الحدائق الناضرة - ج ١٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٢

بل رواية ابن سنان (١) التي هي الأصل في هذا الباب إنما تضمنت تعلق الكفارة بمن أفطر في شهر رمضان متعمدا من غير عذر ، والجهل بالحكم من أقوى الأعذار كما يدل عليه صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المتضمنة لحكم تزويج المرأة في عدتها (٢) حيث قال فيها «قلت فبأي الجهالتين أعذر جهالته ان ذلك محرم عليه أم جهالته انها في عدة؟ فقال احدى الجهالتين أهون من الأخرى : الجهالة بأن الله حرم ذلك عليه ، وذلك انه لا يقدر على الاحتياط معها. فقلت فهو في الأخرى معذور؟ قال نعم». واما الرواية فهي وان كانت لا تبلغ مرتبة الصحيح لكنها معتبرة الإسناد إذ ليس في طريقها من قد يتوقف في شأنه سوى على بن الحسن بن فضال ، وقال النجاشي انه كان فقيه أصحابنا بالكوفة ووجههم وثقتهم وعارفهم بالحديث والمسموع قوله فيه سمع منه شيئا كثيرا ولم يعثر له على زلة فيه ولا ما يشينه وقل ما يروى عن ضعيف. ويمكن أن يستدل على هذا القول ايضا بقول الصادق عليه‌السلام في صحيحة عبد الصمد بن بشير الواردة في من ليس قميصا في حال الإحرام (٣) «أي رجل ركب أمرا بجهالة فلا شي‌ء عليه». وغير ذلك من العمومات المتضمنة لعذر الجاهل. انتهى كلامه زيد إكرامه.

وفيه نظر من وجوه : الأول ـ ان ما استدل به على وجوب القضاء ـ من إطلاق الأمر بالقضاء عند عروض أحد الأسباب المقتضية لفساد الأداء فإنه يتناول العالم والجاهل ـ فيه أولا ـ انه لا يخفى ان جملة من الروايات المتضمنة للأمر بالقضاء قد اشتملت على قيد التعمد وان كان جملة أخرى مطلقة أيضا ، وهو قد اعترف بان التعمد إنما يتحقق مع العلم بكون ذلك الفعل مفسدا للصوم والمفطر جاهلا لا يصدق

__________________

(١) الوسائل الباب ٨ من ما يمسك عنه الصائم وستأتي ص ٦٣.

(٢) الوسائل الباب ١٧ من ما يحرم بالمصاهرة ونحوها.

(٣) الوسائل الباب ٤٥ من تروك الإحرام.

٦١

عليه انه تعمد الإفطار فلا يجب عليه القضاء كما لا يجب عليه الكفارة بالتقريب الذي ذكره ، وسيأتي لك نقل جملة من الأخبار التي تفصح عن صحة ما قلناه.

وثانيا ـ انه مع تسليم صحة ما ذكره من إطلاق الأمر من غير تقييد بالتعمد فتناول الأمر للجاهل ممنوع فانا لا نسلم تناول الأمر للجاهل لا في هذا الموضع ولا غيره إلا ما خرج بدليل خاص لما صرحوا به في جاهل الأصل من امتناع تكليف الغافل ، وهو (قدس‌سره) قد صرح بذلك في كتاب الصلاة في مبحث المكان واللباس حيث رجح صحة صلاة الجاهل بحكم الغصب كالجاهل بأصله ، فإنه قال في مبحث المكان ـ بعد نقل الاتفاق على صحة صلاة الجاهل بالغصب معللا له بان البطلان تابع للنهى وهو انما يتوجه الى العالم ـ ما لفظه : اما الجاهل بالحكم فقد قطع الأصحاب بأنه غير معذور وقوى بعض مشايخنا المحققين إلحاقه بجاهل الغصب لعين ما ذكر ولا يخلو من قوة. وقال في مبحث اللباس ـ بعد أن ذكر عدم بطلان صلاة جاهل الغصب ـ ما لفظه : ولا يبعد اشتراط العلم بالحكم ايضا لامتناع تكليف الغافل فلا يتوجه إليه النهي المقتضي للفساد. بل صرح بذلك قبل هذا المقام في مسألة الارتماس أيضا حيث نقل عن جده (قدس‌سره) ان المرتمس ناسيا يرتفع حدثه لعدم توجه النهي اليه وان الجاهل عامة ، ثم قال (قدس‌سره) وما ذكره (قدس‌سره) في حكم الناسي جيد لكن الأظهر مساواة الجاهل له لاشتراكهما في عدم توجه النهي إليهما. وحينئذ فكيف يدعى هنا ان الأمر بالقضاء يتناول العالم والجاهل مع فصله بينهما في هذه المواضع؟.

وثالثا ـ ان الرواية التي استند إليها في سقوط الكفارة دالة بعمومها على سقوط القضاء ايضا كما هو ظاهر ، مع تأيدها بالروايات المستفيضة الدالة على معذورية الجاهل كما تقدم في المقدمة الخامسة من مقدمات الكتاب (١) ومنها الروايتان المذكورتان هنا ، وحينئذ فمع تسليم ما منعناه أو لا نقول انه معارض بما دلت عليه

__________________

(١) ج ١ ص ٧٨.

٦٢

هذه الروايات ، والنسبة بين المتعارضين العموم من وجه ، وترجيح العمل بأحدهما على الآخر لا يخلو من اشكال فلا يتم ما ذكره.

الثاني ـ قوله في الجواب عن الإيراد الذي أورده على نفسه ـ انه لا دلالة في شي‌ء من الروايات التي وصلت إلينا من هذا الباب على تعلق الكفارة بالجاهل إذ الحكم وقع فيها معلقا على تعمد الإفطار. الى آخره ـ فان فيه انه لا ريب انه وان ورد التقييد بالتعمد في جملة من الاخبار إلا ان جملة من الاخبار قد وردت مطلقة خالية من قيد التعمد.

وبالجملة فإن الأخبار الواردة في هذا الباب بالنسبة إلى وجوب القضاء والكفارة جملة منها قد اشتملت على قيد تعمد الإفطار فيهما أو أحدهما وجملة قد أطلق فيها الحكم كذلك ، وظاهر كلام الأصحاب حمل مطلقها على مقيدها في الموضعين وبه يزول الإشكال من البين.

ولا بأس بإيراد بعض منها في المقام ليتبين به ما في كلام هؤلاء الأعلام :

فمنها موثقة عبد الرحمن بن ابى عبد الله البصري عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «سألته عن رجل أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا؟ قال يتصدق بعشرين صاعا ويقضى مكانه».

وصحيحته أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «سألته عن رجل أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا؟ قال عليه خمسة عشر صاعا لكل مسكين مد بمد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل».

وصحيحة عبد الله بن سنان عن أبى عبد الله عليه‌السلام (٣) «في رجل أفطر في شهر رمضان متعمدا يوما واحدا من غير عذر؟ قال يعتق نسمة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينا فان لم يقدر تصدق بما يطيق».

ورواية أحمد بن محمد بن أبى نصر عن المشرقي عن ابى الحسن عليه‌السلام (٤) قال :

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٨ من ما يمسك عنه الصائم.

٦٣

«سألته عن رجل أفطر من شهر رمضان أياما متعمدا ما عليه من الكفارة؟ فكتب عليه‌السلام من أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا فعليه عتق رقبة مؤمنة ويصوم يوما بدل يوم».

وموثقة سماعة (١) قال : «سألته عن رجل أتى أهله في شهر رمضان متعمدا فقال عليه عتق رقبة وإطعام ستين مسكينا وصيام شهرين متتابعين وقضاء ذلك اليوم ، واين له مثل ذلك اليوم؟».

وجعل الشيخ الواو في هذا الخبر بمعنى «أو» تارة وخصه اخرى بمن أتى أهله في حال يحرم الوطء فيها كالحيض أو الظهار قبل الكفارة كما دل عليه بعض الاخبار إلا ان صاحب الوسائل نقل هذا الخبر من نوادر أحمد بن محمد بن عيسى بلفظ «أو» عوض الواو في المواضع المذكورة.

فهذه جملة من الاخبار المشتملة على قيد التعمد في كل من القضاء والكفارة وبه يظهر لك ما في صدر كلام صاحب المدارك من دعواه إطلاق الأمر بالقضاء الشامل للجاهل مع اعترافه بان تعمد الجاهل ليس بعمد لأنه إنما يتحقق مع العلم بكون ذلك الفعل مفسدا للصوم كما تقدم.

ومنها ـ صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يعبث بأهله في شهر رمضان حتى يمني؟ قال عليه من الكفارة مثل ما على الذي يجامع».

وما رواه في الفقيه عن محمد بن النعمان عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «سئل عن رجل أفطر يوما من شهر رمضان؟ فقال كفارته جريبان من طعام وهو عشرون صاعا».

__________________

(١ و ٣) الوسائل الباب ٨ من ما يمسك عنه الصائم.

(٢) الوسائل الباب ٤ من ما يمسك عنه الصائم.

٦٤

وموثقة سماعة (١) قال : «سألته عن رجل لزق بأهله فأنزل؟ قال عليه إطعام ستين مسكينا أو يعتق رقبة».

ورواية عبد السلام بن صالح الهروي (٢) قال : «قلت للرضا عليه‌السلام يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد روى عن آبائك (عليهم‌السلام) في من جامع في شهر رمضان أو أفطر فيه ثلاث كفارات ، وروى عنهم أيضا كفارة واحدة ، فبأي الحديثين نأخذ؟ قال بهما جميعا : متى جامع الرجل حراما أو أفطر على حرام في شهر رمضان فعليه ثلاث كفارات : عتق رقبة وصيام شهرين متتابعين وإطعام ستين مسكينا وقضاء ذلك اليوم ، وان كان نكح حلالا أو أفطر على حلال فعليه كفارة واحدة وقضاء ذلك اليوم ، وان كان ناسيا فلا شي‌ء عليه». الى غير ذلك من الاخبار التي يقف عليها المتتبع في الموضعين.

وبذلك يظهر لك ان الاخبار بالنسبة إلى القضاء كالأخبار الواردة بالكفارة في التقييد في بعض منها بالتعمد والإطلاق في آخر ووجوب حمل مطلقها على مقيدها ، وبه يظهر لك ما في كلامه من الفرق بين المقامين.

الثالث ـ قوله في الاعتذار عن مخالفة اصطلاحه في العمل برواية زرارة وابى بصير المذكورة ـ بأنه ليس في طريقها من قد يتوقف في شأنه إلا على بن الحسن ابن فضال وقال النجاشي. إلى آخر ما ذكره ـ فان هذا من جملة المواضع التي كررنا الإشارة إليها في شرحنا على الكتاب من ما حصل له فيه من المخالفة والاضطراب ، فإنه مع عدم الموثق من قسم الضعيف وطعنه فيه ورميه بذلك متى احتاج الى العمل به تستر بهذه الأعذار الواهية ، وقد مر له في كتاب الصلاة ما يدل

__________________

(١) الوسائل الباب ٤ و ٨ من ما يمسك عنه الصائم. وليس فيها «أو يعتق رقبة» واللفظ هكذا : «قال عليه إطعام ستين مسكينا مد لكل مسكين» راجع التهذيب ج ٤ ص ٣٢٠ الطبع الحديث والوافي باب (تعمد الإفطار في شهر رمضان من غير عذر).

(٢) الوسائل الباب ١٠ من ما يمسك عنه الصائم.

٦٥

على الطعن في على بن الحسن المذكور في غير مقام ورد روايته ولكنه هنا حيث احتاج الى العمل بها اعتذر بما ذكره. والعجب انه في المقالة المتقدمة على هذه المقالة بلا فصل (١) نقل رواية عن على بن الحسن المذكور عن أبيه ثم أجاب عنها بان على بن الحسن وأباه فطحيان فلا يمكن التعويل على روايتهما ، وليس بين الكلامين إلا أسطر قليلة ، مع انه قد تقدم منه في كتاب الصلاة ـ في مسألة ما لو أهوى المأموم إلى الركوع والسجود قبل الامام ـ انه استدل برواية منقولة عن الحسن بن على بن فضال ثم قال : وهذه الرواية لا تقصر عن الصحيح إذ ليس في رجالها من قد يتوقف في شأنه إلا الحسن بن على بن فضال وقد قال الشيخ انه كان جليل القدر عظيم المنزلة زاهدا ورعا ثقة في رواياته وكان خصيصا بالرضا عليه‌السلام واثنى عليه النجاشي وقال انه كان فطحيا ثم رجع الى الحق (رضي‌الله‌عنه) انتهى. فانظر ـ رحمك الله ـ الى هذا الكلام وما فيه من اختلال النظام الذي يبعد من مثله من العلماء الاعلام وذوي النقض والإبرام ولكن ضيق الخناق في هذا الاصطلاح أوجب لهم الوقوع في مضيق الإلزام في غير مقام.

وبما ذكرنا من التحقيق في المسألة يظهر ان أظهر الأقوال في المسألة ما نقل عن ابن إدريس استنادا إلى الأدلة الدالة على معذورية الجاهل بالأحكام الشرعية على التفصيل الذي ذكرناه في المقدمة الخامسة من مقدمات الكتاب (٢).

وثانيها ـ أن يكون ناسيا لكونه صائما ، والظاهر انه لا خلاف نصا وفتوى في صحة صومه وانه لا يجب عليه قضاء ولا كفارة :

ومن الاخبار في ذلك ما رواه ثقة الإسلام في الصحيح عن الحلبي عن أبى عبد الله عليه‌السلام (٣) «انه سئل عن رجل نسي فأكل وشرب ثم ذكر؟ قال لا يفطر إنما هو شي‌ء رزقه الله فليتم صومه».

__________________

(١) في مسألة الحقنة بالجامد.

(٢) ج ١ ص ٧٨.

(٣) الوسائل الباب ٩ من ما يمسك عنه الصائم.

٦٦

وما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن قيس عن ابى جعفر عليه‌السلام (١) قال : «كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول من صام فنسي فأكل وشرب فلا يفطر من أجل أنه نسي فإنما هو رزق رزقه الله فليتم صومه».

وما رواه الصدوق في الموثق عن عمار بن موسى (٢) «انه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل ينسى وهو صائم فيجامع أهله؟ قال يغتسل ولا شي‌ء عليه».

وما رواه في الكافي عن داود بن سرحان عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) «في الرجل ينسى فيأكل في شهر رمضان؟ قال يتم صومه فإنما هو شي‌ء أطعمه الله إياه».

وما رواه الشيخ في التهذيب عن ابى بصير (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجل صام يوما نافلة فأكل وشرب ناسيا؟ قال يتم يومه ذلك وليس عليه شي‌ء». وقد تقدم في رواية عبد السلام بن صالح الهروي نحو ذلك (٥).

وإطلاق الاخبار وكلام الأصحاب يقتضي عدم الفرق في ذلك بين الصوم الواجب والمندوب ولا في الواجب بين المعين وغيره.

وأنت خبير بان مورد هذه الروايات وان كان الأكل والشرب والجماع خاصة إلا ان الأصحاب قاطعون بعموم الحكم في جميع مفسدات الصيام الآتية ان شاء الله تعالى ، والظاهر ان وجهه هو عدم توجه النهي إلى الناسي كما صرحوا به في بعض المواضع وهو كذلك. ويمكن الاستدلال على العموم بما في رواية عبد السلام بن صالح (٦) من التعبير بقوله «أفطر على حرام أو أفطر على حلال». بحمل الإفطار على ما يوجب الإفطار ، إلا ان مقابلته بالجماع ربما عين انصرافه إلى الأكل والشرب خاصة. وبالجملة فالظاهر انه لا إشكال في عموم الحكم لما ذكرنا كما عليه الأصحاب في هذا الباب.

وثالثها ـ أن يكون مكرها على الإفطار ، إما بان يوجر في حلقه ويوضع في

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٩ من ما يمسك عنه الصائم.

(٥ و ٦) ص ٦٥.

٦٧

فيه بغير اختياره ولا اشكال ولا خلاف في انه لا يفطر به ـ قيل وفي معناه من بلغ به الإكراه حدا رفع قصده ـ أو بان يتوعد على ترك الإفطار بما يكون مضرا به في نفسه أو من يجرى مجراه بحسب حاله مع قدرة المتوعد على فعل ما توعد به وشهادة القرائن بأنه يفعله به لو لم يفطر. ونقل عن الشيخ (قدس‌سره) في المبسوط انه مفسد لصومه.

واستدل على القول المشهور بالأصل السالم من المعارض ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». والمراد رفع حكمها ومن جملته القضاء وسقوط الكفارة.

وقال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ـ بعد قول المصنف : والإكراه على الإفطار غير مفسد ـ ما صورته : دليله واضح وهو عدم التكليف عقلا ونقلا مثل «وعن ما استكرهوا» (٢). ويؤيده ما يدل على وجوب الكفارة على المكره زوجته دونها سواء قلنا عليه كفارتها أيضا أم لا. الى أن قال : ويدل عليه ما يدل على جواز الأكل للتقية. ثم نقل جملة من الأحاديث الدالة على إفطار الصادق عليه‌السلام تقية مع أبى العباس (٣).

قالوا : وفي معنى الإكراه الإفطار في يوم يجب صومه للتقية والتناول قبل الغروب لأجل ذلك.

احتج الشيخ على ما نقل عنه بأنه مع التوعد مختار للفعل فيصدق عليه انه فعل المفطر اختيارا فوجب عليه القضاء.

والى هذا القول مال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك حيث قال بعد نقل الخلاف في المسألة : وأصحهما وجوب القضاء وان ساغ له الفعل لصدق تناول المفطر عليه باختياره. ثم قال مجيبا عن الخبر المتقدم : وقد تقرر في الأصول ان المراد

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٣٠ من الخلل الواقع في الصلاة والباب ٥٦ من جهاد النفس.

(٣) الوسائل الباب ٥٧ من ما يمسك عنه الصائم.

٦٨

برفع الخطأ وقسيميه في الحديث رفع المؤاخذة عليها لا رفع جميع أحكامها. ومثله الإفطار في يوم يجب صومه للتقية.

أقول : والمسألة لا تخلو من الاشكال لعدم النص الكاشف عن حكمها وتدافع التعليلات فيها وان كان ما ذكره شيخنا الشهيد الثاني هنا لا يخلو من قوة ، فإن مجرد تسويغ الشارع الإفطار لدفع الضرر لا ينافي القضاء وإنما ينافي التأثيم ولا ريب في عدمه.

ومن ما يؤيد ذلك انهم جعلوا الإفطار للتقية في معنى الإفطار للإكراه فإنهما في الحقيقة من باب واحد ومرجعهما إلى أمر واحد وهو الإفطار لدفع الضرر.

مع انه قد ورد في بعض الاخبار الواردة في جواز الإفطار للتقية ذكر القضاء وهو ما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن رفاعة عن رجل عن أبى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «دخلت على أبى العباس بالحيرة فقال يا أبا عبد الله عليه‌السلام ما تقول في الصيام اليوم؟ فقلت ذاك الى الامام ان صمت صمنا وان أفطرت أفطرنا فقال يا غلام على بالمائدة فأكلت معه وأنا أعلم والله انه يوم من شهر رمضان فكان إفطاري يوما وقضاؤه أيسر علي من أن يضرب عنقي ولا يعبد الله». ومنه يعلم وجوب القضاء في محل الخلاف.

والأحوط عندي وجوب القضاء في صورة الوجوب أيضا حيث ان المسألة خالية من النص وان كان ظاهرهم الاتفاق على صحة الصوم وعدم وجوب القضاء ، وهو الظاهر أيضا لأنه لا يصدق عليه انه تناول المفطر. وقريب منه أيضا بلوغ الإكراه به الى وجه يرتفع القصد إلا ان الأحوط لخلو المسألة من النص هو القضاء وبالجملة فالقدر المعلوم ثبوته في صورتي الإكراه بأي معنى كان والتقية هو عدم المؤاخذة بذلك واما وجوب القضاء فليس على نفيه دليل.

(فان قيل) ان وجوبه يحتاج الى دليل لا نفيه (قلت) لا ريب ان

__________________

(١) الوسائل الباب ٥٧ من ما يمسك عنه الصائم.

٦٩

الأخبار المتضمنة لوجوب القضاء بالإفطار اختيارا قد اشتملت على شيئين : أحدهما ـ ثبوت الإثم والذنب الموجب للمؤاخذة وهو الذي أمر بالكفارة لدفعه في جملة من المواضع ، وثانيهما ـ قضاء ذلك اليوم ، والمعلوم المقطوع به من أخبار تسويغ الإفطار للإكراه والتقية هو ارتفاع الإثم خاصة كما أشرنا إليه إذ لا يجوز أن يسوغ له الشارع الإفطار ثم يعاقبه عليه ، وحينئذ فيبقى ما دل على القضاء على حاله بلا معارض يوجب إخراجه عن ما هو عليه ويخرج مرسل رفاعة شاهدا على ذلك.

ثم ان الظاهر من كلام الأصحاب ـ وبه صرح جملة منهم ـ انه يكفى في جواز الإفطار ظن الضرر بالترك ، وربما ظهر من عبارة الدروس ان ذلك إنما يسوغ عند خوف التلف.

ولعله (قدس‌سره) اعتمد على اخبار الصادق عليه‌السلام مع أبى العباس حيث تضمنت ان إفطاره عليه‌السلام لخوف التلف والقتل ، ومنها الخبر المتقدم.

ومنها أيضا ما رواه في الكافي في الصحيح عن داود بن الحصين عن رجل من أصحابه عن أبى عبد الله عليه‌السلام (١) «انه قال وهو بالحيرة في زمان أبى العباس انى دخلت عليه وقد شك الناس في الصوم وهو والله من شهر رمضان فسلمت عليه فقال يا أبا عبد الله عليه‌السلام أصمت اليوم؟ فقلت لا. والمائدة بين يديه فقال فادن فكل قال فدنوت فأكلت. قال وقلت : الصوم معك والفطر معك؟ فقال الرجل لأبي عبد الله عليه‌السلام تفطر يوما من شهر رمضان؟ فقال أى والله أفطر يوما من شهر رمضان أحب الى من أن يضرب عنقي».

والظاهر الاكتفاء بمجرد خوف الضرر كما هو المعلوم من الاخبار في جملة من موارد التقية ولقوله عليه‌السلام في حسنة زرارة (٢) «التقية في كل ضرورة وصاحبها

__________________

(١) الوسائل الباب ٥٧ من ما يمسك عنه الصائم.

(٢) الوسائل الباب ٢٥ من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

٧٠

أعلم بها حين تنزل به». وفي حسنة الفضلاء (١) «التقية في كل شي‌ء يضطر اليه ابن آدم فقد أحله الله». ولا دلالة في خبري الصادق عليه‌السلام المتقدمين بالتخصيص بما فيهما

ثم ان شيخنا الشهيد الثاني في المسالك قال بعد ذكر الكلام الذي قدمنا نقله عنه : وحيث ساغ الإفطار للإكراه والتقية يجب الاقتصار على ما تندفع به الحاجة فلو زاد عليه كفر ، ومثله ما لو تأدت بالأكل فشرب معه وبالعكس.

واعترضه سبطه السيد السند في المدارك بأنه يمكن المناقشة في وجوب الكفارة بالزائد بناء على ما ذهب اليه من كون التناول على وجه الإكراه مفسدا للصوم ، لأن الكفارة تختص بما يحصل به الفطر ويفسد به الصوم وما حصل به الفطر هنا كان مباحا فلا تتعلق به الكفارة وما زاد عليه لم يستند اليه الفساد فلا تتعلق به الكفارة وان كان محرما. انتهى.

أقول : فيه ان الظاهر من إيجاب الشارع الكفارة في جملة مواردها إنما هو لتكفير الذنب المترتب على موجبها فهي حينئذ لمحو الذنب وتكفيره ، وحينئذ فالكفارة إنما تتحقق في موضع يحصل فيه الإثم والذنب ، فقول السيد (قدس‌سره) ان الكفارة تختص بما يحصل به الفطر ويفسد به الصوم ليس في محله ، فان كثيرا من المواضع الآتية قد حكم فيها الشارع بفساد الصوم وإيجاب القضاء مع انه لم يوجب بها كفارة ، وحينئذ فإذا كانت الكفارة في الصوم وغيره دائرة مدار ما أوجب الذنب والحال ان التناول زيادة على ما تندفع به الضرورة موجب لذلك كان الحكم بالكفارة لا يخلو من قوة.

ويلحق بهذه المسألة من ما ينتظم في سلك نظامها وينخرط في سمط نقضها وإبرامها مسائل.

الأولى ـ من أكل ناسيا فظن فساد صومه فأفطر عامدا بطل صومه وعليه

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٥ من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

٧١

القضاء عند الأصحاب ، وفي وجوب الكفارة عليه قولان.

أقول : وهذه المسألة من جزئيات المسألة المتقدمة في جاهل حكم الإفطار وقد تقدم ذكر الخلاف فيها وتحقيق القول فيها.

الثانية ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في إيصال الغبار الى الحلق فذهب جمع : منهم ـ الشيخ في أكثر كتبه الى أن إيصال الغبار الغليظ الى الحلق متعمدا موجب للقضاء والكفارة ، واليه مال من أفاضل متأخري المتأخرين المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر في كتاب الوسائل ، وذهب جمع : منهم ـ ابن إدريس والشيخ المفيد على ما نقل عنه وأبو الصلاح وغيرهم ـ والظاهر انه المشهور ـ الى وجوب القضاء خاصة متى كان متعمدا ، وذهب جمع من متأخري المتأخرين الى عدم الإفساد وعدم وجوب شي‌ء من قضاء أو كفارة ، وهو الأقرب.

واستدل على القول الأول بما رواه الشيخ في التهذيب عن سليمان بن حفص المروزي (١) قال : «سمعته يقول إذا تمضمض الصائم في شهر رمضان أو استنشق متعمدا أو شم رائحة غليظة أو كنس بيتا فدخل في أنفه وحلقه غبار فعليه صوم شهرين متتابعين فان ذلك مفطر مثل الأكل والشرب والنكاح».

أقول : لا يخفى انه يمكن تطرق الطعن الى هذه الرواية من وجوه : أحدها ـ جهالة السائل والمسؤول فلعل المسؤول غير امام ، وجهالة المسؤول كما في الإضمار ونحوه إنما يتسامح بها مع معرفة السائل والوثوق به من كونه لا يعتمد في أمور دينه وأحكامه على غير الامام كما صرح به أصحابنا (رضوان الله عليهم) في قبول المضمرات والمرسلات اما إذا كان مجهولا بالمرة كهذا الراوي فلا.

وثانيها ـ المعارضة بموثقة عمرو بن سعيد عن الرضا عليه‌السلام (٢) قال : «سألته عن الصائم يتدخن بعود أو بغير ذلك فتدخل الدخنة في حلقه؟ قال جائز لا بأس به. قال : وسألته عن الصائم يدخل الغبار في حلقه؟ قال لا بأس».

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٢٢ من ما يمسك عنه الصائم.

٧٢

والجمع بين هذا الخبر وبين الأول ـ بحمل الأول على الغبار الغليظ والثاني على ما ليس كذلك كما ذكره صاحب الوسائل مع كونه لا دليل عليه ـ مردود بان الغبار نوع من المتناولات فان كان مفسدا للصوم فلا فرق بين قليله وكثيره وإلا فلا وجه للإفساد به.

وثالثها ـ صحيحة محمد بن مسلم الدالة على انه لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب أربع خصال : الطعام والشراب والنساء والارتماس (١). وموثقة مسعدة بن صدقة عن ابى عبد الله عن آبائه (عليهم‌السلام) (٢) «ان عليا عليه‌السلام سئل عن الذباب يدخل حلق الصائم؟ قال ليس عليه قضاء لأنه ليس بطعام».

ورابعها ـ ان الخبر المذكور قد دل على وجوب الكفارة بمجرد المضمضة والاستنشاق ولا قائل به والاخبار ترده :

ففي صحيحة حماد عن من ذكره عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) «في الصائم يستنشق ويتمضمض؟ قال نعم ولكن لا يبالغ».

وفي رواية زيد الشحام عن أبى عبد الله عليه‌السلام (٤) «في الصائم يتمضمض؟ قال لا يبلع ريقه حتى يبزق ثلاث مرات». قال الشيخ في التهذيب بعد نقل الرواية : وقد روى مرة واحدة (٥).

وما أجاب به في الوسائل من حمل الخبر على تعمد إيصال الماء الى الحلق مردود أولا ـ بأن تعمد ابتلاع الماء الموجب للقضاء والكفارة بلا خلاف لا ترتب له على خصوصية المضمضة والاستنشاق ليرتبه عليه هنا بل في أي حال فعل ذلك فإنه يجب عليه القضاء والكفارة بلا اشكال.

وثانيا ـ ان تقديره تعمد إيصال الماء الى الحلق في الخبر اما ان يستند فيه الى

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من ما يمسك عنه الصائم ارجع الى التعليقة ٢ ص ٥٠.

(٢) الوسائل الباب ٣٩ من ما يمسك عنه الصائم.

(٣) الوسائل الباب ٢٣ من ما يمسك عنه الصائم.

(٤ و ٥) الوسائل الباب ٣١ من ما يمسك عنه الصائم.

٧٣

قوله «متعمدا» أى متعمدا إيصال الماء الى الحلق ، وفيه ان هذا يكون من قبيل الألغاز الخارج عن الحقيقة والمجاز فان «متعمدا» في الخبر قيد في المضمضة والاستنشاق حيث انه حال من الصائم الذي هو فاعل «يتمضمض ويستنشق» فصرفه الى ما ذكره يكون من قبيل ما ذكرناه وهو مناف لحكمة التعليم والافهام بل مخل بمعنى الكلام وموجب لانحلال الزمام واختلال النظام ، واما ان يقدره في الكلام من خارج من غير أن يكون في ألفاظ الخبر دلالة عليه ولا اشارة اليه ، وحينئذ يلغو ذكر «متعمدا» في الخبر ويصير ذكره بغير فائدة ، لأنه يصير حاصل المعنى حينئذ إذا تمضمض الصائم أو استنشق وقصد إيصال الماء الى الحلق فعليه الكفارة ، إذ الفرض ان هذا القائل قائل بجواز المضمضة والاستنشاق بقول مطلق وانما يمنع منهما إذا قصد بهما إيصال الماء الى الحلق ، فحاصل معنى الخبر على ما يقول به هو ما ذكرناه وحينئذ فذكره عليه‌السلام «متعمدا» في الخبر يكون لغوا لا فائدة فيه ولا أظنه يلتزمه. وبالجملة فما ذكره في الجواب لا أعرف له وجها من وجوه الصواب.

وغاية ما تدل عليه الاخبار هو انه ربما سبق الماء الى حلق الصائم لا عن تعمد ، وانه إذا كان كذلك في وضوء النافلة فعليه القضاء خاصة واما في وضوء الفريضة فلا شي‌ء عليه :

ففي صحيحة حماد عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) «في الصائم يتوضأ للصلاة فيدخل حلقه الماء؟ فقال ان كان وضوؤه لصلاة فريضة فليس عليه شي‌ء وان كان وضوؤه لصلاة نافلة فعليه القضاء». ومثلها موثقة سماعة (٢).

وبذلك يظهر لك ان الخبر من ما لا يصلح للاعتماد عليه ولا الاستناد في حكم مخالف للأصل اليه ، وبه يظهر قوة القول الأخير.

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٣ من ما يمسك عنه الصائم.

(٢) الوسائل الباب ٢٣ من ما يمسك عنه الصائم ، وهي تفصل بين المضمضة من عطش والمضمضة في الوضوء.

٧٤

واما القول بوجوب القضاء خاصة فلا أعرف له وجها والمفهوم من كلام ابن إدريس ان الحجة فيه إنما هو الإجماع ، ولا ريب ان الاحتياط يقتضي العمل عليه.

وألحق من المتأخرين بالغبار الدخان الغليظ الذي يحصل منه اجزاء تتعدى الى الحلق كبخار القدر ونحوه ، وأنكره بعض وهو الحق لما عرفت من حال الملحق به وعدم الدليل عليه ، ولما تقدم في موثقة عمرو بن سعيد (١) من نفى البأس عنه.

الثالثة ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لا بأس بمص الخاتم ومضغ الطعام للصبي وزق الطائر وذوق المرق.

وهو كذلك للأخبار الدالة على ذلك ، ومنها ما رواه ثقة الإسلام الكليني في الكافي في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن أبى عبد الله عليه‌السلام (٢) «في الرجل يعطش في شهر رمضان؟ قال لا بأس بأن يمض الخاتم».

وما رواه في الكافي أيضا عن يونس بن يعقوب (٣) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : الخاتم في فم الصائم ليس به بأس فأما النواة فلا».

وما رواه الصدوق عن منصور بن حازم (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الرجل يجعل النواة في فيه وهو صائم؟ قال لا. قلت فيجعل الخاتم؟ فقال نعم». والظاهر ان المراد بالنواة في الخبرين المذكورين النواة التي عليها أثر التمر كما لا يخفى.

وما رواه الكليني في الصحيح عندي والحسن على المشهور عن الحلبي عن أبى عبد الله عليه‌السلام (٥) «انه سئل عن المرأة الصائمة تطبخ القدر فتذوق المرق تنظر اليه؟ فقال لا بأس. وسئل عن المرأة يكون لها الصبي وهي صائمة فتمضغ

__________________

(١) ص ٧٢.

(٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٤٠ من ما يمسك عنه الصائم.

(٥) الوسائل الباب ٣٧ و ٣٨ من ما يمسك عنه الصائم.

٧٥

له الخبز وتطعمه؟ قال لا بأس به والطير ان كان لها».

وما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن حماد بن عيسى (١) قال : «سأل ابن أبى يعفور أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا أسمع عن الصائم يصب الدواء في اذنه؟ قال نعم ويذوق المرق ويزق الفرخ».

وما رواه أيضا في الموثق عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه‌السلام (٢) قال : «لا بأس بأن يذوق الرجل الصائم القدر».

وما رواه الكليني عن الحسين بن زياد عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «لا بأس للطباخ والطباخة أن يذوق المرق وهو صائم».

وما رواه عن مسعدة بن صدقة عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٤) «ان فاطمة (عليها‌السلام) كانت تمضغ للحسن ثم للحسين (عليهما‌السلام) وهي صائمة في شهر رمضان».

وما رواه الشيخ معلقا عن على بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام (٥) قال : «سألته عن الصائم يذوق الشراب والطعام يجد طعمه في حلقه؟ قال لا يفعل قلت : فان فعل فما عليه؟ قال لا شي‌ء عليه ولا يعود».

واما ما رواه الكليني والشيخ عن سعيد الأعرج في الصحيح (٦) ـ قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصائم يذوق الشي‌ء ولا يبلعه؟ قال لا» ـ.

فقد حمله جملة من الأصحاب على الكراهة. واحتمل بعضهم ان قوله (عليه‌السلام) «لا» يعنى لا يبلعه ، قال : وهو غير بعيد.

وقال الشيخ : هذه الرواية محمولة على من لا يكون به حاجة الى ذلك والرخصة إنما وردت في ذلك لصاحبة الصبي أو الطباخ الذي يخاف على فساد طعامه أو من

__________________

(١) الوسائل الباب ٣٧ من ما يمسك عنه الصائم ، والراوي حماد بن عثمان.

(٢ , ٣ , ٥ , ٦) الوسائل الباب ٣٧ من ما يمسك عنه الصائم.

(٤) الوسائل الباب ٣٨ من ما يمسك عنه الصائم.

٧٦

عنده طائر ان لم يزقه يهلك فاما من هو مستغن عن جميع ذلك فلا يجوز له ان يذوق الطعام.

ورده بعض أفاضل متأخري المتأخرين بالبعد ، قال : إذ لا دلالة في الاخبار المتقدمة على ما ذكره من التقييد. وهو كذلك.

ولو مضغ الصائم شيئا فسبق منه شي‌ء إلى الحلق بغير اختياره فقد صرح جمع بأن الأصح ان صومه لا يفسد بذلك للاذن فيه وعدم تعمد الازدراد. وقال في المنتهى : لو أدخل في فمه شيئا فابتلعه سهوا فان كان لغرض صحيح فلا قضاء عليه وإلا وجب القضاء.

ويمكن الاستدلال للقول الأول بصحيحة أبي ولاد الحناط (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام انى أقبل بنتا لي صغيرة وأنا صائم فيدخل في جوفي من ريقها شي‌ء؟ قال فقال لي لا بأس ليس عليك شي‌ء». فان الظاهر ان المراد من الخبر هو سبق الريق الى جوفه من غير تعمد واما مع التعمد فالظاهر انه لا خلاف في البطلان على اشكال يأتي الكلام فيه.

بقي الكلام في مضغ العلك إذا تغير الريق بطعمه ولم تنفصل منه اجزاء فابتلع الصائم الريق المتغير ، وقد اختلف فيه كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) فحرمه الشيخ في النهاية حيث قال لا يجوز للصائم مضغ العلك ، وهو ظاهر ابن الجنيد حيث قال لو استجلب الريق بطعام فوصل الى جوفه أفطر وكان عليه القضاء ، وفي بعض الحديث فصيام شهرين متتابعين كالأكل. وقال الشيخ في المبسوط بالكراهة فإنه قال يكره استجلاب الريق بماله طعم وجرى مجرى العلك كالكندر وما أشبهه ، وليس ذلك بمفطر في بعض الروايات وفي بعضها انه يفطر وهو الاحتياط. والى هذا القول مال أكثر المتأخرين.

والذي وقفت عليه من الأخبار في ذلك ما رواه ثقة الإسلام في الصحيح

__________________

(١) الوسائل الباب ٣٤ من ما يمسك عنه الصائم.

٧٧

عندي والحسن على المشهور عن الحلبي عن أبى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «قلت الصائم يمضغ العلك؟ قال لا».

وما رواه أيضا (قدس‌سره) عن محمد بن مسلم (٢) قال : «قال أبو جعفر عليه‌السلام يا محمد إياك أن تمضغ علكا فانى مضغت اليوم علكا وأنا صائم فوجدت في نفسي منه شيئا».

وما رواه الشيخ في التهذيب عن ابى بصير عن أبى عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «سألته عن الصائم يمضغ العلك؟ قال نعم ان شاء».

والذي يظهر من ضم هذه الأخبار بعضها الى بعض هو القول بالجواز على كراهة مؤكدة ، فإن الظاهر من رواية محمد بن مسلم انه عليه‌السلام إنما مضغ العلك وهو صائم مع علمه بما فيه من تغير طعم الفم به لجواز ذلك لكنه بعد مضغه رأى زيادة تغير الريق به على المظنون فنهى عنه تنزها.

والشيخ في التهذيب بعد نقله رواية أبي بصير قال : هذا الخبر غير معمول عليه. مع انه أفتى بمضمونه في المبسوط.

ونقل في المختلف عن الشيخ انه استدل على التحريم بان وجود الطعم في الريق دليل على تخلل شي‌ء من اجزاء ذي الطعم فيه لاستحالة انتقال الاعراض فكان ابتلاعه مفطرا. ثم أجاب بالمنع من التخلل بل الريق ينفعل بكيفية ذي الطعم وهو جيد لما علم من انفعال الماء والهواء بالروائح الذكية والنتنة بالمجاورة ، وقد نقل العلامة في المنتهى والتذكرة ان من لطخ باطن قدميه بالحنظل وجد طعمه ولا يفطر إجماعا.

أقول : لو أن الشيخ استدل بصحيحة الحلبي المتقدمة لكان أظهر إلا انها كما عرفت لا بد من تأويلها جمعا بين الاخبار.

الرابعة ـ قال العلامة في المنتهى : بقايا الغذاء المتخلفة بين أسنانه إذا ابتلعها

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ٣٦ من ما يمسك عنه الصائم.

٧٨

نهارا فسد صومه سواء أخرجها من فمه أو لم يخرجها. وقد صرح المحقق في الشرائع هنا بوجوب القضاء والكفارة وهو المشهور على ما صرح به بعض الأصحاب ، والظاهر انه لصدق تناول المفطر عمدا فساوى ما لو ازدرده من خارج ونقل عن الشيخ في المبسوط والخلاف انه صرح بوجوب القضاء ولم يتعرض للكفارة.

قال في المدارك : ويمكن المناقشة في فساد الصوم بذلك لعدم تسميته أكلا ولما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان (١) قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل الصائم يقلس فيخرج منه الشي‌ء من الطعام أيفطره ذلك؟ قال لا. قلت فان ازدرده بعد أن صار على لسانه؟ قال لا يفطر ذلك».

هذا كله في ما لو ابتلعه عمدا واما لو كان سهوا فقد صرح بعضهم بأنه لا شي‌ء عليه ، وفصل بعض بين من قصر في التخليل فأوجب عليه القضاء لتفريطه وتعرضه للإفطار ـ واليه مال شيخنا الشهيد الثاني ـ ومن لم يقصر فلا شي‌ء عليه.

وما ذكره في المدارك لا يخلو من قرب وان كان الأحوط القضاء ، واما ما جنح إليه في المسالك فلا يخلو من ضعف.

الخامسة ـ الظاهر انه لا إشكال ولا خلاف في جواز ابتلاع الريق الذي في الفم للأصل وعدم الدليل المخرج عنه ، اما إذا أخرجه من فمه ثم رجعه وابتلعه فقالوا انه مفطر بل ربما يمكن انه تجب به كفارة الإفطار على المحرم لأن ظاهرهم القول بتحريم ما يخرج من الفم ، حتى ان بعض الفضلاء المعاصرين ادعى إجماع الأصحاب على تحريم ابتلاع فضلات الإنسان من ريقه وعرقه ودموعه ونحوها وادعى اتفاق الاخبار على ذلك ، وقد كتب ـ في جواب سائل سأله عن العرق المتساقط في مرق اللحم ونحوه ـ ما صورته : فاما تحريم الإنسان وكل شي‌ء منه أكلا وشربا فلا أعلم أحدا من المتقدمين والمتأخرين خالف في ذلك ومناطيق

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٩ من ما يمسك عنه الصائم.

٧٩

الأخبار مصرحة بذلك ، ولا أعلم أحدا استثنى من ذلك العرق المختلط بالمرق على ان المستثنى عليه البيان وإقامة البرهان ، ونحن باقون على عموم الحكم حتى يثبت المزيل والله الهادي إلى سواء السبيل. وسيأتيك ان شاء الله بيان ما في هذا الكلام من انحلال الزمام واختلال النظام وان كان خارجا عن المقام.

ثم ان ممن صرح بما قدمنا نقله عنهم من إبطال الصوم بابتلاع الريق بعد إخراجه من الفم شيخنا العلامة أجزل الله تعالى إكرامه في المنتهى حيث قال : لو ترك في فمه حصاة أو درهما فأخرجه وعليه لمعة من الريق ثم أعاده فيه فالوجه الإفطار قل أو كثر لابتلاعه البلل الذي على ذلك الجسم ، وقال بعض الجمهور لا يفطر ان كان قليلا (١). وقال (قدس‌سره) ايضا لو أخرجه من فيه الى طرف ثوبه أو بعض أصابعه ثم ابتلعه أفطر.

ولا اعرف لما ذكره (قدس‌سره) دليلا على الإفطار بذلك إلا ان كان ما يدعونه من تحريم فضلة الإنسان وانه بعد الخروج من الفم يكون فضلة فيتعلق به الحكم دون ما إذا كان في الفم وإلا فالفرق بين ابتلاعه وهو في الفم وبعد خروجه منه غير ظاهر ، مع ان ما يدعونه من تحريم فضلة الإنسان لا دليل عليه بل الدليل كما ستعرف ان شاء الله تعالى قائم على خلافه.

قال مولانا المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) في شرح الإرشاد ـ بعد ان نقل عنهم انهم حكموا بكونه مفطرا إذا خرج من الفم ثم ابتلعه ـ ما صورته : كأنه للصدق لأنه يقال أكل ريقه. ويمكن إيجاب كفارة الإفطار بالمحرم لأنهم يقولون انه إذا خرج من الفم يحرم أكله وما نعرف دليلهم. ثم قال (قدس‌سره) بعد نقل كلام المنتهى الأول : الظاهر عدم الإفطار للأصل وعدم صدق الأدلة ، ولهذا مع قولهم بالتحريم جوزوا الأكل بالقاشوقة بإدخالها في الفم وكذا أكل الفواكه بعد العض مع بقاء الرطوبة في موضع العض وكذا في الشربة ، نعم لو كان عليه

__________________

(١) المغني ج ٣ ص ١٠٦ و ١٠٧.

٨٠