الحدائق الناضرة - ج ١٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٢

أقول : ويرده صريحا ما تقدم قريبا في آخر نوادر كتاب الصيام (١) من حديث عمر بن يزيد المشتمل على نسبة هذا القول للمغيرية وتكذيب الصادق (عليه‌السلام) لهم في ذلك.

الثاني ـ انهم قد فرعوا على هذا الشرط انه لو نذر اعتكافا مطلقا انصرف الى ثلاثة أيام لأنها أقل ما يمكن جعله اعتكافا ، ومبدأها طلوع الفجر أو غروب الشمس بناء على القولين المتقدمين. ويعتبر كون الأيام تامة فلا يجزئ الملفق من الأول والرابع لان نصف اليومين لا يصدق عليهما انهما يوم.

ومن ما يتفرع على ذلك ايضا انه لو وجب عليه قضاء يوم من اعتكاف اعتكف ثلاثة ليصح. وكذا لو نذر اعتكاف أربعة أيام فاعتكف ثلاثة ثم قطع أو نذر اعتكاف يوم ولم يقيده بعدم الزائد. ويتخير في جميع هذه المواضع بين تقديم الزائد وتأخيره وتوسيطه.

إلا ان جملة من المتأخرين ذكروا ان الزائد على الواجب أصالة ان تأخر عن الواجب لم يقع إلا واجبا وان تقدم جاز ان ينوي به الوجوب من باب مقدمة الواجب والندب لعدم تعين الزمان له.

وربما أشكل ذلك بما إذا كان الواجب يوما واحدا فان اعتكاف اليومين بنية الندب يوجب الثالث فلا يكون مجزئا عن ما في ذمته.

وفيه انه لا منافاة بين كونه واجبا سابقا وعروض الوجوب له من جهة أخرى ، وهل هو إلا من قبيل نذر الواجب على القول به.

الثالث ـ لو ابتدأ بالاعتكاف في مدة لا تسلم فيها الثلاثة كأن يبتدئ قبل العيد بيوم أو بيومين لم يصح اعتكافه لأن أقله ثلاثة أيام وهو مشروط بالصوم والعيد لا يجوز صومه فيبطل اعتكافه البتة من غير اشكال ولا خلاف ، نعم يمكن ذلك بناء على جواز صوم العيد في كفارة القاتل في الأشهر الحرم بناء على القول بذلك كما تقدم ذكره في كتاب الصيام في المطلب الثالث من مطالب المقصد الثاني

__________________

(١) ص ٤٥٢.

٤٦١

من الكتاب المذكور (١).

الرابع ـ لو نذر الاعتكاف عشرين يوما أو عشرة أيام مثلا فان اشترط التتابع لفظا أو كان التتابع حاصلا معنى ـ والمراد بالتتابع لفظا أن يكون مدلولا عليه بلفظ التتابع أو ما أدى مؤداه ، والتتابع معنى ما كان مدلولا عليه بالالتزام كنذر اعتكاف شهر رجب الذي لا يتحقق الإتيان به إلا بالتتابع فان الشهر اسم مركب من الأيام المعدودة ـ فلا ريب في وجوب التتابع ، وان انتفى الأمران فالمشهور جواز التتابع والتفريق لتحقق الامتثال بكل منهما ، لكن ليس له ان ينقص عن ثلاثة أيام لأنها أقل مدة يسوغ الاعتكاف فيها. واستقرب العلامة في التذكرة والمنتهى عدم تعين ذلك وجوز له اعتكاف يوم عن النذر وضم يومين مندوبين اليه أو واجبين بغير النذر كما لو نذر ان يعتكف يوما وسكت عن الزائد ، وهو جيد.

الخامس ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه لو نذر اعتكاف ثلاثة أيام من دون لياليها لم يصح ، لأن الليالي إذا لم تدخل في الاعتكاف يحصل الخروج منه بدخول الليل فيجوز له فعل ما ينافيه فينقطع اعتكاف ذلك اليوم عن ما قبله ويصير منفردا ، ويلزم من ذلك صحة اعتكاف أقل من ثلاثة أيام ، وهو معلوم البطلان كما عرفت من الاخبار الدالة على ان أقله ثلاثة أيام.

وقال الشيخ في الحلاف : اذا قال لله علىّ أن اعتكاف ثلاثة أيام يلزم ذلك فان قال متتابعة لزم بينها ليلتان وأن لم يشترط المتابعة جاز ان يعتكف نهار ثلاثة أيام بلا لياليهن. مع انه قال في هذا الكتاب : لا يكون الاعتكاف أقل من ثلاثة أيام وليلتين. إلا أن يحمل على التقييد بالمتابعة.

وقال في المبسوط : ان نذر أياما بعينها لم يدخل فيها لياليها إلا أن يقول العشر الأواخر وما يجرى مجراه فيلزمه حينئذ الليالي لان الاسم يقع عليه. ثم قال في

__________________

(١) ص ٣٨٨.

٤٦٢

موضع آخر منه : ولو نذر اعتكاف ثلاثة أيام وجب عليه ان يدخل فيه قبل طلوع الفجر من أول يومه الى بعد الغروب من ذلك اليوم وكذلك اليوم الثاني والثالث ، هذا ان أطلقه وان شرط التتابع لزمه الثلاثة الأيام بينها ليلتان.

قال في المختلف بعد نقل ذلك عنه : والمعتمد دخول الليالي ، لنا ان الاعتكاف لا يكون أقل من ثلاثة أيام ومفهوم ذلك دخول الليالي. انتهى.

أقول : كأن الشيخ (رحمه‌الله) بنى على ان اليوم انما هو عبارة عن ما بعد طلوع الفجر الى غروب الشمس والثلاثة الأيام المذكورة في الاخبار عبارة عن ذلك فالليل مع عدم قيد التتابع غير داخل فيها. وفيه ان الحكم على الثلاثة بكونها أقل ما يقع فيه الاعتكاف ولا يصح في أقل منها ظاهر في إدخال الليلتين بالتقريب المتقدم ، ويعضده الأخبار الدالة على وجوب الكفارة على من جامع ليلا وهو معتكف (١) كما سيأتي ان شاء الله تعالى ، وتقييدها بالمتابعة لا دليل عليه ولا داعي إليه.

الثالث ـ المكان ولا بد أن يكون مسجدا اتفاقا وانما اختلفوا في تعيينه فقال الشيخ والمرتضى انه لا يصح الاعتكاف إلا في أربعة مساجد : المسجد الحرام ومسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومسجد الكوفة ومسجد البصرة ، وبه قال أبو جعفر بن بابويه في كتاب من لا يحضره الفقيه وسلار وأبو الصلاح وابن البراج وابن حمزة وابن إدريس.

وقال على بن بابويه : لا يجوز الاعتكاف إلا في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومسجد الكوفة ومسجد المدائن ، والعلة في ذلك انه لا يعتكف إلا في مسجد جمع فيه امام عدل وقد جمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة وجمع أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذه المواضع ، وقد روى في مسجد البصرة رواية.

وقال ابن إدريس في السرائر : وقد ذهب بعض أصحابنا وهو ابن بابويه الى ان أحد الأربعة مسجد المدائن وجعل مسجد البصرة رواية ، ويحسن في هذا الموضع

__________________

(١) الوسائل الباب ٦ من الاعتكاف.

٤٦٣

قول : «اقلب تصب» لان الأظهر بين الطائفة ما قلناه أولا فإن كانت قد رويت لمسجد المدائن رواية فهي من أخبار الآحاد.

قال في المختلف بعد نقل ذلك عنه ـ ونعم ما قال ـ وهذا تهجم في القول على مثل هذا الشيخ وتهكم بكلامه ، ولا يليق بمن له أدنى فطانة مخاطبة مثل هذا الشيخ الأعظم السابق في الفضل الجامع بين العلم والعمل الذي راسله الامام ودعا له بما طلب منه (١) بمثل هذا الكلام.

ثم نقل عن ابنه ابى جعفر في المقنع انه قال : ولا يجوز الاعتكاف إلا في خمسة مساجد : في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومسجد الكوفة ومسجد المدائن ومسجد البصرة ، وعلل بان الاعتكاف إنما يكون في مسجد جمع فيه امام عدل والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) جمع بمكة والمدينة وجمع أمير المؤمنين عليه‌السلام في الثلاثة الباقية.

وقال المفيد : لا يكون الاعتكاف إلا في المسجد الأعظم ، وقد روى انه لا يكون إلا في مسجد جمع فيه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أو وصى نبي. ثم عد المسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد الكوفة ومسجد البصرة.

وقال ابن ابى عقيل (٢) الاعتكاف عند آل الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لا يكون إلا في المساجد وأفضل الاعتكاف في المسجد الحرام ومسجد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومسجد الكوفة وسائر الأمصار مساجد الجماعات.

أقول : والظاهر ان مرجع القول الأول والثاني المنقول عن على بن بابويه إلى أمر واحد وهو أن يكون مسجدا قد جمع فيه نبي أو وصي نبي أعم من أن يكون جماعة أو جمعة وان كان قد صرح الشيخ في المبسوط والمرتضى في الانتصار بان

__________________

(١) رجال النجاشي في ترجمة الشيخ الصدوق وغيبة الشيخ الطوسي ص ٢٠١ طبع تبريز وإكمال الدين ص ٢٧٦.

(٢) الوسائل الباب ٣ من الاعتكاف.

٤٦٤

المعتبر في ذلك صلاة الجمعة وانه لا يكفى مطلق الجماعة ، ونقله في المختلف عن الشيخ المفيد ايضا وابن حمزة وابن إدريس ، وظاهر ابني بابويه الاكتفاء بمطلق الجماعة.

وقال في المختلف : ولا أرى لهذا الخلاف فائدة إلا أن يثبت زيادة مسجد صلى فيه بعض الأئمة (عليهم‌السلام) جماعة لا جمعة. وقال ابنه في الشرح ان فائدة الخلاف تظهر في مسجد المدائن فإن المروي ان الحسن عليه‌السلام صلى فيه جماعة لا جمعة.

أقول : قد تقدم في عبارة الشيخ على بن بابويه ان مسجد المدائن قد جمع فيه أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو المذكور في الفقه الرضوي (١) والى هذا القول ذهب في المنتهى والمختلف ونسبه في المنتهى الى المشهور بين علمائنا.

واما ما ذهب اليه الشيخ المفيد (قدس‌سره) فالظاهر ان مراده بالمسجد الأعظم يعني جامع البلد ، واليه ذهب المحقق في كتبه وأكثر المتأخرين ، وظاهر جملة من الأصحاب حمل عبارة ابن أبى عقيل على ذلك وهو بعيد عن ظاهرها وان ظاهرها مطلق المسجد.

واما الاخبار الواردة في هذا الباب فمنها ـ ما رواه الصدوق في الصحيح عن عمر بن يزيد (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما تقول في الاعتكاف ببغداد في بعض مساجدها؟ فقال : لا يعتكف إلا في مسجد جماعة قد صلى فيه امام عدل جماعة ولا بأس بأن يعتكف في مسجد الكوفة والبصرة ومسجد المدينة ومسجد مكة». ورواه الشيخان ثقة الإسلام وشيخ الطائفة بسند غير نقى (٣).

وقال في الفقيه (٤) : وقد روى في مسجد المدائن.

وما رواه المشايخ الثلاثة أيضا في الصحيح في بعضها عن داود بن سرحان عن

__________________

(١) ص ٢٦.

(٢) الفقيه ج ٢ ص ١٢٠ وفي الوسائل الباب ٣ من الاعتكاف.

(٣ و ٤) الوسائل الباب ٣ من الاعتكاف.

٤٦٥

ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال «ان عليا عليه‌السلام كان يقول : لا أرى الاعتكاف إلا في المسجد الحرام أو مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو مسجد جامع».

وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «سئل عن الاعتكاف فقال : لا يصلح الاعتكاف إلا في المسجد الحرام أو مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو مسجد الكوفة أو مسجد جماعة. وتصوم ما دمت معتكفا».

وما رواه الشيخ في الموثق عن الكناني عن أبى عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «سئل عن الاعتكاف في شهر رمضان قال ان عليا عليه‌السلام كان يقول لا أرى الاعتكاف إلا في المسجد الحرام أو في مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو في مسجد جامع».

وما رواه عن على بن عمران الرازي عن ابى عبد الله عن أبيه (عليهما‌السلام) (٤) قال : «المعتكف يعتكف في المسجد الجامع».

وما رواه أيضا عن يحيى بن العلاء الرازي عن ابى عبد الله (٥) قال : «لا يكون الاعتكاف إلا في مسجد جماعة».

وما تقدم في صدر الكتاب في صحيحة الحلبي برواية الصدوق (٦) من قوله عليه‌السلام : «لا اعتكاف إلا بصوم في المسجد الجامع».

وما رواه الشيخ في القوى عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام في حديث (٧) قال : «لا يصلح العكوف في غيرها ـ يعني مكة ـ إلا ان يكون في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو في مسجد من مساجد الجماعة».

وما رواه أيضا عن على بن غراب عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٨) قال : «المعتكف

__________________

(١ و ٢ و ٧) الوسائل الباب ٣ من الاعتكاف.

(٣) الوسائل الباب ٣ من الاعتكاف ، وفي التهذيب ج ٤ ص ٢٩١ هكذا «سئل عن الاعتكاف في رمضان في العشر ...».

(٤) التهذيب ج ٤ ص ٢٩٠ وفي الوسائل الباب ٣ من الاعتكاف.

(٥ و ٨) الوسائل الباب ٣ من الاعتكاف. ارجع فيهما الى الاستدراكات.

(٦) ص ٤٥٥ و ٤٥٦.

٤٦٦

يعتكف في المسجد الجامع».

ونقل في المختلف عن ابن الجنيد (١) انه روى عن ابن سعيد عن ابى عبد الله عليه‌السلام جوازه في كل مسجد صلى فيه امام عدل صلاة جمعة وفي المسجد الذي يصلى فيه الجمعة بإمام وخطبة.

وفي هذا الحديث دلالة على ما ذكره الشيخ والمرتضى ونحوهما ممن قدمنا ذكره من ان الاعتبار بصلاة الجمعة وانه لا يكفى مطلق الجماعة.

وقال في الفقه الرضوي (٢) : وصوم الاعتكاف في المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومسجد الكوفة ومسجد المدائن ، ولا يجوز الاعتكاف في غير هؤلاء المساجد الأربعة ، والعلة في ذلك انه لا يعتكف إلا في مسجد جمع فيه امام عدل ، وجمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة والمدينة وأمير المؤمنين عليه‌السلام في هذه الثلاثة المساجد ، وقد روى في مسجد البصرة. انتهى.

ومن هذه العبارة أخذ الشيخ على بن بابويه عبارة الرسالة المتقدمة كما هي قاعدته التي أشرنا إليها في غير موضع من ما تقدم ، وإليها يرجع كلام ابنه في المقنع أيضا كما لا يخفى.

أقول : ليس في هذه الاخبار ما يمكن أن يستدل للقولين المتقدمين إلا عبارة كتاب الفقه الرضوي وصحيحة عمر بن يزيد التي هي أول الأخبار المنقولة هنا. وما تأولها به بعضهم من حمل الامام العدل على معنى العادل فيشمل إمام الجماعة لا يخفى بعده سيما مع قوله بعد هذا الكلام : «ولا بأس بأن يعتكف. الى آخره» فان الظاهر ان تخصيص هذه المساجد بالذكر قرينة على ارادة المعصوم حيث انها من ما صلى فيها المعصوم عليه‌السلام. ومن ذلك يظهر قوة القول الأخير وهو الاكتفاء بالمسجد الجامع. بقي الكلام في ما يحمل عليه الخبران المذكوران.

__________________

(١) الوسائل الباب ٣ من الاعتكاف. واللفظ فيه هكذا : صلى فيه امام عدل صلاة جماعة.

(٢) ص ٢٦.

٤٦٧

والعلامة في المختلف والمنتهى حيث اختار الأول استدل له بصحيحة عمر بن يزيد المذكورة.

وأجيب عن ذلك بحملها على عدم اختصاص الامام العدل بالمعصوم بل المراد ما هو أعم ، وانه مع تسليم الاختصاص محمول على ضرب من الكراهة جمعا. وفي الجوابين ما لا يخفى كما نبهت عليه.

واما عبارة كتاب الفقه الرضوي فلم يطلعوا عليها.

والعلامة في المنتهى قد أجاب عن الاخبار التي استدل بها على القول الثاني بضعف السند أولا وتقييد إطلاقها بالصحيحة المتقدمة ، قال بعد نقل جملة منها : هذه أحاديث مطلقة وما قلناه مقيد فيحمل عليه جمعا بين الأدلة. وفيه من البعد ما لا يخفى فان عد مسجد الجماعة مع جملة من هذه المساجد في جملة من الاخبار المتقدمة لا يلائم ذلك كما هو ظاهر.

والأظهر عندي ان روايات كل من الطرفين ظاهرة في كل من القولين وان اخبار أحد الطرفين إنما خرج مخرج التقية ، والظاهر انها في اخبار القول بالمسجد الجامع وذلك فان مذهب الشافعي انه يصح في كل مسجد كما هو ظاهر عبارة ابن ابى عقيل وبه قال مالك ايضا ، وقال احمد لا يجوز إلا في مسجد يجمع فيه وبه قال أبو حنيفة (١) وهو قول الشيخ المفيد ومن تبعه ، واما القول بالمساجد الأربعة المتقدمة فلم يسند الى أحد منهم (٢) وبذلك يظهر قوة القول الأول. والله العالم.

ولا فرق في اعتبار هذه الشرائط بين الرجل والمرأة اتفاقا.

ويدل عليه قوله عليه‌السلام في صحيحة الحلبي (٣) : «لا ينبغي للمعتكف أن يخرج

__________________

(١) عمدة القارئ ج ٥ ص ٣٧٣ والمجموع ج ٦ ص ٤٨٣ والمهذب ج ١ ص ١٩٠ وبدائع الصنائع ج ٢ ص ١١٣.

(٢) في المغني ج ٣ ص ١٨٨ و ١٨٩ حكى عن حذيفة أن الاعتكاف لا يصح إلا في أحد المساجد الثلاثة : المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد رسول الله (ص).

(٣) الوسائل الباب ٧ من الاعتكاف.

٤٦٨

من المسجد. الى ان قال : واعتكاف المرأة مثل ذلك».

وقوله عليه‌السلام في صحيحة داود بن سرحان (١) : «ولا ينبغي للمعتكف ان يخرج من المسجد الجامع إلا لحاجة لا بد منها ثم لا يجلس حتى يرجع ، والمرأة مثل ذلك».

الرابع ـ اذن من له الولاية كالمولى لعبده والزوج لزوجته ، اما العبد فلان خدمته مستحقة للمولى ، واما الزوجة فلان الاستمتاع بها حق الزوج.

والظاهر انه لا خلاف فيه ولا اشكال وان لم يرد بخصوصه نص في هذا المجال ، إنما الكلام في اذن الوالد لولده والمضيف لضيفه والحق في ذلك كما ذكره في المسالك انه ان وقع الاعتكاف في صوم مندوب بنى على ما تقدم في كتاب الصوم من توقف صومهما على الاذن وعدمه وان وقع في غيره كصوم شهر رمضان مثلا فالأظهر عدم الاشتراط لعدم الدليل.

وأطلق الشهيد في الدروس اشتراط إذن الأب فقال في ضمن تعداد الشروط : ويشترط الإسلام. الى أن قال : واذن الزوج والمولى والوالد. الى أن قال : والأقرب ان الأجير والضيف يستأذنان في الاعتكاف. وهو على إطلاقه مشكل لما عرفت من عدم الدليل في المسألة وإنما صرنا إليه في الصوم المندوب من حيث الصوم بناء على اشتراط الاذن فيه لا من حيث خصوصية الاعتكاف. واما ما ذكره من الأجير فالحكم فيه كما تقدم في العبد حيث ان منافعه مستحقة للمستأجر.

وقد صرح جملة من الأصحاب تفريعا على هذه المسألة بأن المملوك إذا هاياه مولاه جاز له الاعتكاف في أيامه وان لم يأذن له مولاه ، وانه لو أعتق في أثناء الاعتكاف لم يلزمه المضي فيه إلا ان يكون شرع فيه باذن المولى فيلزمه المضي.

وأورد على الأول بأنه على إطلاقه ممنوع بل إنما يجوز له الاعتكاف في أيامه

__________________

(١) الوسائل الباب ٧ من الاعتكاف.

٤٦٩

إذا كانت المهاياة تفي بأقل مدة الاعتكاف ولم يضعفه عن الخدمة في نوبة المولى ولم يكن الاعتكاف في صوم مندوب ان منعنا المبعض من الصوم بغير اذن المولى وإلا لم يجز إلا بالإذن كما هو واضح. وعلى الثاني انه انما يتم عند هذا القائل مع وجوب الاعتكاف بنذر أو شبهه أو بعد مضى يومين لا مطلقا.

الخامس ـ استدامة اللبث في المسجد فلو خرج بغير الأسباب المبيحة بطل اعتكافه ، وهو إجماع منهم كما صرح به غير واحد منهم.

ويدل عليه الأخبار : ومنها ـ ما رواه ثقة الإسلام في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «ليس للمعتكف ان يخرج من المسجد إلا الى الجمعة أو جنازة أو غائط».

وما رواه ثقة الإسلام في الحسن على المشهور والصحيح على الأصح وابن بابويه في الصحيح عن الحلبي عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «لا ينبغي للمعتكف ان يخرج من المسجد إلا لحاجة لا بد منها ثم لا يجلس حتى يرجع ولا يخرج في شي‌ء إلا لجنازة أو يعود مريضا ولا يجلس حتى يرجع. قال واعتكاف المرأة مثل ذلك».

وما رواه في الكافي والفقيه عن داود بن سرحان في الصحيح بطريق الثاني (٣) قال : «كنت بالمدينة في شهر رمضان فقلت لأبي عبد الله عليه‌السلام انى أريد ان اعتكف فما ذا أقول وما ذا أفرض على نفسي؟ فقال : لا تخرج من المسجد إلا لحاجة لا بد منها ولا تقعد تحت الظلال حتى تعود الى مجلسك».

وما تقدم من رواية داود بن سرحان الأخرى.

ويستفاد من هذه الأخبار أمور أحدها ـ ان الظاهر منها هو ان المراد بالخروج منها هو الخروج بجميع بدنه لا بعضو من أعضائه ، وبه قطع المحقق في المعتبر من غير نقل خلاف ، قال : لأن المنافي للاعتكاف خروجه لا خروج بعضه. وجزم في المسالك بتحقق الخروج من المسجد بخروج جزء من بدن المعتكف وهو بعيد جدا.

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ٧ من الاعتكاف.

٤٧٠

وثانيها ـ ان المتبادر من الخروج المنهي عنه فيها هو الخروج من نفسه اختيارا فلو اخرج منها مكرها فالظاهر انه غير مبطل إلا ان يطول الزمان على وجه يخرج عن كونه معتكفا.

وبذلك فصل العلامة (قدس‌سره) في التذكرة فقال ان الاعتكاف إنما يبطل بمطلق الخروج المحرم إذا وقع اختيارا اما إذا خرج كرها فإنه لا يبطل إلا مع طول الزمان بحيث يخرج عن كونه معتكفا.

قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : ولا بأس به تمسكا بمقتضى الأصل وحديث رفع القلم (١) والتفاتا الى عدم توجه النهي الى هذا الفعل.

وجملة من الأصحاب قد صرحوا بان الخروج مبطل طوعا خرج أو كرها.

واستدل عليه في المعتبر بان الاعتكاف لبث في المسجد فيكون الخروج منافيا له.

وفيه ما عرفت من ان المنافي له إنما هو الخروج الاختياري كما هو ظاهر الأخبار المذكورة واما الإخراج منها كرها فلا دليل على إبطاله ، وليس كل مناف للبث موجبا للإبطال لعدم الدليل عليه بل قيام الدليل على خلافه في المواضع المشار إليها في الأخبار المتقدمة.

وثالثها ـ انه هل يتحقق الخروج بالصعود الى سطح المسجد من داخله؟ قيل نعم وبه قطع في الدروس لعدم دخوله في مسماه ، وقيل لا وبه قطع في المنتهى من غير نقل خلاف ، قال لانه من جملته. واستحسنه في المدارك. ونقله في المنتهى عن الفقهاء الأربعة وانه يجوز ان يبيت فيه (٢).

والمسألة لا تخلو من اشكال ينشأ من حيث انه مسجد ايضا فلهذا حرم على الجنب اللبث فيه ، ومن ان المتبادر هو ما جرت به العادة وعمل الناس من المكان الأسفل منه والأحكام الشرعية إنما تبنى على الافراد الغالبة.

__________________

(١) في المدارك : حديث «رفع» وقد أورده في الوسائل الباب ٥٦ من جهاد النفس.

(٢) المغني ج ٣ ص ١٩٧.

٤٧١

ورابعها ـ ان ظاهر النهي في الأخبار المتقدمة إنما يتوجه الى الخروج عمدا فلو خرج ساهيا لم يبطل اعتكافه ، وبذلك أطلق الأكثر ، واستدلوا عليه بالأصل وحديث رفع (١) وقيده بعضهم بما إذا لم يطل زمن الخروج بحيث يخرج عن كونه معتكفا وإلا لبطل وان انتفى الإثم. ويجب العود عند الذكر فلو أخر اختيارا بطل

وخامسها ـ انه بعد الخروج للحاجة لا يجوز له الجلوس تحت الظلال كما تضمنته صحيحة الحلبي المتقدمة وصحيحة داود بن سرحان (٢) والاولى وان كانت مطلقة إلا أن الثانية مقيدة فيحكم بها على الأولى ، وبذلك صرح الشيخ في المبسوط فخصص التحريم بالجلوس تحت الظلال ، وكذا المفيد وسلار والمحقق في المعتبر وعليه أكثر المتأخرين.

وجملة من الأصحاب كالشيخ في أكثر كتبه والمرتضى وابى الصلاح وابن إدريس والمحقق في الشرائع والعلامة في بعض كتبه زادوا المشي تحت الظلال ، ولم نقف على مستنده وبذلك اعترف جملة من أصحابنا المتأخرين.

وسادسها ـ انه قد اشتملت هذه الأخبار على انه لا يجوز الخروج إلا للأمور الضرورية.

وعد منها في الاخبار المذكورة قضاء الحاجة من بول أو غائط ، وعلى ذلك دلت صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة (٣).

ولا اشكال ولا خلاف في ذلك إلا ان الأصحاب ذكروا انه يجب أن يتحرى أقرب الطرق الى موضع قضاء الحاجة.

وقال في المنتهى : لو كان الى جانب المسجد سقاية خرج إليها إلا ان يجد بها غضاضة بأن يكون من أهل الاحتشام فيجد المشقة بدخولها لأجل الناس فعندي ههنا يجوز أن يعدل عنها إلى منزله وان كان أبعد. ثم قال : ولو بذل له صديق منزله

__________________

(١) الوسائل الباب ٥٦ من جهاد النفس.

(٢ و ٣) ص ٤٧٠.

٤٧٢

وهو قريب من المسجد لقضاء حاجته لم يلزمه الإجابة لما فيه من المشقة بالاحتشام بل يمضي إلى منزله. وظاهر جماعة ممن نقل ذلك عنه تلقيه بالقبول.

وعندي فيه اشكال وانه تقييد لإطلاق النص بغير دليل. وما ذكروه من التعليل ليس من ما يصلح لتأسيس الأحكام الشرعية.

ومنها ـ شهادة الجنازة كما تضمنته صحيحة الحلبي وصحيحة عبد الله بن سنان (١) والمراد حضورها لتشييعها والصلاة عليها أعم من ان يكون ذلك متعينا عليه أم لا لإطلاق النص.

ومنها ـ عيادة المريض كما تضمنته صحيحة الحلبي (٢) أيضا.

ومنها ـ الجمعة لو كانت تقام في غير ذلك المسجد.

وقد ذكر الأصحاب أيضا جملة زائدة على ما ذكر بناء على ان ما ذكر انما خرج مخرج التمثيل :

منها ـ إقامة الشهادة وقيده بعض الأصحاب بما إذا تعينت عليه ولم يمكن أداؤها بدون الخروج.

وقال في المنتهى : يجوز الخروج لها تعين عليه التحمل والأداء أو لم يتعين عليه أحدهما إذا دعي إليها لأنها من ما لا بد منه فصار ضروريا كقضاء الحاجة ، وإذا دعي إليها مع عدم التعيين تجب الإجابة. انتهى. وفيه اشكال والأول أحوط.

ومنها ـ الغسل لو احتلم فلا يجوز الخروج للغسل المندوب. وفي معنى غسل الجنابة غسل المرأة للاستحاضة.

ولو أمكن الغسل في المسجد بحيث لا تتعدى النجاسة الى المسجد أو آلاته فقد أطلق جماعة المنع لمنافاته لاحترام المسجد. واحتمل في المدارك الجواز كما في الوضوء والغسل المندوب.

__________________

(١ و ٢) ص ٤٧٠.

٤٧٣

ومنها ـ تحصيل المأكول والمشروب إذا لم يكن من يأتيه بهما ، ولا إشكال في الجواز لذلك.

وجوز العلامة في التذكرة والشهيد الثاني في المسالك الخروج للأكل أيضا إذا كان في فعله في المسجد غضاضة عليه بخلاف الشرب إذ لا غضاضة فيه ولا يعد تركه من المروة. قال في المدارك : وهو غير بعيد.

أقول : بل الظاهر انه بعيد كما أشرنا إليه آنفا فان جميع ما ذكروه من الغضاضة في هذه الأمور مبنى على منافاتها المروة التي اعتبروها في تعريف العدالة كما أشير إليه في هذا الكلام ، وقد ثبت في الاخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جملة من الأشياء التي جعلوها موجبة للغضاضة ومنافية للمروة ، وقد روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) انه كان يركب الحمار العاري ويردف عليا عليه‌السلام خلفه وانه كان يحلب الشاة وانه كان يأكل ماشيا إلى الصلاة في المسجد ونحو ذلك.

ومنها ـ السعي في حاجة المؤمن ، ويدل عليه ما رواه ابن بابويه في الفقيه عن ميمون بن مهران (٢) قال : «كنت جالسا عند الحسن بن على عليه‌السلام فأتاه رجل فقال له يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ان فلانا له على مال ويريد ان يحبسني فقال والله ما عندي مال فأقضي عنك. قال فكلمه قال فلبس عليه‌السلام نعله فقلت له يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنسيت اعتكافك؟ فقال له لم أنس ولكني سمعت ابى يحدث عن جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : من سعى في حاجة أخيه المسلم فكأنما عبد الله (عزوجل) تسعة آلاف سنة صائما نهاره قائما ليله».

ومنها ـ تشييع المؤمن ، ذكره جملة من الأصحاب ولم أقف له على دليل والأحوط تركه.

ومنها ـ ما ذكره في المنتهى قال : ويجوز أن يخرج لزيارة الوالدين لأنه طاعة

__________________

(١) ارجع الى التعليقة ٢ ص ١٦ ج ١٠ من الحدائق. وارجع الى الاستدراكات.

(٢) الوسائل الباب ٧ من الاعتكاف.

٤٧٤

فلا يكون الاعتكاف مانعا منها. انتهى. وفيه توقف. والله العالم.

فروع

الأول ـ لا يجوز الصلاة خارج المسجد لمن خرج لضرورة إلا بمكة إلا مع ضيق الوقت.

ويدل عليه ما رواه الكليني وابن بابويه في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «سمعته يقول المعتكف بمكة يصلى في أي بيوتها شاء سواء عليه صلى في المسجد أو في بيوتها. الى أن قال : ولا يصلى المعتكف في بيت غير المسجد الذي اعتكف فيه إلا بمكة فإنه يعتكف بمكة حيث شاء لأنها كلها حرم الله. الحديث».

قال الشيخ : «قوله عليه‌السلام يعتكف بمكة حيث شاء» انما يريد به يصلى صلاة الاعتكاف. واستشهد بسياق الكلام وبالأحاديث السابقة.

وما رواه الصدوق في الصحيح عن منصور بن حازم عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «المعتكف بمكة يصلى في أي بيوتها شاء والمعتكف بغيرها لا يصلى إلا في المسجد الذي سماه».

وما رواه في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) قال :

__________________

(١) الوسائل الباب ٨ من الاعتكاف رقم ٣ وهي رواية الشيخ في التهذيب ج ٤ ص ٢٩٣ واما رواية الكليني والصدوق فهي إلى قوله «أو في بيوتها» كما في الوسائل الباب ٨ من الاعتكاف رقم ١.

(٢) الوسائل الباب ٨ من الاعتكاف.

(٣) الوسائل الباب ٨ من الاعتكاف رقم ١ ، وهذه الرواية مكررة حسب عبارة المصنف (قدس‌سره) إلا ان يكون مقصوده من الرواية المتقدمة رواية الشيخ والنسبة إلى الكليني وابن بابويه من سبق القلم أو اشتباه النساخ كما يشهد به قوله «قال الشيخ ...» بعد تمام الرواية.

٤٧٥

«المعتكف بمكة يصلى في أي بيوتها شاء سواء عليه صلى في المسجد أو في بيوتها».

واستثنى من المنع الخروج لصلاة الجمعة إذا أقيمت في غير مسجده الذي اعتكف فيه.

الثاني ـ نقل في المنتهى عن الشيخ (قدس‌سره) انه إذا طلقت المعتكفة أو مات زوجها فخرجت واعتدت في بيتها استقبلت الاعتكاف. ثم نقل عنه انه قال : وبالجملة فللمرأة الخروج إذا طلقت للعدة في بيتها ويجب عليها ذلك. ولم ينقل فيه خلافا إلا من العامة حيث ذهب جمع منهم الى وجوب المضي في الاعتكاف حتى تفرغ منه ثم ترجع الى بيت زوجها لتعتد فيه (١) ثم رده بظاهر الآية وهي قوله تعالى : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) (٢). الى أن قال : واما استئناف الاعتكاف فإنه يصح له على تقدير أن يكون الاعتكاف واجبا ولم يشترط الرجوع.

وفصل في المسالك فقال ـ بعد نقل عبارة المصنف الدالة على وجوب الخروج الى منزلها لتعين الاعتداد عليها فيه ـ ما صورته : هذا يتم مع كون الاعتكاف مندوبا أو واجبا غير معين أو مع شرط الحل عند العارض ولو كان معينا من غير شرط فالأقوى اعتدادها في المسجد زمن الاعتكاف فان دين الله أحق ان يقضى (٣). قال في المدارك بعد نقل ذلك : وهو حسن.

أقول : للتوقف في ما ذكره (قدس‌سره) مجال لعدم الدليل على ذلك فإنه قد تعارض هنا واجبان : اللبث في المسجد من حيث التعيين وعدم الشرط ، والاعتداد

__________________

(١) المغني ج ٣ ص ٢٠٧.

(٢) سورة الطلاق الآية ٢.

(٣) في مسند احمد ج ١ ص ٢٢٧ عن ابن عباس ان امرأة قالت يا رسول الله (ص) انه كان على أمي صوم شهر فماتت أفأصومه عنها؟ قال : لو كان على أمك دين ا كنت قاضيته؟ قالت نعم. قال : فدين الله عزوجل أحق ان يقضى. ونحوه ص ٢٥٨ منه. ولا يخفى ان حديث الخثعمية المتقدم ج ١١ ص ٣٩ واستدركناه برقم ١ انما كان في الحج.

٤٧٦

في البيت من حيث الأدلة الدالة على وجوب ذلك ، وترجيح أحد الطرفين على الآخر يحتاج الى دليل وليس فليس.

الثالث صرح في المنتهى بأنه لو أخرجه السلطان فان كان ظالما مثل ان يطالبه بما ليس عليه لم يبطل اعتكافه وإذا عاد بنى لحديث رفع القلم (١) وان أخرجه بحق مثل اقامة حد واستيفاء دين بطل اعتكافه واستأنف.

أقول : يجب تقييد الحكم الأول بما إذا لم يطل الزمان بحيث يخرج عن كونه معتكفا كما ذكره في غير هذه الصورة ، ويجب تقييد الحكم الثاني بما إذا كان واجبا كما استدركه على الشيخ في سابق هذه المسألة.

الرابع ـ إذا حاضت المرأة خرجت من المسجد الى بيتها وهكذا المريض. ثم ان كان الاعتكاف واجبا وجب الرجوع لقضائه وإعادته وإلا فلا ، وأطلق بعض الأصحاب العود في الاعتكاف والظاهر التفصيل.

ويدل على ذلك من الأخبار ما رواه الصدوق في الصحيح عن صفوان بن يحيى عن عبد الرحمن بن الحجاج عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «إذا مرض المعتكف أو طمثت المرأة المعتكفة فإنه يأتي بيته ثم يعيد إذا برئ ويصوم». ورواه الكليني (٣) ثم قال : وفي رواية أخرى عنه عليه‌السلام ليس على المريض ذلك.

وبإسناده عن ابن محبوب عن أبي أيوب عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٤) «في المعتكفة إذا طمثت؟ قال : ترجع الى بيتها فإذا طهرت رجعت فقضت ما عليها».

وإطلاق هذين الخبرين محمول على ما قدمناه لما يأتي من الأدلة الدالة على

__________________

(١) عبارة المنتهى ج ٢ ص ٦٣٦ لم تنقل بلفظها تماما وقد أسقط بعضها والمراد بحديث رفع القلم هو حديث الرفع المعروف كما هو نص عبارة المنتهى وقد أورده في الوسائل الباب ٥٦ من جهاد النفس.

(٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ١١ من الاعتكاف.

٤٧٧

عدم وجوب الاعتكاف بمجرد الشروع وانما يجب بالنذر أو مضى يومين فيجب الثالث (١).

وينبغي ان يعلم ان المقضي في هذه المسألة وفي سابقتها هو جميع زمان الاعتكاف متى كان واجبا ولم يمض منه ثلاثة أيام وإلا فالمتروك خاصة ، نعم لو كان المتروك ثالث المندوب وجب قضاؤه بإضافة يومين إليه لأن الاعتكاف لا يكون أقل من ثلاثة.

وتردد في المنتهى من حيث عموم الحديث الدال على الاستئناف ومن حيث حصول العارض المقتضي للضرورة فكان كالخروج للحاجة. ثم قال : والأقرب عدم الاستئناف.

الخامس ـ قد صرح الشيخ في المبسوط وجملة ممن تأخر عنه بأنه لو نذر اعتكاف أيام معينة كالعشر الأواخر من شهر رمضان مثلا أو نحوها من ما يكون متتابعا معنى أو قيده بالتتابع لفظا ثم خرج قبل إكمالها فإنه يبطل الجميع ويجب الاستئناف.

واستدل له في المختلف بفوات المتابعة المشروطة ثم قال : ولقائل أن يقول لا يجب الاستئناف وان وجب عليه الإتمام متتابعا وكفارة خلف النذر ، لأن الأيام التي اعتكفها متتابعة وقعت على الوجه المأمور به فيخرج بها عن العهدة ولا يجب عليه استينافها لأن غيرها لم يتناوله النذر ، بخلاف ما إذا أطلق النذر وشرط التتابع فإنه هنا يجب عليه الاستئناف لأنه أخل بصفة النذر فوجب عليه استئنافه من رأس بخلاف صورة النزاع ، والفرق بينهما تعين الزمان هناك وإطلاقه هنا فكل صوم متتابع في أي زمان كان مع الإطلاق يصح أن يجعله المنذور اما مع التعيين فلا يمكنه البدلية.

وقال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : وهو جيد. ثم قال : لا يخفى ان عدم الاستئناف إنما يتجه إذا كان ما اتى به ثلاثة فصاعدا وهو واضح.

__________________

(١) الوسائل الباب ٤ من الاعتكاف.

٤٧٨

أقول : والظاهر انه الى ذلك يشير قول العلامة : «لأن الأيام التي اعتكفها متتابعة وقعت على الوجه المأمور به» يعنى وقع اعتكافا صحيحا وما دون الثلاثة ليس كذلك.

الفصل الثاني ـ في جملة من الأحكام وفي هذا الفصل مسائل :

المسألة الأولى ـ قد يجب الاعتكاف بالنذر وشبهه ويجب بالشروع فيه على المشهور بين الأصحاب بخلاف المندوب كما يأتي ذكر الخلاف فيه وان الأظهر وجوبه بعد اليومين المتقدمين.

وظاهر المدارك التفصيل بين ما كان معينا فيجب بالشروع فيه ومطلقا فلا يجب إلا بمضي يومين كما في المندوب ، قال : لكن الظاهر من قول المصنف ـ ان الأول وهو ما وجب بنذر وشبهه يجب بالشروع ـ انه يجب المضي فيه بمجرد الشروع. وهو جيد مع تعين الزمان اما مع إطلاقه فمشكل ، ولو قيل بمساواته للمندوب في عدم وجوب المضي فيه قبل مضى اليومين لم يكن بعيدا. انتهى.

والظاهر ان منشأ ذلك الإطلاق في النذر المقتضى للتوسعة فيكون كالمندوب لا يجب إلا بمضي اليومين.

المسألة الثانية ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب الاعتكاف المندوب بالدخول فيه وعدمه على أقوال :

أحدها ـ انه يجب بالدخول فيه كالحج وهو قول الشيخ في المبسوط وابى الصلاح الحلبي ، قال في المبسوط : ومتى شرط المعتكف على ربه انه متى عرض له عارض رجع فيه كان له الرجوع فيه اى وقت شاء ما لم يمض به يومان فان مضى به يومان وجب عليه إتمام الثالث ، وان لم يشترط وجب عليه بالدخول فيه تمام ثلاثة أيام ، لأن الاعتكاف لا يكون أقل من ثلاثة أيام.

وثانيها ـ انه لا يجب بل يجوز له الابطال والفسخ متى شاء ، نقله في التذكرة عن المرتضى وابن إدريس واختاره العلامة في المختلف والمنتهى ، وقال المحقق في

٤٧٩

المعتبر انه الأشبه بالمذهب.

وثالثها ـ وجوب اليوم الثالث بعد مضى يومين ، نقله في التذكرة عن ابن الجنيد وابن البراج وظاهر الشيخ في النهاية واختاره المحقق في الشرائع وجمع من المتأخرين ومتأخريهم : منهم ـ السيد السند في المدارك.

ورابعها ـ موافقة مذهب السيد مع الشرط ومذهب الشيخ في النهاية مع عدمه نقله في المختلف عن ابن حمزة ، قال وقال ابن حمزة ان شرط وعرض له ذلك جاز له الخروج على كل حال وان لم يشترط وقد صام يوما فكذلك وان صام يومين لم يجز له الخروج حتى يتم.

أقول : اما القول الأول فلم نقف له على دليل وبذلك اعترف في المعتبر فقال : اما القائلون بوجوبه بالدخول فيه فلم نقف لهم على مستند. ثم قال : ويمكن ان يستدل الشيخ على وجوبه بالشروع بإطلاق وجوب الكفارة على المعتكف ، وقد روى ذلك من طرق (١) ثم قال : والجواب عنه ان هذه مطلقة فلا عموم لها وتصدق بالجزء والكل فيكفي في العمل بها تحققها في بعض الصور فلا تكون حجة في الوجوب. انتهى.

قال في المدارك بعد نقله : وهو جيد مع انا لو سلمنا عمومها لم يلزم من ذلك الوجوب لاختصاصها بجماع المعتكف كما ستقف عليه ، ولا امتناع في وجوب الكفارة بذلك في الاعتكاف المستحب. انتهى.

أقول : فيه ان الكفارة على ما عهد من الشرع إنما تجب في مقام الوجوب المستلزم مخالفته للعقوبة فتكون الكفارة لدفع تلك العقوبة ، وهذا لا يعقل في المستحب الذي لا يترتب على تركه عقوبة وانما غاية ذلك عدم الثواب عليه فكيف يمكن القول بوجوب الكفارة في الاعتكاف المستحب؟ وبالجملة فإن إطلاق الخبر بوجوب الكفارة لما كان مخالفا للأصول المقررة والضوابط المعتبرة فلا بد من

__________________

(١) الوسائل الباب ٦ من الاعتكاف.

٤٨٠