الحدائق الناضرة - ج ١٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٢

عند المكلف وسماعه منهما ، ولهذا ان بعضهم اكتفى هنا بقول العدل الواحد كما حققناه في صدر كتاب الدرر النجفية.

ومن ما يدل على ان المدار إنما هو على سماع المكلف من الشاهدين قول الصادق عليه‌السلام في بعض اخبار الجبن (١) «كل شي‌ء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك ان فيه ميتة».

وبالجملة فإن غاية ما يستفاد من الاخبار بالنسبة إلى الحاكم الشرعي هو اختصاص الفتوى في الأحكام الشرعية والقضاء بين الخصوم به وكذا ما يتعلق بالحقوق الإلهية ، وجملة من الأخبار كما عرفت قد دلت على انه يكفى في ثبوت ما نحن فيه سماع المكلف من الشاهدين من غير توقف على حكم الحاكم ، وحينئذ فلا يكون ذلك من ما يختص بالحاكم مثل الأشياء المتقدمة ، فوجوب رجوع المكلف الى حكم الحاكم في ما نحن فيه يحتاج الى دليل ومجرد نيابته عنهم (عليهم‌السلام) قد عرفت ما فيه.

نعم ربما يشكل بما إذا كان المكلف جاهلا لا يعرف معنى العدالة ليحصل ثبوت الحكم عنده بشهادة العدلين كما يشير اليه كلام السيد السند في المدارك.

إلا ان فيه ان الظاهر ان هذا ليس بعذر شرعي يسوغ له وجوب الرجوع الى حكم الحاكم لاستناده الى تقصيره بالبقاء على جهله وعدم تحصيل العلم الذي استفاضت الأخبار بوجوبه عليه (٢) على ان هذا الإيراد لا يختص بهذا المقام بل يجري في الطلاق المشترط بالعدلين وصلاة الجماعة ونحو ذلك.

الثاني ـ هل يثبت الهلال بالشهادة على الشهادة؟ قيل لا وبه قطع العلامة في التذكرة على ما نقل عنه وأسنده إلى علمائنا ، واستدل عليه بأصالة البراءة واختصاص ورود القبول بالأموال وبحقوق الآدميين وقيل نعم وبه جزم شيخنا الشهيد الثاني

__________________

(١) الوسائل الباب ٦١ من الأطعمة المباحة.

(٢) الوسائل الباب ٤ من صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به.

٢٦١

من غير نقل خلاف أخذا بالعموم وانتفاء ما يصلح للتخصيص ، والتفاتا الى ان الشهادة حق لازم الأداء فيجوز الشهادة عليه كسائر الحقوق. قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه ، ولا بأس به.

أقول : لا يخفى ان ما عدا الأخذ بالعموم من التعليل الأخير لا يخلو من نظر ، وما ذكره من العموم جيد. وما ذكره العلامة (رحمه‌الله) من اختصاص ورود القبول بالأموال وحقوق الآدميين ممنوع ، فإن الأخبار الواردة في الشهادة على الشهادة (١) مطلقة ليس في شي‌ء منها تقييد بما ادعاه ، نعم ذلك في كلام الأصحاب حيث انهم إنما أوردوا هذه الأخبار في المقامين المذكورين في كلامه.

واما ما ذكره الفاضل الخراساني في الذخيرة ـ حيث اختار مذهب العلامة هنا فقال بعد نقل قول العلامة أولا ثم قول الشهيد الثاني : ولعل الترجيح للأول للأصل السالم عن المعارض فان المتبادر من النصوص شهادة الأصل. انتهى ـ

أقول : الظاهر ان مراد شيخنا المشار اليه بالعموم إنما هو عموم أخبار الشهادة على الشهادة وشمولها للشهادة على الهلال ونحوها لا عموم أخبار شهادة العدلين في رؤية الهلال (٢) كما يظهر من كلامه ، فان الظاهر ان شيخنا المذكور لا ينازع هنا في كون المراد بالعدلين هنا شاهدي الأصل ، كيف وشهود الفرع تزيد على هذا العدد فكيف يظن به ما توهمه؟ وإنما أراد الاخبار الدالة على قبول الشهادة على الشهادة كما ذكرناه ـ

ثم انه قد صرح جملة من الأصحاب بأنه لو استند الشاهدان الى الشياع المفيد للعلم وجب القبول.

ويدل عليه ما رواه الشيخ في الصحيح عن هشام بن الحكم عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) انه قال في من صام تسعة وعشرين قال : «ان كانت له بينة عادلة على أهل

__________________

(١) الوسائل الباب ٤ من كتاب الشهادات.

(٢) الوسائل الباب ١١ من أحكام شهر رمضان.

(٣) الوسائل الباب ٥ من أحكام شهر رمضان.

٢٦٢

مصر انهم صاموا ثلاثين على رؤيته قضى يوما».

الثالث ـ هل يكفى قول الحاكم الشرعي في ثبوت الهلال؟ وجهان :

أحدهما ـ وهو خيرة الشهيد في الدروس ـ نعم ، حيث قال : وهل يكفى قول الحاكم وحده في ثبوت الهلال؟ الأقرب نعم.

وعلله السيد السند في المدارك بعموم ما دل على ان للحاكم أن يحكم بعلمه ولأنه لو قامت البينة عنده فحكم بذلك وجب الرجوع الى حكمه كغيره من الأحكام والعلم أقوى من البينة. ولان المرجع في الاكتفاء بشهادة العدلين وما تتحقق به العدالة إلى قوله فيكون مقبولا.

ويحتمل العدم لإطلاق قوله عليه‌السلام (١) : «لا أجيز في رؤية الهلال إلا شهادة رجلين عدلين».

والفاضل الخراساني ـ حيث اختار في الذخيرة ما ذهب إليه في الدروس ـ جمد على التعليل الأول ولم يذكر ما يدل على احتمال العدم. وأنت خبير بما فيه بعد الإحاطة بما قدمنا تحقيقه.

وكلام السيد السند هنا ظاهر في ما أسلفنا نقله عنهم من حكمهم بوجوب الأخذ بما يحكم به الحاكم كائنا ما كان ، ولم يتوقف إلا في الاعتماد على قول الحاكم إذا كان هو الرائي فاحتمل عدم العمل بقوله نظرا إلى إطلاق الخبر الذي نقله ، وبمضمونه أيضا أخبار أخر (٢).

الرابع ـ قد صرح جملة من الأصحاب ـ بل الظاهر انه المشهور ـ بان حكم البلاد المتقاربة كبغداد والكوفة واحد فإذا رئي الهلال في أحدهما وجب الصوم على ساكنيهما ، اما لو كانت متباعدة كبغداد وخراسان والعراق والحجاز فان لكل بلد حكم نفسها. وهذا الفرق عندهم مبنى على كرؤية الأرض.

قال المحقق الشيخ فخر الدين في شرح القواعد : ومبنى هذه المسألة على ان

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١١ من أحكام شهر رمضان.

٢٦٣

الأرض هل هي كرؤية أو مسطحة؟ والأقرب الأول لأن الكواكب تطلع في المساكن الشرقية قبل طلوعها في المساكن الغربية وكذا في الغروب ، وكل بلد غربي بعد عن الشرقي بألف ميل يتأخر غروبه عن غروب الشرقي ساعة واحدة ، وإنما عرفنا ذلك بإرصاد الكسوفات القمرية حيث ابتدأت في ساعات أقل من ساعات بلدنا في المساكن الغربية وأكثر من ساعات بلدنا في المساكن الشرقية ، فعرفنا ان غروب الشمس في المساكن الشرقية قبل غروبها في بلدنا وغروبها في المساكن الغربية بعد غروبها في بلدنا ، ولو كانت الأرض مسطحة لكان الطلوع والغروب في جميع المواضع في وقت واحد. ولأن السائر على خط من خطوط نصف النهار الى الجانب الشمالي يزداد عليه ارتفاع الشمالي وانخفاض الجنوبي وبالعكس. انتهى.

ونقل العلامة في التذكرة عن بعض علمائنا قولا بان حكم البلاد كلها واحد فمتى رئي الهلال في بلد وحكم بأنه أول الشهر كان ذلك الحكم ماضيا في جميع أقطار الأرض سواء تباعدت البلاد أو تقاربت اختلفت مطالعها أم لا.

ويظهر من العلامة في المنتهى الميل الى هذا القول حيث قال : إذا رأى الهلال أهل بلد وجب الصوم على جميع الناس سواء تباعدت البلاد أو تقاربت. وقال الشيخ (قدس‌سره) ان كانت البلاد متقاربة لا تختلف في المطالع كبغداد والبصرة كان حكمها واحدا وان تباعدت كبغداد ومصر كان لكل بلد حكم نفسه. ان كان بينهما هذه المسافة (١) لنا ـ انه يوم من شهر رمضان في بعض البلاد للرؤية وفي الباقي بالشهادة فيجب صومه لقوله تعالى «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» (٢). ولأن البينة العادلة شهدت بالهلال فيجب الصوم كما لو تقاربت البلاد. ولانه شهد برؤيته من يقبل قوله فيجب القضاء لو فات ، لما رواه الشيخ عن ابن مسكان والحلبي جميعا عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) قال فيها : «إلا أن يشهد لك بينة عدول فان شهدوا

__________________

(١) ارجع الى الاستدراكات في آخر الكتاب.

(٢) سورة البقرة الآية ١٨٢.

(٣) الوسائل الباب ٥ من أحكام شهر رمضان.

٢٦٤

أنهم رأوا الهلال قبل ذلك فاقض ذلك اليوم». وفي رواية منصور بن حازم عنه عليه‌السلام (١) «فان شهد عندك شاهدان مرضيان بأنهما رأياه فاقضه». وفي الحسن عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) «انه سئل عن اليوم الذي يقضى من شهر رمضان فقال لا تقضه إلا أن يشهد شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر. وقال لا تصم ذلك اليوم الذي يقضى إلا أن يقضي أهل الأمصار فإن فعلوا فصمه». علق عليه‌السلام وجوب القضاء بشهادة العدلين من جميع المسلمين وهو نص في التعميم قربا وبعدا ، ثم عقبه بمساواته لغيره من أهل الأمصار ولم يعتبر عليه‌السلام القرب في ذلك ، وفي حديث عبد الرحمن بن ابى عبد الله عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) «فان شهد أهل بلد آخر فاقضه». ولم يعتبر القرب أيضا ، وفي الصحيح عن هشام ابن الحكم عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٤) قال في من صام تسعة وعشرين قال : «ان كانت له بينة عادلة على أهل مصر انهم صاموا ثلاثين على رؤية الهلال قضى يوما». علق عليه‌السلام قضاء اليوم على الشهادة على مصر وهو نكرة شائعة تتناول الجميع على البدل فلا تخصيص في الصلاحية لبعض الأمصار إلا بدليل. والأحاديث كثيرة بوجوب القضاء إذا شهدت البينة بالرؤية ولم يعتبروا قرب البلاد وبعدها. ثم نقل رواية عامية (٥) دليلا للقول الآخر الى ان قال : ولو قالوا ـ ان البلاد المتباعدة تختلف عروضها فجاز أن يرى الهلال في بعضها دون بعض لكروية الأرض ـ قلنا ان المعمورة منها قدر يسير وهو الربع ولا اعتداد به عند السماء. وبالجملة ان علم طلوعه

__________________

(١) الوسائل الباب ٣ و ١١ من أحكام شهر رمضان.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ١٢ من أحكام شهر رمضان.

(٤) الوسائل الباب ٥ من أحكام شهر رمضان.

(٥) وهي رواية كريب المتضمنة لرؤية هلال شهر رمضان في الشام ليلة الجمعة وفي المدينة ليلة السبت ، وان ابن عباس لم يعتبر رؤيته في الشام استنادا إلى أمر رسول الله (ص) سنن البيهقي ج ٤ ص ٢٥١.

٢٦٥

في بعض الأصقاع وعدم طلوعه في بعضها المتباعد عنه لكروية الأرض لم يتساو حكماهما اما بدون ذلك فالتساوي هو الحق. انتهى.

أقول : وما ذكره (قدس‌سره) هو الحق المعتضد بالأخبار الصريحة الصحيحة التي نقل بعضها.

واما ما ذكره الفاضل الخراساني في الذخيرة من الأجوبة هنا عن كلامه فهو من جملة تشكيكاته الركيكة واحتمالاته الواهية.

واما قوله أخيرا ـ وبالجملة. الى آخره ـ فالظاهر انه اشارة إلى منع ما ادعوه من الطلوع في بعض وعدم الطلوع في بعض للتباعد وانه غير واقع ، لما ذكره أولا من ان المعمور من الأرض قدر يسير لا اعتداد به بالنسبة إلى سعة السماء ، وانه لو فرض حصول العلم بذلك فالحكم عدم التساوي ، فلا منافاة فيه لأول كلامه كما استدركوه عليه.

وملخصه انا نقول بوجوب الصوم أو القضاء مع الفوات متى ثبتت الرؤية في بلد آخر قريبا أو بعيدا ، وما ادعوه من الطلوع في بعض وعدم الطلوع في آخر بناء على ما ذكروه من الكروية ممنوع.

أقول : ومن ما يبطل القول بالكروية (١) انهم جعلوا من فروع ذلك أن يكون يوم واحد خميسا عند قوم وجمعة عند آخرين وسبتا عند قوم وهكذا وهذا من ما ترده الأخبار المستفيضة في جملة من المواضع ، فان المستفاد منها على وجه لا يزاحمه الريب والشك ان كل يوم من أيام الأسبوع وكل شهر من شهور السنة أزمنة معينة معلومة نفس أمرية ، كالأخبار الدالة على فضل يوم الجمعة وما يعمل فيه واحترامه وانه سيد الأيام وسيد الأعياد وان من مات فيه كان شهيدا ونحو ذلك (٢) وما ورد

__________________

(١) ارجع الى التعليقة ٤ ص ٢٦٧.

(٢) الوسائل الباب ٦ الى ١٢ من الأغسال المسنونة والباب ٣٠ الى ٥٧ من صلاة الجمعة وآدابها.

٢٦٦

في أيام الأعياد من الأعمال والفضل ، وما ورد في يوم الغدير ونحوه من الأيام الشريفة (١) وما ورد في شهر رمضان من الفضل والأعمال والاحترام ونحو ذلك (٢) فان ذلك كله ظاهر في انها عبارة عن أزمان معينة نفس أمرية واللازم على ما ادعوه من الكروية انها اعتبارية باعتبار قوم دون آخرين ، ومثل الأخبار الواردة في زوال الشمس وما يعمل بالشمس في وصولها إلى دائرة نصف النهار وما ورد في ذلك من الأعمال (٣) فإنه بمقتضى الكروية يكون ذلك من طلوع الشمس الى غروبها لا اختصاص به بزمان معين لأن دائرة نصف النهار بالنسبة الى كل قوم غيرها بالنسبة إلى آخرين.

وبالجملة فبطلان هذا القول بالنظر الى الأدلة السمعية والاخبار النبوية أظهر من ان يخفى (٤) وما رتبوه عليه في هذه المسألة من هذا القبيل ، وعسى ان ساعد التوفيق ان أكتب رسالة شافية مشتملة على الأخبار الصحيحة الصريحة في دفع هذا القول ان شاء الله تعالى.

وبذلك يظهر ان ما فرعوه على اختلاف الحكم في هذه المسألة ليس في محله ،

__________________

(١) تجد ذلك كله في الوسائل في أبواب الأغسال المسنونة وأبواب صلاة العيد وأبواب بقية الصلوات المندوبة وأبواب الصوم المندوب وأبواب المزار من كتاب الحج.

(٢) الوسائل أبواب الأغسال المسنونة وأبواب نافلة شهر رمضان وأبواب أحكام شهر رمضان.

(٣) الوسائل الباب ١٢ من مواقيت الصلاة.

(٤) ان كرؤية الأرض أصبحت في عصرنا هذا من الأمور الواضحة البديهية التي ليس للنقاش فيها أى مجال ، والذي يوضح ذلك أولا ـ اختلاف البلدان الشرقية والغربية في الليل والنهار ففي الوقت الذي يكون النهار في الشرق يكون الليل في الغرب كما أصبح ذلك واضحا من طريق الآلات الحديثة. وثانيا ـ ان السائر من آية نقطة من نقاط الأرض بنحو الاستقامة إلى الشرق لا بد أن ينتهي إليها من طرف الغرب وبالعكس هذا وليس في الآيات والاخبار ما ينافي ذلك بل فيها ما يدل على ذلك ، راجع البيان لآية الله الخوئي ج ١ ص ٥٥.

٢٦٧

حيث ان جمعا منهم قالوا انه يتفرع على اختلاف الحكم بالتباعد ان المكلف بالصوم لو رأى الهلال في بلد وسافر الى بلد آخر يخالفه في حكمه انتقل حكمه إليه ، فلو رأى الهلال في بلد ليلة الجمعة مثلا ثم سافر الى بلدة بعيدة شرقية قد رئي فيها ليلة السبت أو بالعكس صام في الأول أحدا وثلاثين ويفطر في الثاني على ثمانية وعشرين ولو أصبح معيدا ثم انتقل ليومه ووصل قبل الزوال أمسك بالبينة وأجزأه ، ولو وصل بعد الزوال أمسك مع القضاء ، ولو أصبح صائما للرؤية ثم انتقل احتمل جواز الإفطار لانتقال الحكم وعدمه لتحقق الرؤية وسبق التكليف بالصوم ، فانا نمنع وقوع هذه الفروض.

قال في الدروس بعد ذكر ذلك : ولو روعي الاحتياط في هذه الفروض كان أولى.

وقال في المسالك : والأولى مراعاة الاحتياط في هذه الفروض لعدم النص وإنما هي أمور اجتهادية قد فرعها العلماء على هذه المسألة مختلفين فيها. انتهى.

أقول : بل الأظهر بناء على ما ذكروه من إمكان وقوع ذلك هو وجوب الاحتياط لا استحبابه كما يظهر من كلامهم.

ثم ان ممن وافقنا على ما ذكرناه واختار في هذه المسألة ما اخترناه المحدث الكاشاني في الوافي حيث قال بعد نقل جملة من الاخبار الدالة على القضاء بشهادة أهل بلد اخرى : إنما قال عليه‌السلام فان شهد أهل بلد آخر فاقضه لأنه إذا رآه واحد في البلد رآه الف كما مر. والظاهر انه لا فرق بين ان يكون ذلك البلد المشهود برؤيته فيه من البلاد القريبة من هذا البلد أو البعيدة منه ، لأن بناء التكليف على الرؤية لا على جواز الرؤية ، ولعدم انضباط القرب والبعد لجمهور الناس ، ولإطلاق اللفظ فما اشتهر بين متأخري أصحابنا ـ من الفرق ثم اختلافهم في تفسير القرب والبعد بالاجتهاد ـ لا وجه له. انتهى.

الخامس ـ قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لا اعتبار

٢٦٨

بالجدول ولا بالعدد ولا بغيبوبة الهلال بعد الشفق ولا برؤيته يوم الثلاثين قبل الزوال ولا بتطوقه ولا بعد خمسة أيام من أول الهلال من السنة الماضية.

والكلام في تفصيل هذه الجملة يقع في مواضع الأول ـ في الجدول وهو حساب مخصوص مأخوذ من سير القمر واجتماعه بالشمس ، ولا ريب في عدم اعتباره لاستفاضة الروايات بان الطريق الى ثبوت دخول الشهر اما الرؤية أو مضى ثلاثين يوما من الشهر المتقدم. وأيضا فإن أكثر أحكام التنجيم مبنية على قواعد كلية مستفادة من الحدس التي تخطئ أكثر من ما تصيب.

وحكى الشيخ في الخلاف عن شاذ منا العمل بالجدول ، ونقله في المنتهى عن بعض الجمهور (١) تمسكا بقوله تعالى (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (٢) وبان الكواكب والمنازل يرجع إليها في القبلة والأوقات وهي أمور شرعية فكذا هنا.

والجواب ان الاهتداء بالنجم يتحقق بمعرفة الطرق ومسالك البلدان وتعرف الأوقات ، والذي يرجع إليه في الوقت والقبلة مشاهدة النجم لا ظنون أهل التنجيم الكاذبة في كثير من الأوقات ، قال في التذكرة : وقد شدد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله النهى عن سماع كلام المنجم حتى قال صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) من صدق كاهنا أو منجما فهو كافر بما أنزل الله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أقول : ومن ما يستأنس به لذلك ما رواه الشيخ في التهذيب عن محمد بن الحسن الصفار عن محمد بن عيسى (٤) قال : «كتب إليه أبو عمرو أخبرني يا مولاي انه ربما أشكل علينا هلال شهر رمضان فلا نراه ونرى السماء ليست فيها علة فيفطر الناس ونفطر معهم ، ويقول قوم من الحساب قبلنا انه يرى في تلك الليلة بعينها في بمصر وإفريقية والأندلس فهل يجوز يا مولاي ما قال الحساب في هذا الباب حتى

__________________

(١) المجموع ج ٦ ص ٢٧٩.

(٢) سورة النحل الآية ١٧.

(٣) الوسائل الباب ١٥ من أحكام شهر رمضان والباب ٢٤ من ما يكتسب به.

(٤) الوسائل الباب ١٥ من أحكام شهر رمضان.

٢٦٩

يختلف الفرض على أهل الأمصار فيكون صومهم خلاف صومنا وفطرهم بخلاف فطرنا؟ فوقع عليه‌السلام لا تصومن الشك أفطر لرؤيته وصم لرؤيته».

قال في الوافي بعد ذكر هذا الخبر : بيان ـ يعنى لا تدخل في الشك بقول الحساب واعمل على يقينك المستفاد من الرؤية ، وهذا لا ينافي وجوب القضاء لو ثبتت الرؤية في بلد آخر بشهود عدول ، وانما لم يجبه عليه‌السلام عن سؤاله عن جواز اختلاف الفرض على أهل الأمصار صريحا لأنه قد فهم ذلك من ما أجابه ضمنا ، وذلك فإنه فهم من كلامه عليه‌السلام ان اختلاف الفرض ان كان لاختلاف الرؤية فجائز وان كان لجواز الرؤية بالحساب فغير جائز ، ولا فرق في ذلك بين البلاد المتقاربة والمتباعدة كما قلناه. انتهى. وأشار بقوله كما قلناه الى ما قدمنا نقله عنه.

الثاني ـ في العدد وهو عبارة عن عد شعبان ناقصا أبدا وشهر رمضان تاما أبدا ، وما ذكرناه من عدم الاعتبار به هو المشهور بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) وذهب الصدوق في الفقيه الى العمل بذلك ، وربما نقل عن الشيخ المفيد في بعض كتبه.

قال في الفقيه ـ بعد أن نقل فيه روايتي حذيفة بن منصور الآتيتين الدالتين على ان شهر رمضان ثلاثون يوما لا ينقص والله أبدا ـ ما صورته : قال مصنف هذا الكتاب من خالف هذه الأخبار وذهب الى الأخبار الموافقة للعامة في ضدها اتقى كما يتقي العامة ولا يكلم إلا بالتقية (١) كائنا من كان إلا أن يكون مسترشدا فيرشد ويبين له ، فإن البدعة إنما تماث وتبطل بترك ذكرها ولا قوة إلا بالله. انتهى.

وقال المحقق في المعتبر : ولا بالعدد فان قوما من الحشوية يزعمون ان شهور السنة قسمان ثلاثون يوما وتسعة وعشرون يوما فرمضان لا ينقص أبدا وشعبان لا يتم أبدا محتجين بأخبار منسوبة الى أهل البيت (عليهم‌السلام) يصادمها عمل

__________________

(١) لما سيأتي ص ٢٧٢ في بعض الروايات من رواية العامة ان رسول الله (ص) صام تسعة وعشرين أكثر من ما صام ثلاثين ، وتكذيب ذلك في تلك الروايات.

٢٧٠

المسلمين في الأقطار بالرؤية وروايات صريحة لا يتطرق إليها الاحتمال فلا ضرورة إلى ذكرها. انتهى.

أقول : ولا بد في المقام من ذكر اخبار الطرفين وبيان ما هو الحق في البين :

فنقول من الأخبار الدالة على القول المشهور ما رواه الشيخ في الصحيح عن حماد بن عثمان عن أبى عبد الله عليه‌السلام (١) «انه قال في شهر رمضان هو شهر من الشهور يصيبه ما يصيب الشهور من النقصان».

وفي الصحيح عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه‌السلام (٢) قال : «إذا كانت علة فأتم شعبان ثلاثين».

وفي الصحيح عن عبد الله الحلبي عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) «انه سئل عن الأهلة فقال هي أهلة الشهور فإذا رأيت الهلال فصم وإذا رأيته فأفطر. قال قلت : أرأيت ان كان الشهر تسعة وعشرين يوما اقضى ذلك اليوم؟ فقال : لا إلا ان يشهد بذلك بينة عدول فان شهدوا أنهم رأوا الهلال قبل ذلك فاقض ذلك اليوم». وبهذا المضمون أخبار عديدة.

وما رواه في التهذيب عن هارون بن حمزة الغنوي عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : «سمعته يقول إذا صمت لرؤية الهلال وأفطرت لرؤيته فقد أكملت صيام شهر رمضان». ورواه بهذا الاسناد في موضع آخر (٥) بدون لفظة «رمضان» وزاد «وان لم تصم إلا تسعة وعشرين يوما فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الشهر هكذا وهكذا وهكذا ، وأشار بيده الى عشرة وعشرة وتسعة».

وما رواه في التهذيب عن صبار مولى ابى عبد الله عليه‌السلام (٦) قال : «سألته عن الرجل يصوم تسعة وعشرين يوما ويفطر للرؤية ويصوم للرؤية أيقضى يوما؟

__________________

(١ و ٢ و ٦) الوسائل الباب ٥ من أحكام شهر رمضان.

(٣) الوسائل الباب ٣ و ٥ من أحكام شهر رمضان رقم ١٨ و ١٧.

(٤ و ٦) الوسائل الباب ٣ من أحكام شهر رمضان.

٢٧١

قال : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول لا إلا أن يجي‌ء شاهدان عدلان فيشهدا أنهما رأياه قبل ذلك بليلة فيقضي يوما».

وما رواه في الصحيح عن هشام بن الحكم عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) «انه قال في من صام تسعة وعشرين قال : ان كانت له بينة عادلة على أهل مصر انهم صاموا ثلاثين على رؤيته قضى يوما».

وما رواه فيه عن أبى خالد الواسطي (٢) قال : «أتينا أبا جعفر عليه‌السلام في يوم يشك فيه من رمضان. ثم ساق الخبر الى أن قال : ثم قال حدثني ابى على بن الحسين عن على (عليهم‌السلام) ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما ثقل في مرضه قال أيها الناس ان السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم. قال : ثم قال بيده فذاك رجب مفرد وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثلاثة متواليات ، ألا وهذا الشهر المفروض رمضان فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإذا خفي الشهر فأتموا العدة شعبان ثلاثين يوما وصوموا الواحد وثلاثين. وقال بيده الواحد واثنان وثلاثة واحد واثنان وثلاثة ويزوي إبهامه. ثم قال أيها الناس شهر كذا وشهر كذا. وقال على عليه‌السلام صمنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تسعة وعشرين ولم نقضه ورآه تاما. وقال على عليه‌السلام قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من الحق في رمضان يوما من غيره متعمدا فليس بمؤمن بالله ولا بي».

وما رواه في التهذيب عن جابر عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «سمعته يقول ما أدرى ما صمت ثلاثين أكثر أو ما صمت تسعة وعشرين يوما ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال شهر كذا وشهر كذا وشهر كذا يعقد بيده تسعة وعشرين يوما».

الى غير ذلك من الأخبار الدالة على هذا القول ، ويبلغ ما أعرضنا عن نقله

__________________

(١ و ٣) الوسائل الباب ٥ من أحكام شهر رمضان.

(٢) التهذيب ج ٤ ص ١٦١ وفي الوسائل الباب ١٦ و ٣ و ٥ من أحكام شهر رمضان رقم ١ و ١٧ و ١٦.

٢٧٢

من الاخبار اختصارا برواية الشيخ في التهذيب ما يقرب من اثنى عشر خبرا.

وقال في الفقه الرضوي (١) : وشهر رمضان ثلاثون يوما وتسعة وعشرون يوما يصيبه ما يصيب الشهور من التمام والنقصان ، والفرض فيه تام أبدا لا ينقص كما روى ، ومعنى ذلك الفريضة فيه الواجبة قد تمت ، وهو شهر قد يكون ثلاثين يوما وتسعة وعشرين يوما.

واما ما يدل على القول الآخر فهو ما رواه ثقة الإسلام في الكافي والصدوق في الفقيه عن حذيفة بن منصور عن معاذ بن كثير عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «شهر رمضان ثلاثون يوما لا ينقص والله أبدا».

وما رواه في التهذيب عن حذيفة بن منصور عن معاذ بن كثير (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ان الناس يقولون ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صام تسعة وعشرين أكثر من ما صام ثلاثين؟ (٤) فقال : كذبوا ما صام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله منذ بعثه الله الى أن قبضه أقل من ثلاثين يوما ولا نقص شهر رمضان منذ خلق الله السماوات من ثلاثين يوما وليلة».

وما رواه في التهذيب عن حذيفة عن معاذ بن كثير (٥) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ان الناس يروون ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صام تسعة وعشرين يوما؟ (٦) قال فقال لي أبو عبد الله عليه‌السلام. لا والله ما نقص شهر رمضان منذ خلق الله السماوات والأرض من ثلاثين يوما وثلاثين ليلة».

وما رواه في التهذيب بهذا الاسناد (٧) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ان الناس يروون عندنا ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صام هكذا وهكذا وهكذا ـ وحكى بيده يطبق احدى يديه على الأخرى عشرا وعشرا وتسعا ـ أكثر من ما صام هكذا وهكذا وهكذا يعنى عشرا وعشرا وعشرا؟ (٨) قال فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ما صام

__________________

(١) ص ٢٤.

(٢ و ٣ و ٥ و ٧) الوسائل الباب ٥ من أحكام شهر رمضان.

(٤ و ٦ و ٨) سنن البيهقي ج ٤ ص ٢٥٠.

٢٧٣

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أقل من ثلاثين يوما وما نقص شهر رمضان من ثلاثين يوما منذ خلق الله السماوات والأرض».

وما رواه في التهذيب عن حذيفة بن منصور (١) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لا والله لا والله ما نقص شهر رمضان ولا ينقص أبدا من ثلاثين يوما وثلاثين ليلة. فقلت لحذيفة لعله قال لك ثلاثين ليلة وثلاثين يوما كما يقول الناس الليل ليل النهار؟ فقال لي حذيفة : هكذا سمعت».

وما رواه في التهذيب عن محمد بن يعقوب بن شعيب عن أبيه (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ان الناس يقولون ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صام تسعة وعشرين يوما أكثر من ما صام ثلاثين يوما؟ (٣) فقال : كذبوا ما صام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا تاما وذلك قول الله تعالى (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) (٤) فشهر رمضان ثلاثون يوما وشوال تسعة وعشرون يوما وذو القعدة ثلاثون يوما لا ينقص أبدا ، لأن الله تعالى يقول : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) (٥) وذو الحجة تسعة وعشرون يوما ، ثم الشهور على مثل ذلك شهر تام وشهر ناقص ، وشعبان لا يتم أبدا».

وما رواه في التهذيب والفقيه عن محمد بن يعقوب بن شعيب عن أبيه عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٦) قال : «قلت له ان الناس يروون ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما صام من شهر رمضان تسعة وعشرين يوما أكثر من ما صام ثلاثين؟ (٧) فقال : كذبوا ما صام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا تاما ولا تكون الفرائض ناقصة ، ان الله تعالى خلق السنة ثلاثمائة وستين يوما وخلق السماوات والأرض في ستة أيام فحجزها من ثلاثمائة وستين يوما فالسنة ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما ، وشهر رمضان ثلاثون

__________________

(١ و ٢ و ٦) الوسائل الباب ٥ من أحكام شهر رمضان.

(٣ و ٧) سنن البيهقي ج ٤ ص ٢٥٠.

(٤) سورة البقرة الآية ١٨٢.

(٥) سورة الأعراف الآية ١٣٩.

٢٧٤

يوما. وساق الحديث الى آخره».

وما رواه في الكافي عن العدة عن سهل عن محمد بن إسماعيل عن بعض أصحابه عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «ان الله عزوجل خلق الدنيا في ستة أيام ثم اختزلها عن أيام السنة والسنة ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما ، شعبان لا يتم أبدا وشهر رمضان لا ينقص والله أبدا ولا تكون فريضة ناقصة ان الله تعالى يقول : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) (٢) وشوال تسعة وعشرون يوما وذو القعدة ثلاثون يوما ، يقول الله عزوجل (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (٣) وذو الحجة تسعة وعشرون يوما والمحرم ثلاثون يوما ثم الشهور بعد ذلك شهر تام وشهر ناقص».

وما رواه في التهذيب عن معاوية بن عمار عن أبى عبد الله عليه‌السلام (٤) «في قوله تعالى : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ)؟ قال : صوم ثلاثين يوما».

وما رواه في الفقيه (٥) قال «سأل أبو بصير أبا عبد الله عن قول الله تعالى : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) (٦) قال : ثلاثون يوما».

وما رواه في الفقيه عن ياسر الخادم (٧) قال : «قلت للرضا عليه‌السلام هل يكون شهر رمضان تسعة وعشرين يوما؟ فقال : ان شهر رمضان لا ينقص من ثلاثين يوما أبدا».

أقول : قد ذكر أصحابنا (رضوان الله عليهم) في الجواب عن بعض هذه الأخبار ـ حيث لم يأتوا عليها كملا في مقام الاستدلال ـ أجوبة لا تشفي العليل ولا تبرد الغليل.

ولم أقف لأحد منهم على كلام شاف أحسن من ما ذكره المحدث الكاشاني

__________________

(١ و ٤ و ٥ و ٧) الوسائل الباب ٥ من أحكام شهر رمضان.

(٢ و ٦) سورة البقرة الآية ١٨٢.

(٣) سورة الأعراف الآية ١٣٩.

٢٧٥

في الوافي ذيل هذه الأخبار وانا أنقله بالتمام وان طال به زمام الكلام لما فيه من مزيد الفائدة في المقام :

قال (قدس‌سره) بعد نقل كلام صاحب الفقيه الذي قدمنا نقله : قال في التهذيبين ما ملخصه : ان هذه الأخبار لا يجوز العمل بها من وجوه : منها ـ ان متنها لا يوجد في شي‌ء من الأصول المصنفة وانما هو موجود في الشواذ من الاخبار ومنها ـ ان كتاب حذيفة بن منصور عرى منها والكتاب معروف مشهور ولو كان الحديث صحيحا عنه لضمنه كتابه. ومنها ـ انها مختلفة الألفاظ مضطربة المعاني لروايتها تارة عن أبى عبد الله عليه‌السلام بلا واسطة واخرى بواسطة واخرى يفتي الراوي بها من قبل نفسه فلا يسندها الى أحد. ومنها ـ أنها لو سلمت من ذلك كله لكانت اخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا ، واخبار الآحاد لا يجوز الاعتراض بها على ظاهر القرآن والأخبار المتواترة. ومنها ـ تضمنها من التعليل ما يكشف عن انها لم تثبت عن إمام هدى ، وذلك كالتعليل بوعد موسى عليه‌السلام فان اتفاق تمام ذي القعدة في أيام موسى عليه‌السلام لا يوجب تمامه في مستقبل الأوقات ولا دلالة على انه لم يزل كذلك في ما مضى ، مع انه ورد في جواز نقصانه حديث ابن وهب (١) المتضمن انه أكثر نقصانا من سائر الشهور كما يأتي ، وكالتعليل باختزال الستة الأيام من السنة فإنه لا يمنع من اتفاق النقصان في شهرين وثلاثة على التوالي ، وكالتعليل بكون الفرائض لا تكون ناقصة فإن نقصان الشهر عن ثلاثين لا يوجب النقصان في فرض العمل فيه ، فان الله لم يتعبدنا بفعل الأيام وإنما تعبدنا بالفعل في الأيام ، وقد أجمع المسلمون على ان المطلقة في أول الشهر إذا اعتدت بثلاثة أشهر ناقص بعضها أنها مؤدية لفرض الله من العدة على الكمال دون النقصان ، وكذا الناذر لله صيام شهر يلي قدومه من سفره فاتفق أن يكون ذلك الشهر ناقصا ، وكذا التعليل بإكمال العدة فإن نقصان الشهر لا يوجب نقصان العدة في الفرض ، مع انه

__________________

(١) ص ٢٧٨.

٢٧٦

إنما ورد في علة وجوب قضاء المريض والمسافر ما فاتهما في شهر رمضان حيث يقول الله سبحانه (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) (١) فأخبر سبحانه انه فرض عليهما القضاء لتكمل بذلك عدة شهر صيامهم كائنة ما كانت. ثم أول تلك الأخبار بتأويلات لا تخلو من بعد مع اختصاص بعضها ببعض الحديث كتأويله «ما صام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أقل من ثلاثين يوما» بأنه تكذيب للراوي من العامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انه صام تسعة وعشرين أكثر من ما صام ثلاثين (٢) واخبار عن ما اتفق له من التمام على الدوام ، فان هذا لا يجري في تتمة الكلام من قوله «ولا نقص شهر رمضان منذ خلق الله السماوات من ثلاثين يوما وليلة» وكتأويله «شهر رمضان لا ينقص أبدا» بأنه لا يكون أبدا ناقصا بل قد يكون حينا تاما وحينا ناقصا فإنه لا يجري في سائر ألفاظ هذا الخبر ، وكتأويل «لم يصم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أقل من ثلاثين يوما» بأنه لم يصم أقل منه على أغلب أحواله كما ادعاه المخالفون ولا نقص شهر رمضان أى لم يكن نقصانه أكثر من تمامه كما زعموه ، فإنه أيضا مع بعده لا يجري في غير هذا اللفظ من ما تضمن هذا المعنى. وبالجملة فالمسألة من ما تعارض فيه الاخبار لامتناع الجمع بينها إلا بتعسف شديد ، فالصواب أن يقال فيها روايتان : إحداهما موافقة لقاعدة أهل الحساب وهي معتبرة إلا انها انما تعتبر إذا تغيمت السماء وتعذرت الرؤية ـ كما يأتي في باب العلامة عند تعذر الرؤية بيانه ـ لا مطلقا ومخالفة للعامة على ما قاله في الفقيه ، وذلك من ما يوجب رجحانها إلا انها غير مطابقة للظواهر والعمومات القرآنية ، ومع ذلك فهي متضمنة لتعليلات عليلة تنبو عنها العقول السليمة والطباع المستقيمة ويبعد صدورها عن أئمة الهدى (عليهم‌السلام) بل هي من ما يستشم منه رائحة الوضع ، والأخرى موافقة للعامة (٣) كما

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٨٢.

(٢ و ٣) سنن البيهقي ج ٤ ص ٢٥٠.

٢٧٧

قاله وذلك من ما يوجب ردها إلا انها مطابقة للظواهر والعمومات القرآنية ، ومع ذلك فهي أكثر رواة وأوثق رجالا وأسد مقالا وأشبه بكلام أئمة الهدى (عليهم‌السلام) وربما يشعر بعضها بذهاب بعض المخالفين الى ما يخالفها ، والخبر الآتي آنفا كالصريح في ذلك. وفائدة الاختلاف إنما تظهر في صيام يوم الشك وقضائه مع الفوات ، وقد مضى تحقيق ذلك في اخبار الباب الذي تقدم هذا الباب وفيه بلاغ وكفاية لرفع هذا الاختلاف والعلم عند الله. ثم روى عن التهذيب بسنده الى ابن وهب (١) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام ان الشهر الذي يقال انه لا ينقص ذو القعدة ليس في شهور السنة أكثر نقصانا منه». وهذا الخبر هو الذي أشار إليه بقوله : وربما يشعر بعضها. الى آخره. انتهى كلامه زيد مقامه.

أقول : والذي أقوله في هذا المقام ـ ويقرب عندي وان لم يتنبه له أحد من علمائنا الأعلام ـ هو انه لا ريب في اختلاف روايات الطرفين وتقابلها في البين ودلالة كل منها على ما استدل به من ذينك القولين ، وما ذكروه من تكلف جمعها على القول المشهور تكلف سحيق سخيف بعيد ظاهر القصور ، وان الأظهر من ذينك القولين هو القول المشهور لرجحان اخباره بما ذكره المحدث المشار اليه آنفا ، ويزيده اعتضادها بإجماع الفرقة الناجية سلفا وخلفا على القول بمضمونها وهو مؤذن بكون ذلك هو مذهب أهل البيت (عليهم‌السلام) وقول الصدوق نادر وان سجل عليه بما ذكره.

واما اخبار القول الآخر فأظهر الوجوه فيها هو الحمل على التقية لكن لا بالمعنى المشهور بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) لصراحتها في الرد على المخالفين وان ما دلت عليه خلاف ما هم عليه وانما التقية المرادة هنا هي ما قدمنا ذكره في المقدمة الاولى من مقدمات الكتاب (٢) من إيقاعهم الاختلاف في الأحكام

__________________

(١) الوسائل الباب ٥ من أحكام شهر رمضان.

(٢) ج ١ ص ٤ و ٥.

٢٧٨

الشرعية تقية وان لم يكن ثمة قائل من العامة ، والأمر ههنا كذلك ، وحيث انه قد استفاض عنهم القول بكون شهر رمضان يصيبه ما يصيب الشهور واشتهر ذلك عنهم (عليهم‌السلام) وان كان ذلك مذهب العامة أيضا شددوا بإنكاره في هذه الأخبار لأجل إيقاع الاختلاف بتكذيب العامة والحلف على انه ليس كذلك ، والاستدلال بتلك الأدلة الاقناعية ليتقوى عند الشيعة السامعين لذلك ضعف النقل الأول والقول المشتهر عنهم في تلك الأخبار ، فيحصل الاختلاف بين الشيعة ويتأكد ذلك ليترتب ما ذكروه في تلك الأخبار المتقدمة ثمة عليه من قولهم (عليهم‌السلام) (١) «لو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا ولكان أقل لبقائنا وبقائكم». ونحو ذلك من ما تقدم تحقيقه مستوفى مبرهنا في المقدمة الأولى.

هذا. ومظهر الخلاف في هذه المسألة إنما هو في صورة تعذر الرؤية كما تقدم في كلام المحدث الكاشاني ، وذلك فان الصدوق مع تصلبه ومبالغته في العمل باخبار الحساب قد صرح بوجوب الصيام للرؤية وعقد لذلك بابا فقال (٢) باب «الصوم للرؤية والفطر للرؤية» وأورد فيه من الأخبار ما يدل بعضه على الرؤية المستندة إلى الشياع وبعضه على الرؤية المستندة إلى شهادة العدلين ، وحينئذ فلم يبق مظهر للخلاف إلا في الصورة المذكورة ، فعلى هذا لو غم الهلال في ليلة الثلاثين من شعبان فعلى تقدير العمل بقاعدة الحساب يجب أن يصام هذا اليوم بنية شهر رمضان لان شعبان عندهم بهذه القاعدة تسعة وعشرون يوما فيكون هذا اليوم أول شهر رمضان ، وعلى القول المشهور يجب أن يحكم به من شعبان ولا يجوز صيامه من شهر رمضان كما تقدمت الأخبار به الدالة على المنع من صيام يوم الشك بنية شهر رمضان فتكون هذه الاخبار عاضدة لاخبار القول المشهور في هذه المسألة ، وبه يظهر قوة القول المذكور وانه المؤيد المنصور وضعف ما عارضه وانه بمحل من القصور.

__________________

(١) في حديث زرارة في أصول الكافي ج ١ ص ٦٥ وقد تقدم ج ١ ص ٥.

(٢) ج ٢ ص ٧٦ الطبع الحديث.

٢٧٩

إلا ان العجب هنا من الصدوق في الفقيه فإنه وافق الأصحاب في هذه المسألة أيضا فقال باستحباب صومه بنية انه من شعبان وانه يجزئ عن شهر رمضان لو ظهر انه منه وحرم صومه بنية كونه من شهر رمضان كما لا يخفى على من راجع كتابه ، وحينئذ فما أدرى ما مظهر الخلاف عنده في القول بهذه الأخبار التي ذهب الى العمل بها؟ فإنه مع الرؤية يوجب العمل بها ومع عدم الرؤية لحصول المانع يمنع من الصيام بنية شهر رمضان ، ففي أي موضع يتحقق الحكم عنده بكون شعبان لا يكون إلا ناقصا ورمضان لا يكون إلا تاما؟ اللهمّ إلا أن يدعى ان الرؤية لا تحصل على وجه يكون شعبان ثلاثين يوما وشهر رمضان تسعة وعشرين يوما ، وهو مع كونه خلاف ظاهر اخبار الرؤية مردود بالضرورة والعيان كما هو المشاهد في جملة الأزمان في جميع البلدان.

(لا يقال) : انه يمكن ذلك بالنسبة إلى آخر الشهر (لأنا نقول) : لا ريب ولا خلاف في انه متى علم أول الشهر بأحد العلامات المتقدمة فلا بد من إكمال الثلاثين إلا ان تحصل الرؤية قبل ذلك بأحد الطريقين المتقدمين من الشياع والشاهدين

نعم تبقى هنا صورة نادرة الوقوع لعلها هي المظهر لهذا الخلاف وهو أن تغم الأهلة الثلاثة من شعبان وشهر رمضان وشوال. والله العالم.

الثالث ـ في غيبوبة الهلال بعد الشفق ، والمشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه لا عبرة به.

وقال الصدوق في كتاب المقنع : واعلم ان الهلال إذا غاب قبل الشفق فهو لليلة وإذا غاب بعد الشفق فهو لليلتين وان رئي فيه ظل الرأس فهو لثلاث ليال.

والظاهر ان مستنده في ذلك ما رواه في الفقيه (١) عن حماد بن عيسى عن إسماعيل بن الحر عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا غاب الهلال قبل الشفق فهو لليلة وإذا غاب بعد الشفق فهو لليلتين». ورواه الكليني بسنده عن الصلت الخزاز عن

__________________

(١) ج ٢ ص ٧٨ وفي الوسائل الباب ٩ من أحكام شهر رمضان.

٢٨٠