الحدائق الناضرة - ج ١٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٢

منها ـ ما رواه الكليني في الصحيح والحسن عن الحلبي عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) «انه سئل عن الأهلة؟ فقال : هي اهلة الشهور فإذا رأيت الهلال فصم وإذا رأيته فأفطر. قلت : أرأيت ان كان الشهر تسعة وعشرين يوما اقضى ذلك اليوم؟ فقال : لا إلا ان تشهد لك بينة عدول فان شهدوا أنهم رأوا الهلال قبل ذلك فاقض ذلك اليوم».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن ابى الصباح والحلبي جميعا عن أبى عبد الله عليه‌السلام (٢) «انه سئل عن الأهلة؟ فقال : هي اهلة الشهور فإذا رأيت الهلال فصم وإذا رأيته فأفطر».

وفي الصحيح عن المفضل وعن زيد الشحام جميعا عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) «انه سئل عن الأهلة فقال : هي اهلة الشهور فإذا رأيت الهلال فصم وإذا رأيته فأفطر».

وما رواه الشيخ وابن بابويه في الصحيح عن على بن جعفر (٤) «انه سأل أخاه موسى عليه‌السلام عن الرجل يرى الهلال في شهر رمضان وحده لا يبصره غيره إله أن يصوم؟ قال : إذا لم يشك فيه فليصم وإلا فليصم مع الناس».

وثانيها ـ عد ثلاثين يوما من شعبان لو لم ير ، وهو مجمع عليه بين العلماء من الطرفين بل قيل انه من ضروريات الدين.

ويدل عليه ما رواه الشيخ في التهذيب عن ابى خالد الواسطي (٥) قال :

__________________

(١) الوسائل الباب ٣ من أحكام شهر رمضان رقم ١ واللفظ ينتهى بقوله : «وإذا رأيته فأفطر» نعم في رواية الحلبي الواردة في الباب ٣ و ٥ من أحكام شهر رمضان رقم ١٨ و ١٧ عن التهذيب اللفظ المذكور كله ، وكذا في رواية أبي الصباح والحلبي ورواية المفضل والشحام الآتيتين عن التهذيب.

(٢) الوسائل الباب ٣ و ٥ من أحكام شهر رمضان رقم ٧ و ٩.

(٣) الوسائل الباب ٣ و ٥ من أحكام شهر رمضان رقم ٣ و ٤.

(٤) الوسائل الباب ٤ من أحكام شهر رمضان.

(٥) الوسائل الباب ١٦ و ٣ من أحكام شهر رمضان رقم ١ و ١٧.

٢٤١

«أتينا أبا جعفر عليه‌السلام في يوم يشك فيه من رمضان فإذا مائدته موضوعة وهو يأكل ونحن نريد أن نسأله فقال : ادنوا الغداء إذا كان مثل هذا اليوم ولم تجئكم فيه بينة رؤية الهلال فلا تصوموا. ثم قال : حدثني أبى على بن الحسين عن على (عليهم‌السلام) ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما ثقل في مرضه قال أيها الناس ان السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم. قال ثم قال بيده : فذاك رجب مفرد وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثلاثة متواليات ، ألا وهذا الشهر المفروض رمضان فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإذا خفي الشهر فأتموا العدة شعبان ثلاثين وصوموا الواحد وثلاثين. الحديث».

ولا اختصاص لهذا الحكم بهلال شهر رمضان بل كل شهر اشتبهت رؤية هلاله يجب أن يعد ما قبله ثلاثين يوما.

ومن الأخبار زيادة على ما قدمنا قول أبى جعفر عليه‌السلام في صحيحة محمد بن قيس (١) «ان أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يقول : وان غم عليكم فعدوا ثلاثين ليلة ثم أفطروا».

وقوله عليه‌السلام في صحيحة محمد بن مسلم (٢) «وإذا كانت علة فأتم شعبان ثلاثين».

بقي الكلام لو غمت شهور السنة كلها أو أكثرها ، قيل انه يعد كل شهر منها ثلاثين ، وهو منقول عن الشيخ في المبسوط وجماعة واختاره المحقق في الشرائع ، وقيل ينقص منها لقضاء العادة بالنقيصة ، وهذا القول مجهول القائل مع جهالة قدر النقص ايضا ، وقيل بالعمل في ذلك برواية الخمسة الآتية في الموضع السادس (٣) واختاره العلامة في جملة من كتبه ، وذكر في المختلف انه إنما اعتمد في ذلك على العادة لا على الرواية. وقيل عليه انه مشكل ايضا لعدم اطراد العادة بالنقيصة على هذا الوجه. والمسألة محل توقف لعدم الدليل الواضح فيها.

هذا في ما ذكرناه من ما لو غمت شهور السنة كلها أو أكثرها ، أما الشهران

__________________

(١) الوسائل الباب ٥ و ٨ من أحكام شهر رمضان.

(٢) الوسائل الباب ٥ و ١١ من أحكام شهر رمضان.

(٣) من مواضع التنبيه الخامس من التنبيهات الآتية.

٢٤٢

والثلاثة فقد قطع جملة من الأصحاب بعدها ثلاثين لامتناع الحكم بدخول الشهر بمجرد الاحتمال ، وعليه تدل ظواهر الأخبار المتقدمة.

وثالثها ـ الشياع بان يرى رؤية شائعة ، قال المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى انه لا خلاف فيه بين العلماء. واستدل عليه في المنتهى بأنه نوع تواتر يفيد العلم. ونحوه قال في التذكرة ، ثم قال : ولو لم يحصل العلم بل حصل ظن غالب بالرؤية فالأقوى التعويل عليه كالشاهدين ، فان الظن بشهادتهما حاصل مع الشياع. ونحوه ذكر شيخنا الشهيد الثاني وغيره.

ونقل في المدارك عن جده (قدس‌سره) في موضع من الشرح اعتبار زيادة الظن الحاصل من ذلك على ما يحصل منه بقول العدلين لتتحقق الأولوية المعتبرة في مفهوم الموافقة. ثم قال بعد نقل ذلك : ويشكل بان ذلك يتوقف على كون الحكم بقبول شهادة العدلين معللا بإفادتهما الظن ليتعدى الى ما يحصل به ذلك وتحقق الأولوية المذكورة ، وليس في النص ما يدل على هذا التعليل وانما هو مستنبط فلا عبرة به ، مع ان اللازم من اعتباره الاكتفاء بالظن الحاصل من القرائن إذا ساوى الظن الحاصل من شهادة العدلين أو كان أقوى وهو باطل إجماعا ثم قال : والأصح اعتبار العلم كما اختاره العلامة في المنتهى وصرح به المصنف في كتاب الشهادات من هذا الكتاب لانتفاء ما يدل على اعتبار الشياع بدون ذلك ، وعلى هذا فينبغي القطع بجريانه في جميع الموارد. وحيث كان المعتبر ما أفاد العلم فلا ينحصر المخبرون في عدد ولا يفرق في ذلك بين خبر المسلم والكافر والصغير والكبير والأنثى والذكر كما قرر في حكم التواتر. انتهى.

أقول : ظاهر كلام أصحابنا (رضوان الله عليهم) في هذا المقام بل صريح بعضهم انهم لم يقفوا على دليل لهذا الحكم من الاخبار ، وانا قد وقع لي تحقيق نفيس في هذه المسألة في أجوبة مسائل بعض الأعلام أحببت إيراده في المقام وان طال به زمان الكلام لما اشتمل عليه من التحقيق الكاشف لنقاب الإبهام وإزاحة ما عرض

٢٤٣

فيها من الشكوك والأوهام ، وهذه صورته :

ظاهر كلام أصحابنا (رضوان الله عليهم) عدم الوقوف على نص يدل على ذلك حيث لم يوردوا له دليلا من الاخبار وإنما بنوا الحكم فيه على نوع من الاعتبار بل صرح المحدث الكاشاني في المفاتيح بعدم النص في ذلك ، وحينئذ فإن حصل به العلم واليقين وأثمر القطع دون التخمين فالظاهر انه لا إشكال في اعتباره والعمل بمقتضاه بل ربما يدعى استفادته بهذا المعنى من الاخبار ، مثل الأخبار الدالة على ان الصوم للرؤية والفطر للرؤية (١) بأن يكون المعنى فيها ان كلا من الصوم والفطر مترتب على العلم بالرؤية أعم من أن يكون برؤية المكلف نفسه أو بالشياع الموجب للعلم.

ويمكن أن يستدل على اعتبار الشياع من الاخبار بما رواه الشيخ في التهذيب عن سماعة (٢) «انه سأله عن اليوم في شهر رمضان يختلف فيه؟ فقال : إذا اجتمع أهل المصر على صيامه للرؤية فاقضه إذا كان أهل المصر خمسمائة إنسان».

إذ الظاهر ان ذكر الخمسمائة إنما هو على جهة التمثيل والكناية عن الكثرة الموجبة للعلم ، إذ لا ضرورة لهذا العدد مع وجود العدلين فيهم ولا خصوصية له مع عدمهما.

وما رواه أيضا في الكتاب المذكور بسنده عن عبد الحميد الأزدي (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أكون في الجبل في القرية فيها خمسمائة من الناس؟ فقال : إذا كان كذلك فصم بصيامهم وأفطر بفطرهم».

وما رواه فيه عن ابى عبد الجارود (٤) قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول صم حين يصوم الناس وأفطر حين يفطر الناس فان الله عزوجل جعل الأهلة مواقيت (٥).

__________________

(١) الوسائل الباب ٣ من أحكام شهر رمضان.

(٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ١٢ من أحكام شهر رمضان. والرواية للصدوق في الفقيه ج ٢ ص ٧٧ لا الشيخ.

(٥) في قوله تعالى في سورة البقرة الآية ١٨٦ «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ ...».

٢٤٤

وما رواه فيه ايضا عن ابى الجارود (١) قال : «شككنا سنة في عام من تلك الأعوام في الأضحى فلما دخلت على ابى جعفر عليه‌السلام كان بعض أصحابنا يضحى فقال : الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحى الناس والصوم يوم يصوم الناس».

وهذه الاخبار كما ترى ظاهرة الدلالة بل صريحة المقالة على وجوب الصوم والإفطار متى شاعت الرؤية بين الناس واشتهرت بحيث صاموا وأفطروا من غير نظر الى أن يكون فيهم عدلان أم لا ، لان الحكم فيها إنما علق على الكثرة والاتفاق على ذلك.

قال الشيخ (قدس‌سره) في التهذيب بعد نقل رواية عبد الحميد : يريد عليه‌السلام بذلك ان صومهم إنما يكون بالرؤية فإذا لم يستفض الخبر عندهم برؤية الهلال لم يصوموا على ما جرت به العادة في بلاد الإسلام. انتهى. وهو مؤيد لما قلناه وظاهر في ما ادعيناه.

ومن ما يمكن أن يستدل به في المقام وان لم يتنبه له أحد من علمائنا الأعلام صحيحة محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه‌السلام (٢) قال : «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا ، وليس بالرأي ولا بالتظني ولكن بالرؤية ، والرؤية ليس ان يقوم عشرة فينظروا فيقول واحد هو ذا فينظر تسعة فلا يرونه ، إذا رآه واحد رآه عشرة وألف».

فإن الظاهر ان المعنى فيها ـ والله سبحانه وأولياؤه أعلم ـ انه متى كان الهلال بحيث كل من نظر اليه رآه من غير علة هناك مانعة من ضعف بصر أو غيم أو نحوهما ـ واشتهر وشاع ذلك على هذه الكيفية بحيث لم يقل قائل خال من العذر انى نظرت اليه فلم أره ـ فإنه يجب على سائر الناس ممن لم ينظروا العمل بمقتضى ذلك مع حصول العلم باخبار أولئك ، لأن مساق الخبر بالنسبة الى من لم ينظر وهل

__________________

(١) الوسائل الباب ٥٧ من ما يمسك عنه الصائم. واللفظ «سألت أبا جعفر (ع) انا ...».

(٢) الوسائل الباب ١١ من أحكام شهر رمضان.

٢٤٥

يجب عليه العمل بمقتضى تلك الرؤية أم لا؟ وإلا فلا خلاف ولا إشكال في العمل بمقتضى الرؤية على الرائي نفسه.

وموثقة عبد الله بن بكير عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «صم للرؤية وأفطر للرؤية ، وليس رؤية الهلال أن يجي‌ء الرجل والرجلان فيقولان رأينا إنما الرؤية أن يقول القائل رأيت فيقول القوم صدق».

ورواية أبي العباس عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «الصوم للرؤية والفطر للرؤية ، وليس الرؤية أن يراه واحد ولا اثنان ولا خمسون».

وصحيحة إبراهيم بن عثمان الخزاز عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «قلت له كم يجزئ في رؤية الهلال؟ فقال : ان شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدوا بالتظني ، وليس رؤية الهلال ان يقوم عدة فيقول واحد قد رأيته ويقول الآخرون لم نره ، إذا رآه واحد رآه مائة وإذا رآه مائة رآه الف ، ولا يجوز في رؤية الهلال إذا لم يكن في السماء علة أقل من شهادة خمسين ، وإذا كانت في السماء علة قبلت شهادة رجلين يدخلان ويخرجان من مصر».

ومن هذه الاخبار يظهر صحة ما ذكرناه في معنى الصوم للرؤية والفطر للرؤية من أن المراد العلم بالرؤية دون وقوع الرؤية من ذلك الرائي بخصوصه ، فان قوله عليه‌السلام «وليس الرؤية. الى آخره» صريح في ذلك.

وحاصل المعنى في هذه الاخبار انه عليه‌السلام جعل مناط الصوم والفطر العلم بالرؤية ، ثم فسر معنى الرؤية التي هي مناط ذلك بأنها ليست عبارة عن أن يدعيها بعض ويخالفه آخر بل هي عبارة عن ان يخبر بها كل من تعمد النظر من غير مانع هناك ولا علة لا من جهة السماء ولا من جهة الناظر فإنه متى كان كذلك وجب على العالم بها العمل بمقتضاها ، ولو كان المراد من قوله : «الصوم للرؤية والفطر للرؤية» انما هو بالنسبة إلى الرائي نفسه بمعنى انه يجب على كل من رأى الهلال الصوم أو

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ١١ من أحكام شهر رمضان.

٢٤٦

الفطر لكان لا معنى لبقية الكلام في هذه الاخبار ولا لتفسير الرؤية بما ذكر فيها لأن حكم الرائي لا يتوقف على غيره كما لا يخفى.

وبالجملة فمساق هذه الأخبار وأمثالها إنما هو بالنسبة إلى بيان الرؤية التي يترتب على العلم بها ممن لم ينظر وير العمل بمقتضاها.

ويؤيد ذلك انه لم يرد في اخبار هذا الباب على كثرتها وانتشارها ما يدل على وجوب الرؤية على كل فرد فرد من أفراد المكلفين مع وجوب ما يترتب على ذلك من صيام وإفطار المأخوذ فيهما البناء على العلم واليقين.

بقي في المقام إشكالان : أحدهما ان هذه الاخبار ـ من حيث دلالتها على عدم الاكتفاء في الرؤية بالاثنين والثلاثة بل لا بد أن تكون على تلك الكيفية المتقدمة ـ ربما نافى بظاهره ما دل على الاكتفاء في ثبوت الهلال بشهادة العدلين من الأخبار المستفيضة.

والجواب عن ذلك من وجهين : أولهما ـ ان تحمل هذه الأخبار على عدم وجود العدلين في جملة أولئك الناظرين فلا بد حينئذ من الكثرة الموجبة للعلم.

الثاني ـ ولعله الأقرب ـ أن تحمل هذه الأخبار على ان الغرض منها بيان ثبوت الرؤية بالشياع وتفسير معنى الرؤية التي يثبت بها الشياع من غير ملاحظة لوجود العدلين وعدمه ، بمعنى انه متى شاعت الرؤية على هذه الكيفية بين الناس على وجه أفاد السامع بها العلم وجب العمل بمقتضاها على نهج ما تقدم في الاخبار السالفة الدالة على امره عليه‌السلام بالصيام والإفطار بصيام الناس وإفطارهم ، لان اتفاقهم على الصيام أو الإفطار مؤذن بالاتفاق على الرؤية كلا أو بعضا ، فيجب العمل بمقتضى رؤيتهم من غير ملاحظة لوجود العدلين فيهم وعدمه ، إذ متى رئي الهلال في بلد من غير علة هناك فإنه لا يختص برؤيته ناظر دون ناظر ، لأن الفرض عدم العلة والمانع من جهة السماء ومن جهة الناظر فلا يختص ذلك بالعدلين ولا يتوقف عليهما ولا يحتاج إليهما.

٢٤٧

واما اخبار العدلين فيمكن حملها على الرؤية التي لم تقع على هذا الوجه كما إذا لم ير في البلد بالكلية لمانع أو لغير مانع أو رئي فيها ولكن ثمة مانع من رؤية الجميع لوجود غيم واتفق وجود فرجة شاهده فيها عدلان مثلا فإنه يحكم بشهادتهما كما دلت عليه الاخبار.

ويمكن حملها ـ ولعله الأظهر ـ على التخصيص بان يكونا من خارج البلد كما دلت عليه صحيحة الخزاز (١) فإنه متى لم ير في البلد على الوجه الذي ذكرناه من الشياع والانتشار أعم من أن يكون لعلة أو لعدم النظر اليه أو نحو ذلك فمتى شهد على الرؤية عدلان من الخارج أو حصل الشياع بالرؤية في بلاد اخرى قريبة وجب العمل بمقتضى ذلك.

والعلة في أظهرية هذا الوجه كما ذكرنا ان الاخبار المتضمنة لذكر العدلين لا دلالة في شي‌ء منها على كونهما من البلد بل شطر من تلك الاخبار مطلق مثل قوله عليه‌السلام في صحيحة الحلبي (٢) «لا أجيز في رؤية الهلال إلا شهادة رجلين عدلين». ونحوها من الاخبار الكثيرة (٣) وشطر منها ظاهر الدلالة بل صريحها في المدعى مثل صحيحة الخزاز المتقدمة (٤) ومثل الأخبار المستفيضة الدالة على وجوب القضاء بشهادة العدلين (٥) فإن إفطار ما يجب صومه حتى لزم من ذلك وجوب القضاء بشهادتهما دليل على انهما ليسا من البلد كما لا يخفى ، وعلى هذا يحمل مطلق اخبار العدلين على مقيدها ويختص الحكم بالعدلين في ذلك من خارج البلد. ولا ينافي ذلك ما في الاحتمال الأول من فرض رؤية العدلين في البلد مع الغيم إذا حصلت فرجة رأياه فيها ، فإن الأحكام الشرعية التي هي بمنزلة القواعد الكلية إنما تبنى على الغالب والأكثر دون الفروض النادرة كما لا يخفى على من غاص في لجج الاخبار والتقط من خبايا تلك الأسرار.

__________________

(١ و ٤) ص ٢٤٦.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ١١ من أحكام شهر رمضان.

(٥) الوسائل الباب ٣ و ٥ و ١١ من أحكام شهر رمضان.

٢٤٨

الإشكال الثاني ـ ما تضمنته صحيحة الخزاز من إيجاب الخمسين مع عدم العلة في السماء.

والجواب عن ذلك يقع من وجهين. أحدهما ـ ان ما دل على خلاف هذا الخبر أكثر عددا وأقوى سندا وأوضح دلالة ، وحينئذ فقضية الترجيح عند التعارض هو المصير الى ذلك دون ما دلت عليه هذه الصحيحة.

ولا يرد ان رد هذا الحكم منها يستلزم ردها كملا فلا تصلح للاستدلال بها والاعتماد عليها في المقام.

لأنا نقول : قد صرح غير واحد من علمائنا الفحول (رضوان الله عليهم) بان رد بعض الخبر لمعارض أقوى لا يستلزم رد ما لا معارض له منه بل هو من قبيل العام المخصوص في ذلك.

الثاني ـ ارتكاب جادة التأويل فيها بالحمل على بيان العدد الذي يحصل به الشياع غالبا ويكون كناية عن الكثرة التي يحصل بها العلم واليقين من غير خصوصية في ذلك لخصوص الخمسين.

هذا. ولم أر من تنبه للاستدلال بهذه الاخبار على هذه المسألة من علمائنا الأبرار (رضوان الله عليهم) ولا من كشف عنها نقاب الإبهام في المقام ولا من جمع بينها وبين اخبار العدلين على وجه يزول به التنافي في البين.

ثم انه لا يخفى ان من اكتفى من أصحابنا (رضوان الله عليهم) في معنى الشياع بمجرد الظن ـ إلحاقا له بالظن الحاصل من شهادة العدلين ، أو اعتبر الزيادة في هذا الظن على ما يحصل بقول العدلين لتتحقق الأولوية المعتبرة في مفهوم الموافقة كما صرح به شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) ـ فظني انه لا يخلو من نظر : أما أولا ـ فلعدم الدليل على كون اعتبار شهادة العدلين والاعتماد عليها إنما هو لإفادتها الظن حتى يمكن القول بانسحاب الحكم منها الى ما يحصل به الظن أو يحتاج الى اعتبار زيادة في هذا الظن ليتحقق بذلك مفهوم

٢٤٩

الأولوية ، ولهذا لا يكفى الظن الحاصل بالقرائن إذا كان مساويا للظن الحاصل بشهادتهما أو أقوى منه.

والتحقيق في ذلك ما نقله في المعالم عن السيد المرتضى (رضي‌الله‌عنه) حيث قال : وجوب الحكم على القاضي بعد شهادة العدلين ليس من حيث انها توجب الظن بل من حيث ان الشارع جعلها سببا لوجوب الحكم على القاضي كما جعل دخول الوقت سببا لوجوب الصلاة. انتهى.

وقال بعض الأفاضل بعد نقل ذلك عن المرتضى : الحق ما افاده علم الهدى لان كثيرا ما لا يحصل الظن بشهادتهما لمعارضة قرينة حالية مع وجوب الحكم على القاضي حينئذ. انتهى.

واما ثانيا ـ فللأخبار الدالة في المقام على انه لا يكفى البناء على الظن في الرؤية بل لا بد من اليقين :

فمن ذلك صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة (١) حيث قال فيها : «وليس بالرأي ولا بالتظني».

وصحيحة الخزاز المتقدمة (٢) حيث قال فيها : «شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدوا بالتظني».

وموثقة إسحاق بن عمار عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) «انه قال : في كتاب على عليه‌السلام صم لرؤيته وأفطر لرؤيته وإياك والشك والظن ، فإن خفي عليكم فأتموا الشهر الأول ثلاثين».

ورواية على بن محمد القاساني (٤) قال : «كتبت اليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشك فيه من شهر رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب عليه‌السلام : اليقين لا يدخل فيه الشك صم للرؤية وأفطر للرؤية». الى غير ذلك من الأخبار.

__________________

(١) ص ٢٤٥.

(٢) ص ٢٤٦.

(٣ و ٤) الوسائل الباب ٣ من أحكام شهر رمضان.

٢٥٠

وربما يقال : انه إذا كان الأمر مبنيا في الرؤية على اليقين من رؤية الإنسان نفسه أو حصول الشياع المفيد للعلم فمن المعلوم ان هذا لا يحصل من شهادة العدلين سواء قلنا ان اعتبارها لإفادتها الظن أو لكونها سببا في الحكم.

لأنا نقول : يمكن أن يقال ان شهادة العدلين إنما يصار إليها مع تعذر الرؤية القطعية المشار إليها في تلك الأخبار ، فهي غير داخلة في ما دلت عليه تلك الاخبار

ويشير الى ذلك قوله عليه‌السلام في صحيحة الخزاز المتقدمة (١) : «وإذا كانت في السماء علة قبلت شهادة رجلين. الحديث».

ومثلها رواية حبيب الخزاعي عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) وفيها «وانما تجوز شهادة رجلين إذا كانا من خارج المصر وكان بالمصر علة فأخبرا أنهما رأياه».

ومطلق الأخبار في ذلك يحمل عليهما.

ويمكن أن يقال أيضا في المقام ـ وان كان خلاف ما هو المشهور في كلام علمائنا الاعلام إلا انه معتضد باخبار أهل الذكر (عليهم‌السلام) ـ ان شهادة العدلين تفيد العلم أيضا ، فإن العلم لا يتقيد بحد ولا ينحصر في مقدار معين بل هو من ما يقبل الشدة والضعف كما أوضحنا ذلك في محل أليق ، فقد يحصل العلم في بعض المقامات من اخبار الأطفال فضلا عن كمل الرجال.

وان أبيت ذلك لكونه غير مشهور ونفرت منه لكونه في كتب القوم غير مذكور فلنا أن نقول ان الشارع قد أجرى شهادة العدلين مجرى ما يفيد العلم والقطع بل اجرى خبر العدل الواحد مجرى ذلك كما يستفاد من جملة من الاخبار :

منها ـ صحيحة هشام بن الحكم الواردة في عدم انعزال الوكيل قبل العلم بالعزل (٣) قال عليه‌السلام : «والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافه العزل».

فانظر الى جعله خبر الثقة قرينا للمشافهة وفي سياقها المؤذن بإفادته العلم كما

__________________

(١) ص ٢٤٦.

(٢) الوسائل الباب ١١ من أحكام شهر رمضان.

(٣) تقدمت ص ٩٦ والراوي هشام بن سالم.

٢٥١

ذكرنا أو تنزيله منزلته إن أبيت عن الأول ، على ان المفهوم من كلام الأصحاب ومن الاخبار انه لا ينعزل الوكيل إلا بالعلم بالعزل ، فلو لا ان خبر الثقة عندهم (عليهم‌السلام) مفيد للعلم لما حكم بالانعزال به.

ومنها ـ رواية سماعة (١) قال : «سألته عن رجل تزوج جارية أو تمتع بها فحدثه رجل ثقة أو غير ثقة فقال ان هذه امرأتي وليست لي بينة؟ فقال : ان كان ثقة فلا يقربها وان كان غير ثقة فلا يقبل منه».

ونحوها أيضا رواية إسحاق بن عمار الواردة في الدنانير (٢) وغيرها من ما قدمنا ذكره أيضا قريبا.

ورابعها ـ شهادة العدلين وقد اختلف في ذلك كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) فذهب جملة من الأصحاب : منهم ـ الشيخ المفيد والمرتضى و

المحقق والعلامة وابن إدريس وأكثر الأصحاب إلى انه يثبت بشهادة عدلين ذكرين مطلقا سواء كان صحوا أو غيما وسواء كان من داخل البلد أو خارجه ، وقيل بقبول شهادة الواحد في أوله وانه يجب الصوم بها وهو قول سلار.

وعن الشيخ في المبسوط انه ان كان في السماء علة وشهد عدلان من البلد أو خارجه برؤيته وجب الصوم وان لم يكن هنالك علة لم تقبل إلا شهادة القسامة خمسون رجلا من البلد أو خارجه.

وقال في النهاية : فإن كان في السماء علة ولم يره جميع أهل البلد ورآه خمسون نفسا وجب الصوم ، ولا يجب الصوم إذا رآه واحد واثنان بل يلزم فرضه لمن رآه حسب وليس على غيره شي‌ء ، ومتى كان في السماء علة ولم يروا في البلد الهلال ورآه خارج البلد شاهدان وجب أيضا الصوم ، وان لم يكن في السماء علة وطلب فلم ير لم يجب الصوم إلا أن يشهد خمسون نفسا من خارج البلد أنهم رأوه. ونقله في

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٣ من عقد النكاح.

(٢) تقدمت ص ٩٦.

٢٥٢

المختلف أيضا عن ابن البراج.

وقال الصدوق في المقنع : واعلم انه لا يجوز الشهادة في رؤية الهلال دون خمسين رجلا عدد القسامة ويجوز شهادة رجلين عدلين إذا كانا من خارج البلد أو كان بالمصر علة.

وقال أبو الصلاح : يقوم مقام الرؤية شهادة رجلين عدلين في الغيم وغيره من العوارض وفي الصحو وانتفائها أخبار خمسين رجلا.

أقول : ومنشأ اختلاف هذه الأقوال من اختلاف ظواهر الاخبار في هذه المسألة :

ومنها ـ صحيحة الحلبي عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) «ان عليا عليه‌السلام كان يقول : لا أجيز في رؤية الهلال إلا شهادة رجلين عدلين».

وصحيحة منصور بن حازم عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) انه قال : «صم لرؤية الهلال وأفطر لرؤيته فإن شهد عندكم شاهدان مرضيان بأنهما رأياه فاقضه».

وصحيحة زيد الشحام عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) «انه سئل عن الأهلة فقال هي أهلة الشهور فإذا رأيت الهلال فصم وإذا رأيته فأفطر. فقلت أرأيت ان كان الشهر تسعة وعشرين يوما اقضى ذلك اليوم؟ فقال : لا إلا أن تشهد لك بينة عدول فان شهدوا أنهم رأوا الهلال قبل ذلك فاقض ذلك اليوم».

وصحيحة عبيد الله بن على الحلبي عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : «قال على عليه‌السلام لا تقبل شهادة النساء في رؤية الهلال إلا شهادة رجلين عدلين».

وبمضمون هذه الرواية روايات عديدة متفقة الدلالة على انه لا تقبل شهادة النساء في رؤية الهلال ولا يجوز إلا شهادة رجلين عدلين. وهذه الأخبار هي مستند

__________________

(١ و ٢ و ٤) الوسائل الباب ١١ من أحكام شهر رمضان.

(٣) الوسائل الباب ٥ من أحكام شهر رمضان وهي صحيحة المفضل والشحام المتقدمة ص ٢٤١.

٢٥٣

أصحاب القول الأول.

ومنها ـ صحيحة إبراهيم بن عثمان الخزاز عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «قلت له : كم يجزئ في رؤية الهلال؟ فقال : ان شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدوا بالتظني ، وليس رؤية الهلال أن يقوم عدة فيقول واحد رأيته ويقول الآخرون لم نره ، إذا رآه واحد رآه مائة وإذا رآه مائة رآه الف ، ولا يجوز في رؤية الهلال إذا لم يكن في السماء علة أقل من شهادة خمسين ، وإذا كانت في السماء علة قبلت شهادة رجلين يدخلان ويخرجان من مصر».

ورواية حبيب الخزاعي (٢) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام لا تجوز الشهادة في رؤية الهلال دون خمسين رجلا عدد القسامة وانما تجوز شهادة رجلين إذا كانا من خارج المصر وكان بالمصر علة فأخبرا أنهما رأياه وأخبرا عن قوم صاموا للرؤية».

وهاتان الروايتان هما حجتا الشيخ وابن بابويه وابى الصلاح ونحوهم ممن اعتبر هذا العدد في الصحو.

وأجاب عنهما المحقق في المعتبر بان اشتراط الخمسين لم يوجد في حكم سوى قسامة الدم ثم لا يفيد اليقين بل قوة الظن وهي تحصل بشهادة العدلين. ثم قال : وبالجملة فإنه مخالف لما عليه عمل المسلمين كافة فكان ساقطا. انتهى.

وأجاب عنهما في المنتهى بالمنع من صحة السند. وأجاب عنهما في المختلف بالحمل على عدم عدالة الشهود وحصول التهمة في أخبارهم.

قال في المدارك ـ وهو ممن اختار القول المشهور بعد نقل ذلك عنه ـ وهو غير بعيد.

أقول : لا يخفى ما في هذه الأجوبة من المجازفة الناشئة عن ضيق الخناق في المقام.

ثم أقول ـ وبالله التوفيق في الهداية إلى سواء الطريق ـ الذي يظهر لي في الجمع

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١١ من أحكام شهر رمضان.

٢٥٤

بين هذه الاخبار هو ان ما استدل به على القول المشهور من الاكتفاء في ثبوت الهلال بالعدلين مطلقا غير خال من الإجمال وقبول الاحتمال وليس بنص بل ولا ظاهر في ما ذكروه ، فإن غاية ما تدل عليه هذه الأخبار ثبوت الهلال بالشاهدين في الجملة وهو من ما لا نزاع فيه.

وتفصيل هذه الجملة هو ان المستفاد من الأخبار الكثيرة التي قدمنا شطرا منها في المسألة السابقة هو انه متى كانت السماء صاحية خالية من العلة وتوجه الناس الى النظر الى الهلال وكان ثمة هلال فإنه لا يختص بنظره واحد من عشرة ولا عشرة من مائة بل إذا رآه واحد رآه ألف لأن المفروض سلامة الرائي من العلة والمرئي ، وهذا هو المراد من قولهم (عليهم‌السلام) في تلك الأخبار (١) «الصوم للرؤية والفطر للرؤية وليس الرؤية أن يراه واحد ولا عشرة ولا خمسون».

وظاهر هذه الأخبار انه لا بد أن تبلغ الرؤية إلى حد الشياع الموجب للعلم فلا يكتفى فيها بالظن المنهي عنه في تلك الأخبار المستفيضة التي قدمنا بعضها في المسألة السابقة ، وشهادة العدلين غاية ما تفيده عندهم هو الظن والظن هنا من ما قد منعت منه الأخبار للتمكن من العلم واليقين كما هو المفروض ، وحينئذ فلا بد هنا من ما يفيد العلم ، وقد دل ظاهر خبري الخزاز وحبيب المتقدمين (٢) على ان أقل ما يحصل به خمسون ، فذكر الخمسين هنا إنما خرج مخرج التمثيل والمبالغة في من يحصل بخبرهم العلم ، وسياق صحيحة الخزاز (٣) ظاهر في ما ذكرناه من هذا التوجيه حيث انه لما سأله السائل كم يجزئ في رؤية الهلال؟ أجابه بأن شهر رمضان فريضة واجبة يقينا فلا تؤدى إلا بالعلم واليقين لا بالظن ، وليس الرؤية الموجبة للعلم واليقين أن يقوم عدة فيقول واحد رأيته ويقول آخرون لم نره ـ لأن المفروض زوال العلة من الرائي والمرئي وهو المبنى عليه ذكر الرواية ـ بل إذا رآه واحد رآه الف ، وحينئذ فلا يجوز في الرؤية المترتب عليها العلم واليقين أقل من خمسين. هذا مضمون سياق

__________________

(١) ص ٢٤٥ و ٢٤٦.

(٢ و ٣) ص ٢٥٤.

٢٥٥

الخبر المذكور وهو صحيح صريح عار عن النقص والقصور واما إذا كان في السماء علة مانعة من الرؤية فإنه يتعذر العلم واليقين في هذه الحال فيكتفى بالشاهدين.

بقي ان الخبرين المذكورين صرحا بكون الشاهدين من خارج البلد ، والظاهر ان ذلك خرج مخرج الغالب من حيث عدم إمكان الرؤية في البلد إذ لو رآه عدلان لرآه من يزيد على ذلك وأمكن حصول العلم ، واحتمال ان تحصل فرجة يراه فيها عدلان خاصة نادر ، فمن أجل ذلك اعتبر العدلان من خارج ، والاخبار السابقة التي استند إليها الأصحاب منها ما هو مطلق يمكن أن يقيد بهذين الخبرين مثل قوله عليه‌السلام (١) «لا أجيز في الهلال إلا شهادة رجلين عدلين». والحصر هنا إضافي بالنسبة الى عدم جواز شهادة النساء ويكون مخصوصا بالعلة المانعة من الرؤية الشائعة. واما اخبار القضاء فهي ظاهرة في كون الشاهدين من خارج البلد كما ذكرناه في المسألة السابقة.

وبالجملة فإن ظاهر كلام الأصحاب ان محل النزاع هو انه هل يكتفى بالعدلين في ثبوت الهلال أم لا؟ وليس الأمر كذلك إنما محل النزاع في انه متى كانت السماء خالية من العلة المانعة للرؤية وتوجه الناس الى رؤيته فهل يكفى العدلان خاصة كما يدعيه أصحاب القول المشهور أو لا بد من الرؤية اليقينية التي هي عبارة عن رؤية المكلف نفسه أو حصول الشياع الموجب للعلم؟ والروايات قد استفاضت بأنه لا بد من الرؤية اليقينية الموجبة للعلم لمن لم يره فإنه في صورة عدم العلة المانعة من الرؤية في جانب الرائي والمرئي لا يختص به واحد أو مائة من الف بل كل من نظر رأى.

وهذا هو الذي انصبت عليه الروايات ، ومنها صحيحة محمد بن مسلم عن أبى جعفر عليه‌السلام (٢) قال : «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا ، وليس بالرأي ولا بالتظني ولكن بالرؤية ، والرؤية ليس أن يقوم عشرة فينظروا فيقول واحد هو ذا وينظر تسعة فلا يرونه ، إذا رآه واحد رآه عشرة والف. وإذا كانت علة فأتم شعبان ثلاثين».

__________________

(١) وهو صحيح الحلبي المتقدم ص ٢٥٣.

(٢) الوسائل الباب ١١ من أحكام شهر رمضان.

٢٥٦

وزاد حماد في روايته (١) «وليس أن يقول رجل هو ذا هو ، لا أعلم إلا قال ولا خمسون».

وفي رواية أبي العباس عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «الصوم للرؤية والفطر للرؤية ، وليس الرؤية أن يراه واحد ولا اثنان ولا خمسون». الى غير ذلك من ما هو بهذا المعنى.

وحينئذ فإذا كانت الاخبار قد فسرت الرؤية في هذه الصورة بهذا المعنى ومنعت من العمل على الظن وشهادة العدلين إنما تفيد عندهم الظن فكيف يكتفى بها هنا؟

واما ما ذهب اليه سلار من الاكتفاء بالواحد فاحتج له في المختلف بما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن قيس عن ابى جعفر عليه‌السلام (٣) قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام إذا رأيتم الهلال فأفطروا أو شهد عليه عدل من المسلمين ، وان لم تروا الهلال إلا من وسط النهار أو آخره فأتموا الصيام الى الليل ، وان غم عليكم فعدوا ثلاثين ليلة ثم أفطروا».

وأجاب عنه العلامة في جملة من كتبه بان لفظ العدل يصح إطلاقه على الواحد فما زاد لانه مصدر يصدق على القليل والكثير ، تقول رجل عدل ورجلان عدل ورجال عدل.

أقول : لا يخفى ان الشيخ قد روى هذه الرواية تارة بما نقلناه (٤) ورواها بسند آخر وفيها مكان «أو شهد عليه عدل» «واشهدوا عليه عدولا» هكذا في التهذيب (٥) وفي الاستبصار (٦) هكذا «إذا رأيتم الهلال فأفطروا أو يشهد عليه

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١١ من أحكام شهر رمضان.

(٣) الوسائل الباب ٨ من أحكام شهر رمضان.

(٤) التهذيب ج ٤ ص ١٥٨.

(٥) ج ٤ ص ١٧٧ وفي التعليقة ٢ في هذه الطبعة هكذا : «نسخة في المخطوطات : أو شهد عليه عدل».

(٦) ج ٢ ص ٦٤ وفيه «أو تشهد عليه بينة عدول من المسلمين» وفي ص ٧٣ «أو يشهد عليه عدل من المسلمين».

٢٥٧

بينة عدل من المسلمين». وعلى هذا الاضطراب يسقط التعلق بالخبر المذكور سيما مع معارضته بالأخبار المستفيضة بالشاهدين عموما وخصوصا.

وينبغي التنبيه هنا على أمور :

الأول ـ قد صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ العلامة وغيره بأنه لا يعتبر في ثبوت الهلال بالشاهدين في الصوم والفطر حكم الحاكم بل لو رآه عدلان ولم يشهدا عند الحاكم وجب على من سمع شهادتهما وعرف عدالتهما الصوم أو الفطر.

وهو كذلك لقول الصادق عليه‌السلام في صحيحة منصور بن حازم (١) «فان شهد عندكم شاهدان مرضيان بأنهما رأياه فاقضه».

وفي صحيحة الحلبي (٢) وقد قال له : «أرأيت ان كان الشهر تسعة وعشرين يوما اقضى ذلك اليوم؟ قال : لا إلا ان يشهد لك بينة عدول فان شهدوا أنهم رأوا الهلال قبل ذلك فاقض ذلك اليوم».

أقول : والظاهر ان هذا الحكم لا ريب فيه ولا اشكال ، وإنما الإشكال في انه هل يجب على المكلف العمل بحكم الحاكم الشرعي متى ثبت ذلك عنده وحكم به أم لا بد من سماعه بنفسه من الشاهدين؟

ظاهر الأصحاب الأول بل زاد بعضهم كما سيأتي في المقام ان شاء الله تعالى الاكتفاء برؤية الحاكم الشرعي.

ويظهر من بعض أفاضل متأخري المتأخرين العدم وانه لا بد من سماعه من الشاهدين ، قال انه لا يجب على المكلف العمل بما ثبت عند الحاكم الشرعي هنا بل ان حصل الثبوت عنده وجب عليه العمل بمقتضى ذلك وإلا فلا ، لأن الأدلة الدالة على الفطر أو الصيام من الاخبار إما رؤية المكلف نفسه أو ثبوتها بالشياع أو

__________________

(١) الوسائل الباب ٣ و ١١ من أحكام شهر رمضان.

(٢) الوسائل الباب ٥ من أحكام شهر رمضان.

٢٥٨

السماع من رجلين عدلين أو مضى ثلاثين يوما من شعبان أو شهر رمضان واما ثبوت دليل خامس وهو حكم الحاكم فلم نجد له ما يعتمد عليه ويركن اليه.

وظاهر كلامه اجراء البحث في غير مسألة الرؤية أيضا حيث قال بعد كلام في المقام : فلو ثبت عند الحاكم غصبية الماء فلا دليل على انه يجب على المكلف الاجتناب عنه وعدم التطهير به ، قال وكذا لو حكم بأنه دخل الوقت في زمان معين فلا حجة على انه يصح للمكلف إيقاع الصلاة فيه وان لم يلاحظه أو لاحظه واستقر ظنه بعدم الدخول ، ولهذا نظائر كثيرة لا تخفى على البصير المتتبع. انتهى.

والظاهر ان مستند من قال بوجوب العمل بحكم الحاكم في هذا المقام ونحوه هو الأخبار الدالة بعمومها أو إطلاقها على وجوب الرجوع الى ما يحكم به الفقيه النائب عنهم (عليهم‌السلام) :

مثل قول الصادق عليه‌السلام في مقبولة عمر بن حنظلة (١) «فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد والراد علينا الراد على الله عزوجل».

وقول صاحب الزمان (عجل الله فرجه) في توقيع إسحاق بن يعقوب (٢) «واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وانا حجة الله». وأمثال ذلك من ما يدل على وجوب الرجوع الى نوابهم (عليهم‌السلام)

وخصوص صحيح محمد بن قيس عن ابى جعفر عليه‌السلام (٣) قال : «إذا شهد عند الامام شاهدان أنهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوما أمر الإمام بالإفطار. الحديث».

ويعضده أيضا الأخبار المطلقة بشهادة العدلين في الرؤية.

وأنت خبير بأن للمناقشة في ذلك مجالا : أما المقبولة المذكورة ونحوها فان المتبادر منها بقرينة السياق والمقام إنما هو الرجوع في ما يتعلق بالدعاوي والقضاء بين الخصوم أو الفتوى في الأحكام الشرعية ، وهو من ما لا نزاع فيه لاختصاص

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١١ من صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به.

(٣) الوسائل الباب ٦ من أحكام شهر رمضان.

٢٥٩

الحاكم به إجماعا نصا وفتوى.

واما صحيحة محمد بن قيس فالظاهر من لفظ الامام فيها إنما هو إمام الأصل أو ما هو الأعم منه ومن أئمة الجور وخلفاء العامة المتولين لأمور المسلمين ، فإن الإمام إنما يحتمل انصرافه الى من عدا من ذكرناه في مثل إمامة الجمعة والجماعة حيث اشترط بالإمام ، واما في مثل هذا المقام فلا مجال لاحتمال غير من ذكرناه بحيث يدخل فيه الفقيه. نعم للقائل أن يقول إذا ثبت ذلك لإمام الأصل ثبت لنائبه لحق النيابة. إلا انه لا يخلو ايضا من شوب الإشكال لعدم الوقوف على دليل لهذه الكلية وظهور أفراد كثيرة يختص بها الامام دون نائبه.

واما باقي الأخبار الواردة في المسألة فهي وان كانت مطلقة إلا انه يمكن حملها على ما ذكرناه من الاخبار المقيدة التي تقدم بعضها في صدر المسألة.

وبالجملة فالمسألة عندي موضع توقف واشكال لعدم الدليل الواضح في وجوب الأخذ بحكم الحاكم بحيث يشمل موضع النزاع.

ثم أنت خبير أيضا بان ما ذكروه من العموم انه لو ثبت عند الحاكم بالبينة نجاسة الماء وحرمة اللحم ولم يثبت عند المكلف لعدم سماعه من البينة مثلا فان تنجيس الأول وتحريم الثاني بالنسبة إليه بناء على وجوب الأخذ عليه بحكم الحاكم ينافي الأخبار الدالة على ان «كل شي‌ء طاهر حتى تعلم انه قذر» (١). و «كل شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعلم الحرام بعينه فتدعه» (٢). حيث انهم لم يجعلوا من طرق العلم في القاعدتين المذكورتين حكم الحاكم بذلك وإنما ذكروا اخبار المالك وشهادة الشاهدين وعلى ذلك تدل الاخبار أيضا (٣) وظاهر كلامهم هو شهادتهما

__________________

(١) الوسائل الباب ٣٧ من النجاسات واللفظ «كل شي‌ء نظيف».

(٢) الوسائل الباب ٤ من ما يكتسب به والباب ٦٤ من الأطعمة المحرمة والباب ٦١ من الأطعمة المباحة باختلاف في اللفظ.

(٣) الوسائل الباب ٦ من ما يكتسب به والباب ٦١ من الأطعمة المباحة. وارجع الى ج ٥ ص ٢٥٢.

٢٦٠