الواجب كما في الصحيح الذي حج استحبابا.

واما ما نقله عن الشيخ من التعليل فقد نقله عنه سابقا. وكذا صرح به في المنتهى بالنسبة الى من حصل له البرء بعد ان استناب في حال المرض ، وهو الأوفق بلفظ العبارة المذكورة.

وبالجملة فإن كلامه (قدس‌سره) هنا لا يخلو من مسامحة نشأت من الاستعجال وكيف كان فههنا أحوال ثلاثة : أحدها ـ ان يبرأ من ذلك المرض ، ولا خلاف ولا إشكال في وجوب الإعادة والحج بنفسه. الثانية ـ ان يموت ، ولا خلاف ولا إشكال أيضا عندهم ـ كما صرحوا به ـ في انه لا شي‌ء عليه ، استناب أو لم يستنب. الثالثة ـ ان يصير مرضه الى ما لا يرجى برؤه ، وظاهرهم ـ كما عرفت ـ وجوب الاستنابة عليه ثانيا لما تقدم من التعليل. ويأتي على ما قدمنا ذكره ـ من ان ظاهر الأخبار وجوب الاستنابة مطلقا ـ انه لو استناب أولا فقد ادى الواجب ولا يجب ثانيا. ومثل ذلك يأتي في حالة الموت فإنه إذا استناب أولا فلا شي‌ء عليه وإلا وجب القضاء عنه. واما على ما ذكروه من الاستحباب فلا شي‌ء مطلقا.

الثالثة ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بان الممنوع لعذر لا يرجى زواله لو استناب ، فان استمر المانع حتى مات فلا قضاء ، وان زال ذلك

١٣٣

المانع وجب الحج عليه بنفسه مع بقاء الاستطاعة ، ولا خلاف بينهم في شي‌ء من ذلك في ما اعلم.

ونقل عن الشيخ في تعليل الحكم الثاني بان ما فعله كان واجبا في ماله وهذا يلزمه في نفسه. قيل : ومرجعه الى الاستدلال بإطلاق الأمر بالحج المتناول لجميع المكلفين ممن لم يحج ، ومن استناب في الحج لا يصدق عليه انه حج حقيقة فيتناوله الإطلاق.

ولا يخفى ما فيه من الإشكال ، فإن دخول هذا الفرد تحت إطلاق الأمر بعد تكليف الشارع له بالحج في تلك الحال لا يخلو من غموض ، وان كان الاحتياط في ما ذكروه.

ونقل عن بعض الأصحاب انه احتمل عدم الوجوب كما لو لم يبرأ ، للأصل ولأنه أدى حج الإسلام بأمر الشارع فلا يلزمه حج ثان ، كما لو حج بنفسه.

قال في المدارك بعد نقله : وهذا الاحتمال غير بعيد ، إلا ان الأول أقرب تمسكا بإطلاق الأمر. انتهى.

أقول : قد عرفت ما في التمسك بإطلاق الأمر من البعد ، سيما مع ما عرفت في غير موضع ـ وبه صرحوا (رضوان الله تعالى عليهم) ـ من ان الإطلاق إنما ينصرف الى الافراد الغالبة الشائعة المتكررة دون الفروض النادرة الوقوع.

وبالجملة فهذا الاحتمال جيد إلا ان المسألة لما كانت عارية عن النص الصريح فالاحتياط فيها لازم ، وهو في جانب القول الذي عليه الأصحاب.

ومتى وجب عليه الحج بعد البرء كما ذكروه فان مات قبل ان يأتي به وجب قضاؤه كغيره.

الرابعة ـ قالوا : لو لم يجد الممنوع مالا لم تجب عليه الاستنابة قطعا. وكذا لو وجد المال ولم يجد من يستأجره فإنه يسقط الى العام المقبل. ولو

١٣٤

وجد من يستأجره بأكثر من اجرة المثل وجب مع المكنة. ولو لم يكن له مال ووجد من يعطيه المال لأداء الحج لم يجب عليه قبوله ، لأن الاستنابة انما تجب على الموسر على ما تضمنته الأخبار المتقدمة. ولا يقاس على الصحيح إذا بذل له الزاد والراحلة حيث وجب عليه الحج بذلك ، لاختصاصه بالنص وبطلان القياس. وهو جيد موافق للقواعد الشرعية.

الخامسة ـ قال في الدروس : ولو وجب عليه الحج بإفساد أو نذر فهو كحجة الإسلام بل أقوى. وكتب في الحاشية في بيان وجه القوة ، قال : لان سبب الحج هنا المكلف ولما امتنع فعله بنفسه صرف الى ماله ، بخلاف حجة الإسلام فإن سببها من الله. انتهى.

أقول : ما ذكره في الدروس قد نقله في التذكرة عن الشيخ (قدس‌سره) حيث قال : قال الشيخ : المعضوب إذا وجب عليه حجة بالنذر أو بإفساد حجه وجب عليه ان يحج غيره عن نفسه ، وان بري‌ء في ما بعد وجب عليه الإعادة. ثم قال : وفيه نظر.

وفي المنتهى قال : وعندي في ذلك تردد. والظاهر ان وجه النظر والتردد هو ان مورد نصوص الاستنابة حجة الإسلام ، والتعدي إلى غيرها قياس محض.

واما ما ذكره في الدروس فلا يخفى ما فيه ، فان العبادات توقيفية لا بد في ثبوتها من النصوص ، وهذه التعليلات العليلة لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية ولهذا قال السيد في المدارك بعد نقل ذلك عنه : وهو غير واضح في النذر ، بل ولا الإفساد ايضا ان قلنا ان الثانية عقوبة ، لأن الحكم بوجوب الاستنابة على خلاف الأصل ، فيقتصر فيه على مورد النص وهو حج الإسلام ، والنذر والإفساد إنما اقتضيا وجوب الحج مباشرة وقد سقط بالتعذر. انتهى. وهو جيد.

السادسة ـ ظاهر صحيحة الحلبي المتقدمة ومثلها رواية علي بن أبي حمزة

١٣٥

تناول المانع الموجب للاستنابة لما لو كان خلقيا أو عارضا ، وان كان أكثر أخبار المسألة إنما تضمن ذكر العارض خاصة ، وعلى هذا فلو كان لا يستمسك خلقة فإنه تجب عليه الاستنابة.

وظاهر كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذه المسألة العموم ايضا بل صرح العلامة في المنتهى بذلك فقال : ولو كان المرض لا يرجى برؤه ـ أو كان العذر لا يزول كالإقعاد وضعف البدن خلقة وغير ذلك من الأعذار اللازمة أو كبر السن وما أشبهه ـ قال الشيخ : وجب عليه ان يحج عنه رجلا ، لما تقدم من الأحاديث. الى آخره.

وظاهر المحقق في الشرائع الخلاف في ذلك ، حيث اختار ان من لا يستمسك خلقة يسقط الفرض عن نفسه وماله.

والظاهر ان الحامل للمحقق (قدس‌سره) هنا على هذا القول هو انهم قد اتفقوا ـ كما عرفت في الفائدة الأولى ـ على انه لو تقدمت الاستطاعة على حصول العذر وجبت الاستنابة قولا واحدا ، وان محل الخلاف إنما هو إذا عرض المانع قبل استقرار الوجوب ، وظاهر أكثر النصوص إنما دل على من عرض له العجز ، لفرضها في شيخ كبير أو من عرض له المرض ، ولهذا لم يذكر في المعتبر إلا ما دل على ذلك دون ما دل بظاهره على الخلقي منه ، كرواية الحلبي ورواية على بن أبي حمزة ، فالعجز الأصلي بعيد عن الدخول تحت تلك الروايات ، لإمكان حمل تلك النصوص على ما لو سبق الوجوب على العجز ، بخلاف العاجز الأصلي فإنه لا يتصور فيه سبق الاستقرار.

وبالجملة فإن التفصيل الذي ذكروه ـ من انه ان تقدمت الاستطاعة وجبت الاستنابة قولا واحدا ، وإلا فهو محل الخلاف ـ إنما يجري في المانع العارضي الذي هو مورد تلك الاخبار ، واما الخلقي فيكون خارجا عنها ، ومتى كان

١٣٦

خارجا عنها فإنه يبقى على حكم الأصل من عدم الوجوب ، لعدم الدليل بناء على انه ليس سوى تلك الأخبار. وقد عرفت ما فيه.

وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك لما اختار القول المشهور احتج على ذلك بعدم العلم بالقائل بالفرق بين الخلقي والعارضي. ثم ذكر رواية على بن أبي حمزة.

واعترضه سبطه في المدارك فقال بعد نقل ذلك : وهو احتجاج ضعيف فإن إحداث القول في المسألة لا يتوقف على وجود القائل إذا لم ينعقد الإجماع على خلافه ، كما بيناه مرارا. والرواية لا تنهض حجة لأن راويها علي بن أبي حمزة وقال النجاشي : انه كان أحد عمد الواقفية. انتهى. وهو جيد بناء على أصولهم المشتركة بين المورد والمورد عليه.

السابعة ـ المستفاد من ظاهر عبائرهم انه لو تكلف الممنوع بأحد الأعذار المتقدمة الحج لم يجزئه عن حجة الإسلام ، لعدم تحقق الاستطاعة التي هي شرط الوجوب ، فكان كما لو تكلفه الفقير.

وبذلك صرح في التذكرة حيث قال بعد ذكر الشرائط المشار إليها آنفا : هذه الشرائط التي ذكرناها منها ما هو شرط في الصحة والوجوب وهو العقل ، لعدم الوجوب على المجنون وعدم الصحة منه ، ومنها ما هو شرط في الصحة دون الوجوب وهو الإسلام. الى ان قال : ومنها ما هو شرط في الوجوب دون الصحة وهو البلوغ والحرية والاستطاعة وإمكان السير ، لأن الصبي والمملوك ومن ليس معه زاد ولا راحلة وليس بمخلى السرب ولا يمكنه المسير ، لو تكلفوا الحج لصح منهم وان لم يكن واجبا عليهم ، ولا يجزئهم عن حجة الإسلام. انتهى.

وظاهر الشهيد في الدروس الفرق هنا بين الفقير وغيره ، حيث قال ـ بعد ان ذكر انه لو حج فاقد الشرائط لم يجزئه ـ ما لفظه : وعندي لو تكلف المريض والمعضوب والممنوع بالعدو وضيق الوقت أجزأ ، إلا ان ذلك من باب تحصيل

١٣٧

الشرط ، فإنه لا يجب ولو حصله وجب وأجزأ. نعم لو ادى ذلك الى إضرار بالنفس يحرم إنزاله وقارن بعض المناسك احتمل عدم الاجزاء.

قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : وفي الفرق نظر. والمتجه انه ان حصلت الاستطاعة الشرعية قبل التلبس بالإحرام ثبت الوجوب والاجزاء ، لما بيناه من عدم اعتبار الاستطاعة من البلد ، وان حصل التلبس قبل تحقق الاستطاعة انتفى الأمران معا ، سواء كان عدم الاستطاعة بعدم القدرة على تحصيل الزاد والراحلة أو بالمرض المقتضى لسقوط الحج أو بخوف الطريق أو غير ذلك ، لان ما فعله لم يكن واجبا فلا يجزئ عن الواجب ، كما لا يجزئ فعل الواجب الموقت قبل دخول وقته. انتهى.

أقول : لا يخفى ان شيخنا الشهيد قد أشار في كلامه الى وجه الفرق بقوله : «إلا ان ذلك من باب تحصيل الشرط. الى آخره» وتوضيحه ان شرطية إمكان السير التي هي عبارة عن الصحة وتخلية السرب ونحوهما كشرطية الزاد والراحلة فلا يجب الحج بدون حصول ذلك ، ولا يجب تحصيل شي‌ء من ذلك ، لما تقدم من عدم وجوب تحصيل شرط الواجب المشروط ، لكن لو تكلف المكلف تحصيله وحصله وجب عليه الحج ، كما صرحوا به في الزاد والراحلة من انهما لا يجب عليه تحصيلهما اما لو تكلفهما فحصلهما وجب الحج ، فكذلك شرط إمكان السير فإنه لا يجب عليه تحصيله فلو تكلفه وخاطر بنفسه وحصلت له السلامة وتمكن من الحج وجب عليه وأجزأه. وهو جيد.

ثم استثنى من ذلك ما لو ادى الى إضرار بالنفس وقارن بعض المناسك ، على احتمال ، كما لو كان في أثناء الإحرام فتحمل المريض أو مدافع العدو بما لا يجوز تحمله كما لو غلب على ظنه العطب ، فان ذلك يبنى على قاعدة اجتماع الأمر والنهي في شي‌ء واحد ، اما لو لم يكن كذلك فالاجزاء ثابت وان تحمل

١٣٨

تلك المشاق التي لا يجب عليه تحملها.

وإنما ذكر ذلك احتمالا ولم يجزم به ، لإمكان ان يقال : ان النهي هنا انما هو عن وصف خارج عن النسك ، فلا يلزم اتحاد متعلق الأمر والنهي الذي هو محل الاشكال.

وحينئذ فقول السيد (قدس‌سره) ـ بعد تنظره في الفرق : «والمتجه انه ان حصلت الاستطاعة الشرعية. الى آخره» ـ خروج عن محل البحث ، فان محل البحث انما هو بالنسبة إلى وجوب الحج على هذا البعيد من بلده وهذه الشروط انما بنيت على ذلك ، وكلمات الأصحاب والاخبار قد اتفقت على ان وجوب الحج عليه مشروط بهذه الشروط التي نحن في البحث عنها ، ومنها الزاد والراحلة والسلامة من المرض والأمن في الطريق من العدو ونحوها ، وقد صرح الأصحاب ـ كما عرفت من كلام التذكرة ـ بأنه لو تكلف الحج وخاطر بنفسه وتحمل المشقة التي لم يكلف بها ، فإنه وان صح حجة إلا انه لا يجزئه عن حج الإسلام ، من حيث عدم حصول شرط الوجوب ، بعين ما قالوه في المتسكع الذي لا يملك زادا ولا راحلة. وشيخنا الشهيد يقول بصحة الحج واجزائه ويجعله من قبيل تكلف تحصيل الزاد والراحلة الغير الواجبين عليه لا من قبيل المتسكع الغير المالك لهما.

بل ظاهر كلامه في المدارك يرجع الى ما ذكره شيخنا الشهيد (قدس‌سره) فإنه متى كان اعتبار الاستطاعة انما هو من الميقات فعلى هذا لو تحمل المشقة وارتكب الخطر الذي لم يكلف به بل نهى عنه حتى وصل الميقات ، فإنه يجب عليه الحج ويجزئ عنه ، مع ان الأصحاب لا يقولون بذلك كما عرفت من كلام التذكرة ، وهو ظاهر كلام غيره ايضا ، لما صرحوا به في الزاد والراحلة اللذين هما من جملة الشرائط.

١٣٩

وما ذكره من عدم اعتبار الاستطاعة من البلد فإنما هو في صورة ما لو اتفق له الوصول الى الميقات بأي نحو كان ، فإنه لا يشترط في حقه ملك الزاد والراحلة في بلده كما ذكره الأصحاب ، لا بمعنى ان من كان بعيدا لا يمكنه المسير إلا بهذه الشروط المذكورة فإن استطاعته انما تحصل باعتبار الميقات ، فإنه باطل قطعا ، بل الاستطاعة في هذه الصورة مشترطة من البلد ، فان استطاع بحصول هذه الشرائط الخمسة المعدودة وجب عليه الحج والمسير اليه وإلا فلا. نعم يحصل الشك هنا في ان المتكلف للحج بالمشقة الموضوعة عنه في عدم إمكان المسير ، هل هو من قبيل المتسكع الذي لم يملك زادا ولا راحلة فلا يجزئ عنه ، كما هو المفهوم من كلام الأصحاب ، أو من قبيل تكلف تحصيل الزاد والراحلة وان لم يجب عليه تحصيلهما ، فحجة يكون صحيحا مجزئا عن حجة الإسلام ، كما هو ظاهر شيخنا الشهيد؟ اشكال.

المقام الثاني ـ لا خلاف ـ نصا وفتوى ـ في ان أمن الطريق من الخوف على النفس والبضع والمال شرط في وجوب الحج ، فلو خاف على نفسه من سبع أو لص أو عدو لم يلزمه الحج في ذلك العام. ولهذا جاز التحلل من الإحرام بمثل ذلك ، كما يأتي ـ ان شاء الله تعالى ـ في باب الإحصار والصد. وقد تقدم في الاخبار ما يدل على هذا الحكم كما في صحيحة محمد بن يحيى الخثعمي المتقدمة (١) وغيرها

والكلام في المقام يقع في مواضع الأول ـ لو كان في الطريق عدو لا يندفع الا بالمال فهل يسقط الحج وان أمكن تحمله أم يجب بذل المال مع المكنة؟ قولان : أولهما للشيخ وجماعة ، وثانيهما للمحقق والعلامة ومن تأخر عنهما.

ونقل عن الشيخ الاحتجاج على ذلك بوجوه : منها ـ ان تخلية السرب شرط في الوجوب ، وهو هنا منتف فينتفي المشروط.

__________________

(١) ص ٨٠ و ١٢٩.

١٤٠