الحدائق الناضرة - ج ١٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٢

قال في المدارك : ويمكن أن يستدل عليه بفحوى ما دل على انعقاد الصوم من المريض والمسافر إذا زال عذرهما قبل الزوال ، وأصالة عدم اعتبار تبييت النية مع النسيان.

وربما استدل على ذلك أيضا بحديث (١) «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان». فإن إيجاب القضاء يقتضي عدم رفع النسيان.

أقول : لم أقف في هذا المقام على نص من الأخبار وهذه الأدلة كلها لا تخلو من شوب الاشكال الموجب لعدم الاعتماد عليها في تأسيس حكم شرعي ، أما الرواية المذكورة فالظاهر انها من طريق الجمهور فانى لم أقف عليها في شي‌ء من الأصول ، ومع هذا فهي مختصة بالجاهل والمساواة ممنوعة ، على انها لا تقتضي تحديد الحكم بالزوال كما هو المدعى بل هي أعم وهم لا يقولون به. واما الاستدلال بفحوى ما ذكر فهو متوقف على ثبوت العلة وأولويتها في الفرع وهو ممنوع ، على ان الدليل المشار اليه إنما ورد في المسافر واما المريض فلم يرد فيه نص بذلك كما سيأتي بيانه في محله وانما ذكر الأصحاب ذلك واستدلوا عليه ببعض الأدلة الاعتبارية. واما أصالة عدم اعتبار تبييت النية ففيه ان الأصل يرتفع بما دل على اعتبار النية في صحة العبادة كلا أو بعضا. واما حديث «رفع عن أمتي» فالظاهر ان المراد منه رفع المؤاخذة والعقاب ولا دلالة فيه على عدم القضاء. وبالجملة فالمسألة لا تخلو من شوب الإشكال

إذا عرفت ذلك فاعلم ان ما تقدم انما هو بالنسبة إلى الواجب المعين واما الواجب الغير المعين كالقضاء والنذر المطلق فقد قطع الأصحاب بأن وقت النية فيه يستمر من الليل الى الزوال إذا لم يفعل المنافي نهارا.

ويدل عليه أخبار كثيرة : منها ـ ما رواه الكليني في الصحيح عن عبد الرحمن ابن الحجاج عن ابي الحسن عليه‌السلام (٢) «في الرجل يبدو له بعد ما يصبح ويرتفع النهار

__________________

(١) الوسائل الباب ٣٠ من الخلل الواقع في الصلاة والباب ٥٦ من جهاد النفس.

(٢) الوسائل الباب ٢ من وجوب الصوم ونيته.

٢١

في صوم ذلك اليوم ليقضيه من شهر رمضان ولم يكن نوى ذلك من الليل؟ قال : نعم ليصمه وليعتد به إذا لم يكن أحدث شيئا».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن ابن سنان عن أبى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «من أصبح وهو يريد الصيام ثم يدا له أن يفطر فله أن يفطر ما بينه وبين نصف النهار ثم يقضى ذلك اليوم ، فان بدا له أن يصوم بعد ما ارتفع النهار فليصم فإنه يحسب له من الساعة التي نوى فيها».

وعن عبد الرحمن بن الحجاج في الصحيح (٢) قال : «سألته عن الرجل يقضى رمضان إله أن يفطر بعد ما يصبح قبل الزوال إذا بدا له؟ فقال إذا كان نوى ذلك من الليل وكان من قضاء رمضان فلا يفطر ويتم صومه. قال : وسألته عن الرجل يبدو له بعد ما يصبح ويرتفع النهار أن يصوم ذلك اليوم ويقضيه من رمضان وان لم يكن نوى ذلك من الليل؟ قال نعم يصومه ويعتد به إذا لم يحدث شيئا».

وعن هشام بن سالم في الصحيح عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «قلت له الرجل يصبح ولا ينوي الصوم فإذا تعالى النهار حدث له رأى في الصوم؟ فقال ان هو نوى الصوم قبل أن تزول الشمس حسب له يومه وان نواه بعد الزوال حسب له من الوقت الذي نوى».

وعن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : «سألته عن الرجل يصبح وهو يريد الصيام ثم يبدو له فيفطر؟ قال هو بالخيار ما بينه وبين نصف النهار. قلت هل يقضيه إذا أفطر؟ قال نعم لأنها حسنة أراد أن يعملها فليتمها قلت : فان رجلا أراد ان يصوم ارتفاع النهار أيصوم؟ قال نعم».

وروى الشيخ في القوى عن صالح بن عبد الله عن أبي إبراهيم عليه‌السلام (٥) قال : «قلت له : رجل جعل لله عليه صيام شهر فيصبح وهو ينوي الصوم ثم يبدو له

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ١ ص ٤٠٥ وفي الوسائل الباب ٤ و ٢ من وجوب الصوم ونيته.

(٣ و ٥) الوسائل الباب ٢ من وجوب الصوم ونيته.

(٤) الوسائل الباب ٤ من وجوب الصوم ونيته.

٢٢

فيفطر ويصبح وهو لا ينوي الصوم فيبدو له فيصوم؟ فقال هذا كله جائز».

وعن عبد الرحمن بن الحجاج في الموثق والصحيح (١) قال : «سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام عن الرجل يصبح ولم يطعم ولم يشرب ولم ينو صوما وكان عليه يوم من شهر رمضان إله أن يصوم ذلك اليوم وقد ذهب عامة النهار؟ قال نعم له أن يصوم ويعتد به من شهر رمضان».

وعن احمد بن محمد بن ابى نصر في الصحيح عن من ذكره عن أبى عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «قلت له الرجل يكون عليه القضاء من شهر رمضان ويصبح فلا يأكل إلى العصر أيجوز أن يجعله قضاء من شهر رمضان؟ قال نعم».

وعن ابن بكير عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «سئل عن رجل طلعت عليه الشمس وهو جنب ثم أراد الصيام بعد ما اغتسل ومضى من النهار ما مضى؟ قال يصوم ان شاء وهو بالخيار الى نصف النهار».

وفي الموثق عن عمار الساباطي عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٤) «عن الرجل يكون عليه أيام من شهر رمضان يريد أن يقضيها متى يريد ان ينوي الصيام؟ قال هو بالخيار الى أن تزول الشمس فإذا زالت الشمس فان كان نوى الصوم فليصم وان كان نوى الإفطار فليفطر. سئل فإن كان نوى الإفطار يستقيم أن ينوي الصوم بعد ما زالت الشمس؟ قال لا».

وتنقيح الكلام في المقام يتوقف على رسم مسائل الأولى ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان منتهى وقت النية في القضاء والنذر المطلق هو زوال الشمس فبعد زوالها يفوت الوقت ، وظاهر كلام ابن الجنيد المتقدم استمرار وقت النية ما بقي من النهار شي‌ء ، واختاره الفاضل الخراساني في الذخيرة.

ويدل على القول المشهور موثقة عمار ورواية عبد الله بن بكير ، ويدل على

__________________

(١ و ٢ و ٤) الوسائل الباب ٢ من وجوب الصوم ونيته.

(٣) الوسائل الباب ٢٠ من ما يمسك عنه الصائم.

٢٣

قول ابن الجنيد ظاهر موثقة عبد الرحمن بن الحجاج وصحيحته فان المتبادر من عامة النهار أي أكثره ، ومرسلة أحمد بن محمد بن أبي نصر.

وأجاب العلامة في المختلف عن الرواية الأولى باحتمال أن يكون قد نوى قبل الزوال ويصدق عليه انه ذهب عامة النهار على سبيل المجاز. وعن الثانية بالطعن بالإرسال وباحتمال أن يكون قد نوى صوما مطلقا مع نسيان القضاء فحاز صرفه اليه.

ورد الأول بأن المتبادر من ذهاب عامة النهار ذهاب أكثره وهو لا يحصل بما قبل الزوال. والثاني بأنه ليس في شي‌ء من الروايات دلالة على الاحتمال الذي ذكره فلا يمكن المصير اليه.

والمحقق في المعتبر استدل للمشهور بان الصوم الواجب يجب أن يؤتى به من أول النهار أو بنية تقوم مقام الإتيان به من أوله ، وقد روى «ان من صام قبل الزوال حسب له يومه». ثم نقل رواية هشام بن سالم المتقدمة ، قال وأيد ذلك بما رواه عمار الساباطي. ثم ساق موثقة عمار المذكورة.

وأنت خبير بأن صحيحة هشام المشار إليها لا دلالة فيها صريحا بل ولا ظاهرا على ما ذكره بل الظاهر أن المراد منها إنما هو صوم النافلة لأن قوله في آخرها «وان نواه بعد الزوال حسب له من الوقت الذي نوى» لا ينطبق على الواجب وانما يمكن تطبيقه على النافلة بمعنى ان الفضل الكامل في صيامها يحصل بالنية قبل الزوال واما بعده فلا يثاب عليه إلا بمقدار ما بقي من النهار. نعم موثقة عمار ظاهرة في ما ذهب اليه. والظاهر ان بناء استدلال المحقق بصحيحة هشام المذكورة على حمل قوله : «وان نواه بعد الزوال حسب له من الوقت الذي نوى» على بطلان الصيام فإنه إذا لم يحسب له صيام اليوم كملا كان باطلا ، وحساب هذا الجزء الباقي بمعنى اثابته عليه لا يستلزم صحة صيام اليوم كملا. وبالجملة فالمسألة محل إشكال.

الثانية ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه يمتد وقت نية

٢٤

النافلة أيضا الى الزوال ، ونقل عن المرتضى والشيخ وجماعة من الأصحاب امتداده الى الغروب ، قال الشيخ (رحمه‌الله) وتحقيق ذلك أن يبقى بعد النية من الزمان ما يمكن صومه إلا أن يكون انتهاء النية مع انتهاء النهار. واليه مال الفاضل الخراساني في الذخيرة.

واستدل العلامة على القول المشهور في المختلف بأنه عليه‌السلام «نفى العمل بغير نية» (١). ومضى جزء من النهار بغير نية يستلزم نفى حكمه ، ترك العمل به في صورة ما إذا نوى قبل الزوال لمعنى يختص به وهو صيرورة عامة النهار منويا فيبقى الباقي على الأصل. ولأنه عبادة مندوبة فيكون وقت نيتها وقت نية فرضها كالصلاة ، ويؤيده ما رواه هشام بن سالم في الصحيح. ثم ساق الرواية كما قدمناها. ثم قال : وترك الاستفصال عقيب إكمال السؤال يدل على تعميم المقال. انتهى.

ويدل على القول الثاني موثقة أبي بصير (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصائم المتطوع تعرض له الحاجة؟ قال هو بالخيار ما بينه وبين العصر ، وان مكث حتى العصر ثم بدا له أن يصوم ولم يكن نوى ذلك فله أن يصوم ذلك اليوم ان شاء».

ويدل على ذلك إطلاق صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يدخل إلى أهله فيقول عندكم شي‌ء؟ وإلا صمت فان كان عندهم شي‌ء أتوه به وإلا صام».

وصحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام (٤) قال : «قال على عليه‌السلام إذا لم يفرض الرجل على نفسه صياما ثم ذكر الصيام قبل أن يطعم طعاما أو يشرب

__________________

(١) الوسائل الباب ٥ من مقدمة العبادات والباب ٢ من وجوب الصوم ونيته.

(٢) الوسائل الباب ٣ من وجوب الصوم ونيته.

(٣) الوسائل الباب ٢ من وجوب الصوم ونيته ، والراوي هشام بن سالم.

(٤) الوسائل الباب ٢ من وجوب الصوم ونيته.

٢٥

شرابا ولم يفطر فهو بالخيار ان شاء صام وان شاء أفطر».

ومن ذلك يعلم قوة هذا القول وضعف ما استدل به في المختلف للقول المشهور

الثالثة ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لا يشترط في النية من الليل الاستمرار على حكم الصوم بل يجوز أن ينوي ليلا ويفعل بعدها ما ينافي الصوم الى قبل الفجر ، ولا فرق في ذلك بين الجماع وغيره ، وتردد في البيان في الجماع وما يوجب الغسل من أنه مؤثر في صيرورة المكلف غير قابل للصوم فيزيل حكم النية ، ومن حصول شروط الصحة وزوال المانع بالغسل. وضعف الوجه الأول من وجهي الترديد ظاهر فإنه مجرد دعوى خالية من الدليل.

الرابعة ـ لو أخل بالنية ليلا عمدا في الواجب المعين فسد صومه لفوات الشرط ووجب القضاء ، وهل تجب الكفارة؟ قيل نعم وحكاه الشهيد في البيان عن بعض مشايخه نظرا الى ان فوات الشرط والركن أشد من فوات متعلق الإمساك. وقيل لا وبه قطع في المنتهى لأصالة البراءة السالمة من المعارض. وهو جيد.

الخامسة ـ لو جدد النية في أثناء النهار فهل يحكم له بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية أو من ابتداء النهار أو يفرق بين ما إذا وقعت النية بعد الزوال فيكون كالثاني وقبله فيكون كالأول؟ أوجه يدل على الأخير منها قوله في صحيحة هشام بن سالم المتقدمة (١) «ان هو نوى الصوم قبل أن تزول الشمس حسب له يومه وان نواه بعد الزوال حسب له من الوقت الذي نوى» ويدل على الأول منها قوله في صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة أيضا (٢) «فان بدا له أن يصوم بعد ما ارتفع النهار فليصم فإنه يحسب له من الساعة التي نوى فيها». اللهم إلا أن يحمل ارتفاع النهار على وقت الزوال ليصير ما بعده ما بعد الزوال ، إلا انه بعيد إذ المتبادر من ارتفاع النهار انما هو وقت الضحى. ويمكن الجمع بين الخبرين بان الحساب الاستحقاقي إنما هو من وقت النية التي هي شرط في صحة العمل إذ لا عمل إلا بالنية غاية الأمر انها إذا وقعت قبل الظهر حسب

__________________

(١ و ٢) ص ٢٢.

٢٦

له ما تقدم عليها تفضلا.

الثالث ـ المشهور بين الأصحاب المتأخرين انه لا بد في كل يوم من شهر رمضان من نية ، ونقل عن الشيخين والمرتضى وابى الصلاح وسلار (رضى الله عنهم) ان شهر رمضان يكفى فيه نية واحدة من أوله.

قال المرتضى (رضى الله عنه) في الانتصار بعد الاحتجاج بالإجماع من الطائفة : ان النية تؤثر في الشهر كله لأن حرمته حرمة واحدة كما أثرت في اليوم الواحد لما وقعت في ابتدائه.

وقال (قدس‌سره) في المسائل الرسية على ما نقله عنه العلامة في المختلف : تغني النية الواحدة في ابتداء شهر رمضان عن تجديدها في كل ليلة وهو المذهب الصحيح الذي عليه إجماع الإمامية ولا خلاف بينهم فيه ولا رووا خلافه. ثم اعترض نفسه بأنه كيف تؤثر النية في جميع الشهر وهي متقدمة في أول ليلة منه؟ وأجاب بأنها تؤثر في الشهر كله كما تؤثر في اليوم كله وان وقعت في ابتداء ليلته ، ولو شرطت مقارنة النية للصوم لما جاز ذلك مع الإجماع على جوازه ، ولو اشترط في تروك الأفعال في زمان الصوم مقارنة النية لها لوجب تجديد النية في كل حال من زمان كل يوم من شهر رمضان لأنه في هذه الأحوال كلها تارك لما يوجب كونه مفطرا ، وقد علمنا ان استمرار النية طول النهار غير واجب وان النية قبل طلوع الفجر كافية مؤثرة في كون تروكه المستمرة طول النهار صوما ، فكذا القول في النية الواحدة إذا فرضنا انها لجميع شهر رمضان انها مؤثرة شرعا في صيام جميع أيامه وان تقدمت. انتهى.

وأورد على ما ذكره منع ان حرمته حرمة واحدة بمعنى كون المجموع عبادة واحدة بل صوم كل يوم أمر مستقل بنفسه غير متعلق بغيره ولهذا تتعدد الكفارات بتعدد المفطر. ومنع ثبوت الإجماع.

ورد المحقق كلام المرتضى أيضا بأنه قياس محض لا يتمشى على أصولنا ، قال

٢٧

لكن علم الهدى ادعى على ذلك الإجماع وكذلك الشيخ أبو جعفر ، والأولى تجديد النية لكل يوم في ليلته لأنا لا نعلم ما ادعياه من الإجماع.

قال في الذخيرة بعد البحث في المقام : نعم لقائل أن يقول تحصيل العلم بالبراءة من التكليف الثابت يقتضي وجوب تجديد النية بناء على ما ذكرنا سابقا من عدم ثبوت كون النية شرطا خارجا وعدم ثبوت كون الصوم حقيقة شرعية في نفس الإمساك من غير اعتبار استجماع الشرائط المؤثرة في الصحة. إلا ان بهذا الوجه لا يثبت وجوب القضاء عند الإخلال بالتجديد. وكيف ما كان فلا ريب في أولوية التجديد.

وقال العلامة : ان قلنا بالاكتفاء بالنية الواحدة فإن الأولى تجديدها بلا خلاف.

واستشكل هذا الحكم شيخنا الشهيد الثاني بناء على ان القائل بالاكتفاء بنية واحدة للشهر يجعله عبادة واحدة كما صرح به في دليله ومن شأن العبادة الواحدة المشتملة على النية الواحدة ان لا يجوز تفريق النية على أجزائها كما هو المعلوم من حالها وحينئذ يشكل أولوية تعدد النية بتعدد الأيام لاستلزامه تفريق النية على اجزاء العبادة الواحدة التي تفتقر إلى النية الواحدة ، قال والطريق المخرج من الاشكال الجمع بين نية المجموع وبين النية لكل يوم. انتهى. واعترض عليه بما لا مزيد طائل في إيراده بعد ما ستقف عليه ان شاء الله تعالى من التحقيق الرشيق.

ثم انهم قد صرحوا أيضا بأنه لو فاتته النية في أول الشهر لعذر أو غيره هل يكتفى بالنية في ثاني ليلة أو ثالث ليلة للباقي من الشهر؟ تردد فيه العلامة في المنتهى واستوجه الشهيد في البيان عدم الاكتفاء بذلك.

أقول ـ وبالله الهداية والتوفيق الى سواء الطريق ـ أنه لا بد من الكلام هنا في تحقيق النية زيادة على ما قدمناه في كتاب الطهارة ليكون أنموذجا لك في كل مقام ويتضح به ما في كلام هؤلاء الأعلام وان كانوا هم القدوة والمعتمد في النقض والإبرام :

٢٨

فنقول : ينبغي ان يعلم انه لا ريب ان أفعال العقلاء كلها من عبادات وغيرها لا تصدر إلا بعد تصور الدواعي الباعثة على الإتيان بها وهي المشار إليها في كلامهم بالعلل الغائية ، مثلا يتصور الإنسان ان الإتيان بهذا الفعل يترتب عليه النفع الفلاني فإذا تصورت النفس هذا الغرض انبعث منها شوق الى جذبه وتحصيله ، فقد يتزايد هذا الشوق ويتأكد ويسمى بالإرادة ، فإذا انضم إلى القدرة التي هي هيئة للقوة الفاعلة انبعثت تلك القوة لتحريك الأعضاء إلى إيقاع ذلك الفعل وإيراده وتحركت الى إصداره وإيجاده لأجل غرضها الذي تصورته أولا ، فانبعاث النفس وتوجهها وقصدها الى ما فيه غرضها هو النية ، نعم قد يحصل بسبب تكرر الفعل والاعتياد عليه نوع ذهول عن تلك العلة الغائية الحاملة على الفعل إلا ان النفس بأدنى توجه والتفات تستحضر ذلك كما هو المشاهد في جملة أفعالنا المتكررة منا.

وحينئذ فليست النية بالنسبة إلى الصلاة والطهارة والصيام ونحو ذلك من العبادات إلا كغيرها من سائر أفعال المكلف من قيامه وقعوده وأكله وشربه ونكاحه ونومه ومغداه ومجيئه ونحو ذلك ، ولا ريب ان كل غافل غير ذاهل لا يصدر عنه فعل من هذه الأفعال ونحوها إلا بنية وقصد ، مع انه لا يتوقف شي‌ء من ذلك على هذه النية التي ذكروها والاختلافات التي سطروها.

ولا فرق بين ما ذكرنا من هذه الأفعال وبين العبادات إلا قصد القربة لله سبحانه في العبادات ، وهذا لا يوجب ما ذكروه في أمثال هذا المقام.

وحينئذ فإذا كان المكلف عالما بوجوب الصوم عليه وانه عبارة عن الإمساك عن تلك الأمور المذكورة لله سبحانه كما هو الآن ضروري لعامة الناس فإنه برؤية هلال الشهر المذكور يوطن نفسه على ذلك ويكف عن هذه الأشياء في كل يوم من طلوع الفجر الى غروب الشمس ومتى فعل ذلك فان صومه صحيح شرعي ، وهذا هو الذي جرى عليه السلف زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة (عليهم‌السلام) وما بعدهم ، فإنه متى دخل عليهم الشهر اجتنبوا ما حرم الله عليهم في نهاره وكفوا عنه قاصدين

٢٩

بذلك التقرب اليه سبحانه مراعين حرمته زيادة على غيره من الشهور ولم يقع التكليف من الشارع بأزيد من هذا.

وانى لأعلم علما لا يخالجه الظن ان جميع هذه الأبحاث والمقالات والتدقيقات التي ذكروها لم تخطر بخاطر أحد من الصحابة زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا زمن أحد من الأئمة (عليهم‌السلام) مع انه لا ريب في صحة صومهم ، على انها من ما لم يقم عليها دليل شرعي.

والأنسب بقواعد الشريعة المحمدية وسعتها الواضحة الجلية هو جعل ذلك من قبيل ما ورد من السكوت عن ما سكت الله عنه وإبهام ما أبهمه :

فروى الشيخ المفيد (عطر الله مرقده) في كتاب المجالس بسنده عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ان الله تعالى حد لكم حدودا فلا تعتدوها وفرض عليكم فرائض فلا تضيعوها وسن لكم سننا فاتبعوها وحرم عليكم حرمات فلا تنتهكوها وعفا لكم عن أشياء رحمة منه من غير نسيان فلا تتكلفوها».

وروى في كتاب عوالي اللئالي عن إسحاق بن عمار عن الصادق عليه‌السلام (٢) «ان عليا عليه‌السلام كان يقول : أبهموا ما أبهم الله».

وروى الصدوق في الفقيه (٣) من خطبة أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث قال : «ان الله حد حدودا فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تنقصوها وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم فاقبلوها. الحديث».

ومن أراد مزيد تحقيق لما ذكرناه من هذا الكلام فليرجع الى شرحنا على كتاب مدارك الأحكام وما قدمناه في كتاب الطهارة من هذا الكتاب.

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٢٦٣ رقم ١١ الطبع الحديث.

(٢) البحار ج ٢ الباب ٣٣ من كتاب العلم.

(٣) باب (نوادر الحدود) وفي الوسائل الباب ١٢ من صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به.

٣٠

وبذلك يظهر ان جميع ما ذكروه من الأبحاث في النية في كتاب الصيام وكتاب الصلاة وكتاب الطهارة ونحوها من ما لا أثر يترتب عليه ولا حاجة تلجئ اليه بل هو من باب «اسكتوا عن ما سكت الله عنه» (١).

وكلامهم في جميع هذه المواضع كلها يدور على النية التي اصطلحوا عليها وهي الكلام النفسي والتصوير الفكري الذي قدمنا ذكره وقد عرفت انه ليس هو النية حقيقة.

الرابع ـ انه لا يقع في شهر رمضان صوم غير الصوم الواجب فيه بالأصالة فلو نوى غيره واجبا كان أو ندبا فإنه لا يقع ، وهل يجزئ عن شهر رمضان أم لا؟

والخلاف هنا وقع في موضعين أحدهما ـ انه هل يقع في شهر رمضان صوم غيره أم لا؟ المشهور الثاني.

فعلى هذا لو أراد المسافر صومه ندبا بناء على جواز الصوم المندوب في السفر أو واجبا بالنذر كما إذا قيده بالحضر والسفر لم يكن له ذلك :

أما أولا ـ فلأن العبادات توقيفية متلقاة من الشارع فيتوقف جواز ذلك على النقل وليس فليس فيكون فعله بدعة محرمة.

واما ثانيا ـ فلما رواه الشيخ عن الحسن بن بسام الجمال عن رجل (٢) قال : «كنت مع أبى عبد الله عليه‌السلام في ما بين مكة والمدينة في شعبان وهو صائم ثم رأينا هلال شهر رمضان فأفطر قلت له جعلت فداك أمس كان من شعبان وأنت صائم واليوم من شهر رمضان وأنت مفطر؟ فقال : ان ذلك تطوع ولنا أن نفعل ما شئنا وهذا فرض فليس لنا أن نفعل إلا ما أمرنا».

وما رواه عن إسماعيل بن سهل عن رجل (٣) قال : «خرج أبو عبد الله عليه‌السلام من المدينة في أيام بقين من شهر شعبان وكان يصوم ثم دخل عليه شهر رمضان وهو

__________________

(١) أورده بهذا اللفظ القضاعي في الشهاب في حرف الالف.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ١٢ ممن يصح منه الصوم.

٣١

في السفر فأفطر فقيل له تصوم شعبان وتفطر شهر رمضان؟ فقال نعم شعبان الي أن شئت صمت وان شئت لا وشهر رمضان عزم من الله على الإفطار».

ونقل عن الشيخ في المبسوط انه جوز التطوع بالصوم من المسافر في شهر رمضان ، وهو ضعيف لما عرفت من انتفاء التوقيف مع انه عبادة تتوقف على ذلك وإلا لم تكن مشروعة ، ولأن الرواية التي اعتمد عليها في جواز صيام النافلة في السفر قد تضمنت لعدم وقوعه في شهر رمضان.

الموضع الثاني ـ انه مع نية غيره هل يجزئ عن شهر رمضان متى كان حاضرا أم لا؟ قولان اختار أولهما جمع من الأصحاب : منهم ـ الشيخ والمحقق والمرتضى (رضى الله عنهم) وثانيهما جماعة من الأصحاب : منهم ـ ابن إدريس والعلامة ، واليه جنح في المدارك.

والظاهر انه لا خلاف في الاجزاء مع الجهل بالشهر كما اعترف به الأصحاب في صيام يوم الشك بنية الندب واجزائه عن شهر رمضان مع تبين كونه منه ، إنما الخلاف مع العلم.

حجة الأول ـ كما استدل به في المعتبر ـ ان النية المشروطة حاصلة في نية القربة وما زاد لغو لا عبرة به فكان الصوم حاصلا بشرطه فيجزئ عنه.

وأورد عليه بأنه يشكل بان من هذا شأنه لم ينو المطلق لينصرف الى رمضان وانما هو نوى صوما معينا فما نواه لم يقع وغيره ليس بمنوي فيفسد لانتفاء شرطه.

حجة الثاني كما ذكره العلامة في المختلف التنافي بين نية صوم رمضان ونية غيره ، وبأنه منهي عن نية غيره والنهى مفسد ، وبان مطابقة النية للمنوي واجبة.

وأجيب : اما عن الأول فبأن التنافي مسلم لكن لم لا يجوز أن يكفي في صحة صيام رمضان نية الإمساك مع التقرب ولا يعتبر فيها نية خصوصية كونه صوم رمضان؟ لا بد لنفي ذلك من دليل.

أقول : فيه ان الذي علم من الاخبار وهو الموافق للقواعد الشرعية من قولهم

٣٢

(عليهم‌السلام) (١) «لكل امرئ ما نوى». و «لا عمل إلا بنية» (٢). ونحوهما والذي جرى عليه السلف من زمن التكليف الى الآن هو نية الصيام المخصوص بهذا الشهر ، فهذا هو الذي علم صحته وإثبات صحة ما عداه يحتاج الى دليل لأن العبادات توقيفية والذي علم من الأدلة هو ما ذكرناه ، فلا بد لإثبات ما ذكره من دليل إذ مقتضى الأصول عدمه لا انه لا بد لنفيه من دليل كما ادعاه.

واما عن الثاني فبان النهى متعلق بخصوصية نية كونه غير صوم رمضان وهي أمر خارجة عن حقيقة العبادة فلا يستلزم النهى عنها بطلان الصوم.

أقول : يمكن أن يكون مراد المستدل بما ذكره إنما هو انه لما كان منهيا عن هذه النية فالنهي عنها موجب لفسادها وحينئذ فتبقى العبادة التي أتى بها خالية من النية. وقوله ـ ان النية خارجة عن حقيقة العبادة فلا يستلزم النهى عنها بطلان الصوم ـ مردود بما اتفقوا عليه من أن النية لا تخرج عن كونها شرطا أو شطرا من العبادة ، وعلى أى منهما فالنهي عنها يوجب البطلان لما قرروه من أن النهى عن العبادة أو شرطها أو جزئها موجب لفسادها.

واما عن الثالث فبان وجوب مطابقة النية بجميع أجزائها وخصوصياتها للمنوي غير مسلم ، وان أراد المطابقة في الجملة فهي حاصلة في موضع البحث.

أقول : يلزم بمقتضى ما ذكره من الاكتفاء بهذه المطابقة الجملية في هذا المقام صحة صلاة الظهر لو نوى بها العصر وبالعكس لاشتراكهما في كونهما صلاة كما اشترك صوم رمضان وصوم ما نواه من غيره في كونهما صوما ولا أظنه يلتزمه.

وبالجملة فإن ما ذكره من هذه المناقشات ليس فيه مزيد فائدة.

وكيف كان فالمسألة لخلوها من النص لا تخلو من اشكال وإثبات الأحكام الشرعية بمجرد هذه التعليلات مجازفة محضة والاحتياط لا يخفى.

الخامس ـ لو نوى الوجوب بكونه من شهر رمضان في يوم الشك وهو آخر

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٥ من مقدمة العبادات والباب ٢ من وجوب الصوم ونيته.

٣٣

يوم من شعبان فالمشهور انه يكون فاسدا ولا يجزئ عن أحدهما ، لا عن شهر رمضان وان ظهر كونه منه لوقوعه في شهر شعبان ظاهرا والأحكام الشرعية إنما بنيت على الظاهر ، ولا عن شعبان لعدم نيته ، فما نواه غير واقع بحسب الظاهر الذي هو مناط التكليف وما هو واقع غير منوي ، وعلى ذلك تدل الأخبار الآتية.

والى هذا القول ذهب الشيخ والمرتضى والصدوقان وأبو الصلاح وسلار وابن البراج وابن حمزة وابن إدريس والفاضلان وغيرهم وهو المعتمد ، وذهب ابن ابى عقيل وابن الجنيد إلى انه يجزئه عن شهر رمضان واليه ذهب الشيخ في الخلاف.

واستدل على القول الأول بما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن ابي جعفر عليه‌السلام (١) «في الرجل يصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان؟ فقال عليه‌السلام عليه قضاؤه وان كان كذلك».

والاستدلال بهذا الخبر مبنى على تعلق قوله «من رمضان» بقوله «يصوم» بمعنى انه لا يجوز صيام يوم الشك على انه من شهر رمضان فلو صامه وظهر كونه من شهر رمضان لم يجزئ عنه ووجب قضاؤه ، واما لو علق بقوله «يشك» فلا دلالة فيه ويحمل الأمر فيه بالقضاء على التقية لاتفاق العامة على عدم الاجزاء عن شهر رمضان لو ظهر كونه منه (٢).

__________________

(١) الوسائل الباب ٦ من وجوب الصوم ونيته.

(٢) في نيل الأوطار بعد ذكر أحاديث المنتقى بعنوان باب (ما جاء في يوم الغيم والشك) ج ٤ ص ٢٠١ قال ص ٢٠٤ : وقد استدل بهذه الأحاديث على المنع من صوم يوم الشك ، قال النووي وبه قال مالك والشافعي والجمهور. وحكى الحافظ في الفتح عن مالك وابى حنيفة انه لا يجوز صومه عن فرض رمضان ويجوز عن ما سوى ذلك. قال ابن الجوزي في التحقيق : ولا حمد في هذه المسألة وهي ما إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو غيره ليلة الثلاثين من شعبان ثلاثة أقوال : أحدها ـ يجب صومه على انه من رمضان. وثانيها ـ لا يجوز فرضا ولا نقلا مطلقا بل قضاء وكفارة ونذرا ونفلا يوافق عادة. وثالثها ـ المرجع إلى رأى الامام في الصوم والفطر. وذهب جماعة من الصحابة إلى

٣٤

ومثله في ذلك ما رواه الشيخ في التهذيب عن هشام بن سالم عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) «انه قال في يوم الشك : من صامه قضاه وان كان كذلك. يعنى من صامه على انه من شهر رمضان بغير رؤية قضاه وان كان يوما من شهر رمضان لأن السنة جاءت في صيامه على انه من شعبان ومن خالفها كان عليه القضاء».

وقوله : «يعنى من صامه. الى آخره» يحتمل أن يكون من كلام الشيخ في التهذيب ويحتمل أن يكون من كلام أحد الرواة تقييدا لإطلاق الخبر.

والاحتمال الذي قدمناه في الخبر الأول قائم أيضا هنا وبه صرح الشيخ في الاستبصار أيضا.

والأظهر الاستدلال على ذلك بما رواه الكليني في الكافي في الموثق عن سماعة (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجل صام يوما وهو لا يدرى أمن شهر رمضان هو أم من غيره فجاء قوم فشهدوا انه كان من شهر رمضان فقال بعض الناس عندنا لا يعتد به فقال بلى فقلت انهم قالوا صمت وأنت لا تدري أمن شهر رمضان هذا أم من غيره؟ فقال بلى. فاعتد به فإنما هو شي‌ء وفقك الله له إنما يصام يوم الشك من شعبان ولا يصومه من شهر رمضان لأنه قد نهى ان ينفرد الإنسان بالصيام في يوم الشك وإنما ينوي من الليلة أنه يصوم من شعبان فان كان من شهر رمضان أجزأ عنه بتفضل الله تعالى وبما قد وسع على عباده ولو لا ذلك لهلك الناس».

__________________

صومه. وعد قسما منهم ثم قال وجماعة من التابعين. الى أن قال : وقال جماعة من أهل البيت باستحبابه وقد ادعى المؤيد بالله انه أجمع على استحباب صومه أهل البيت. وفي المجموع ج ٦ ص ٤٠٣ و ٤٠٨ ذكر مذاهب العلماء في صوم يوم الشك بعد ان ذكر ص ٣٩٩ ان الشافعية لا يجوز عندهم صوم يوم الشك عن رمضان ، وفي المغني ج ٣ ص ٨٩ والمحلى ج ٧ ص ٢٣ وبدائع الصنائع ج ٢ ص ٧٨ ذكر الاختلاف فيه ايضا.

(١) الوسائل الباب ٦ من وجوب الصوم ونيته.

(٢) الوسائل الباب ٥ من وجوب الصوم ونيته.

٣٥

والظاهر ان معنى قوله «لأنه قد نهى أن ينفرد الإنسان بالصيام في يوم الشك» يعنى بصيامه من شهر رمضان مع عدم ثبوته وكون الناس إنما يعدونه من شعبان.

والظاهر ان معنى قوله «ولو لا ذلك لهلك الناس» أي لو لا التكليف بالظاهر دون الواقع ونفس الأمر ، إذ في وقوع التكليف بذلك لزوم تكليف ما لا يطاق وهو موجب لما ذكره ، فالتكليف إنما وقع بصيامه من شعبان بناء على ظاهر الحال وان كان في الواقع انه من شهر رمضان والاجزاء بعد ذلك إنما هو بتفضل منه سبحانه.

ويدل ايضا على ما ذكرناه من القول المشهور ما تقدم في أول الكتاب من حديث الزهري وحديث كتاب الفقه الرضوي وقولهما (عليهما‌السلام) (١) «وصوم يوم الشك أمرنا به ونهينا عنه : أمرنا أن نصومه من شعبان ونهينا عنه ان ينفرد الرجل بصيامه في اليوم الذي يشك فيه الناس. الى آخر ما تقدم» وقوله : «ونهينا أن ينفرد الرجل بصيامه» يعنى ما قدمنا ذكره من أن المراد صيامه من شهر رمضان.

والشيخ في التهذيب (٢) قد روى عن الزهري قال : «سمعت على بن الحسين عليه‌السلام يقول يوم الشك أمرنا بصيامه ونهينا عنه : أمرنا أن يصومه الإنسان على انه من شعبان ونهينا عن ان يصومه على انه من شهر رمضان وهو لم ير الهلال». وهو ظاهر الدلالة في المراد.

__________________

(١) ص ٥ س ٨.

(٢) ج ٤ ص ١٦٤ و ١٨٣ الطبع الحديث ، وفي الوسائل الباب ٦ من وجوب الصوم ونيته. والسند فيه يختلف عن سند الحديث الذي يرويه ص ٢٩٦ وقد تقدم ص ٣ فان ذلك يرويه عن الكليني وهذا يرويه بسند آخر مستقل.

٣٦

واستدل السيد السند (قدس‌سره) في المدارك للقول المشهور أيضا بأن إيقاع المكلف الصوم في الزمان المحكوم بكونه من شعبان على انه من شهر رمضان يتضمن إدخال ما ليس من الشرع فيه فيكون حراما لا محالة كالصلاة بغير طهارة فلا يتحقق به الامتثال. وهو جيد.

واما ما أجاب به الفاضل الخراساني في الذخيرة عن ذلك ـ من أن غاية ما يستفاد من هذا الدليل تحريم نية كونه من رمضان ولا يلزم من ذلك فساد العبادة لأن النهي متعلق بأمر خارج عن العبادة ـ

ففيه ما قدمنا ذكره قريبا من أن النية لا تخلو من أن تكون شرطا أو شطرا من العبادة ، وعلى أى منهما فتوجه النهي إليها موجب لبطلان العبادة إذ لا خلاف بينهم في ما أعلم في أن توجه النهي إلى العبادة أو جزئها أو شرطها موجب لبطلانها ولم نقف للقول الثاني على دليل إلا ما نقل عن الشيخ في الخلاف من انه احتج على ذلك بإجماع الفرقة واخبارهم على انه من صام يوم الشك أجزأ عن شهر رمضان ولم يفرقوا. وأورد عليه بان الفرق في النص وكلام الأصحاب متحقق كما تقدم.

قال السيد السند (قدس‌سره) في المدارك : ولا يخفى ان نية الوجوب مع الشك إنما يتصور من الجاهل الذي يعتقد الوجوب لشبهة أما العالم بانتفائه شرعا فلا يتصور منه ملاحظة الوجوب إلا على سبيل التصور وهو غير النية فإنها إنما تتحقق مع الاعتقاد كما هو واضح. انتهى.

أقول : لا يخفى أن تخصيص محل الخلاف بما فرضه هنا من الجاهل الذي يعتقد الوجوب لشبهة موجب للقدح في استدلاله الذي قدمنا نقله عنه من أن إيقاع المكلف الصوم في الزمان المحكوم بكونه من شعبان على انه من شهر رمضان يتضمن إدخال ما ليس من الشرع فيه ، فان للقائل أن يقول ان هذا الكلام انما يتوجه الى العالم إذ الجاهل من حيث الشبهة التي فرضها لا يكون الزمان عنده محكوما

٣٧

بكونه من شهر شعبان فلا يتضمن إدخال ما ليس من الشرع فيه ، وكون ذلك واقعا كذلك لا مدخل له في المقام إذ الكلام بالنظر الى ظاهر اعتقاد المكلف.

وبالجملة فإن الدليل المذكور لا يتم مع فرض المسألة كما ذكره ومع بطلان هذا الدليل الذي هو معتمدة في المسألة يصير اختياره للقول المشهور عاريا عن الدليل ، لأنه قد استدل بعد هذا الدليل بصحيحة محمد بن مسلم وقد قدمنا ما يرد عليها ثم استدل بموثقة سماعة ورواية الزهري وهما باصطلاحه من الضعيف الذي لا يقوم حجة ولا يثبت دليلا كما لا يخفى.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان بعض الأخبار المتعلقة بهذه المسألة زيادة على ما ذكرنا لا تخلو من الإجمال وقيام الاحتمال :

ومنها ـ صحيحة معاوية بن وهب أو حسنته (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الرجل يصوم اليوم الذي يشك فيه من شهر رمضان فيكون كذلك؟ فقال هو شي‌ء وفق له».

فان قوله : «من شهر رمضان» يحتمل تعلقه ب «يصوم» يعنى يصوم يوم الشك بنية كونه من شهر رمضان ، وحينئذ فقوله عليه‌السلام «هو شي‌ء وفق له» دليل على القول الثاني ، وعلى هذا الاحتمال اعتمد في الذخيرة وجعل الخبر المذكور معارضا لصحيحة محمد بن مسلم المتقدمة بناء على استدلال الأصحاب بها. ويحتمل تعلقه ب «يشك فيه» وحينئذ فيكون الخبر موافقا لما ذكره الأصحاب ودلت عليه الأخبار من استحباب صوم يوم الشك بنية كونه من شعبان وانه يجزئ عن شهر رمضان. والظاهر هو رجحان هذا الاحتمال لأن جملة الأحاديث المشتملة على انه يوم وفق له إنما وردت في صيامه بنية كونه من شعبان كما تقدم في موثقة سماعة ومثلها غيرها من ما سيأتي ان شاء الله تعالى. وبه يظهر بطلان الاحتمال الأول الذي عول عليه في الذخيرة.

__________________

(١) الوسائل الباب ٥ من وجوب الصوم ونيته.

٣٨

ومنها ـ رواية سماعة (١) قال : «سألته عن اليوم الذي يشك فيه من شهر رمضان لا يدرى أهو من شعبان أو من رمضان فصامه من شهر رمضان؟ قال هو يوم وفق له ولا قضاء عليه».

وهذه الرواية رواها الشيخ في التهذيب (٢) نقلا عن الكافي هكذا وهي بظاهرها دالة على القول الثاني ومؤيدة للاحتمال الأول في صحيحة معاوية بن وهب المتقدمة ، إلا أن الرواية في الكافي (٣) هكذا : «فصامه فكان من شهر رمضان» وبذلك يظهر حصول الغلط في الخبر ونقصان «فكان» من رواية الشيخ كما هو معلوم من طريقته في الكتاب المذكور وما جرى له فيه من التحريف والتغيير والزيادة والنقصان في متون الأخبار وأسانيدها ، وبذلك تكون الرواية موافقة لما عليه الأصحاب والاخبار.

وبما حققناه في المقام يظهر قوة القول المشهور وانه المؤيد المنصور وان ما ذكره في الذخيرة من الاستشكال في المسألة بناء على ما قدمنا نقله عنه لا يخلو من القصور.

السادس ـ الظاهر انه لا خلاف في انه لو صام يوم الشك بنية الندب ثم ظهر كونه من شهر رمضان فإنه يجزئ عنه ولا يجب عليه قضاؤه.

ويدل على ذلك الأخبار المتكاثرة ومنها ما تقدم من موثقة سماعة وروايته الثانية بناء على رواية صاحب الكافي.

وما رواه الكليني والشيخ عنه في الصحيح عن سعيد الأعرج (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام انى صمت اليوم الذي يشك فيه فكان من شهر رمضان أفاقضيه؟ قال لا هو يوم وفقت له».

__________________

(١ و ٤) الوسائل الباب ٥ من وجوب الصوم ونيته.

(٢) ج ١ ص ٤٠٣.

(٣) الفروع ج ١ ص ١٨٥.

٣٩

وعن محمد بن حكيم (١) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن اليوم الذي يشك فيه فان الناس يزعمون ان من صامه بمنزلة من أفطر يوما من شهر رمضان؟ فقال كذبوا ان كان من شهر رمضان فهو يوم وفق له وان كان من غيره فهو بمنزلة ما مضى من الأيام».

وعن بشير النبال عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «سألته عن صوم يوم الشك فقال صمه فإن يك من شعبان كان تطوعا وان يك من شهر رمضان فيوم وفقت له».

وعن الكاهلي في الحسن (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن اليوم الذي يشك فيه من شعبان قال لأن أصوم يوما من شعبان أحب الى من أن أفطر يوما من شهر رمضان».

ومعناه ان صيام هذا اليوم من شعبان أحب الى من أن أفطر فيظهر كونه من شهر رمضان فيكون بمنزلة من أفطر في شهر رمضان ووجب عليه القضاء.

وروى شيخنا المفيد (قدس‌سره) في المقنعة (٤) قال : وروى أبو الصلت عبد السلام بن صالح قال حدثني على بن موسى الرضا عن أبيه عن جده (عليهم‌السلام) انه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من صام يوم الشك فرارا بدينه فكأنما صام الف يوم من أيام الآخرة غرا زهرا لا يشاكان أيام الدنيا».

قال (٥) وروى أبو خالد عن زيد بن على بن الحسين عن آبائه عن على بن أبى طالب (عليهم‌السلام) قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صوموا سر الله. قالوا يا رسول الله وما سر الله؟ قال يوم الشك».

واما ما دل بظاهره على خلاف ما دلت عليه هذه الاخبار من تحريم صوم يوم الشك ـ مثل ما رواه الشيخ في التهذيب عن قتيبة الأعشى (٦) قال : «قال

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ٥ من وجوب الصوم ونيته.

(٤ و ٥) الوسائل الباب ١٦ من أحكام شهر رمضان.

(٦) الوسائل الباب ٦ من وجوب الصوم ونيته والباب ١ من الصوم المحرم والمكروه.

٤٠