الحدائق الناضرة - ج ١٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٢

وأحيهما إن استطعت الى النور واغتسل فيهما. قال قلت فان لم اقدر على ذلك وانا قائم؟ قال فصل وأنت جالس. قلت فان لم أستطع؟ قال فعلى فراشك».

وزاد في الفقيه (١) قلت فان لم أستطع؟ فقال ـ ثم اشتركوا في الرواية ـ لا عليك أن تكتحل أول الليل بشي‌ء من النوم ، ان أبواب السماء تفتح في شهر رمضان وتصفد الشياطين وتقبل أعمال المؤمنين. نعم الشهر رمضان كان يسمى في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله) المرزوق.

وروى في الفقيه عن محمد بن حمران عن سفيان بن السمط (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الليالي التي يرجى فيها من شهر رمضان؟ فقال تسع عشرة واحدى وعشرين وثلاث وعشرين. قلت فإن أخذت إنسانا الفترة أو علة ما المعتمد عليه من ذلك؟ فقال ثلاث وعشرين».

وروى في الكافي بسنده عن الفضيل بن يسار (٣) قال : «كان أبو جعفر عليه‌السلام إذا كانت ليلة احدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين أخذ في الدعاء حتى يزول الليل فإذا زال الليل صلى».

وروى ثقة الإسلام في كتابه بسنده عن حسان بن مهران عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : «سألته عن ليلة القدر فقال : التمسها في ليلة احدى وعشرين أو ليلة ثلاث وعشرين». ورواه الصدوق في الخصال بسنده مثله (٥) ثم قال : اتفق مشايخنا على انها ليلة ثلاث وعشرين.

وروى في التهذيب في الموثق عن زرارة عن ابى جعفر عليه‌السلام (٦) قال : «سألته عن ليلة القدر فقال هي ليلة احدى وعشرين أو ثلاث وعشرين. قلت أليس إنما هي ليلة؟ فقال بلى. قلت فأخبرني بها قال وما عليك ان تفعل خيرا في ليلتين».

__________________

(١) ج ٢ ص ١٠٢ و ١٠٣.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦) الوسائل الباب ٣٢ من أحكام شهر رمضان.

٤٤١

وروى بإسناده عن حماد بن عيسى عن محمد بن يوسف عن أبيه (١) قال : «سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول ان الجهى أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ان لي إبلا وغنما وغلمة فأحب أن تأمرني بليلة أدخل فيها فأشهد الصلاة وذلك في شهر رمضان فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فساره في اذنه فكان الجهني إذا كان ليلة ثلاث وعشرين دخل بإبله وغنمه واهله إلى المدينة».

وروى ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب موسى بن بكر الواسطي عن حمران (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ليلة القدر فقال هي ليلة ثلاث أو أربع. قلت أفرد لي إحداهما فقال وما عليك أن تعمل في الليلتين وهي إحداهما».

وعن زرارة عن عبد الواحد الأنصاري (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ليلة القدر فقال إني أخبرك بها لا أعمى عليك هي ليلة أول السبع وقد كانت تلتبس عليه ليلة أربع وعشرين».

وروى في الكافي عن إسحاق بن عمار (٤) قال : «سمعته يقول وناس يسألونه يقولون الأرزاق تقسم ليلة النصف من شعبان؟ قال فقال لا والله ما ذلك إلا في ليلة تسع عشرة من شهر رمضان واحدى وعشرين وثلاث وعشرين ، فان في تسع عشرة يلتقي الجمعان وفي ليلة احدى وعشرين يفرق كل أمر حكيم وفي ليلة ثلاث وعشرين يمضى ما أراد الله (عزوجل) من ذلك وهي ليلة القدر التي قال الله تعالى (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (٥) قال قلت ما معنى قوله يلتقي الجمعان؟ قال يجمع الله فيها ما أراد من تقديمه وتأخيره وإرادته وقضائه. قال قلت فما معنى يمضيه في ثلاث وعشرين؟ قال انه يفرقه في ليلة احدى وعشرين ويكون له فيه البداء ، فإذا كان ليلة ثلاث وعشرين قال انه يفرقه في ليلة احدى وعشرين ويكون له فيه البداء ، فإذا كان ليلة ثلاث وعشرين أمضاه فيكون من المحتوم الذي لا يبدو له فيه».

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٣٢ من أحكام شهر رمضان.

(٥) سورة القدر الآية ٤.

٤٤٢

وروى العياشي عن حماد بن عيسى عن حسان بن ابى على (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ليلة القدر فقال اطلبها في تسع عشرة واحدى وعشرين وثلاث وعشرين».

وروى الصدوق في الصحيح عن زرارة عن ابى جعفر عليه‌السلام (٢) «ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سئل عن ليلة القدر فقام خطيبا فقال بعد الثناء على الله (عزوجل): اما بعد فإنكم سألتموني عن ليلة القدر ولم أطوها عنكم لأني لم أكن عالما بها ، اعلموا أيها الناس انه من ورد عليه شهر رمضان وهو صحيح سوى فصام نهاره وقام وردا من ليله وواظب على صلاته وهجر الى جمعته وغدا الى عيده فقد أدرك ليلة القدر وفاز بجائزة الرب (عزوجل) وقال أبو عبد الله عليه‌السلام فازوا والله بجوائز ليست كجوائز العباد».

أقول : في هذه الاخبار المتعلقة بليلة القدر فوائد شريفة ينبغي التنبيه عليها :

الاولى ـ لا يخفى ان هذا الخبر الأخير قد اشتمل على إخفاء ليلة القدر بالكلية وعدم الاعلام بها مع السؤال عنها ، وجملة من الأخبار المتقدمة قد اشتملت على إخفائها في ليلتين أو ثلاث ، وجملة قد صرحت بها.

ولعل الوجه في ذلك ان السبب في إخفائها بالمرة ليستوعب الشهر كله بالأعمال الصالحة ، وهذا هو الأنسب بسائر الناس فإنهم متى علموها على الخصوص فلربما رغبوا عن العمل في غيرها إيثارا لها بذلك. واما من عرف حرمة الشهر ووفاة اعماله فهؤلاء الخواص وقد أخفيت لهم في ليلتين أو ثلاث ليوفوا هذه الليالي الشريفة أعمالها لان بعضها وان لم يكن ليلة القدر إلا انه من القريب من مرتبتها. واما من بينت له بالخصوص فهم خواص الخواص الذين يعلم منهم القيام باعمال تلك الليالي الشريفة وإن علموا انها ليست بليلة القدر ، واليه يشير مسارة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الجهني في اذنه. ولا ينافي ذلك حديث زرارة المتقدم وعدم اعلام الباقر

__________________

(١) الوسائل الباب ٣٢ من أحكام شهر رمضان. ارجع الى الاستدراكات.

(٢) الوسائل الباب ١٨ من أحكام شهر رمضان.

٤٤٣

عليه‌السلام له بها وامره بالعمل في تلك الليلتين مع انه من خواص الخواص لانه يمكن حمله على ان ذلك وقع من حيث الحاضرين وقت السؤال.

الثانية ـ ما تضمنه الحديث الأول (١) ـ من ان العمل في ليلة القدر خير من الف شهر ليس فيها ليلة القدر ـ فالمراد بهذه الالف شهر هي ملك بنى أمية كما دل عليه الخبر الذي بعده ، وبذلك صرح الصادق عليه‌السلام في الحديث المروي عنه في صدر الصحيفة السجادية (٢) حيث قال فيه : «وانزل الله في ذلك (إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (٣) تملكها بنو أمية ليس فيها ليلة القدر».

بقي الكلام في معنى عدم ليلة القدر في هذه الالف شهر هل هو بمعنى رفعها منها بالكلية كما هو ظاهر الاخبار الدالة على تنزل الملائكة فيها على الامام عليه‌السلام من كل سنة بما يتجدد من الحوادث والقضايا (٤) واليه يشير خبر يعقوب المتقدم (٥) وقوله عليه‌السلام : «لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن»؟. اشكال من دلالة الاخبار على هذا المعنى الأخير ، ومن انه متى كان التفضيل على ما عدا ليلة القدر فإنه لا وجه لخصوصية هذه الالف شهر التي يملكها بنو أمية بذلك كما هو ظاهر إطلاق الخبر الأول متى قطع النظر عن تأيده بما قدمناه.

ومثله ما رواه في الكافي (٦) عن الحسن بن العباس بن الحريش عن ابى جعفر الثاني عليه‌السلام قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام كان على بن الحسين عليه‌السلام يقول «إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» (٧) صدق الله (عزوجل) أنزل الله القرآن في ليلة القدر «وَما أَدْراكَ

__________________

(١) ص ٤٣٨ و ٤٣٩.

(٢) ص ١٣ طبع النجف الأشرف.

(٣ و ٧) سورة القدر الآية ٢ و ٣ و ٤.

(٤) أصول الكافي ج ١ ص ٢٤٢ الى ٢٥٣.

(٥) ص ٤٣٩ و ٤٤٠.

(٦) الأصول ج ١ ص ٢٤٨ رقم ٤.

٤٤٤

ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ» قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا أدرى. قال الله (عزوجل) «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» ليس فيها ليلة القدر.

ومثله ما رواه فيه عن المسمعي (١) ومن جملته «وفيه ليلة العمل فيها خير من العمل في ألف شهر». وبمضمونها أخبار أخر.

وعلى هذا المعنى اعتمد المفسرون كأمين الإسلام الطبرسي في كتاب مجمع البيان وغيره ، قال في مجمع البيان : ثم فسر سبحانه تعظيمه وحرمته فقال «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» ليس فيه ليلة القدر وصيامه. ثم نقل ذلك عن مقاتل وقتادة. ثم نقل عن عطاء عن ابن عباس معنى آخر يتضمن ان المفضل عليه الف شهر كان رجل من بنى إسرائيل يحمل السلاح فيها على عاتقه في سبيل الله فتمنى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك في أمته فأنزل الله تعالى «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» الذي حمل الاسرائيلى فيها السلاح في سبيل الله (٢).

ومن ما يؤيد التقييد الذي أشرنا إليه زيادة على أشرنا إليه من الروايات ما رواه في روضة الكافي (٣) في حديث عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «وانزل الله (جل ذكره) إنا أنزلناه في ليلة القدر وما ادراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من الف شهر للقوم. الحديث».

ومثله في الاحتجاج (٤) عن الحسن بن على (عليهما‌السلام) في حديث طويل مع معاوية ذكر فيه رؤيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وان الله تعالى أنزل عليه في كتابه «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» ثم قال عليه‌السلام : فاشهد لكم واشهد عليكم ما سلطانكم بعد على عليه‌السلام إلا الالف شهر التي أجلها الله (عزوجل) في كتابه.

واما كون مدة ملك بنى أمية ألف شهر فبيانه ان المستفاد من كتب السير

__________________

(١) الوسائل الباب ١٨ من أحكام شهر رمضان.

(٢) سنن البيهقي ج ٤ ص ٣٠٦.

(٣) ص ٢٢٢ و ٢٢٣.

(٤) ص ١٥٤.

٤٤٥

والاخبار ان أول انفراد بنى أمية بالأمر بعد ما صالح الحسن عليه‌السلام معاوية وهو سنة أربعين من الهجرة وكان انقضاء دولتهم على يد ابى مسلم الخراساني سنة اثنين وثلاثين ومائة من الهجرة فكانت مدة دولتهم اثنين وتسعين سنة ، رفع منها مدة خلافة عبد الله بن الزبير وهي ثمان سنين وثمانية أشهر بقي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر بلا زيادة ولا نقصان وهي ألف شهر (١).

الثالثة ـ اختلفت أقوال العامة في تعيين ليلة القدر بل في بقائها فذهب بعضهم إلى أنها رفعت بعد موت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو قول شذوذ منهم والمشهور بقاؤها ، إلا أن القائلين ببقائها اختلفوا في تعيينها ، فقال بعضهم انها مشتبهة في السنة كما ذهب إليه أبو حنيفة ، ومنهم من قال في شعبان والأكثر على انها في شهر رمضان ، وذهب بعضهم إلى أنها أول ليلة منه ، وقيل في ليلة سبع عشرة منه عن الحسن البصري ، والصحيح عندهم انها في العشر الأواخر وهو مذهب الشافعي ، وروى مرفوعا (٢) «التمسوها في العشر الأواخر». ثم اختلفوا في أنها آية ليلة من العشر فقيل انها ليلة احدى وعشرين وهو مذهب ابى سعيد الخدري واختاره الشافعي ، وقيل هي ليلة ثلاث وعشرين منه عن عبد الله بن عمر ، وقيل ليلة سبع وعشرين عن ابى بن كعب ، وقيل انها ليلة تسع وعشرين (٣) ولكل من هذه الأقوال رواية يعتمدها (٤).

__________________

(١) ذكر ذلك السيوطي في الخصائص الكبرى ج ٢ ص ١١٨ طبع حيدرآباد ، وابن دحلان في السيرة النبوية على هامش السيرة الحلبية ج ١ ص ٢٣١ والحلبي في السيرة الحلبية ج ١ ص ٤٢١ في فصل الإسراء.

(٢) سنن البيهقي ج ٤ ص ٣٠٧ و ٣٠٨.

(٣) ذكر في عمدة القارئ ج ٥ ص ٣٦٢ الأقوال كلها إلا انه نسب إلى الشيعة القول بأنها رفعت ، واخبارهم وكلماتهم تنادي بأنها لم ترفع ولا سيما خبر يعقوب المتقدم ص ٤٣٩.

(٤) سنن البيهقي ج ٤ ص ٣٠٧ الى ٣١٣.

٤٤٦

قال بعض الأصحاب : ولا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) في انحصارها في هذه الليالي الثلاث : ليلة تسع عشرة وليلة احدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين إلا من الشيخ في التبيان فإنه نقل الإجماع على انها في فرادى العشر الأواخر.

أقول : الظاهر من كلام العلامة في المنتهى كونها في العشر الأواخر من غير تعيين ، فإنه قال أولا ـ بعد نقل جملة من أقوال العامة ـ ما صورته : إذا ثبت هذا فإنه يستحب طلبها في جميع ليالي شهر رمضان وفي العشر الأواخر آكد وفي ليالي الوتر منه أوكد. ثم نقل جملة من كلامهم ونقل جملة من الاخبار التي قدمنا نقلها من ما دل على الانحصار في ثلاث أو اثنتين أو انها ليلة الجهني ، وقال بعد ذلك فرع ـ لو نذر ان يعتق عبده بعد مضى ليلة القدر فان كان قاله قبل العشر صح النذر ووجب عليه العتق بعد انسلاخ الشهر لانه يتفق حصولها إذا مضت الليلة الأخيرة ، وان كان قاله وقد مضى ليلة من العشر لم يتعلق النذر بتلك السنة لأنه لا يتحقق وجودها بعد النذر فيقع في السنة الثانية إذا مضى جميع العشر. انتهى. وهو مؤذن بتوقفه في التعيين وجزمه بأنها في العشر الأخيرة وقد عرفت من ما قدمنا نقله عن الصدوق ان المشهور هو كونها ليلة ثلاث وعشرين وهو الظاهر من الاخبار كما قدمنا ذكره.

قال أمين الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسي (قدس‌سره) في كتاب مجمع البيان : والفائدة في إخفاء هذه الليلة أن يجتهد الناس في العبادة ويحيوا جميع ليالي شهر رمضان طمعا في إدراكها كما ان الله سبحانه أخفى الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس واسمه الأعظم في الأسماء وساعة الإجابة في ساعات الجمعة. انتهى.

الرابعة ـ اختلف العلماء في معنى هذه التسمية ، فقيل سميت ليلة القدر لأنها الليلة التي يحكم الله فيها ويقضى بما يكون في السنة بأجمعها من كل أمر وهي الليلة

٤٤٧

المباركة في قوله تعالى «إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» (١) لأن الله تعالى ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة ، وفي الخبر عن ابن عباس (٢) انه قال : «تقضى القضايا في ليلة النصف من شعبان ثم يسلمها إلى أربابها في ليلة القدر». وقيل ليلة القدر أي ليلة الشرف والخطر وعظم الشأن من قولهم رجل له قدر عند الناس أي منزله وشرف ومنه «وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ» (٣) اى ما عظموه حق عظمته. وقيل سميت ليلة القدر لانه انزل فيها كتاب ذو قدر الى رسول ذي قدر لأجل أمة ذات قدر على يدي ملك ذي قدر. وقيل سميت بذلك لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة من قوله تعالى «وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ» (٤) وهو منقول عن الخليل بن أحمد.

أقول : والظاهر ان أظهر هذه الأقوال هو الأول وهو المناسب لتفضيلها على الف شهر.

الخامسة ـ اختلف العلماء في معنى «انزل القرآن في ليلة القدر» مع انه انما انزل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله نجوما مدة حياته ، فقيل إنه أنزل الله تعالى القرآن جملة واحدة في اللوح المحفوظ الى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم كان ينزله جبرئيل عليه‌السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نجوما وكان من أوله الى آخره ثلاث وعشرون سنة. وقيل معناه انا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل أنزله الله من اللوح المحفوظ إلى السفرة وهم الكتبة من الملائكة في السماء الدنيا وكان ينزل ليلة القدر من الوحي على قدر ما ينزل به جبرئيل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في السنة كلها الى مثلها من القابل ، وقيل ان معناه انا أنزلنا القرآن في شأن ليلة القدر وهو قوله تعالى «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» (٥)

__________________

(١) سورة الدخان الآية ٣.

(٢) قال الالوسى في روح المعاني ج ٢٥ ص ١١٣ في قوله تعالى «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» في سورة الدخان : روى عن ابن عباس : تقضى الأقضية كلها في ليلة النصف من شعبان وتسلم إلى أربابها ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان.

(٣) سورة الانعام والزمر الآية ٩٢ و ٦٨.

(٤) سورة الطلاق الآية ٨.

(٥) سورة القدر الآية ٤.

٤٤٨

وذهب المحدث الكاشاني في أصول الوافي الى ان معنى إنزاله في ليلة القدر إنزال بيانه بتفصيل مجمله وتأويل متشابهه وتقييد مطلقه وتفريق محكمه من متشابهه ، قال : وبالجملة تتميم إنزاله بحيث يكون هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان. انتهى أقول : والظاهر هو القول الأول ويدل عليه

ما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن حفص بن غياث عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «سألته عن قول الله تعالى (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (٢) وإنما أنزل القرآن في عشرين سنة بين أوله وآخره؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان الى البيت المعمور ثم أنزل في طول عشرين سنة. ثم قال قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان وأنزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان وانزل الإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان وانزل الزبور لثمان عشرة خلون من شهر رمضان وأنزل القرآن في ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان».

أقول : في هذا الخبر دلالة على ان ليلة القدر هي ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان لاخباره صلى‌الله‌عليه‌وآله بإنزال القرآن فيها.

بقي انه قد روى في التهذيب في باب فضل شهر رمضان من كتاب الصيام خبرا في أول الباب (٣) فيه «انه نزل القرآن في أول ليلة من شهر رمضان فاستقبل الشهر بالقرآن». ثم روى في آخر الباب حديثا عن أبى بصير (٤) يتضمن إنزال الكتب المذكورة في هذا الخبر وإنزال القرآن في ليلة القدر.

ولا يخفى مدافعة الخبر الأول من هذين الخبرين لما دل على النزول ليلة القدر

__________________

(١) الأصول ج ٢ ص ٦٢٨.

(٢) سورة البقرة الآية ١٨٢.

(٣) وهو حديث عمرو الشامي الذي أورده في الوسائل الباب ١٨ من أحكام شهر رمضان.

(٤) الوسائل الباب ١٨ من أحكام شهر رمضان رقم ١٦.

٤٤٩

وبعضهم جمع بين الخبرين بحمل النزول في ليلة القدر يعني إلى الأرض والخبر الآخر على نزوله الى السماء. ويدفعه صدر الخبر المذكور من ان نزوله إلى الأرض كان نجوما في عشرين سنة. والأقرب في الجمع بينهما حمل النزول في أول ليلة من شهر رمضان على أول النزول وان كان الأكثر إنما نزل في ليلة القدر. واما ما نقلناه عن المحدث الكاشاني فاستند فيه الى حديث إلياس المذكور في كتاب الحجة (١) وفي الدلالة نظر.

السادسة ـ ما تضمنه الخبر الأول (٢) ـ من قوله عليه‌السلام : فهو المحتوم ولله فيه المشيئة ـ لا يخلو من اشكال ولعله سقط من البين شي‌ء ، لأن المحتوم لا تدخله المشيئة كما دلت عليه الأخبار ومنها قوله عليه‌السلام في خبر محمد بن مسلم المتقدم (٣) «وأمر عنده موقوف له فيه المشيئة» وأظهر منه ما تقدم (٤) في آخر رواية إسحاق بن عمار.

ويؤيده ما ورد في الاخبار (٥) من ان العلم المخزون عنده هو الذي يكون فيه البداء وله فيه المشيئة بالتقديم والتأخير والزيادة والنقصان ونحو ذلك وما اطلع عليه ملائكته ورسله فإنه محتوم لا يداخله البداء ، ولا ريب ان ما تكتبه الملائكة في هذه الليلة وتنزل به الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والامام القائم بعده من أحوال تلك السنة وما يتجدد فيها إنما هو من الثاني فكيف تكون فيه المشيئة كما دل عليه الخبر المذكور.

ومن الأخبار المشار إليها ما رواه في الكافي (٦) عن الفضيل بن يسار في الصحيح قال : «سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول العلم علمان : فعلم عند الله مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه وعلم علمه ملائكته ورسله ، فما علمه ملائكته ورسله فإنه سيكون لا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله ، وعلم عنده مخزون يقدم منه

__________________

(١) باب الاضطرار إلى الحجة ج ٢ ص ٨ وقد ذكر التوجيه ص ١١.

(٢) وهو حديث حمران المتقدم ص ٤٣٨.

(٣) ص ٤٤٠.

(٤) ص ٤٤٢.

(٥ و ٦) الأصول ج ١ كتاب التوحيد باب البداء.

٤٥٠

ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء ويثبت ما يشاء». ومثله غيره.

السابعة ـ ما تضمنه حديث إسحاق بن عمار المتقدم (١) من قوله : «قال في ليلة تسع عشرة يلتقي الجمعان. الى آخره». لعل المعنى فيه ـ والله تعالى وأولياؤه اعلم بباطنه وخافية ـ ان في ليلة تسع عشرة يجمع بين طرفي كل حكم بالإيقاع واللاايقاع وفي ليلة احدى وعشرين يفرق بينهما بالمشيئة لأحدهما دون الآخر لكن لا على جهة الحتم بل على وجه يدخله البداء وفي ليلة ثلاث وعشرين يمضى ذلك حتما على وجه لا يدخله البداء.

وفي معنى هذا الخبر وان كان بألفاظ أخر ما رواه في الكافي في الموثق عن زرارة (٢) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام التقدير في ليلة تسع عشرة والإبرام في ليلة احدى وعشرين والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين».

وما رواه فيه عن ربيع المسلي وزياد بن ابى الحلال ذكراه عن رجل عن ابى عبد الله عليه‌السلام ـ ورواه في الفقيه عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) ـ قال : «في ليلة تسع عشرة من شهر رمضان التقدير وفي ليلة احدى وعشرين القضاء وفي ليلة ثلاث وعشرين إبرام ما يكون في السنة إلى مثلها ، ولله تبارك وتعالى أن يفعل ما يشاء في خلقه».

فالتقدير المذكور في هذين الخبرين عبارة عن استحضاره بكميته وكيفيته مع عدم الترجيح بين ما في الوجود والعدم وهي المرتبة الأولى المشار إليها في الخبر المتقدم بالتقاء الجمعين ، والمرتبة الثانية التي تقع في ليلة احدى وعشرين ترجيح أحد الطرفين وهي المعبر عنها في أول هذين الخبرين بالإبرام وفي ثانيهما بالقضاء ، وإطلاق الإبرام هنا وقع تجوزا باعتبار الترجيح ، والمرتبة الثالثة في ليلة ثلاث وعشرين وهي الإمضاء والإبرام الحقيقي الذي لا يدخله البداء.

__________________

(١) ص ٤٤٢.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٣٢ من أحكام شهر رمضان.

٤٥١

والمفهوم من الأخبار ان هذه المراتب في أفعاله (عزوجل) مطلقا وانه لا يكون فعل إلا بها وربما زيد عليها أيضا :

ففي الكافي (١) عن على بن إبراهيم الهاشمي قال : «سمعت أبا الحسن موسى ابن جعفر عليه‌السلام يقول : لا يكون شي‌ء إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى. قلت ما معنى شاء؟ قال ابتداء الفعل. قلت ما معنى أراد؟ قال الثبوت عليه. قلت ما معنى قدر؟ قال تقدير الشي‌ء من طوله وعرضه. قلت ما معنى قضى؟ قال إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مرد له».

ولتحقيق القول في ذلك محل آخر.

وروى الشيخ والصدوق عن الحسن بن على بن فضال (٢) قال : «كتبت الى أبى الحسن الرضا عليه‌السلام اسأله عن قوم عندنا يصلون ولا يصومون شهر رمضان وربما احتجت إليهم يحصدون لي فإذا دعوتهم الى الحصاد لم يجيبوني حتى أطعمهم وهم يجدون من يطعمهم فيذهبون اليه ويدعوني وأنا أضيق من إطعامهم في شهر رمضان؟ فكتب عليه‌السلام بخطه أعرفه : أطعمهم».

وروى في الكافي عن عمر بن يزيد (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ان المغيرية يزعمون ان هذا اليوم لهذا الليلة المستقبلة؟ فقال كذبوا هذا اليوم لليلة الماضية ، ان أهل بطن نخلة حيث رأوا الهلال قالوا قد دخل الشهر الحرام».

أقول : بطن نخلة موضع بين مكة والطائف ، والمغيرية اتباع المغيرة بن سعيد العجلي وقد تكاثرت الاخبار بذمة وانه كان من الكاذبين على ابى جعفر عليه‌السلام (٤)

__________________

(١) الأصول ج ١ ص ١٥٠ باب المشيئة والإرادة ، وقوله : «قلت ما معنى أراد؟ قال الثبوت عليه» ليس فيه وانما هو في الوافي ج ١ ص ١١٤ باب أسباب الفعل من أبواب معرفة مخلوقاته وأفعاله من كتاب العقل والعلم والتوحيد.

(٢) الوسائل الباب ٣٦ من أحكام شهر رمضان.

(٣) الوسائل الباب ٨ من أحكام شهر رمضان.

(٤) ارجع الى الاستدراكات.

٤٥٢

وروى انه كان يدعو الى محمد بن عبد الله بن الحسن ولقبه الأبتر وهو زيدي واليه تنسب البترية الذين هم أحد فرق الزيدية.

وروى ثقة الإسلام في الكافي مسندا عن ابى عبد الله عن أبيه عن جده (عليهم‌السلام) ان عليا عليه‌السلام ـ ورواه الصدوق في الفقيه مرسلا (١) «ان عليا عليه‌السلام ـ قال يستحب للرجل أن يأتي أهله أول ليلة من شهر رمضان لقول الله (عزوجل) (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ)» (٢) وزاد في الكافي (٣) : «والرفث الجماع».

قال في الوافي : إنما قال يستحب وليس في الآية أزيد من الحل لان الله سبحانه أحب ان يؤخذ برخصه.

وروى احمد بن محمد بن احمد بن عيسى في نوادره عن فضالة عن إسماعيل بن ابى زياد عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ثم ساق الخبر الى أن قال : وسمى شعبان شهر الشفاعة لأن رسولكم يشفع لكل من يصلى عليه فيه ، وسمى شهر رجب الأصب لأن الرحمة تصب على أمتي فيه صبا. ويقال الأصم لأنه نهى فيه عن قتال المشركين وهو من الشهور الحرام».

وروى الطبرسي في كتاب الاحتجاج (٥) عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري في مكاتباته لصاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه) «انه كتب اليه ان قبلنا مشايخ وعجائز يصومون رجبا منذ ثلاثين سنة وأكثر ويصلون شعبان بشهر رمضان

__________________

(١) الوسائل الباب ٣٠ من أحكام شهر رمضان. وفي الفروع ج ١ ص ٢١٣ «حدثني ابى عن جدي عن آبائه».

(٢) سورة البقرة الآية ١٨٤.

(٣) الفروع ج ١ ص ٢١٣ وفيه هكذا «والرفث المجامعة».

(٤) الوسائل الباب ٣٠ من الصوم المندوب.

(٥) الوسائل الباب ٢٦ من الصوم المندوب.

٤٥٣

وروى لهم بعض أصحابنا ان صومه معصية؟ فأجاب : قال الفقيه يصوم منه أياما إلى خمسة عشرة يوما ثم يفطر إلا ان يصومه عن الثلاثة الأيام الفائتة للحديث : ان نعم شهر للقضاء رجب».

أقول : يشم من هذا الخبر رائحة التقية ولعل في عدوله عليه‌السلام عن الجواب من نفسه الى النقل عن الفقيه إيماء الى ذلك ، والعلامة قد نقل القول بكراهة صوم شهر رجب كله عن احمد (١) ونقل عنه انه احتج بما رواه خرشة بن الحر قال : «رأيت عمر يضرب أكف المترجبين حتى يضعوها في الطعام ويقول كلوا فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية» وعن ابن عمر «انه كان إذا رأى الناس وما يعدون لرجب كرهه وقال صوموا منه وأفطروا» «ودخل أبو بكر على أهله وعندهم سلال جدد وكيزان فقال ما هذا؟ فقالوا رجب نصومه. قال أجعلتم رجبا رمضان فأكفأ السلال وكسر الكيزان» (٢).

قال العلامة في المنتهى بعد نقل ذلك عن احمد ونقل جملة من الاخبار الدالة على استحباب صيامه : ونقل احمد عن عمر انه إنما كان تعظمه الجاهلية يقتضي عدم العرفان بفضل هذا الشهر الشريف في الشريعة المحمدية ، وكذا أمر ابن عمر وابى بكر بترك صومه يدل على قلة معرفتهما بفضل هذا الشهر ، وبالجملة لا اعتداد بفعل هؤلاء مع ما نقلناه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته.

أقول : بل الظاهر ان الوجه في منع القوم إنما هو ما سمعوه من ان هذا الشهر شهر على عليه‌السلام كما ورد في بعض أخبارنا وانه مأمور بصومه لذلك (٣) كما ان شعبان شهر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وشهر رمضان شهر الله تعالى (٤). فيكون عليه‌السلام قرينا لهما في هذا

__________________

(١) المغني ج ٣ ص ١٦٦.

(٢) المغني ج ٣ ص ١٦٧ والمروي عنه فيه «أبو بكرة» لا «أبو بكر» كما في المتن.

(٣) الوسائل الباب ٢٦ من الصوم المندوب رقم ١٦ والباب ٢٨ منه رقم ١٣.

(٤) الوسائل الباب ٢٦ من الصوم المندوب رقم ١٦ والباب ٢٨ منه رقم ١٠ و ١٢ و ١٨ و ٢٣ و ٢٤.

٤٥٤

الموضع كما في غيره فحملتهم العداوة الجبلية على المنع من صومه حسدا وبغضا ، إذ يبعد كل البعد عدم سماعهم من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ما ورد في فضله مع صومه صلى‌الله‌عليه‌وآله كلا أو بعضا.

ثم أقول : لا يخفى انه متى كانت الاخبار قد وردت من هذين الخليفتين اللذين هما معتمدا أهل السنة في دينهما زيادة على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كما يعلم من تصلبهم على القيام ببدعهم في الدين فان هذا القول لا يختص بأحمد من بينهم إلا انه لم ينقل. والله العالم.

كتاب الاعتكاف

وهو لغة الاحتباس والإقامة على شي‌ء بالمكان ، قال الجوهري عكفه أى حبسه ووقفه يعكفه ويعكفه عكفا ، ومنه قوله تعالى «وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً» (١) ومنه الاعتكاف في المسجد وهو الاحتباس ، وعكف على الشي‌ء يعكف ويعكف عكوفا أي أقبل عليه مواظبا قال الله تعالى «يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ» (٢) وعكفوا حول الشي‌ء أي استداروا. ونحوه في القاموس. وفي النهاية الاعتكاف والعكوف هو الإقامة على الشي‌ء بالمكان. ونقل في الشرع الى معنى أخص من ذلك وهو ما يأتي الكلام فيه ان شاء الله تعالى. وعرفه الأصحاب بتعريفات لا يكاد يسلم أكثرها من الإيراد كما هو مذكور في كلامهم ولا ثمرة في التعرض لذلك.

ومشروعيته ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع ، اما الأول فقوله (عزوجل) (طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (٣) وقوله عز شأنه : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) (٤).

واما الثاني فالأخبار المستفيضة ومنها ما رواه الصدوق في الصحيح عن الحلبي

__________________

(١) سورة الفتح الآية ٢٦.

(٢) سورة الأعراف الآية ١٣٥.

(٣) سورة البقرة الآية ١٢٠ وارجع الى الاستدراكات.

(٤) سورة البقرة الآية ١٨٤.

٤٥٥

عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) انه قال : «لا اعتكاف إلا بصوم في المسجد الجامع. قال وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا كان العشر الأواخر اعتكف في المسجد وضربت له قبة من شعر وشمر المئزر وطوى فراشه. فقال بعضهم : واعتزل النساء. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : اما اعتزال النساء فلا».

قال الصدوق (رحمه‌الله) بعد إيراد هذا الخبر : المراد من نفيه عليه‌السلام لاعتزال النساء انه لم يمنعهن من خدمته والجلوس معه واما المجامعة فإنه امتنع منها ، قال ومعلوم من قوله : «طوى فراشه» ترك المجامعة.

وروى هذا الخبر الكليني في الصحيح أو الحسن على المشهور (٢) من قوله «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. الى آخره».

وروى في الكافي أيضا في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «كانت بدر في شهر رمضان فلم يعتكف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلما ان كان من قابل اعتكف عشرين : عشرا لعامه وعشرا قضاء لما فاته».

وروى في الكافي أيضا عن ابى العباس عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : «اعتكف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في شهر رمضان في العشر الاولى ثم اعتكف في الثانية في العشر الوسطى ثم اعتكف في الثالثة في العشر الأواخر ثم لم يزل يعتكف في العشر الأواخر». الى غير ذلك من الأخبار.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الكلام في هذا المقام يقع في فصلين :

الفصل الأول ـ في شرائط الاعتكاف وهي أمور :

الأول ـ الصوم فلا يصح إلا في زمان يصح فيه الصوم ممن يصح منه الصوم ،

__________________

(١) الفقيه ج ٢ ص ١١٩ و ١٢٠ وفي الوسائل الباب ٣ و ١ و ٥ من الاعتكاف.

(٢) الوسائل الباب ٥ من الاعتكاف.

(٣ و ٤) الوسائل الباب ١ من الاعتكاف.

٤٥٦

فلا يصح الاعتكاف في العيدين ولا يصح من الحائض والنفساء. وهذا الشرط مجمع عليه نصا وفتوى.

ومن الاخبار الدالة على ذلك ما تقدم في صحيحة الحلبي برواية الصدوق من قوله (عليه‌السلام) «لا اعتكاف إلا بصوم في المسجد الجامع».

وما رواه الكليني في الصحيح عن محمد بن مسلم (١) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) لا اعتكاف إلا بصوم».

وما رواه في الكافي أيضا عن ابى العباس عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «لا اعتكاف إلا بصوم».

وما رواه ايضا عن ابى بصير عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) في حديث (٣) قال : «ومن اعتكف صام».

وما رواه الصدوق في الصحيح عن الحلبي عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) في حديث (٤) قال فيه «وتصوم ما دمت معتكفا».

وما رواه الشيخ في الموثق عن عبيد بن زرارة (٥) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) لا يكون الاعتكاف إلا بصوم». الى غير ذلك من الاخبار.

وإطلاق هذه الاخبار وغيرها يقتضي الاكتفاء بالصيام كيف اتفق بمعنى انه لا يشترط في الصيام ان يكون لأجل الاعتكاف ، وبذلك صرح المحقق في المعتبر ايضا وغيره في غيره فقالوا بأنه لا يعتبر إيقاع الصوم لأجل الاعتكاف بل يكفى وقوعه في أي صوم اتفق واجبا كان أو ندبا رمضان كان أو غيره ، قال في المعتبر : وعليه فتوى الأصحاب.

قال العلامة في التذكرة بعد ان ذكر نحو ذلك : فلو نذر اعتكاف ثلاثة أيام مثلا وجب الصوم بالنذر لان ما لا يتم الواجب إلا به يكون واجبا.

قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : وهو مشكل على إطلاقه لأن المنذور المطلق

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٥) الوسائل الباب ٢ من الاعتكاف.

(٤) الوسائل الباب ٢ من الاعتكاف : ارجع الى الاستدراكات.

٤٥٧

يصح إيقاعه في صوم شهر رمضان أو واجب غيره فلا يكون نذر الاعتكاف مقتضيا لوجوب الصوم ، كما ان من نذر الصلاة فاتفق كونه متطهرا في الوقت الذي تعلق به النذر لم يفتقر إلى طهارة مستأنفة ، نعم لو كان الوقت معينا ولم يكن صومه واجبا اتجه وجوب صومه لكن لا يتعين صومه للنذر ايضا فلو نذر المعتكف صياما وصام تلك الأيام عن النذر أجزأ. انتهى.

أقول : الظاهر ان مراد العلامة انه لو نذر اعتكاف ثلاثة أيام مثلا وأراد الوفاء بنذره ولم يكن عليه صيام واجب فان الصيام يجب للاعتكاف بالنذر المذكور والعبارة خرجت مخرج التوسع بناء على ما هو الغالب.

ثم نقل عنه في المدارك ايضا انه قال في التذكرة أيضا : وكذا لو نذر اعتكافا وأطلق فاعتكف في أيام أراد صومها مستحبا جاز. ثم اعترض عليه بان هذا الكلام بظاهره مناف لما ذكره أولا من ان نذر الاعتكاف يقتضي وجوب الصوم. وهو كذلك.

ثم نقل عن جده (قدس‌سرهما) انه جزم بالمنع من جعل صوم الاعتكاف المنذور مندوبا للتنافي بين وجوب المضي على الاعتكاف الواجب وجواز قطع الصوم المندوب. ثم قال : وهو جيد ان ثبت وجوب المضي في الاعتكاف الواجب وان كان مطلقا لكنه غير واضح كما ستقف عليه ، اما بدون ذلك فيتجه جواز إيقاع المنذور المطلق في الصوم المستحب ، اما المعين فلا ريب في امتناع وقوعه كذلك لما ذكره الشارح من التنافي بين وجوب المضي فيه وجواز قطع الصوم. انتهى.

أقول : وسيأتي ما به يتضح تحقيق المسألة ان شاء الله تعالى.

الثاني ـ اللبث ثلاثة أيام فصاعدا لا أقل ، وهذا الشرط ايضا من ما لا خلاف فيه نصا وفتوى ، قال العلامة في التذكرة انه قول علمائنا أجمع. وقال المحقق في المعتبر : قد أجمع علماؤنا على انه لا يجوز أقل من ثلاثة أيام

٤٥٨

بليلتين وأطبق الجمهور على خلاف ذلك (١).

ويدل على ذلك من الاخبار ما رواه في الكافي (٢) عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : «لا يكون الاعتكاف أقل من ثلاثة أيام. ومن اعتكف صام. وينبغي للمعتكف إذا اعتكف ان يشترط كما يشترط الذي يحرم».

وما رواه الشيخ في التهذيب (٣) عن عمر بن يزيد عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) «إذا اعتكف العبد فليصم. وقال لا يكون الاعتكاف أقل من ثلاثة أيام. الحديث».

وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح في بعض والموثق في آخر عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر (عليه‌السلام) (٤) قال : «إذا اعتكف يوما ولم يكن اشترط فله ان يخرج ويفسخ الاعتكاف وان أقام يومين ولم يكن اشترط فليس له أن يخرج ويفسخ اعتكافه حتى تمضى ثلاثة أيام».

وما رواه المشايخ الثلاثة أيضا في الصحيح والموثق عن ابى عبيدة الحذاء عن ابى جعفر (عليه‌السلام) (٥) قال : «ومن اعتكف ثلاثة أيام فهو يوم الرابع بالخيار ان شاء زاد ثلاثة أيام أخر وان شاء خرج من المسجد ، فإن أقام يومين بعد الثلاثة فلا يخرج من المسجد حتى يتم ثلاثة أيام أخر».

وما رواه الكليني عن داود بن سرحان (٦) قال «بدأني أبو عبد الله (عليه‌السلام) من غير ان أسأله فقال الاعتكاف ثلاثة أيام يعني السنة ان شاء الله تعالى».

بقي الكلام هنا في مواضع الأول ـ لا خلاف في دخول ليلتي اليوم الثاني والثالث في الاعتكاف في الثلاثة الأيام لا من حيث الدخول في لفظ الأيام بل بدليل من خارج.

__________________

(١) المغني ج ٣ ص ١٨٦ و ١٨٩ و ٢١٣ و ٢١٤ و ٢١٦.

(٢) الفروع ج ١ ص ٢١٢ وفي الوسائل الباب ٤ و ٢ و ٩ من الاعتكاف.

(٣) ج ٤ ص ٢٨٩ وفي الوسائل الباب ٢ و ٤ من الاعتكاف.

(٤ و ٥ و ٦) الوسائل الباب ٤ من الاعتكاف.

٤٥٩

وانما الخلاف في دخول الليلة الأولى فقيل بعدم دخولها وبه صرح المحقق في المعتبر حيث قال في مقام الرد على ابى حنيفة (١) : ولا تدخل الليالي بل ليلتان من كل ثلاث لما قررناه من الأصل ، وحجته ضعيفة لأن دخول الأيام في الليالي وبالعكس لا يستفاد من مجرد اللفظ بل بالقرائن وإلا فاليوم حقيقة في ما بين الفجر الى غروب الشمس والليلة ما عدا ذلك ، واستعمال أحدهما في مسماه منضما لا يعلم بمجرد اللفظ. انتهى. وبه صرح الشهيد في الدروس.

وقيل بدخولها وهو منقول عن العلامة واليه جنح شيخنا الشهيد الثاني في المسالك حيث قال : لا خلاف عندنا في ان أقل الاعتكاف ثلاثة أيام إنما الكلام في مسمى هذه الأيام هل هو النهار لانه المعروف منها عند الإطلاق لغة واستعمالا حتى في القرآن الكريم لقوله تعالى (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيّامٍ حُسُوماً) (٢) أم المركب منه ومن الليل لاستعماله شرعا فيهما أيضا في بعض الموارد ، ولدخوله في اليومين الأخيرين؟ فعلى الأول فمبدأ الثلاثة طلوع الفجر وعلى الثاني الغروب والنصوص مطلقة وكذا كثير من عبارات الأصحاب ، واختار المصنف في المعتبر والشهيد في الدروس الأول ورجح العلامة وجماعة الثاني وهو أولى ، وأكمل منه ان يجمع بين النية عند الغروب وقبل الفجر. انتهى.

والسيد السند في المدارك حيث اختار الأول قال بعد نقل كلام جده واستدلاله : وهو استدلال ضعيف فان الاستعمال أعم من الحقيقة ودخول الليل في اليومين الأخيرين انما استفيد من دليل من خارج ، وكيف كان فالترجيح للقول الأول لما عرفت.

ونقل في المدارك عن بعض الأصحاب انه احتمل دخول الليلة المستقبلة في مسمى اليوم ، قال : وعلى هذا فلا تنتهي الأيام الثلاثة إلا بانتهاء الليلة الرابعة. ثم قال : وهو بعيد جدا بل مقطوع بفساده.

__________________

(١) المغني ج ٣ ص ٢١٣.

(٢) سورة الحاقة الآية ٨.

٤٦٠