الحدائق الناضرة - ج ١٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٢

الريق باقيا ظاهرا كثيرا بحيث يصدق عليه أكل الريق يمكن ذلك لا مجرد البلة. انتهى. وظاهر كلامه (قدس‌سره) المناقشة من حيث عدم صدق الأكل على بلع البلة فيكون مرجعه الى ما نقله العلامة عن بعض الجمهور.

وأنت خبير بأنه ان كان المستند هو ما أشار إليه المحقق المذكور من صدق الأكل فإنه لا فرق في ذلك بين ما كان باقيا في الفم أو بعد الإخراج منه مع انهم متفقون على جواز ابتلاع ما كان في الفم. ولو قيل بمنع صدق الأكل على ما كان في الفم عارضناه بتحريم ابتلاع ما يخرجه بلسانه من بين أسنانه من بقية الغذاء فإنهم قائلون بأنه موجب للإفطار لصدق الأكل ، إلا أن يجعل وجه الفرق بين الريق الذي في الفم والذي أخرج منه لزوم المشقة والحرج في ما كان في الفم لو لم يجز ابتلاعه وان صدق عليه الأكل لأنه لو انقطع عنه جف حلقه وضرره ظاهر.

وبالجملة فالظاهر عندي ان وجه الفرق الموجب عندهم لجواز ابتلاعه ما دام في الفم والإفطار به بعد الخروج من الفم إنما هو لما قدمنا ذكره من تحريم فضلة الإنسان من نفسه أو غيره والريق إنما يصدق عليه فضلة بعد انفصاله من الفم وخروجه.

لا يقال : انه يلزم على ما ذكرتم من وجه الفرق عدم فساد الصوم حيث انه ليس بأكل ولا شرب وان حرم.

لأنا نقول : لا يلزم من عدم كونه مأكولا صحة الصوم فإنهم صرحوا ببطلان الصوم بالغبار والدخان الغليظ مع انه ليس بمأكول ونحوهما غيرهما فيجوز أن يكون هذا من قبيله عندهم.

وبذلك يظهر لك ما في مناقشة المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) للعلامة (قدس‌سره) في عبارته الاولى من عدم التحريم في البلة لعدم صدق الأكل ، فإن الظاهر ان كلام العلامة إنما ابتنى على ما ذكرناه من تحريم فضلة الإنسان ولا ريب انه مع ثبوت التحريم فلا فرق بين قليلها وكثيرها ، نعم ما أورده عليهم من تجويز الأكل

٨١

بالقاشوقة والفاكهة والشربة وارد عليهم ومناف لكلامهم المدعى في التحريم وحينئذ فيرجع الكلام معهم إلى إثبات دعوى تحريم فضلة الإنسان.

قال المحقق المشار إليه أيضا بعد الكلام في ريق الإنسان نفسه : واما ريق غيره فقالوا أيضا انه حرام وما اعرف دليلهم وما رأيت دليل تحريم فضلات الحيوان أقول ـ وبالله عزوجل الثقة لكل مأمول ـ ان الذي ظهر لي من الأخبار التي عثرت عليها من ما يتعلق بهذه المسألة هو حل ما ادعوا تحريمه ، وها أنا أسوق لك جملة ما وقفت عليه من الاخبار لتنظر فيها بعين التأمل والاعتبار :

فمنها ـ ما رواه ثقة الإسلام في الكافي في الصحيح عن الحسن بن زياد الصيقل (١) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول مرت امرأة بذية برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يأكل وهو جالس على الحضيض فقالت يا محمد إنك لتأكل أكل العبد. الى أن قال عليه‌السلام قالت فناولني لقمة من طعامك فناولها فقالت لا والله إلا الذي في فيك فاخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اللقمة من فيه فناولها فأكلتها. قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) فما أصابها بذاء حتى فارقت الدنيا».

وما رواه في الكتاب المذكور (٢) في باب الإشارة والنص على ابى جعفر الثاني عليه‌السلام في حديث طويل يتضمن طعن اخوة الرضا عليه‌السلام وعمومته في الجواد عليه‌السلام بعد ولادته حيث انه كان حائل اللون وطلب القافة ليلحقوه بأبيه ، قال على بن جعفر راوي الحديث : «فقمت فمصصت ريق ابى جعفر عليه‌السلام ثم قلت له : أشهد أنك إمامي عند الله. الحديث» وفعل على بن جعفر (رضي‌الله‌عنه) ذلك بمحضر الرضا عليه‌السلام وتقريره له وعدم إنكاره عليه أظهر ظاهر في الجواز.

وروى الشيخ في التهذيب في الصحيح عن ابى ولاد الحناط (٣) قال : «قلت

__________________

(١) الوسائل الباب ٨ من آداب المائدة.

(٢) الأصول ج ١ ص ٣٢٢ الطبع الحديث.

(٣) الوسائل الباب ٣٤ من ما يمسك عنه الصائم.

٨٢

لأبي عبد الله عليه‌السلام انى أقبل بنتا لي صغيرة وأنا صائم فيدخل في جوفي من ريقها شي‌ء؟ قال : فقال لي : لا بأس ليس عليك شي‌ء».

وروى أيضا في الكتاب المذكور في الموثق عن أبى بصير (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الصائم يقبل امرأته؟ قال : نعم ويعطيها لسانه تمصه».

وروى فيه أيضا عن على بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام (٢) قال : «سألته عن الرجل الصائم إله أن يمص لسان المرأة أو تفعل المرأة ذلك؟ قال : لا بأس».

وروى السيد السعيد رضى الدين بن طاوس (قدس‌سره) في كتاب الملهوف على قتلي الطفوف (٣) عن الصادق عليه‌السلام «ان زين العابدين عليه‌السلام بكى على أبيه أربعين سنة صائما نهاره قائما ليله فإذا كان وقت إفطاره أتاه غلامه بطعامه وشرابه فيقول : قتل أبو عبد الله عليه‌السلام جائعا قتل أبو عبد الله عليه‌السلام عطشان فلا يزال يبكي حتى يبل طعامه بدموعه ويمزج شرابه بدموعه فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عزوجل». ولعل المتتبع للاخبار يقف على أمثالها أيضا.

وبذلك يظهر لك ما في حكمهم بتحريم فضلات الإنسان من الخروج عن مقتضى هذه الاخبار الواضحة البيان.

نعم يبقى الكلام في ما دلت عليه الأخبار الثلاثة من عدم إبطال الصوم بابتلاع ريق الغير ، فان ظاهر الأصحاب الإبطال بذلك مع ظهور الروايات في خلافه ، إذ من المعلوم وصول ريق الغير الى فم الصائم بالمص ، وأظهر منه قوله في صحيحة أبي ولاد «فيدخل في جوفي من ريقها شي‌ء».

واما ما أجابوا به عن روايتي أبي بصير وعلى بن جعفر ـ من أن المص لا يستلزم الابتلاع ، وعن صحيحة أبي ولاد من عدم الصراحة في تعمد الابتلاع فجاز ان يبلع شيئا من ريقها من غير شعور وتعمد ـ فلا يخفى ما فيه من البعد عن

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٣٤ من ما يمسك عنه الصائم.

(٣) ص ٨٧ طبع المطبعة الحيدرية في النجف الأشرف ، وهو نقل بالمعنى.

٨٣

ظاهر الأخبار المذكورة. على انه لو كان ما ذكروه في تأويل صحيحة أبي ولاد من الحمل على عدم التعمد صحيحا للزم الإبطال أيضا فإنه متى كان وصول الريق الى جوفه مبطلا فلا فرق فيه بين تعمده ولا وصوله من غير تعمد ، كما صرحوا به من أنه لو وضع في فمه شيئا من المفطرات عبثا ولعبا فابتلعه بغير اختيار فإنه يبطل صومه ، وسيأتيك في مسألة المضمضة عبثا ما يدل على ذلك.

وبالجملة فإن الأخبار المذكورة مع اتفاقها على الحكم المذكور لا معارض لها من الأخبار ، والى ما ذكرنا يميل كلام المحقق الأردبيلي أيضا في هذا المقام.

السادسة ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ابتلاع النخامة على أقوال ثلاثة ، إلا انه يجب أو لا بيان المعنى المراد من النخامة هنا : ظاهر كلام المحقق في الشرائع والعلامة في الإرشاد أن النخامة مختصة بما يخرج من الصدر دون ما ينزل من الدماغ حيث ذكرا النخامة ثم عطفا عليها ما استرسل من الدماغ ، وأطلق جماعة من الأصحاب النخامة عليهما ، قال الفيومي في المصباح : النخاعة بالضم ما يخرجه الإنسان من حلقه من مخرج الخاء المعجمة هكذا قيده ابن الأثير ، وقال المطرزي النخاعة هي النخامة ، وهكذا قال في العباب ، وزاد المطرزي : وهي ما يخرج من الخيشوم عند التنخع ، وكأنه مأخوذ من قولهم تنخع السحاب إذا قاء ما فيه من المطر لأن القي‌ء لا يكون إلا من الباطن ، وتنخع رمى بنخاعته. انتهى. وقال في مادة نخم : النخامة هي النخاعة وزنا ومعنى وتقدم. وقال في القاموس : والنخاعة بالضم النخامة أو ما يخرج من الصدر أو ما يخرج من الخيشوم. وقال ابن الأثير في النهاية : النخامة البزقة التي تخرج من أقصى الحلق ومن مخرج الخاء المعجمة.

وكلام الأصحاب هنا قد اختلف بما يرجع الى أقوال ثلاثة : أحدها ـ جواز ابتلاع ما يخرج من الصدر ما لم ينفصل عن الفم والمنع من ابتلاع ما يسترسل من الدماغ وان لم يصل الى الفم عمدا اما لو استرسل وتعدى الى الحلق فلا بأس. وهو ظاهر عبارتي الشرائع والإرشاد.

٨٤

وثانيها ـ جواز ابتلاعهما ما لم يصلا الى الفم والمنع منه متى وصلا اليه ، ذهب اليه الشهيدان.

وثالثها ـ جواز اجتلاب النخامة من الصدر والرأس وابتلاعهما ما لم ينفصلا عن فضاء الفم كالريق ، واليه ذهب الفاضلان في المعتبر والمنتهى واختاره في المدارك.

والذي وقفت عليه في هذه المسألة من الأخبار رواية غياث بن إبراهيم عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «لا بأس بأن يزدرد الصائم نخامته». وكل من هؤلاء على اختلافهم قد استندوا إلى الرواية.

وزاد في المدارك في الاستدلال على ما اختاره من القول الثالث ، قال : لنا ـ ان ذلك لا يسمى أكلا ولا شربا فكان سائغا تمسكا بمقتضى الأصل السالم من المعارض. ولنا أيضا ان النخامة مساوية للريق في عدم الوصول من خارج فوجب مساواتها له في الحكم.

واستدل عليه في المعتبر أيضا بان ذلك لا ينفك عنه الصائم إلا نادرا فوجب العفو عنه لعموم البلوى به.

أقول : ويمكن تأييده أيضا بما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان (٢) قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الرجل الصائم يقلس فيخرج منه الشي‌ء أيفطره ذلك؟ قال لا. قلت فان ازدرده بعد أن صار على لسانه؟ قال لا يفطر ذلك».

والقلس على ما ذكره ابن إدريس في السرائر من أحد الأقوال فيه وهو الذي اختاره انه خروج الطعام والشراب الى الفم من البطن أعاده صاحبه أو ألقاه ، نقل ذلك عن اليزيدي. ثم قال : وهذا أقوى من ما قاله الجوهري. لأنه قد نقل عن الجوهري قبل ذلك ان القلس بفتح القاف واللام والسين غير المعجمة ما خرج من الحلق مل‌ء الفم أو دونه وليس بقي‌ء فإن عاد فهو القي‌ء.

__________________

(١) الوسائل الباب ٣٩ من ما يمسك عنه الصائم.

(٢) الوسائل الباب ٢٩ من ما يمسك عنه الصائم.

٨٥

وحينئذ فإذا كان القلس الذي هو عبارة عن الطعام والشراب لا يكون ازدراده مبطلا بعد خروجه الى فضاء الفم فكيف النخامة؟ إلا ان المفهوم من كلامهم كما صرح به في المعتبر ان القلس متى اشتمل على شي‌ء من الغذاء فإنه يفطر بابتلاعه ، وهو تقييد لإطلاق الخبر بغير دليل.

نعم يبقى الكلام في دلالة خبر غياث على الفضلة المسترسلة من الدماغ وصدق النخامة عليها ، فان ظاهر كلام أهل اللغة المذكور إنما ينطبق على الصاعد من الصدر كما لا يخفى على المتأمل فيه ، وحينئذ فتكون الرواية مؤيدة للقول الأول ويبقى حكم ما ينزل من الدماغ خارجا عنها. إلا انه يمكن الاستدلال عليه بما ذكره في المدارك وما ذكرناه من صحيحة عبد الله بن سنان ، ويعضد ذلك أصالة صحة الصيام حتى يقوم الدليل على الابطال.

وكيف كان فالظاهر قوة القول الثالث والاحتياط لا يخفى.

قال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك بعد البحث في المسألة : إذا تقرر ذلك فان ابتلع النخامة حيث تحرم فان كان من خارج الفم وجبت الكفارات الثلاث لتحريم تناولها حينئذ على غير الصائم ، وكذا لو تناول نخامة غيره أو ريقه وان كان أحد الزوجين. وما ورد من تجويز الامتصاص (١) لا يستلزم الازدراد. ولو كان التناول من الفم حيث يحرم ففي وجوب الثلاث أو الواحدة نظر ، منشأه الشك في تحريم ذلك على غير الصائم ، والمتيقن هو وجوب الواحدة. انتهى.

أقول : ما ذكره (قدس‌سره) من تحريم التناول من خارج الفم ووجوب الكفارات الثلاث على الصائم مبنى على ما قدمنا نقله عنهم من تحريم فضلات الإنسان ، وقد عرفت ما فيه. وما ذكره من التأويل في حديثي امتصاص الصائم لسان غيره (٢) بعيد ، وكأنه غفل عن صحيحة أبي ولاد (٣) الصريحة في دخول ريق

__________________

(١) الوسائل الباب ٣٤ من ما يمسك عنه الصائم.

(٢ و ٣) ص ٨٢ و ٨٣.

٨٦

ابنته الى جوفه فلم يجب عنها بشي‌ء.

واما ما ذكره ـ من احتمال وجوب الكفارات الثلاث بناء على تحريم التناول من الفم كما هو القول الأول بناء على تحريم اردراد ذلك على غير الصائم ـ فهو مدفوع بالأصل وبما رواه الشيخ عن عبد الله بن سنان (١) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : من تنخع في المسجد ثم ردها في جوفه لم تمر بداء في جوفه إلا أبرأته».

السابعة ـ لو تمضمض فدخل الماء حلقه فإن أدخله عمدا فلا خلاف ولا إشكال في وجوب القضاء والكفارة ، وان سبقه لا عن تعمد فقد صرح الأصحاب بأنه ان كان ذلك في المضمضة للصلاة أو للتداوي فلا شي‌ء عليه وان كان للتبرد أو العبث فعليه القضاء خاصة ، ونقل عن الشيخ في التهذيب انه قال : المتمضمض والمستنشق قد بينا حكمهما انه إذا كان للصلاة فلا شي‌ء عليه من ما يدخل حلقه وان كان لغير الصلاة فدخل حلقه فعليه القضاء والكفارة. ونقل عن طائفة من الأصحاب الميل إلى انه إن توضأ لنافلة أفطر وان كان لفريضة فلا.

أقول : وإيجاب الشيخ الكفارة هنا لرواية سليمان بن حفص المروزي المتقدمة في صدر المسألة الثانية (٢) وقد عرفت ما فيها ، وظاهرها ترتب الكفارة على مجرد المضمضة والاستنشاق وان لم يسبق منهما شي‌ء إلى حلقه فلا يوافق مدعاه.

وقال العلامة في المنتهى : اما لو تمضمض فدخل الماء الى حلقه فان تعمد ابتلاع الماء وجب عليه القضاء والكفارة ، ولو تمضمض للصلاة فلا قضاء عليه ولا كفارة ، وان كان للتبرد أو العبث وجب عليه القضاء خاصة وهو قول علمائنا. الى أن قال : لنا ـ انه إذا توضأ للصلاة فعل فعلا مشروعا فلا يترتب عليه عقوبة لعدم التفريط شرعا ، ولأنه وصل الى حلقه من غير قصد فأشبه ما لو طارت ذبابة إلى حلقه ، اما إذا كان متبردا أو عابثا فلأنه فرط بتعريض الصوم للإفساد

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٠ من أحكام المساجد.

(٢) ص ٧٢.

٨٧

فلزمته العقوبة للتفريط ، ولأنه وصل بفعل منهي عنه فأشبه التعمد ، ولا كفارة لأنه غير قاصد للإفساد والهتك. انتهى.

أقول : ما يظهر منه ـ من تحريم المضمضة للتبرد والعبث حيث انه استدل على وجوب القضاء بالتحريم ـ لا اعرف له وجها ولا عليه دليلا مع انه في الإرشاد جعل العبث في قرن المضمضة للصلاة والتداوي وخص القضاء بالمضمضة للتبرد.

ثم انه لا يخفى ما في تعليلاته لوجوب القضاء في الأخيرين وعدمه في الأول من الوهن وعدم الصلوح لابتناء الأحكام الشرعية عليها وان كانوا يزعمونها عللا عقلية ، فإن الأحكام إنما تبنى على النصوص الواضحة من الكتاب أو السنة لا على أمثال هذه التخريجات.

قال المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) بعد ان نقل عن العلامة وجوب القضاء في صورتي التبرد والعبث : والذي يقتضيه الأصول عدم القضاء حينئذ وعدم التحريم ولعله (قدس‌سره) أراد انه من حيث سبقه الى حلقه من غير اختيار فهو معذور كالناسي. إلا أن هذا لا يطرد له فان روايات المسألة قد صرح جملة منها بالقضاء في الصورة المذكورة بل في صورة وضوء النافلة (١) وقد ورد في ناسي النجاسة في الصلاة انه يعيد عقوبة لنسيانه وعدم تحفظه (٢).

أقول : والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) «في الصائم يتوضأ للصلاة فيدخل الماء في حلقه؟ قال ان كان وضوؤه لصلاة فريضة فليس عليه قضاء وان كان وضوؤه لصلاة نافلة فعليه القضاء».

__________________

(١ و ٣) التهذيب ج ٤ ص ٣٢٤ الطبع الحديث وفي الوسائل الباب ٢٣ من ما يمسك عنه الصائم.

(٢) الوسائل الباب ٤٢ من النجاسات.

٨٨

وما رواه الكليني والشيخ عن يونس (١) قال : «الصائم في شهر رمضان يستاك متى شاء ، وان تمضمض في وقت فريضة فدخل الماء حلقه فلا شي‌ء عليه وقد تم صومه ، وان تمضمض في غير وقت فريضة فدخل الماء حلقه فعليه الإعادة ، والأفضل للصائم أن لا يتمضمض».

وما رواه الشيخ والصدوق عن سماعة في الموثق (٢) قال : «سألته عن رجل عبث بالماء يتمضمض به من عطش فدخل حلقه؟ قال عليه قضاؤه ، وان كان في وضوء فلا بأس».

وما رواه الكليني في الحسن أو الصحيح عن حماد عن من ذكره عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) «في الصائم يتمضمض ويستنشق؟ قال نعم ولكن لا يبالغ».

وما رواه الشيخ في الموثق عن عمار الساباطي (٤) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يتمضمض فيدخل في حلقه الماء وهو صائم؟ قال ليس عليه شي‌ء إذا لم يتعمد ذلك. قلت فان تمضمض الثانية فدخل في حلقه الماء؟ قال ليس عليه شي‌ء قلت تمضمض الثالثة؟ قال فقال قد أساء وليس عليه شي‌ء ولا قضاء».

وما رواه الكليني عن زيد ـ وهو زيد الشحام كما ذكره في التهذيب ـ عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٥) «في الصائم يتمضمض؟ قال لا يبلع ريقه حتى يبزق ثلاث مرات».

ومنها ـ رواية سليمان بن حفص المروزي المتقدمة في المسألة الثانية (٦) وبها احتج من أوجب الكفارة.

أقول : وما دلت عليه صحيحة الحلبي من عدم القضاء لو كان في وضوء الفريضة هو مستند الأصحاب في ما قدمنا نقله عنهم ، ومثلها رواية يونس وقوله : «وان

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٢٣ من ما يمسك عنه الصائم.

(٥) الوسائل الباب ٣١ من ما يمسك عنه الصائم.

(٦) ص ٧٢.

٨٩

تمضمض في وقت فريضة» أي لأجل فريضة وهو من ما لا خلاف ولا اشكال فيه. وما دلت عليه من القضاء في وضوء صلاة النافلة يدل بمفهوم الأولوية على وجوب القضاء في التبرد والعبث. وقوله في رواية يونس «وان تمضمض في غير وقت فريضة» أي لغير فريضة وهو أعم من أن يكون لنافلة أو عبثا أو تبردا ، فهو صالح للدلالة على ما ذكره الأصحاب من وجوب القضاء في العبث والتبرد ، وأصرح منه في ذلك ما دلت عليه موثقة سماعة ، وما دلت عليه الموثقة المذكورة من قوله «وان كان في وضوء فلا بأس» ينبغي حمل الوضوء هنا على وضوء الفريضة جمعا بينها وبين صحيحة الحلبي.

بقي الكلام في موثقة عمار فإنها بظاهرها وإطلاقها منافية للاخبار وكلام الأصحاب ، والواجب حملها على وضوء الفريضة جمعا بينها وبين الاخبار المذكورة.

تنبيهات

الأول ـ لا يخفى ان المفهوم من كلام الأصحاب هو عدم القضاء في الوضوء مطلقا لفريضة كان أو نافلة ولا سيما ما سمعت من تعليل صاحب المنتهى المتقدم بأنه فعل فعلا مشروعا ، مع ان صحيحة الحلبي صريحة في القضاء إذا كان في وضوء النافلة ونحوها عموم رواية يونس كما أشرنا إليه آنفا ، والجمع بين كلامهم (رضوان الله عليهم) والاخبار لا يخلو من اشكال.

الثاني ـ قد أضاف الاستنشاق الى المضمضة هنا جملة من الأصحاب ، وظاهر العلامة في المنتهى التردد في ذلك حيث قال : حكم الاستنشاق حكم المضمضة في ذلك على تردد لعدم النص فيه ونحن لا نقول بالقياس.

وأنت خبير بما فيه فان مقتضى التردد في جميع المواضع هو تعارض الأدلة لا عدم الدليل ، وهو هنا إنما أورد ما يدل على العدم من عدم النص وبطلان القياس على المضمضة ، وحينئذ فما وجه التردد؟ بل الواجب الجزم بالعدم لا التردد

٩٠

قال في المدارك : ولا يلحق بالمضمضة الاستنشاق في هذا الحكم قطعا فلا يجب بما سبق منه قضاء ولا كفارة ، بل لو قيل ان تعمد إدخال الماء من الأنف غير مفسد للصوم لم يكن بعيدا. انتهى. وهو جيد.

الثالث ـ ظاهر كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) جواز المضمضة للصائم وغيره ، بل قال في المنتهى : ولو تمضمض لم يفطر بلا خلاف بين العلماء سواء كان في الطهارة أو غيرها. وقد عرفت من ما قدمنا من عبارته المنقولة من المنتهى ما يشعر بالتحريم لغير الوضوء ومثله ما صرح به الشيخ في الاستبصار فإنه ـ بعد أن نقل رواية زيد الشحام الدالة على انه لا يبلع ريقه حتى يبزق ثلاث مرات ـ قال قال محمد بن الحسن : هذا الخبر مختص بالمضمضة إذا كانت لأجل الصلاة فاما للتبرد فإنه لا يجوز على حال ، يدل على ذلك ما رواه محمد بن يعقوب. ثم أورد رواية يونس المتقدمة ، مع ان هذه الرواية كما ترى لا تدل على ما ذكره وإنما تضمنت ان الأفضل للصائم أن لا يتمضمض وأين هذا من التحريم؟ وكيف كان فالأظهر حمل رواية الشحام المذكورة على الاستحباب ، ويعضدها قوله في رواية يونس «والأفضل» يعني في غير وضوء الفريضة والنافلة ، لأن ما دل من الأخبار على استحباب المضمضة في الوضوء مطلقا أظهر من هذه الرواية فتحمل على الوضوء للتبرد.

الرابع ـ ظاهر جملة من الأصحاب : منهم ـ السيد السند في المدارك وغيره إلحاق دخول الماء من المضمضة للتداوي أو لإزالة النجاسة بالمضمضة التي في الوضوء الواجب وانه لا يوجب القضاء ، وزاد في التذكرة المضمضة من أكل الطعام. والجميع لا يخلو من شوب الإشكال لدلالة صحيحة الحلبي على وجوب القضاء في وضوء النافلة ففي هذه الأشياء ينبغي أن يكون بطريق أولى ، ولدخول هذه الأمور في عموم قوله في رواية يونس «وان تمضمض في غير وقت فريضة فعليه الإعادة». والمفهوم من كلامهم تعليل ذلك بأنه متى كان الوضع في الفم لغرض صحيح فإنه

٩١

مأذون في الفعل ومتى كان مأذونا في الفعل ولم يتعمد الابتلاع فلا شي‌ء عليه. وفيه ما عرفت من ظواهر الأخبار المشار إليها وان غاية الاذن في الفعل عدم التأثيم بذلك لا رفع القضاء أيضا. وقد تلخص من ما حققناه في المقام ان سقوط القضاء إنما هو في ما إذا سبق الماء الى حلقه من الوضوء الواجب واما ما عداه فالواجب القضاء.

الخامس ـ ينبغي أن يعلم ان وجوب القضاء في بعض افراد هذه المسألة أو مع الكفارة إنما هو في ما إذا كان في واجب معين ، لأن ما ليس بمعين متى فسد صومه وجب الإتيان ببدله ولا يسمى ذلك قضاء ، لأن القضاء عندهم اسم لفعل مثل المقضي بعد خروج وقته وغير المتعين وقته متسع.

الثامنة ـ من فعل المفطر قبل مراعاة الفجر متعمدا ـ بمعنى انه استصحب بقاء الليل ففعل المفطر ولم يراجع الفجر مع إمكان ذلك فصادف فعله النهار ـ فإنه يجب عليه القضاء دون الكفارة متى كان ذلك في صوم الواجب المعين وإلا بطل واستأنف يوما آخر غيره.

اما سقوط الكفارة فللأصل وعدم الدليل على ما يخرج عنه ، ويعضده اباحة الفعل كما ذكروه من أنه لا خلاف في جواز فعل المفطر مع الظن الحاصل من استصحاب بقاء الليل مع الشك في طلوع الفجر فينتفي المقتضي للتكفير.

واما وجوب القضاء فللأخبار ، ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي عن أبى عبد الله عليه‌السلام (١) ورواه الكليني أيضا في الصحيح عندي الحسن على المشهور عنه عن أبى عبد الله عليه‌السلام (٢) «انه سئل عن رجل تسحر ثم خرج من بيته وقد طلع الفجر وتبين؟ قال يتم صومه ذلك ثم ليقضه ، وان تسحر في غير شهر رمضان بعد الفجر أفطر. ثم قال : ان أبى كان ليلة يصلى وأنا آكل فانصرف فقال اما جعفر فقد أكل وشرب بعد الفجر فأمرني فأفطرت ذلك اليوم في غير شهر رمضان».

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٤٤ و ٤٥ من ما يمسك عنه الصائم.

٩٢

وما رواه الكليني والشيخ عنه في الموثق عن سماعة بن مهران (١) قال : «سألته عن رجل أكل وشرب بعد ما طلع الفجر في شهر رمضان؟ فقال ان كان قام فنظر فلم ير الفجر فأكل ثم عاد فرأى الفجر فليتم صومه ولا اعادة عليه. وان كان قام فأكل وشرب ثم نظر الى الفجر فرأى انه قد طلع فليتم صومه ويقضى يوما آخر لأنه بدأ بالأكل قبل النظر فعليه الإعادة».

وما رواه الكليني عن إسحاق بن عمار (٢) قال : «قلت لأبي إبراهيم عليه‌السلام يكون على اليوم واليومان من شهر رمضان فأتسحر مصبحا أفطر ذلك اليوم واقضى مكان ذلك يوما آخر أو أتم على صوم ذلك اليوم واقضى يوما آخر؟ فقال لا بل تفطر ذلك اليوم لأنك أكلت مصبحا وتقضى يوما آخر».

وما رواه ايضا عن على بن أبي حمزة عن أبي إبراهيم عليه‌السلام (٣) قال : «سألته عن رجل شرب بعد ما طلع الفجر وهو لا يعلم في شهر رمضان؟ قال يصوم يومه ذلك ويقضى يوما آخر ، وان كان قضاء لرمضان في شوال أو غيره فشرب بعد الفجر فليفطر يومه ذلك ويقضى».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن إبراهيم بن مهزيار (٤) قال : «كتب الخليل ابن هاشم الى ابى الحسن عليه‌السلام : رجل سمع الوطء والنداء في شهر رمضان فظن ان النداء للسحور فجامع وخرج فإذا الصبح قد أسفر؟ فكتب بخطه عليه‌السلام : يقضى ذلك اليوم ان شاء الله تعالى».

فوائد

الأولى ـ المشهور في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) تقييد الحكم المذكور بصورة القدرة على المراعاة فينتفي عند عدمها وجوب القضاء ، فلو ترك المراعاة لعجزه عنها وتناول فصادف النهار فإنه لا يجب عليه القضاء للأصل واختصاص

__________________

(١ و ٤) الوسائل الباب ٤٤ من ما يمسك عنه الصائم.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٤٥ من ما يمسك عنه الصائم.

٩٣

روايات القضاء بالقادر على المراعاة فيبقى ما عداه على حكم الأصل. وهو جيد إلا ان الاحتياط في القضاء.

الثانية ـ المستفاد من كلام جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) انتفاء القضاء إذا تناول المفطر بعد المراعاة وان ظهر كون تناوله بعد الصبح ، وعليه تدل موثقة سماعة المتقدمة.

ومثلها ما رواه الصدوق في الصحيح عن معاوية بن عمار (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام آمر الجارية لتنظر الى الفجر فتقول لم يطلع بعد فآكل ثم انظر فأجده قد كان طلع حين نظرت؟ قال اقضه اما انك لو كنت أنت الذي نظرت لم يكن عليك شي‌ء». ومثله رواه الكليني عن معاوية بن عمار في الصحيح أو الحسن (٢)

الثالثة ـ قال الفاضل الخراساني في الذخيرة : واعلم ايضا ان مقتضى صحيحة الحلبي المذكورة ان من تناول المفطر في غير شهر رمضان بعد طلوع الفجر أفسد صومه سواء كان الصوم واجبا أو مندوبا وسواء تناول المفطر بعد المراعاة أم قبلها. وبذلك صرح المصنف وغيره ، ويدل عليه أيضا ما رواه الكليني. ثم نقل موثقة إسحاق بن عمار المتقدمة ثم أردفها برواية على بن أبي حمزة المتقدمة أيضا.

أقول : في شمول الروايات المذكورة للإطلاق الثاني نظر : أما رواية الحلبي فإن صدرها ظاهر في عدم المراعاة لأن وجوب القضاء في شهر رمضان انما يترتب على عدم المراعاة كما عرفت في سابق هذه الفائدة ، والكلام في عجزها جار على هذا الوجه أيضا ، فيكون الأمر بالإفطار في غير شهر رمضان إنما هو في صورة عدم المراعاة. ومثله الكلام في رواية على بن أبي حمزة فإن صدرها متضمن لوجوب القضاء في صوم شهر رمضان وهو لا يكون إلا مع عدم المراعاة ، وعليه يبنى عجزها لأن المسألة واحدة وانما وقع الترديد في كون ذلك الصوم من شهر رمضان أو من قضائه. واما موثقة إسحاق بن عمار فظاهر سياقها ايضا هو الإفطار مع عدم

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٤٦ من ما يمسك عنه الصائم.

٩٤

المراعاة أيضا فلو قيل بصحة الصوم مع المراعاة كما في شهر رمضان لم يكن بعيدا.

الرابعة ـ استظهر السيد السند في المدارك إلحاق الواجب المعين بصوم شهر رمضان في الحكم المذكور ، والظاهر انه للاشتراك في التعين ، ونفى عنه البعد صاحب الذخيرة ، وهو مشكل لعدم الدليل وعدم جواز بناء الأحكام على المشابهة والمشاركة. اللهمّ إلا أن يقال انه من باب تنقيح المناط ، وهو متوقف على عدم الخصوصية لشهر رمضان بذلك وعدم العلم بالخصوصية لا يدل على العدم.

الخامسة ـ لو أفطر إخلادا إلى خبر الغير بعدم طلوع الفجر مع القدرة على المراعاة ثم تبين انه بعد الصبح فلا خلاف ولا إشكال في وجوب القضاء وهو معلوم من ما تقدم ، وعليه تدل صريحا صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة ومثلها صحيحته الثانية (١) وإطلاق كلامهم يقتضي عدم الفرق في المخبر بين الواحد والمتعدد.

ونقل عن المحقق الشيخ على انه استقرب سقوط القضاء لو كان المخبر عدلين لان اخبار العدلين حجة شرعية ، ونفى عنه البأس شيخنا الشهيد الثاني ، قال : والخبر لا ينافيه لأنه فرض فيه كون المخبر واحدا. واليه جنح سبطه السيد السند في المدارك أيضا.

قال الفاضل الخراساني في الذخيرة بعد نقل ذلك عن المحقق المذكور : وهو حسن ، لا لما ذكره لعدم وضوح مستند حجية البينة مطلقا بحيث يشمل محل البحث بل للأصل وعدم شمول ما هو مستند القضاء لهذا الموضع ، فان بعضها مختص بإخبار الجارية والمتبادر من الباقي غير صورة اخبار الغير ، بل إثبات القضاء في صورة اخبار العدل الواحد أيضا محل اشكال. انتهى.

وفيه انه لا يخلو اما ان يكون اخبار العدلين هنا حجة شرعية فيكون عدم القضاء إنما هو لذلك ويكون بمنزلة ما لو راعى بنفسه ، أو لا يكون حجة بل يكون في حكم العدم وحينئذ فيرجع الى استصحاب الليل كما تقدم فيجب القضاء البتة ،

__________________

(١) ص ٩٤.

٩٥

وبالجملة فإنه متى الغى حجية اخبار العدلين فكيف يتمسك بالأصل وعدم وجود الدليل على القضاء في صورة اخبار العدلين أو العدل والحال ان أخبارهما عنده ليس بحجة بل هو في حكم العدم؟ ولا شك انه متى الغى أخبارهما رجع أكله إلى استصحاب الليل وقد ثبت وجوب القضاء بذلك.

والأصح ما ذكره المحقق المذكور ومن تبعه من الاعتماد على اخبار العدلين بل العدل الواحد أيضا ، فإن المستفاد من الأخبار الاعتماد على خبر العدل الثقة في الأمور المطلوب فيها العلم فليكن هذا منها.

ومن الاخبار المذكورة ما رواه الشيخ عن إسحاق بن عمار (١) قال : «سألته عن رجل كانت له عندي دنانير وكان مريضا فقال لي ان حدث بي حدث فأعط فلانا عشرين دينارا وأعط أخي بقية الدنانير. فمات ولم أشهد موته فأتاني رجل مسلم صادق فقال لي انه أمرني أن أقول لك : انظر الدنانير التي أمرتك أن تدفعها الى أخي فتصدق منها بعشرة دنانير اقسمها في المسلمين. ولم يعلم أخوه ان عندي شيئا؟ فقال ارى ان تصدق منها بعشرة دنانير كما قال». وفيه دلالة على ثبوت الوصية بقول الثقة.

وما رواه الشيخ في التهذيب بسند فيه العبيدي ـ والصدوق بسنده الى ابن أبى عمير عن هشام بن سالم ـ عن أبى عبد الله عليه‌السلام (٢) في حديث قال عليه‌السلام فيه «ان الوكيل إذا وكل ثم قام عن المجلس فأمره ماض ابدا والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافه بالعزل عن الوكالة».

والأصحاب (رضوان الله عليهم) قد صرحوا في هذا الموضع بأنه لا ينعزل إلا مع العلم وحينئذ فالخبر مؤذن بان اخبار الثقة مفيد للعلم.

ونحو ذلك ايضا ما ورد في الاخبار من جواز وطء الأمة بغير استبراء إذا

__________________

(١) الوسائل الباب ٩٧ من الوصايا ، والرواية عن ابى عبد الله (ع).

(٢) الوسائل الباب ٢ من الوكالة.

٩٦

كان البائع عدلا مأمونا وأخبر بالاستبراء (١) والاخبار الدالة على الاعتماد في الأوقات المشترط فيها العلم عندهم على أذان الثقة (٢) ونحو ذلك من ما هو متكرر في جملة من الأحكام التي لا تحضرني الآن على الخاطر ، وبه يعلم افادة قول الثقة العلم فيكون الكلام في ما نحن فيه من ذلك القبيل.

السادسة ـ لو أخبره مخبر بطلوع الفجر فظن كذبه وأكل ثم ظهر صدقه مع القدرة على المراعاة فقد قطع الأصحاب بوجوب القضاء ايضا دون الكفارة ، اما عدم وجوب الكفارة فلما تقدم ، ووجوب القضاء معلوم من ما سبق من حيث بنائه على استصحاب الليل.

ويدل على خصوص المسألة ما رواه الشيخ في الصحيح عن العيص بن القاسم (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل خرج في شهر رمضان وأصحابه يتسحرون في بيت فنظر الى الفجر فناداهم فكف بعضهم وظن بعضهم انه يسخر فأكل؟ قال يتم صومه ويقضى».

ونحوه ما في كتاب الفقه الرضوي (٤) حيث قال : ولو ان قوما مجتمعين سألوا أحدهم أن يخرج وينظر هل طلع الفجر؟ ثم قال قد طلع الفجر. فظن بعضهم انه يمزح فأكل وشرب كان عليه قضاء ذلك اليوم.

واستقرب العلامة في المنتهى والشهيدان وجوب القضاء والكفارة لو كان المخبر عدلين للحكم بقولهما شرعا فيكون كتعمد الإفطار بعد طلوع الفجر.

أقول : ولا يبعد ايضا القول بذلك في خبر العدل لما عرفت من الاخبار التي قدمناها وان كان المشهور بين أصحابنا عدمه.

__________________

(١) الوسائل الباب ١١ من بيع الحيوان.

(٢) الوسائل الباب ٣ من الأذان والإقامة.

(٣) الوسائل الباب ٤٧ من ما يمسك عنه الصائم.

(٤) مستدرك الوسائل الباب ٣٢ من ما يمسك عنه الصائم.

٩٧

السابعة ـ لو أفطر تقليدا ان الليل دخل ثم تبين فساد الخبر فقد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بوجوب القضاء عليه خاصة.

قال السيد السند في المدارك بعد ذكر ذلك : هذا الإطلاق مشكل لأن المفطر ان كان ممن لا يسوغ له التقليد فينبغي ان يكون عليه القضاء والكفارة ، وان كان ممن يسوغ له ذلك اتجه الحكم بسقوطهما لاستناد فعله إلى اذن الشارع على هذا. التقدير. إلا أن يقال ان ذلك لا يقضى سقوط القضاء كما في تناول المفطر قبل مراعاة الفجر. وهو جيد لو ثبت دليل الوجوب هنا كما ثبت هناك. انتهى. وهو جيد.

وما اعترضه به الفاضل الخراساني في الذخيرة ـ حيث قال بعد نقله : وفيه تأمل فإن مقتضى كون المفطر ممن لا يسوغ له التقليد ترتب الإثم على الإفطار لا القضاء والكفارة ، ولا يبعد ان يقال ان حصل الظن باخبار المخبر اتجه سقوط القضاء والكفارة لصحيحة زرارة المذكورة في المسألة الآتية (١) ولا يبعد انتفاء الإثم أيضا وإلا فالظاهر ترتب الإثم لقوله تعالى (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) (٢) فان مقتضاها وجوب تحصيل العلم أو الظن بالامتثال وهو منتف في الفرض المذكور ، واما وجوب القضاء ففيه تأمل لعدم دليل دال عليه وعدم الاستلزام بين حصول الإثم ووجوب القضاء. انتهى ـ فعندي فيه نظر وذلك فان المعلوم من الاخبار وكلام الأصحاب ان وقت الغروب الموجب للصلاة والإفطار لا بد فيه من العلم واليقين بملاحظة السبب الموجب للغروب الذي هو سقوط القرص أو زوال الحمرة ، فلو صلى المكلف قبل ذلك أو أفطر الصائم مع تمكنه من المراعاة وظهر كون ذلك قبل دخول الوقت وجب عليه إعادة الصلاة ووجب عليه القضاء والكفارة في إفطاره لإفطاره نهارا

__________________

(١) تأتى ص ١٠٢.

(٢) سورة البقرة الآية ١٨٤.

٩٨

مع إمكان المراعاة ، فيدخل تحت الأخبار الدالة على ان من أفطر عامدا وجب عليه القضاء والكفارة ، ومنها صحيحة ابن سنان (١) «في رجل أفطر في شهر رمضان متعمدا يوما واحدا من غير عذر؟ قال يعتق نسمة أو يصوم شهرين. الحديث». ونحوه غيره. نعم لو كان في السماء علة من غيم ونحوه تمنع من معرفة الوقت فإنه يرجع الى الظن لتعذر العلم حينئذ ، وحينئذ فهذا المفطر بمجرد اخبار الغير مع تمكنه من المراعاة وان حصل له ظن باخبار الغير متى ظهر كون إفطاره نهارا يجب عليه القضاء والكفارة ، لما عرفت من أن الشارع قد حرم الإفطار في الآية الشريفة (٢) حتى يدخل الليل يقينا أو ظنا مع تعذر اليقين.

ومبنى كلام هذا الفاضل على الاكتفاء بالظن مطلقا ، وهو غلط محض فان البناء على الظن في جواز الصلاة والإفطار إنما هو مع تعذر حصول العلم لغيم ونحوه فيبني على الظن لا انه يكفى الظن مطلقا ولو باخبار الغير مع التمكن من المراعاة. وصحيحة زرارة التي استند إليها وتوهم منها هذا الوهم سيأتي ان شاء الله تعالى تحقيق القول في معناها بما يظهر منه فساد توهمه.

واعلم ان إطلاق كلام أكثر الأصحاب يقتضي عدم الفرق بين كون المخبر فاسقا أو عدلا ولا بين كونه واحدا أو متعددا.

وقطع المحقق الشيخ على بأنه لو شهد بالغروب عدلان ثم بان كذبهما فلا شي‌ء على المفطر وان كان ممن لا يجوز له التقليد لأن شهادتهما حجة شرعية.

واستشكله في المدارك بانتفاء ما يدل على جواز التعويل على البينة على وجه العموم خصوصا في موضع يجب فيه تحصيل اليقين.

وقال الفاضل الخراساني في الذخيرة بعد نقل كلام المدارك : وهو حسن إلا ان جعل محل البحث من ما يجب فيه تحصيل اليقين محل تأمل لما ذكرنا من دلالة

__________________

(١) الوسائل الباب ٨ من ما يمسك عنه الصائم.

(٢) وهي قوله تعالى في سورة البقرة الآية ١٨٤ : «... ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ».

٩٩

صحيحة زرارة على جواز الاكتفاء بالظن ، وحينئذ فالظاهر جواز التعويل على شهادة العدلين إلا إذا لم يحصل الظن بشهادتهما. انتهى.

أقول : كلامه هنا مبنى على ما قدمنا نقله عنه وهو باطل بما عرفت وستعرف ان شاء الله تعالى.

ثم أقول : لا يخفى ان كلام المحقق الشيخ على لا يخلو من قوة لتأيده بالأخبار التي قدمناها دالة على الاكتفاء بقول العدل الواحد في مقام العلم ، بل لو قيل بالاكتفاء بالواحد لكان قويا لما عرفت.

الثامنة ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه يجوز الإفطار عند ظن الغروب إذا لم يكن للظان طريق الى العلم.

ثم ان القائلين بالجواز هنا قد اختلفوا في وجوب القضاء وعدمه إذا انكشف فساد الظن المذكور ، فنقل عن الشيخ في جملة من كتبه وابن بابويه في من لا يحضره الفقيه وجمع من الأصحاب القول بعدم الوجوب وهو اختيار السيد السند في المدارك وغيره من متأخري المتأخرين ، وعن الشيخ المفيد والمرتضى وابى الصلاح القول بالوجوب وهو اختيار المحقق في المعتبر وقواه العلامة في المنتهى وتردد في المختلف ، وقال ابن إدريس : ومن ظن ان الشمس قد غابت لعارض يعرض في السماء من ظلمة أو قتام ولم يغلب على ظنه ذلك ثم تبين الشمس بعد ذلك فالواجب عليه القضاء دون الكفارة ، وان كان مع ظنه غلبة قوية فلا شي‌ء عليه من قضاء ولا كفارة لأن ذلك فرضه لان الدليل قد فقد فصار تكليفه في عبادته غلبة ظنه فإن أفطر لا عن امارة ولا ظن فيجب عليه القضاء والكفارة.

والذي وقفت عليه من الاخبار في هذه المسألة روايات : منها ما رواه الكليني والشيخ ـ بسند فيه محمد بن عيسى عن يونس عن ابى بصير وسماعة وفي سند آخر عن سماعة ـ عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) «في قوم صاموا شهر رمضان فغشيهم سحاب اسود عند

__________________

(١) الوسائل الباب ٥٠ من ما يمسك عنه الصائم.

١٠٠