الحدائق الناضرة - ج ١٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٢

أبو عبد الله عليه‌السلام نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن صوم ستة أيام : العيدين وأيام التشريق واليوم الذي يشك فيه من شهر رمضان».

وما رواه فيه عن عبد الكريم بن عمرو (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام انى جعلت على نفسي أن أصوم حتى يقوم القائم؟ فقال لا تصم في السفر ولا العيدين ولا أيام التشريق ولا اليوم الذي يشك فيه».

ورواه في الفقيه عن عبد الكريم أيضا (٢). وما رواه الشيخ في التهذيب عن محمد بن الفضيل (٣) قال : «سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن اليوم الذي يشك فيه لا يدرى أهو من شهر رمضان أو من شعبان؟

فقال : شهر رمضان شهر من الشهور يصيبه ما يصيب الشهور من الزيادة والنقصان فصوموا للرؤية وأفطروا للرؤية ولا يعجبني أن يتقدمه أحد بصيام يوم وذكر الحديث» ـ.

فقد حمله الشيخ على صومه بنية شهر رمضان واستدل بحديث الزهري المتقدم ، والأقرب عندي حمل النهى عن صومه على التقية لما أشارت إليه جملة من الأخبار المتقدمة من الرد على العامة في ما ذهبوا اليه من تحريم صومه (٤).

تنبيهات

الأول ـ ينبغي أن يعلم ان المراد بيوم الشك في هذه الأخبار ليس هو مطلق الثلاثين من شعبان بل المراد به إنما هو في ما إذا حصل الاختلاف في رؤية هلال شعبان على وجه لم تثبت الرؤية فإن اليوم الثلاثين بناء على دعوى الرؤية قبل ذلك يكون أول شهر رمضان وعلى دعوى العدم يكون من شهر شعبان ، أو حصل الاختلاف في رؤية هلال شهر رمضان كذلك فإنه على تقدير دعوى الرؤية يكون

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٦ من وجوب الصوم ونيته.

(٣) الوسائل الباب ٥ من أحكام شهر رمضان.

(٤) ارجع الى التعليقة ٢ ص ٣٤.

٤١

من شهر رمضان وعلى تقدير عدمها يكون من شهر شعبان ، وكذا في صورة ما إذا علم هلال شعبان لكن اتفق حصول غيم مانع من الرؤية ليلة الثلاثين ، فإنه في جميع هذه الصور يكون يوم شك ، وهذا هو الذي وردت الاخبار باستحباب صومه وانه ان ظهر من شهر رمضان فهو يوم وفق له. واما لو كان هلال شعبان معلوما يقينا ولم يدع أحد الرؤية ليلة الثلاثين منه ولم تكن في السماء علة مانعة من الرؤية فإن هذا اليوم من شعبان قطعا وليس هو بيوم شك.

ويدل على ذلك من الاخبار ما رواه ثقة الإسلام في الكافي والشيخ في التهذيب بسنديهما عن هارون بن خارجة (١) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام عد شعبان تسعة وعشرين يوما فان كانت متغيمة فأصبح صائما وان كانت صاحية وتبصرته ولم تر شيئا فأصبح مفطرا».

وما رواه الشيخ في التهذيب عن الربيع بن ولاد عن أبى عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «إذا رأيت هلال شعبان فعد تسعة وعشرين يوما فإن أصبحت فلم تره فلا تصم وان تغيمت فصم».

وهما ظاهران في أن أمره عليه‌السلام بالصوم مع الغيم إنما هو من حيث كونه يوم الشك الذي ورد فيه ما تقدم من انه يوم وفق له واما مع الصحو فليس هو كذلك.

ويدل على ذلك ايضا ما رواه الشيخ في التهذيب عن معمر بن خلاد عن أبى الحسن عليه‌السلام (٣) قال : «كنت جالسا عنده آخر يوم من شعبان فلم أره صائما فأتوه بمائدة فقال ادن. وكان ذلك بعد العصر قلت له جعلت فداك صمت اليوم. فقال لي ولم؟ قلت جاء عن أبى عبد الله عليه‌السلام في اليوم الذي يشك فيه انه قال يوم وفق له فقال أليس تدرون إنما ذلك إذا كان لا يعلم أهو من شعبان أم من شهر رمضان فصامه الرجل فكان من شهر رمضان فكان يوما وفق له؟ فاما وليس علة ولا شبهة

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١٦ من أحكام شهر رمضان.

(٣) الوسائل الباب ٥ و ٤ من وجوب الصوم ونيته.

٤٢

فلا. فقلت أفطر الآن؟ فقال لا. فقلت وكذلك في النوافل ليس لي أن أفطر بعد الظهر؟ قال نعم».

والظاهر ان ما دل عليه الخبران الأولان صريحا والثالث ظاهرا من عدم صوم يوم الثلاثين مع عدم العلة والشبهة هو مستند الشيخ المفيد (قدس‌سره) في ما نقل عنه من كراهية صوم هذا اليوم مع الصحو كما نقله عنه في البيان حيث قال : ولا يكره صوم يوم الشك بنية شعبان وان كانت الموانع من الرؤية منتفية ، وقال المفيد يكره مع الصحو إلا لمن كان صائما قبله. انتهى.

وما نقل هنا عن الشيخ المفيد (قدس‌سره) لعله من غير المقنعة لأن كلامه في المقنعة صريح في الاستحباب مطلقا كما لا يخفى على من راجعه.

ثم لا يخفى عليك ان ظاهر كلام جملة من أصحابنا ان يوم الشك عندهم هو يوم الثلاثين مطلقا كما لا يخفى على من راجع عباراتهم ومنها عبارة البيان المنقولة هنا.

وفيه ما عرفت من دلالة الأخبار التي قدمناها على ان يوم الثلاثين من شعبان مع عدم العلة في السماء وعدم الاختلاف في الرؤية ليس بيوم شك ولا يستحب صومه من حيث كونه يوم شك.

وربما سبق الى بعض الأوهام من هذه الأخبار التي قدمناها دالة على عدم استحباب صوم هذا اليوم مع عدم العلة هو تحريم صيامه نظرا الى ظاهر النهي في بعضها. وهو توهم ضعيف لما دل على استحباب الصوم مطلقا (١) وصوم شعبان بخصوصه كلا أو بعضا (٢) وما دل عليه آخر رواية معمر بن خلاد من النهى عن الإفطار والحال ذلك وقول الراوي «وكذلك في النوافل» يعنى غير هذا المؤذن بكونه من النوافل.

وأبعد من ذلك ما نقل ايضا عن بعض القاصرين من تحريم الإفطار يوم الشك

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من الصوم المندوب.

(٢) الوسائل الباب ٢٨ من الصوم المندوب.

٤٣

مطلقا فرضا ونفلا كما نقله بعض الأفاضل.

الثاني ـ الحق الشهيدان بشهر رمضان في الاكتفاء بنية الندب متى ظهر كونه من شهر رمضان كل واجب معين فعل بنية الندب مع عدم العلم ، ونفى عنه البأس جملة ممن تأخر عنهما : منهم ـ السيد السند في المدارك والمحدث الكاشاني في المفاتيح والفاضل الخراساني في الذخيرة.

وعندي فيه توقف لأن الإلحاق المذكور لا يخرج عن القياس إذ مورد الدليل شهر رمضان خاصة واشتراك الصوم المعين مع شهر رمضان في التعين وكون الزمان لا يصلح لغيره لا يوجب تعدى الحكم المذكور.

وبالجملة فالأحكام الشرعية مقصورة عندنا على الأدلة الواضحة خصوصا أو عموما واما تعديها بمجرد المشاركة والمناسبة ونحو ذلك فهو لا يطابق الأصول الواردة عن أصحاب العصمة (صلوات الله عليهم).

وصرح الشهيد في الدروس ـ بعد حكمه بتأدي رمضان بنية النفل مع عدم علمه ـ بتأدية وكذا تأدى كل معين بنية الفرض من غيره ايضا بطريق أولى ، ونفى عنه البعد في المدارك. وفيه ما عرفت.

الثالث ـ لو ردد في نيته بان نوى ان كان غدا من شهر رمضان فهو صائم فرضا وان كان من شعبان فهو صائم نفلا فللشيخ في ذلك قولان : أحدهما ـ الإجزاء ذكره في المبسوط والخلاف ، والثاني العدم ذكره في باقي كتبه ، وبالأول قال ابن حمزة وابن ابى عقيل والعلامة في المختلف وهو ظاهر الدروس والبيان واليه يميل كلام المحقق الأردبيلي والمحدث الكاشاني ، والى الثاني ذهب المحقق وابن إدريس والعلامة في الإرشاد واختاره في المدارك ونسبه الى أكثر المتأخرين.

حجة القول الأول انه نوى الواقع فوجب أن يجزئه ، وانه نوى العبادة على وجهها فوجب أن يخرج من العهدة ، أما المقدمة الأولى فلأن الصوم ان كان من شهر رمضان كان واجبا وان كان من شعبان كان مندوبا ، واما الثانية فظاهرة. وبان

٤٤

نية القربة كافية وقد نوى القربة.

وأجيب عن الأول والثاني بالمنع من كون النية مطابقة للواقع وكون العبادة واقعة على وجهها ، فان الوجه المعتبر هنا هو الندب خاصة وان فرض كون ذلك اليوم في الواقع من شهر رمضان ، فان الوجوب إنما يتحقق إذا ثبت دخول الشهر لا بدونه والوجوب في نفس الأمر لا معنى له.

وعن الثالث بأنه لا يلزم من الاكتفاء في صوم شهر رمضان بنية القربة الصحة مع إيقاعه على خلاف الوجه المأمور به بل على الوجه المنهي عنه.

وأجاب عنه في المعتبر أيضا بأن نية التعيين تسقط في ما علم انه من شهر رمضان لا في ما لا يعلم.

حجة القول الثاني ان صوم يوم الشك إنما يقع على وجه الندب ففعله على خلاف ذلك يكون تشريعا فلا يتحقق به الامتثال.

وأورد عليه ان غاية ما يستفاد من ذلك تحريم بعض خصوصيات النية فلا يلزم فساد الصوم. وعندي ان هذا الجواب لا يخلو من نظر.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان المسألة ليس فيها نص في ما اعلم يدل على نفى أو إثبات وإثبات الأحكام الشرعية بمثل هذه التعليلات مع سلامتها من المناقض لا يخلو من مجازفة فكيف والمناقشة فيها قائمة من الطرفين ، وبذلك يظهر ان المسألة محل توقف على ان حصول الترديد هنا لا يخلو من اشكال : اما بالنسبة إلى العالم بان هذا اليوم بحسب ظاهر الشرع إنما هو من شعبان ـ وانه إنما يصام ندبا من شعبان ولا يجوز صيامه من شهر رمضان كما هو المعلوم من الاخبار المتقدمة وعليه كافة الفرقة الناجية إلا الشاذ القائل بجواز صيامه من شهر رمضان ـ فظاهر لأنه متى علم ان الشارع إنما حكم به من شهر شعبان وانما جوز صيامه بنية شعبان وحرم صيامه بنية شهر رمضان وأعلمه بأنه مع صيامه بنية شعبان يجزئه متى ظهر كونه من شهر رمضان فكيف يردد في نيته ولما ذا يردد فيها وينوي ما منعه الشارع منه مع كونه

٤٥

يحسب له وان لم ينوه؟ واما بالنسبة إلى الجاهل بالحكم الشرعي فهو وان أمكن إلا ان حججهم وتعليلاتهم المذكورة لا تجتمع عليه فان حجة القول الثاني لا تتم بالنسبة إلى الجاهل كما لا يخفى.

الرابع ـ صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو صام يوم الشك بنية الندب ثم ظهر في أثناء النهار ولو قبل الغروب انه من شهر رمضان وجب ان يجدد نية الوجوب. وهو متجه على تقدير القول بوجوب نية الوجه في شهر رمضان وقد عرفت من ما قدمناه في بحث النية من كتاب الطهارة انه لم يقم دليل على اعتبار نية الوجه في شي‌ء من العبادات لا في هذا المقام ولا غيره وان القربة كافية. نعم نقل النية إلى التعيين بكونه من شهر رمضان حيث ان النية الأولى انما تعلقت بغيره من ما لا بد منه وان كان صوم شهر رمضان لا يفتقر الى تعيين لما علم من ان الزمان لا يصلح لغيره ، إلا ان هذا من ما يحصل للمكلف بعد العلم بذلك من غير اعتمال ولا تكلف.

السابع ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو أصبح في يوم الشك بنية الإفطار ثم ظهر كونه من شهر رمضان فان لم يتناول شيئا جدد نية الصوم ما بينه وبين الزوال وأجزأه ولو زالت الشمس أمسك وقضاه عند الأكثر.

اما الحكم الأول فالظاهر انه لا خلاف فيه بينهم ، وظاهر المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى والتذكرة انه موضع وفاق بين العلماء.

واستدل عليه في المعتبر بما تقدم من حديث الأعرابي المنقول في الموضع الثاني (١) واستدل عليه في المدارك ايضا بما تقدم ثمة من فحوى ما دل على انعقاد الصوم من المريض والمسافر إذا زال عذرهما قبل الزوال.

وقد تقدم ما في هذه الأدلة ونحوها من عدم الصلوح لتأسيس الأحكام الشرعية والمسألة لذلك لا تخلو من توقف والعمل بالاحتياط فيها لازم.

__________________

(١) ص ١٩.

٤٦

واما الحكم الثاني فهو المشهور وقد تقدم في الموضع المشار اليه نقل كلام ابن الجنيد الدال على الاجتزاء بالنية بعد الزوال إذا بقي جزء من النهار.

ولم نقف على دليل لشي‌ء من القولين المذكورين ، والذي تضمن التحديد بالزوال كموثقة عمار المتقدمة ورواية عبد الله بن بكير (١) مورده غير صيام شهر رمضان ، وكذا ما دل ظاهره على الامتداد الى ما بعد الزوال إنما ورد في ما عدا شهر رمضان ، فالحكم هنا لا يخلو من توقف في الموضعين المذكورين.

نعم ربما أمكن الاستناد في ذلك الى صحيحة هشام بن سالم المتقدمة ثمة (٢) قال : «قلت له الرجل يصبح ولا ينوي الصوم فإذا تعالى النهار حدث له رأى في الصوم؟ فقال ان هو نوى الصوم قبل أن تزول الشمس حسب له يومه وان نواه بعد الزوال حسب له من الوقت الذي نوى». بان تحمل على ما هو أعم من شهر رمضان وان المعنى في قوله : «وان نواه بعد الزوال حسب له من الوقت» انه متى نواه بعد الزوال فهو غير مجزئ وان كان يحسب له ثواب صومه من ذلك الوقت الذي بنى فيه والمراد منه بطلان الصوم وان أثيب بمقدار هذا الجزء الباقي.

ثم لا يخفى ان وجوب الإمساك بعد العلم بكونه من الشهر بعد الزوال ليس من حيث كونه صوما لحكمهم بإيجاب قضائه وإنما هو لتحريم الأكل والشرب في الشهر بغير شي‌ء من الأعذار المنصوصة ، وكذا وجوب الإمساك عليه لو ظهر كونه من الشهر بعد أن تناول المفطر.

الثامن ـ لو نوى الإفطار في يوم من شهر رمضان ثم جدد النية للصوم قبل الزوال فالمشهور ـ بل ظاهر كلام جملة منهم الاتفاق عليه ـ هو عدم الانعقاد ، لأن الإخلال بالنية في جزء من الصوم يقتضي فوات ذلك الجزء لفوات شرطه ويلزم منه فساد الكل لان الصوم لا يتبعض فيجب قضاؤه ، وفي وجوب الكفارة بذلك قولان.

__________________

(١) ص ٢٣.

(٢) الوسائل الباب ٢ من وجوب الصوم ونيته.

٤٧

وقال المحقق في الشرائع : لو نوى الإفطار في يوم من رمضان ثم جدد قبل الزوال قيل لا ينعقد وعليه القضاء ، ولو قيل بانعقاده كان أشبه.

وربما حكى القول بالانعقاد عن ظاهر كلام الشيخ ، قيل : ولعله نظر الى ظاهر ما دلت عليه صحيحة هشام بن سالم المتقدمة في الموضع الثاني (١) باعتبار دلالتها على انه بالنية قبل الزوال يحسب اليوم.

وفيه انا لم نجد أحدا من الأصحاب نقل ذلك عن الشيخ صريحا ولا ظاهرا ، وعلى تقدير صحة النقل فالاستناد إلى الصحيحة المشار إليها لا يخلو من نظر فان ظاهر سياق الخبر يعطي ان ذلك إنما هو بالنسبة إلى النافلة أو الواجب الغير المعين.

وبالجملة فإن المسألة لما كانت عارية عن النص فالحكم فيها مشكل والاحتياط فيها واجب وهو في جانب القول المشهور فيتعين العمل عليه ، ويؤيده أنه الأوفق أيضا بالأصول الشرعية والقواعد المرعية فإن من قام وقعد وركع وسجد لا بنية الصلاة لم تحسب له صلاة فكذلك من أمسك لا بقصد الصيام بل بقصد الإفطار لا يسمى صياما ، والإخلال بالصيام عمدا لغير عذر في بعض اليوم يقتضي بطلان صيام ذلك اليوم البتة. وبذلك يظهر ضعف توقف صاحب الذخيرة في هذه المسألة وانه من جملة تشكيكاته الركيكة.

وقال شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) في المسالك بعد نقل قول المحقق : «ولو قيل بالانعقاد كان أشبه» : هذا ـ على القول بالاجتزاء بنية واحدة مع تقدمها أو على القول بجواز تأخير النية الى قبل الزوال اختيارا ـ متوجه لحصول النية المعتبرة والحاصل منها إنما ينافي الاستدامة الحكمية لا نفس النية ، وشرطية الاستدامة أو توقف صحة الصوم عليها غير معلوم وان ثبت ذلك في الصلاة ، واما على القول بوجوب إيقاع النية ليلا فأخل بها ثم جددها قبل الزوال ففي الصحة نظر لأن الفائت هنا نفس النية في جزء من النهار وهي شرط في صحة الصوم نفسه فيفسد ذلك الجزء

__________________

(١) ص ٢٢ وتقدمت ايضا ص ٤٧.

٤٨

والصوم لا يتبعض ، وحينئذ فيقوى عدم الانعقاد. انتهى.

واعترض صدر كلامه المؤذن ببيان وجه الصحة لهذا القول سبطه السيد السند في المدارك فقال انه غير جيد ، لأن القول الثاني غير متحقق واللازم على الأول عدم اعتبار تجديد النية مطلقا للاكتفاء بالنية السابقة. ثم قال : وكيف كان فلا ريب في ضعف هذا القول. انتهى. وهو جيد.

التاسع ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه لو نوى الإفطار في أثناء النهار بعد أن عقد الصوم ثم جدد نية الصوم بعد نية الإفطار كان صومه صحيحا ، ذهب اليه الشيخ والمرتضى وأتباعهما.

واستدلوا على ذلك بان النواقض محصورة وليست هذه النية من جملتها فمن ادعى كونها ناقضة فعليه الدليل. وبان نية الإفطار إنما تنافي نية الصوم لا حكمها الثابت بالانعقاد الذي لا ينافيه النوم والغروب إجماعا. وبان النية لا يجب تجديدها في كل أزمنة الصوم إجماعا. فلا تتحقق المنافاة.

ونقل عن ابى الصلاح انه جزم بفساد الصوم بذلك وجعله موجبا للقضاء والكفارة.

واختار العلامة في المختلف هذا القول أيضا ولكنه أوجب القضاء دون الكفارة ، فاستدل على انتفاء الكفارة بالأصل السالم من المعارض ، وعلى انه مفسد للصوم بأنه عبادة مشروطة بالنية وقد فات شرطها فتبطل. وبان الأصل اعتبار النية في جميع اجزاء العبادة لكن لما كان ذلك منتفيا اعتبر حكمها وهو أن لا يأتي بنية تخالفها ولا ينوي قطعها ، فإذا نوى القطع زالت النية حقيقة وحكما ، فكان الصوم باطلا لفوات شرطه. وبأنه عمل خلا من النية حقيقة وحكما فلا يكون معتبرا في نظر الشارع. وإذا فسد صوم جزء من النهار فسد صوم ذلك اليوم بالجمعة لأن الصوم لا يتبعض.

وأجاب العلامة في المختلف عن احتجاج الشيخ المتقدم بانا قد بينا الدليل على

٤٩

ان هذه النية مبطلة للصوم من حيث انها مبطلة لشرطه اعنى نية الصوم ومبطل الشرط مبطل للشروط ، ولا نسلم حصول الشرط لأن ادامة النية شرط لما تقدم وقد فات ونحن قد بينا كون الدوام شرطا. انتهى.

أقول : لا يخفى أن مرجع الخلاف في هذه المسألة عند التأمل في أدلة القولين المذكورين إلى انه هل يشترط استدامة النية في الصوم حقيقة أو حكما أم لا؟ ومبنى القول المشهور على الثاني ومبنى القول الآخر على الأول ، وظاهر كلام شيخنا الشهيد الثاني المتقدم في سابق هذا الموضع هو عدم الاشتراط.

قال في المدارك : وقد قطع الشيخ والمرتضى والمصنف في المعتبر بعدم اشتراطها ثم قال : ولا بأس به لأنه الأصل وليس له معارض يعتد به ، ومع ذلك فالمسألة محل تردد. انتهى.

وربما يقال انه يمكن الاستدلال على وجوب الاستدامة بقوله عليه‌السلام (١) «إنما الأعمال بالنيات». وفيه انه يمكن أن يقال ان العمل هنا لم يقع إلا بنية فيدخل تحت الخبر ، وليس في الخبر المذكور أزيد من أنه يجب وقوعه عن نية وقصد وهو كذلك واما انه يجب استمرار ذلك القصد فلا دلالة فيه عليه.

ويمكن الاستدلال على الصحة في موضع البحث بما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (٢) قال : «سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : ما يضر الصائم ما صنع

__________________

(١) الوسائل الباب ٥ من مقدمة العبادات والباب ٢ من وجوب الصوم ونيته.

(٢) الوسائل الباب ١ من ما يمسك عنه الصائم. وقد رواه في التهذيب ج ٤ الطبع الحديث عن محمد بن مسلم بطرق ثلاثة : الأول ص ١٨٩ عن على بن مهزيار عن ابن ابى عمير ، الثاني ص ٢٠٢ عن الحسين بن سعيد عن ابن ابى عمير ، الثالث ص ٣١٨ عن محمد ابن على بن محبوب عن يعقوب بن يزيد عن ابن ابى عمير ، وفي الأولين اللفظ هكذا : «إذا اجتنب ثلاث خصال : الطعام والشراب والنساء والارتماس» نعم في الثاني في التعليقة (١) ان في بعض المخطوطات «أربع» وفي الثالث «إذا اجتنب أربع خصال ...» كما في الفقيه ج ٢ ص ٦٧ واللفظ في الأولين «لا يضر» وفي الثالث «ما يضر» ولا يخفى ان

٥٠

إذا اجتنب اربع خصال : الطعام والشراب والنساء والارتماس». إلا انه يمكن تطرق الاحتمال الى تخصيص ذلك بأفعال الجوارح كما يشير اليه قوله «ما صنع» أو كون الحصر إضافيا لا حقيقيا.

وبالجملة فالمسألة لعدم النص لا تخلو من الاشكال والاحتياط فيها مطلوب على كل حال وهو في جانب القول الثاني.

بقي هنا شي‌ء وهو ان ظاهر كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) هو انه لا بد في صحة الصوم بعد نية الإفطار من تجديد نية الصوم وإلا كان باطلا ، بل صرح العلامة بذلك في المنتهى فقال : قد بينا انه لو نوى الإفطار بعد انعقاد الصوم لم يفطر لأنه انعقد شرعا فلا يخرج عنه إلا بدليل شرعي. هذا إذا عاد ونوى الصوم اما لو لم ينو بعد ذلك الصوم فالوجه وجوب القضاء.

واعترضه في المدارك بعد نقل ذلك عنه بأنه غير جيد لأن المقتضي للفساد عند القائل به العزم على فعل المفطر فان ثبت ذلك وجب الحكم بالبطلان مطلقا وإلا وجب القول بالصحة كذلك كما أطلقه في المعتبر. انتهى.

وهو جيد وبه تزيد المسألة إشكالا فإن الحكم بصحة الصوم بعد النية أولا ثم الرجوع عنها إلى نية الإفطار والاستمرار على هذه النية الى ان ينقضي النهار من ما يكاد يقطع بعدمه.

والأقرب الى التحقيق في هذا المقام أن يقال ان العبادات لما كانت توقيفية والمعلوم من الشرع وهو الذي عليه جرى السلف من زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله هو وجوب النية في الصوم بل غيره من العبادات واستصحاب تلك النية فعلا أو حكما الى آخر العبادة ، فإنه لم يرد ولم ينقل صحته مع العدول عن تلك النية إلى نية تغايرها استمر عليها أو لم يستمر ، فالحكم بالصحة في هذه الصورة خارج عن التوقيف المعلوم من

__________________

ابن ابى عمير يرويه عن حماد بن عثمان عن محمد بن مسلم وسيأتي التعرض من المصنف (قدس‌سره) لذلك في المسألة الأولى من مسائل المطلب الثاني.

٥١

الشرع ، وحينئذ فقول المستدل ـ ومن ادعى كونها ناقضة فعليه الدليل ـ مردود بان الدليل على النقض خروجه عن التوقيف الواجب اعتباره في العبادات ، فان الحكم بصحتها يتوقف على وقوعها على الوجه الذي علم من صاحب الشريعة والذي علم منه يقينا هو اعتبار استمرار النية فعلا أو حكما ولم يعلم منه جواز تركها أو العدول عنها الى ما ينافيها ، فالمدعى لصحة العبادة على هذا الوجه عليه الدليل. وبذلك يظهر ان الأصح في المسألة ما ذهب إليه في المختلف مع تأيده بالاحتياط كما عرفت.

العاشر ـ ذهب الشيخ في النهاية والمبسوط والخلاف إلى انه يختص شهر رمضان بجواز تقديم نيته عليه فلو سها عن النية وقت دخوله اكتفى بالنية الأولى ، ونقله في الخلاف عن الأصحاب وصرح بجواز تقديمها بيوم أو يومين.

قال المحقق في المعتبر بعد أن عزى ذلك الى الشيخ وذكر انه لم يذكر له مستندا : ولعل ذلك لكون المقارنة غير مشروطة وكما جاز أن يتقدم من أول ليلة الصوم وان تعقبها النوم والأكل والشرب والجماع جاز ان يتقدم على تلك الليلة بالزمان المقارب كاليومين والثلاثة. لكن هذه الحجة ضعيفة لأن تقديمها في أول ليلة الصوم مستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) «من لم يبيت نية الصوم من الليل فلا صيام له». ولأن إيقاعها قبل الفجر بحيث يكون طلوعه عند إكمال النية عسر فينتفى ، وليس كذلك التقديم بالأيام ولأن الليلة متصلة باليوم اتصال اجزاء النهار بخلاف الأيام. انتهى.

أقول : قد نقل العلامة في المختلف عن الشيخ انه احتج بمضمون ما ذكره في المعتبر ثم رده بنحو ما ذكره في المعتبر ايضا. قال السيد السند في المدارك بعد أن استجود كلام المعتبر : والأصح عدم

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٤ ص ٢٠٢ عن حفصة عن النبي (ص) «من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له» وارجع في اختلاف لفظ الحديث باختلاف طرفه إلى المغني ج ٣ ص ٩١ ايضا.

٥٢

الاكتفاء بالعزم المتقدم لان من شرط النية المقارنة للمنوي ، خرج من ذلك تقديم نية الصوم من الليل بالنص والإجماع فيبقى الباقي. انتهى.

ثم ان الشيخ (رحمه‌الله) صرح في النهاية والمبسوط بان العزم السابق إنما يجزئ مع السهو عن تجديد النية عند دخول الشهر ، بل قال الشهيد في البيان : ولو ذكر عند دخول الشهر لم يجزئ العزم السابق قولا واحدا. ولا ريب ان هذا التفصيل من ما يوجب ضعف القول المذكور بناء على أصولهم وقواعدهم ، فإن المقارنة ان كانت معتبرة كما هو المشهور في كلامهم والدائر على ألسنة أقلامهم لم يمكن الاعتماد على العزم السابق مطلقا سها عن النية أو لم يسه وان لم تكن معتبرة وجب الاكتفاء بالعزم السابق مطلقا.

وأنت خبير بان كلامهم هنا كله يدور على النية بالمعنى الذي قدمنا نقله عنهم الذي هو عبارة عن الحديث النفسي والتصوير الفكري الذي يقارن به الفعل بحيث يكون الفعل على آخره من غير فصل وزمان ، وقد عرفت ان النية ليست هذه فإن الأمر فيها أهون من ما ذكروه ، وهذا البحث من أوله الى آخره كسائر ابحاثهم المتقدمة ساقط على المعنى الذي حققناه آنفا.

الحادي عشر ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان نية الصبي المميز صحيحة وصومه شرعي وكذا جملة عباداته شرعية ، بمعنى انها مستندة الى أمر الشارع فيستحق عليها الثواب لا تمرينية ، ذهب اليه الشيخ وجمع : منهم ـ المحقق وغيره لإطلاق الأمر ، ولأن الأمر بالأمر بالشي‌ء أمر بذلك الشي‌ء ، بمعنى ان الظاهر من حال الآمر كونه مريدا لذلك الشي‌ء.

وقال العلامة في المختلف بعد أن نقل القول المذكور عن الشيخ : وعندي في ذلك اشكال والأقرب انه على سبيل التمرين ، واما انه تكليف مندوب إليه فالأقرب المنع ، لنا ـ ان التكليف مشروط بالبلوغ ومع انتفاء الشرط ينتفي المشروط. انتهى

ويمكن تطرق القدح إليه بأن اعتبار هذا الشرط على إطلاقه محل نظر ، فان

٥٣

العقل لا يأبى توجيه الخطاب الى المميز والعلوم من الشرع ان التكليف المتوقف على البلوغ إنما هو التكليف بالوجوب والتحريم لحديث رفع القلم (١) ونحوه اما التكليف المندوب فلا مانع منه عقلا ولا شرعا.

ويعضد ما قلناه ما ورد في الأخبار من جواز عتق الصبي ابن عشر سنين وصدقته ووصيته :

ففي رواية زرارة عن ابى جعفر عليه‌السلام (٢) قال : «إذا أتى على الغلام عشر سنين فإنه يجوز له في ماله ما أعتق وتصدق وأوصى على حد معروف وحق فهو جائز».

وفي رواية عبد الرحمن بن ابى عبد الله البصري (٣) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام إذا بلغ الغلام عشر سنين جازت وصيته».

وبمضمون ذلك في الوصية أخبار عديدة (٤).

وفي موثقة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٥) قال : «يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عقل وصدقته ووصيته وان لم يحتلم».

وفي رواية أبي بصير (٦) «فإذا كان ابن سبع سنين فاوصى من ماله باليسير في حق جازت وصيته».

ومنها ـ الأخبار الدالة على جواز إمامته كموثقة غياث بن إبراهيم عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٧) قال : «لا بأس بالغلام الذي لم يبلغ الحلم ان يؤم القوم وان يؤذن». ونحوها رواية طلحة بن زيد (٨) وبمضمونهما عمل الشيخ وجمع من الأصحاب

__________________

(١) الوسائل الباب ٤ من مقدمة العبادات ، وسنن البيهقي ج ٨ ص ٢٦٤.

(٢ و ٣ و ٤ و ٦) الوسائل الباب ٤٤ من الوصايا.

(٥) التهذيب ج ٢ ص ٣٨٥ وفي الوسائل الباب ١٥ من الوقوف والصدقات وفيه «جميل بن دراج عن أحدهما ع» وفي التهذيب «جميل عن محمد بن مسلم عن أحدهما ع».

(٧ و ٨) الوسائل الباب ١٤ من صلاة الجماعة.

٥٤

ومن الظاهر ان اذن الشارع له في الصدقة والوقف والعتق والإمامة موجب لترتب الثواب عليها فتكون شرعية ويدخل بها تحت الأوامر المطلقة بالعتق والصدقة والإمامة ونحوها فيكون داخلا تحت الخطاب مستحقا للأجر والثواب.

وأصحابنا (رضوان الله عليهم) كما قدمنا النقل عنهم إنما استندوا إلى أمر الشارع للولي بتكليف الصبي بالعبادة وان الأمر بالأمر بالشي‌ء أمر بذلك الشي‌ء وما ذكرناه من الاخبار أوضح في الاستدلال وأبعد من تطرق الاحتمال والنزاع في هذا المجال.

وبالجملة فالخطاب بإطلاقه في جميع أبواب العبادات شامل له والفهم الذي هو شرط التكليف حاصل كما هو المفروض ومن ادعى زيادة على ذلك فعليه الدليل ، وتخرج الأخبار التي ذكرناها شاهدة على ذلك.

ويتفرع على الخلاف المذكور وصف العبادة الصادرة منه بالصحة وعدمها ، فان قلنا انها شرعية جاز وصفها بالصحة لأنها عبارة عن موافقة الأمر ، وان قلنا انها تمرينية لم توصف بصحة ولا فساد.

وقال شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) في كتاب المسالك ـ بعد قول المصنف : نية الصبي المميز صحيحة وصومه شرعي ـ ما صورته : اما صحة نيته وصومه فلا اشكال فيه لأنها من باب خطاب الوضع وهو غير متوقف على التكليف ، واما كون صومه شرعيا ففيه نظر لاختصاص خطاب الشرع بالمكلفين ، والأصح أنه تمريني لا شرعي. انتهى.

واعترضه سبطه السيد السند في المدارك بأنه غير جيد ، قال : لأن الصحة والبطلان اللذين هما موافقة الأمر ومخالفته لا يحتاج الى توقيف من الشارع بل يعرف بمجرد العقل ككونه مؤديا للصلاة وتاركا لها ، فلا يكون من حكم الشرع في شي‌ء بل هو عقلي مجرد كما صرح به ابن الحاجب وغيره. انتهى.

أقول : مرجع كلام السيد السند الى منع كون الصحة والبطلان من باب

٥٥

خطاب الوضع وهو الذي صرح به ابن الحاجب في المختصر وشارحة في الشرح ، وهو ظاهر العلامة في النهاية لما ذكره هنا من انه بعد ورود أمر الشارع بالفعل فكون الفعل موافقا للأمر أو مخالفا وكون ما فعل تمام الواجب حتى يكون مسقطا للقضاء وعدمه لا يحتاج الى توقيف من الشارع بل يعرف بمجرد العقل ، فهو ككونه مؤديا للصلاة وتاركا لها سواء بسواء ، فلا يكون حصوله في نفسه ولا حكمنا به من حكم الشرع في شي‌ء بل هو عقلي مجرد ، وهذا بخلاف الأحكام الوضعية التي هي عبارة عن الشرط والسبب والمانع الذي يكون حصوله في نفسه والحكم به موقوفا على الشرع.

وأنت خبير بان من رجع الى الأخبار التي قدمناها لا يخفى عليه ضعف ما ذهب اليه شيخنا المذكور وكل من تقدمه وتأخر عنه وقال بأن عبادة الصبي تمرينية وليست بشرعية. واما قول شيخنا المشار إليه في منع كون صومه شرعيا ـ لاختصاص خطاب الشرع بالمكلفين ـ فقد عرفت جوابه.

المطلب الثاني

في ما يمسك عنه الصائم وفيه مسائل الأولى ـ يجب الإمساك عن كل مأكول ومشروب معتادا كان أو غير معتاد :

اما المعتاد فلا خلاف فيه بين الأصحاب ويدل عليه مضافا الى الإجماع الآية (١) والاخبار (٢).

ولا خلاف أيضا في كون فعله موجبا للقضاء والكفارة ، ويدل عليه مضافا الى الإجماع الأخبار الآتية الدالة على وجوب الكفارة بالإفطار به (٣).

__________________

(١) وهي قوله تعالى في سورة البقرة الآية ١٨٤ (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ).

(٢) الوسائل الباب ١ و ٩ و ٢٣ و ٢٥ و ٣٧ الى ٥١ من ما يمسك عنه الصائم وغير ذلك.

(٣) الوسائل الباب ٨ و ٩ و ١٠ و ١١ و ٢٢ من ما يمسك عنه الصائم.

٥٦

واما غير المعتاد كالتراب والحجر والفحم والخزف والحصى وماء الشجر والفواكه وماء الورد ونحوها فالمشهور بين الأصحاب انه كذلك ، ونقل في المختلف عن السيد المرتضى وابن الجنيد انه ينقص الصوم ولا يبطله ، ونقل السيد (رضى الله عنه) عن بعض أصحابنا انه يوجب القضاء خاصة.

حجة القول المشهور ان ما دل على تحريم الأكل والشرب يتناول المعتاد وغيره وان الصوم إمساك عن ما يصل الى الجوف وتناول هذه الأشياء ينافي الإمساك.

حجة القول الآخر ان تحريم الأكل والشرب إنما ينصرف الى المعتاد فيبقى الباقي على أصل الإباحة.

وأجيب عنه بمنع الانصراف الى المعتاد ودعوى العموم بالنسبة إلى المعتاد وغيره.

وعندي ان هذا الجواب لا يخلو من نظر لما صرحوا به في غير موضع من أن الأحكام المودعة في الاخبار إنما تنصرف الى الافراد المتكررة الشائعة دون الأفراد النادرة فشمول الأخبار لغير المعتاد غير واضح.

ويؤيده ما رواه الشيخ عن مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم‌السلام) (١) «ان عليا عليه‌السلام سئل عن الذباب يدخل في حلق الصائم قال ليس عليه قضاء انه ليس بطعام».

ونقل عن السيد (رضى الله عنه) في المسائل الناصرية ما يدل على خلاف كلامه المتقدم حيث قال : لا خلاف في ما يصل الى جوف الصائم من جهة فمه إذا اعتمد انه يفطره مثل الحصاة والخرزة وما لا يؤكل ولا يشرب وانما خالف في ذلك الحسن بن صالح وقال انه لا يفطر وروى نحوه عن أبي طلحة (٢) والإجماع متقدم

__________________

(١) التهذيب ج ٤ ص ٣١٣ الطبع الحديث وفي الوسائل الباب ٣٩ من ما يمسك عنه الصائم.

(٢) المغني ج ٣ ص ١٠٣.

٥٧

ومتأخر عن هذا الخلاف فسقط حكمه. انتهى.

ولا بأس بإيراد جملة من الاخبار المتعلقة بهذه المسألة العاضدة للآية الشريفة وهي قوله عزوجل (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (١).

ومنها ـ صحيحة محمد بن مسلم (٢) قال : «سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب أربع خصال : الطعام والشراب والنساء والارتماس في الماء».

هكذا روى الحديث في الفقيه وموضع من التهذيب ، وفي موضعين آخرين منه بسندين آخرين أيضا (٣) بلفظ «ثلاث خصال».

قيل : ولعل الوجه في هذه النسخة ـ ان صحت ـ انه عطف الارتماس على الثلاث وأخرجه منها لأنه من ما يضر ولا يبطل ، أو جعل الطعام والشراب خصلة واحدة لاشتراكهما في إدخال شي‌ء في الجوف ولهذا لم يذكر الحقنة بالمائع مع إيجابه القضاء ، والإخراج في حكم الإدخال ولهذا عدل عن الأكل والشرب الى الطعام والشراب ليشمل القي‌ء الاختياري أيضا. انتهى.

والظاهر انه تكلف مستغنى عنه فإنه لا يخفى على من أحاط خبرا بطريقة الشيخ في الكتاب وما وقع له من التغيير والتبديل والزيادة والنقصان في المتون والأسانيد ان ما ذكره من نسخة «ثلاث» انما هو سهو من قلمه وان النسخة الصحيحة هي «أربع» وقوله ـ «انه اخرج الارتماس منها لانه يضر ولا يبطل» بناء على ما هو أحد الأقوال في المسألة ـ ممنوع بما سنوضحه ان شاء الله تعالى في المسألة المذكورة ، نعم ينبغي أن يقال انه إنما اقتصر على هذه الأربعة مع ان غيرها كما

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٨٤.

(٢) الوسائل الباب ١ من ما يمسك عنه الصائم.

(٣) ارجع الى التعليقة ٢ ص ٥٠.

٥٨

سيأتي ان شاء الله تعالى من المضرات بالصيام من حيث انها هي المعتادة المتداولة المتكررة دون غيرها من القي‌ء والحقنة المختصة بالمرضي والكذب على الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونحوها.

ومنها ـ رواية أبي بصير (١) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام الصيام من الطعام والشراب ، والإنسان ينبغي له أن يحفظ لسانه من اللغو والباطل في رمضان وغيره».

ومنها ـ ما رواه المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه بإسناده عن على عليه‌السلام (٢) قال : «واما حدود الصوم فأربعة حدود : أولها اجتناب الأكل والشرب والثاني اجتناب النكاح والثالث اجتناب القي‌ء متعمدا. والرابع اجتناب الاغتماس في الماء وما يتصل بها وما يجرى مجراها».

وما رواه في الكافي في الصحيح عندي والحسن على المشهور بإبراهيم بن هاشم عن الحلبي (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن (الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) (٤) فقال بياض النهار من سواد الليل. قال : وكان بلال يؤذن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وابن أم مكتوم وكان أعمى يؤذن بليل ويؤذن بلال حين يطلع الفجر فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا سمعتم صوت بلال فدعوا الطعام والشراب فقد أصبحتم».

وما رواه فيه في الصحيح عن ابى بصير (٥) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام فقلت متى يحرم الطعام والشراب على الصائم وتحل الصلاة صلاة الفجر؟ فقال إذا اعترض الفجر وكان كالقبطية البيضاء فثم يحرم الطعام ويحل الصيام وتحل الصلاة». الى غير ذلك من الأخبار الآتية في تضاعيف الأحكام. إذا عرفت ذلك فاعلم انه ينبغي أن يعلم ان ما ذكرنا من بطلان الصوم بالأكل

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١ من ما يمسك عنه الصائم.

(٣ و ٥) الوسائل الباب ٤٢ من ما يمسك عنه الصائم.

(٤) سورة البقرة الآية ١٨٤.

٥٩

والشرب يحب تقييده بالعالم العامد وكذا كل ما يأتي من مفسدات الصوم فإنه لا ريب ولا خلاف في فساد الصوم بذلك وانه موجب للقضاء والكفارة.

اما لو لم يكن كذلك بان كان جاهلا أو ناسيا أو مكرها فتحقيق الكلام فيه يقع في مواضع ثلاثة :

أحدها ـ أن يكون جاهلا والمشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) فساد صومه كالعالم ، وفان ابن إدريس : لو جامع أو أفطر جاهلا بالتحريم فلا يجب عليه شي‌ء. ونحوه نقل عن الشيخ في موضع من التهذيب. وإطلاق كلامهما يقتضي سقوط القضاء والكفارة ، واحتمله في المنتهى إلحاقا للجاهل بالناسي.

وقال المحقق في المعتبر : والذي يقوى عندي فساد صومه ووجوب القضاء دون الكفارة.

قال في المدارك بعد نقله عنه : والى هذا القول ذهب أكثر المتأخرين وهو المعتمد ، لنا على الحكم الأول إطلاق الأمر بالقضاء عند عروض أحد الأسباب المقتضية لفساد الأداء فإنه يتناول العالم والجاهل. ولنا على سقوط الكفارة التمسك بمقتضى الأصل وما رواه الشيخ عن زرارة وابى بصير (١) قالا : «سألنا أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل أتى أهله في شهر رمضان أو أتى أهله وهو محرم وهو لا يرى إلا ان ذلك حلال له؟ قال ليس عليه شي‌ء». (لا يقال) الأصل يرتفع بالروايات المتضمنة لترتب الكفارة على الإفطار المتناولة بإطلاقها للعالم والجاهل كما اعترفتم به في وجوب القضاء ، والرواية قاصرة من حيث السند فلا تنهض حجة في إثبات هذا الحكم (لأنا نقول) لا دلالة في شي‌ء من الروايات التي وصلت إلينا من هذا الباب على تعلق الكفارة بالجاهل إذ الحكم وقع فيها معلقا على تعمد الإفطار وهو انما يتحقق مع العلم بكون ذلك الفعل مفسدا للصوم ، فان من أتى بالمفطر جاهلا كونه كذلك لا يصدق عليه انه تعمد الإفطار وان صدق عليه انه متعمد لذلك الفعل ،

__________________

(١) الوسائل الباب ٩ من ما يمسك عنه الصائم والباب ٢ من كفارات الاستمتاع.

٦٠