الحديقة الهلالية شرح دعاء الهلال من الصحيفة السجّاديّة

محمّد بن الحسين العاملي

الحديقة الهلالية شرح دعاء الهلال من الصحيفة السجّاديّة

المؤلف:

محمّد بن الحسين العاملي


المحقق: السيد علي الموسوي الخراساني
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٤

سبق.

الخامس : أنّ أجراماً صغيرة نيّرة مركوزة في جرم الشمس ، أو في فلكها الخارج المركز ، بحيث تكون متوسطة دائماً بين جرم الشمس والقمر ، وهي مانعة من وقوع شعاع الشمس على مواضع المحو من القمر ، وهذا الوجه للمدقق الخفري (١) أورده في شرح التذكرة (٢) ، ومنتهى الإِدراك (٣) واستحسنه.

وأقول : فيه نظر ، فإن تلك الأجرام إن كانت صغيرة جداً ، تلاقت الخطوط الخارجة من حولها إلى القمر بالقرب منها ، ولم يصل ظلّها إليه ، وإن كان لها مقدار يعتد به بحيث يصل ظلّها إلى جرم القمر فوصوله إلى سطح الأرض في بعض الأوقات كوقت الاستقبال أولى ، فكان ينبغي أن يظهر على سطح الأرض كما يظهر ظلّ الغيم ونحوه ، وليس فليس ، والله أعلم بحقائق الأمور.

خاتمة :

ما مرّ من أن اكتساب النور من الشمس مختص بالقمر لا يشاركه فيه غيره من الكواكب هو القول المشهور (٤) ، وعليه الجمهور فإنهم مطبقون على أنّ أنوار ما عداه من الكواكب ذاتية غير مكتسبة من الشمس ، واستدلوا على ذلك : بأنها لو استفادت النور من الشمس لظهر فيها التشكلات البدرية والهلالية ، بالبعد

__________________

(١) شمس الدين ، محمد بن أحمد الخفري الشيرازي ، فاضل حكيم محقق ، من تلامذة صدر الحكماء الدشتكي الشيرازي ، كان في غاية الفطنة ، وسرعة الخاطر ، جمع أقسام الحكمة ، سكن كاشان ، وكان معاصراً للمحقق الشيخ علي بن عبد العالي الكركي ، له مؤلفات ، منها : رسالة في اثبات الواجب ، وحل ما لا ينحل ، ومنتهى الإدراك ، وشرح التذكرة باسم التكملة ، وغيرها والخفري نسبة إلى خفر بلدة من بلاد شيراز ، فيها قبر الحكيم جاماسب ، توفي سنة ٩٥٧ = ١٥٥٠ م.

مجالس المؤمنين ٢ : ٢٣٣ / الكنى والألقاب ٢ : ٢١٨ / هدية الأحباب : ١٥١ / الذريعة ١٣ : ١٤٤ ت ٤٧٩ و ٤ : ٤٠٩ ت ١٨٠٥.

(٢) في شرحه على أواخر الفصل السابع من الباب الأول من التذكرة.

(٣) مخطوط.

(٤) قد فصّل الكلام على ذلك في الكشكول ١ : ٧١ ـ ٧٦ ، فراجع.

١٢١

والقرب منها كما في القمر ، هكذا أورده [٢٥ / ب] فيها (١) وفي نهاية الإدراك (٢).

وأقول : فيه نظر ، فإنّ القائل باستفادتها النور من الشمس ليس عليه أن يقول بأنّ المستضيء منها إنما هو وجهها المقابل للشمس فقط ، ليلزمه اختلاف تشكلاتها كالقمر ، بل أن يقول بنفوذ الضوء في أعماقها كالقطعة من البلّور إذا وقع عليها ضوء الشمس ، بان الناظر إليها من جميع الجهات يبصرها مضيئة باجمعها ، فتبصر.

ثمّ إنّ صاحب التحفة أورد على الدليل المذكور : أنّ اختلاف التشكلات إنّما يلزم في السفليين لا في بقية الكواكب التي فوق الشمس ، لكون وجهها المقابل لنا هو المقابل للشمس ، بخلاف القمر فيمكن أن يستفيد النور منها ولا يظهر فيها التشكلات الهلالية بالقرب من الشمس (٣).

وما يقال من أنه : يلزم انخسافها في مقابلات الشمس مدفوع بأن ظل الأرض لا يصل إلى أفلاكها.

ثمّ إنّه أجاب عن هذا الإيراد : بأن تلك الكواكب إذا كانت على سمت الرأس ، غير مقابلة للشمس ، ولا مقارنة لها ، لم يكن وجهها المقابل لنا هو المقابل لها بل بعضه ، ويلزم اختلاف التشكلات الهلالية.

ثمّ قال ، فإن قيل : إنّما لا يرى شيء منها هلالياً لخفاء طرفيه ، لصغر حجم الكوكب في المنظر ، وظهوره من البعد المتفاوت مستديراً.

قلنا [٢٦ / أ] : لو كان كذلك لرؤي الكوكب في قرب الشمس أصغر منه في بعدها هذا كلامه.

وأقول : فيه نظر ، فإن للخصم أن يقول : إنما يلزم ذلك لو وقعت دائرة

________________________

(١) التحفة : مخطوط.

(٢) نهاية الادراك : مخطوط.

(٣) التحفة : مخطوط.

١٢٢

الرؤية فيها مقاطعة لدائرة النور ، ولمَ لا يجوز أن لا تقع أبدا إلا داخلها؟ إمّا موازية لها إذا كان الكوكب على سمت الرأس في مقابلة الشمس ، أو غير موازية إما مماسة لها كما لعله يتفق في التربيع ، أوغيرمماسّة كما في غيره.

ولا يندفع هذا إلا إذا ثبت لقاطع الدائرتين على سطح الكوكب كما في القمر ، ودون ثبوته خرط القتاد (١).

ثم إنّ الذي ما زال يختلج بخاطري : أنّ القول بعدم الفرق بين القمر وسائر الكواكب في أنّ أنوار الجميع مستفادة من الشمس غير بعيد عن الصواب ، وقد ذهب إليه جماعة من أساطين الحكماء ، ووافقهم الشيخ السهروردي (٢) حيث قال في الهياكل : إنّ رخش ـ يعني الشمس ـ قاهر الغسق ، رئيس السماء ، فاعل النهار ، صاحب العجائب ، عظيم الهيئة ، الذي يعطي جميع الأجرام ضوءها ، ولا يأخذ منها (٣). هذا كلامه.

وقد ذهب الشيخ العارف محيي الدين بن عربي (٤) أيضا إلى هذا القول ،

________________________

(١) ولا يخفى أيضا أنه لا يكفي اثبات مجرد التقاطع على أي وجه كان بل لا بد من اثبات وقوعه على وجه يظهر أثره للحس ولعل في قولنا كما في القمرنوع اشارة إلى هذا ، منه. قدس سره ، هامش الخطوط.

(٢) شهاب الدين السهروردي ، يحيى بن حبش بن أميرك السهروردي صاحب السيمياء الشافعي الحكيم الصوفي المتكلم له في الفقه والأُصول يد ، ولد في سهرورد من قرى زنجان نشأ في مراغة وعاش في أصفهان ثم رحل إلى بغداد وحلب له في الشعر والنثر والأدب عامة يد. أفتى الفقهاء بإباحة دمه لما نسب إليه من انحلال في العقيدة ، له مؤلفات منها. التلويحات ، التنقيحات ، حكمه الإشراق ، هياكل النور ، الألواح العمادية.

مات خنقاً في السجن سنة ٥٨٧ هـ = ١١٩١ م.

ترجم له في : وفيات الأعيان ٦ : ٢٦٨ ت ٨١٣ / معجم الادباء ١٩ : ٣١٤ ت ١٢٣ / لسان الميزان ٣ : ١٥٦ ت ٥٥٣ / مرآة الجنان ٣ : ٤٣٤ / شذرات الذهب ٤ : ٢٩٠ / سير أعلام النبلاء ٢١ : ٢٠٧ ت ١٠٢ / عيون الأنباء : ٦٤١ وغيرها.

(٣) الهياكل : ٣٩ ، أواخر الهيكل الخامس منه.

(٤) محيي الدين بن عربي ، محمد بن علي بن محمد الطائي ، الأندلسي المكي ، الشامي ، أبو بكر ، لقب بالشيخ الأكبر ، من كبار المتكلمين في العلوم ، قدوة القائلين بوحدة الوجود ، اختلف فيه علماء الرجال بين مزندق له وموثق بل وجعله قطباً ، له من المؤلفات ـ على ما قيل ـ أربعمائة كتاب

١٢٣

وصرح به في الفتوحات المكيّة (١) ، ووافقه جمع من الصوفية ، والله أعلم بحقائق الأشياء.

ولي في هذا الباب رسالة مبسوطة فمن أرادها فليقف عليها (٢).

* * *

________________________

ورسالة ، منها : الفتوحات المكية ، التفسير ، إحياء علوم الدين ، محاضرة الأبرار ، فصوص الحكم وغيرها سمع من ابن بشكوال بمرسيه ، ورحل إلى بغداد ، ومكة ، ودمشق ، له شعر يوصف بالرقة منه :

إذا حلّ ذكركم خاطري

فرشت خدودي مكان التراب

وأقعدني الذل في بابكم

قعود الأسارى لضرب الرقاب

مات سنة ٦٣٨ هـ = ١٢٤٠ م ودفن في صالحية دمشق له ترجمة في : البداية والنهاية ١٣ : ١٥٦ / فوات الوفيات ٢ : ٤٣٥ ت ٤٨٤ / ميزان الاعتدال ٣ / ٦٥٩ ت ٧٩٨٤ / لسان الميزان ٥ : ٣١١ ت ١٠٣٨ / شذرات الذهب ٥ : ١٩٠ / طبقات الأولياء : ٤٦٩ ت ١٥٣.

(١) الفتوحات المكية ٣ : ٤٣٧ ، ذيل الفصل الرابع.

(٢) وهي رسالة في أن أنوار سائر الكواكب مستفادة من الشمس. انظر الكشكول ١ : ١٧.

١٢٤

قال مولانا وإمامنا عليه‌السلام [٢٦ / ب].

« سبحانه ما أعجب ما دبر في أمرك ، والطف ما صنع في شأنك ، جعلك مفتاح شهر حادث لأمر حادث ، فأَسأل الله ربي وربك ، وخالقي وخالقك ، ومقدري ومقدرك ، ومصوري ومصورك ، أن يصلّي على محمد وآله ، وأَن يجعلك هلال بركة لا تمحقها الأيام ، وطهارة لا تدنسها الآثام ، هلال أمن من الأفات ، وسلامة من السيئات ، هلال سعد لانحس فيه ، ويمن لا نكد معه ، ويسر لا يمازحّه عسر ، وخير لا يشوبه شر ، هلال أمن وإيمان ، ونعمة واحسان ، وسلامة واسلام ».

« سبحان » مصدر كغفران ، بمعنى التنزيه عن النقائص ، ولا يستعمل إلا محذوف الفعل منصوباً على المصدرية ، فسبحان الله معناه تنزيه الله ، كأنه قيل اُسبحه سبحاناً ، واُبرؤه عما لا يليق بعزجلاله براءة.

قال الشيخ أبو علي الطبرسي طاب ثراه : أنّه صار في الشرع علماً لأعلى مراتب التعظيم ، التي لا يستحقها إلّا هو سبحانه ، ولذلك لا يجوز أن يستعمل في غيره تعالى ، وإن كان منزها عن النقائص (١).

وإلى كلامه هذا ينظر ما قاله بعض الأعلام : من أن التنزيه المستفاد من سبحان الله ثلاثة أنواع :

________________________

(١) مجمع البيان ١ : ٧٣ ، عند تفسير الآية ٣٠ من سورة البقرة.

١٢٥

[ أ ] : تنزيه الذات عن نقص الإمكان الذي هومنبع السوء.

[ب] : وتنزيه الصفات عن وصمة الحدوث ، بل عن كونها مغايرة للذات المقدسة ، وزائدة عليها.

[جـ ] : وتنزيه الأفعال عن القبح والعبث ، وعن كونها جالبة إليه تعالى نفعاً أودافعة عنه سبحانه ضررا كأفعال العباد [٢٧ / أ].

و « ما » في قوله عليه‌السلام : « ما أعجب » إمّا موصولة ، أو موصوفة ، أو استفهامية ، على خلاف المشهور في ما التعجبية.

وهي مبتدأ والماضي بعدها صلتها أو صفتها على الاُوليين ، والخبر محذوف ، أي الذي ـ أو شيء ـ صيّره عجيباً أمر عظيم أو هو الخبر على الأخير.

و « ما » في « ما دبر » مفعول أعجب ، وهي كالأولى على الاُوليين ، والعائد المفعول محذوف ، والأمر والشأن مترادفان.

وفصل جملة « جعلك » عما قبلها للاختلاف خبراً وانشاءً مع كون السابقة لا محل لها من الإعراب.

و « الشهر » مأخوذ من الشهرة ، يقال : شهرت الشيء شهراً أي أظهرته وكشفته ، وشهرت السيف أخرجته من الغلاف (١) وتشبيه الشهر في النفس بالبيت المقفول استعارة بالكناية ، وإثبات المفتاح له استعارة تخييلية ، ولا يخفى لطافة تشبيه الهلال بالمفتاح.

والجار ـ في قوله عليه‌السلام « لأمر حادث » ـ متعلّق بحادث السابق ، أي أن حدوث ذلك الشهر وتجدّده لأجل إمضاء أمر حادث مجدّد ، ويجوز تعلقه ب ـ « جعل ».

وتنكير « أمر » للإبهام وعدم التعيين ، أي أمر مبهم علينا حاله ، كما قالوه في

________________________

(١) أنظر : تاج العروس ٣ : ٣٢٠ / معجم مقاييس اللغة ٣ : ٢٢٢ مادة ( شَهَرَ ) فيهما

١٢٦

قوله تعالى : ( أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا ) (١) : أن المراد أرضاً منكورة مجهولة.

والفاء في « فاسال الله » فاء السببية ، كما في قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً ) (٢).

فإنّ ذلك الأمر المجدد الذي جعل تجدّد الشهر لإمضائه فيه لمّا كان مبهماً صارإبهامه سبباً لأن يسأل الله سبحانه أن يكون بركة وأمناً وسلامة ، وما هو من هذا القبيل ، ولا يبعد أن تجعل فصيحة كما قالوه في قوله تعالى : ( فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ ) (٣) ، إما بتقدير شرط كما هو رأي صاحب الكشاف ، أي [٢٧ / ب] إذا كان كذلك فأسأل الله؟ أو غير شرط ، كما هو رأي صاحب المنهاج ، أي وهو مبهم فأسأل الله (٤).

والحقّ أن تصدير الشرط لاعتباره لا ينافي كون الفاء فصيحة ، وأنّ الناقل واهم كما نبه المحقق الشريف في بحث الإيجاز والإطناب من شرح المفتاح.

تتمة :

عدوله عليه‌السلام في قوله : « فاسأل الله » عن الإضمار الذي هو مقتضى الظّاهر ، جرياً على وتيرة الضمائر الأربعة السابقة ، أي الإظهار لعلّه للتعظيم ، والاستلذاذ ، والتبرّك ، وإرادة الوصف بما بعده إذ المضمر لا يوصف ، وقول الكسائي ، بجواز وصف ضمير الغائب ضعيف ، وأمّا جعل ما بعده هنا حالاً فلا

________________________

(١) يوسف ، مكية ، ١٢ : ٩.

(٢) الحج ، مدنية ، ٢٢ : ٦٣.

(٣) الأعرا ف ، مكية ، ٧ : ١٦٠.

(٤) رأي الزمخشري لم اعثر عليه في كتبه المتوفرة لديّ ، هذا وفي الأصل المخطوط ورد ( المنهاج ) وفي المطبوعة ( المفتاح ). ولدى مراجعة مفتاح العلوم : ١١٧ ـ ١١٨ وجدناه يصرح بالشرطية حيث يقول : ... « وفي خبر المبتدأ متضمناً لمعنى الشرط بكونه موصولاً أو موصوفاً ... » إذن يحتمل أن يكون المنهاج إشارة إلى أحد مؤلفات الزمخشري ، وهو مذكور في عدادها. ولم أعثر عليه.

وانظر : رصف المعاني ١ : ٤٤٨ حيث يؤيد فيه نظرية صاحب الكشاف عند قوله : « واعلم أن النصب على الجواب بالفاء إنما هو بعد الشرط والجزاء أصلاً » ...

١٢٧

يخلومن بعد بحسب المعنى.

والكلام فيما يتعلق بلفظ الجلالة المقدسة تقدّم مبسوطاً في فواتح الشرح (١).

وإضافة الرب » إلى ياء المتكلم من إضافة الصّفة إلى غير المعمول نحو كريم البلد ، إذ الصّفة المشبّهة لاشتقاقها من اللازم لا مفعول لها ، لاضافتها اللفظيّة منحصرة في إضافتها إلى الفاعل ، فلذلك جاز وصف المعرفة بها.

فإنّ قلت : المعطوف على النعت نعت ، واسم الفاعل أعني « خالقي » مضاف إلى المفعول.

قلت : بعد تسليم أنّه نعت حقيقة هو بمعنى الماضي ، فإضافته معنويّة من قبيل « ضارب زيد أمس ». وتسميتهم المضاف إليه حينئذ مفعولاً نظراً إلى المعنى لا إلى أنّ محلّه النصب ، كما إذا كان إسم الفاعل بمعنى الحال والاستقبال ، على أنّا لو قطعنا النّظر عن كونه بمعنى الماضي لأمكن جعل مثل هذا من جزئيات قاعدتهم المشهورة وهي أنّه « يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل » كما قالوا في نحو : « ربّ شاة وسخلتها ».

والمباحث [٢٨ / أ] المتعلّقة بالصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتحقيق تشبيهها في بعض الأدعية بالصلاة على إبراهيم وآل إبراهيم ، والكلام في تحقيق معنى الآل واشتقاقه من آل يؤل ، وإيراد ما يرد على أن آل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حقيقة هم الأئمة المعصومون سلام الله عليهم قد مر الكلام فيها في الفواتح (٢) فلا معنى لإعادته.

و « البركة » : النماء والزيادة في الخير ، ولعل المراد بها هنا الترقي في معارج القرب ، ومدارج الاُنس يوماً فيوماً ، فإن « من استوى يوماه فهو مغبون » (٣).

________________________

(١) أنظر صحيفة : ٩٣ ، هامش ٢.

(٢) أنظر الهامش المتقدم.

(٣) معاني الأخبار : ٣٤٢ حديث ٣ / امالي الصدوق : ٥٣١حديث ٤ مجلس ٩٥.

١٢٨

و « محق » : الشيء محقاً أبطله ومحاه ، ومنه سمّيت الليالي الثلاث الأخيرة من الشهر محاقا ، لمحق نور القمر فيها.

و « الطهارة » : النزاهة من الأدناس ، ويندرج فيها نزاهة الجوارح عن الأفعال المستقبحة ، واللسان عن الأقوال المستهجنة ، والنفس عن الأخلاق المذمومة ، والأدناس الجسمانية ، والغواشي الظلمانية ، بل النزاهة عن كل ما يشغل عن الإقبال على الحق تعالى كائنا ما كان ، وذلك بخلع النعلين والتجرد عن الكونين ، فإنهما محرمان على أهل الله تعالى.

و « الدنس » : الوسخ ، وتدنيس الآثام للطهارة القلبية ظاهر ، فإن كل معصية يفعلها الإنسان يحصل منها ظلمة في القلب ، كما يحصل من نَفَس الإنسان ظلمة في المراة ، فإذا تراكمت ظلمات الذنوب على القلب صارت ريناً وطبعاً ، كما تصير الأنفاس والأبخرة المتراكمة على جرم المراة صدءً.

وإسناد المحق إلى الأيام ، والتدنيس إلى الآثام مجاز عقلي ، والملابسة في الأول زمانيّة ، وفي الثاني سببية.

و « الأمن » : اطمئنان القلب ، وزوال الخوف من مصادمة المكروه.

و « السّعد » والسّعادة مترادفان ، وربما فسرا بمعاونة الأُمور الإلهية الانسان على نيل الخير ، ويضادهما النحس [٢٨ / ب] والشقاوة.

والمراد « بالنكد » عسر المعاش وضيقه ، أو تعسر الوصول إلى المطلب الحقيقي ، لما يعتري السالك من العوائق الموجبة لبعد المسافة ، وطول الطريق والله أعلم.

تبصرة :

أمثال ما تضمّنه هذا الدعاء من سؤاله عليه‌السلام الطهارة الغير المدنّسة بالآثام ، والسلامة من السيئات ، والتوفيق للتوبة ، مع أنه عليه‌السلام معصوم

١٢٩

عن الأدناس والذنوب ، قد تقدم الكلام فيه في الفواتح (١) وذكرت هناك أن مثل هذا كثير في كلام أئمتنا سلام الله عليهم ، كما نقل عن الكاظم عليه‌السلام أنه كان يقول في سجدة الشكر : « ربِّ عصيتك بلساني ، ولو شئت وعزتك لأخرستني ، وعصيتك ببصري ولو شئت وعزتك لأكمهتني » (٢) إلى آخر الدعاء.

بل وقع مثل ذلك في كلام سيد المرسلين وأشرف الأولين والآخرين صلى‌الله‌عليه‌وآله الطاهرين كما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : ( إنّي لاستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثرمن سبعين مرّة ) (٣) وقد قلنا هناك : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذلك المعصومين من عترته سلام الله عليهم ، لغاية اهتمامهم باستغراق أوقاتهم في الإقبال على الله سبحانه ، والإعراض عما عداه ، وانجذابهم بكليتهم إلى جنابه جلّ شأنه ، وترك ما سواه ، كانوا يعدون صرف لمحة من اللمحات في الأشغال البدنية ، واللوازم البشرية من المأكل والمشرب والمنكح ، وأمثالها من المباحات ، نقصا وانحطاطاً ، ويسمون توجه البال في آن من الآنات إلى شيء من هذه الحظوظ الدنيوية إثماً وعصياناً وذنباً ، ويستغفرون الله تعالى منه.

وقد سلك على منوالهم ، واقتدى بأقوالهم ، وأفعالهم ، المتألهون والعرفاء من أصحاب الحقيقة ، الذين نفضوا عن [٢٩ / أ] ذيول سرائرهم غبار هذه الخربة الدنية ، وكحّلوا عيون بصائرهم بكحل الحكمة النبوية.

وأما نحن معاشر القاصرين عن الارتقاء إلى هذه الدرج العلّية والمحجوبين عن سعادة الاعتلاء على تلك المراتب السنية ، فلا مندوحة لنا عن جعل عظائم

________________________

(١) أنظر صحيفة : ١٢٨هامش ١.

(٢) مصباح المتهجد : ٥٨ ـ ٥٩ ، مقطع من دعاء طويل.

(٣) درر اللآلي العمادية ١ : ٣٢ / ب ، مخطوط.

وصحيح مسلم ٤ : ٢٠٧٥ رقم ٢٧٠٢ / وسنن أبي داود ٢ : ٨٤ رقم ١٥١٥ ، وفيهما « مائة مرة » ، وأنظر النهاية في غريب الحديث ٣ : ٤٠٣ مادة « غين » وتاج العروس ٩ : ٢٩٧ / والفائق ٣ : ٨٢ وفيه « كذا وكذا مرة ».

١٣٠

جرائمنا ـ حال قراءة تلك الفقر ـ نصب أعيننا ؛ وقبائح أعمالنا ـ عند تلاوة تلك الفصول ـ مطمح نظرنا.

تذكرة :

ينبغي لنا إذا تلونا قوله عليه‌السلام : « هلال أمن من الآفات » أن لا نقصرها على الافات البدنية ، بل نطلب معها الأمن من الآفات النفسية أيضاً ، من الكبر والحسد ، والغلّ والغرور ، والحرص وحب المال والجاه ، وغير ذلك من دواعي النفس وحظوظها ، ومشتهياتها البهيمية والسبعية ، فإنّ طلب الأمن من هذه الآفات التي بمنزلة الكلاب العاوية والحيات الضارية الموجبة للهلاك الحقيقي أهم وأحرى وأليق وأولى ، وقد قدّمنا في الحديقة الأخلاقية من شرحنا هذا وهي الحديقة العشرون في شرح دعائه عليه‌السلام في مكارم الأخلاق كلاماً فيما يعين على إلاحتراز عن هذه الافات ، وقلنا هناك : أنه لا يحصل الأمن التام منها إلاّ بإخراج التعلق بالدنيا من سويداء الفؤاد ، وقلع هذه الشجرة الخبيثة من أرض القلب ، فإنه ما دام الإقبال على الدنيا متمكناً في النفس ، لا يمكن حسم مواد هذه الافات عنها رأساً ، بل كلّما دفعتها وحسمتها عادت إلى ما كانت عليه أولاً (١).

وقد شبه بعض أصحاب القلوب (٢) ذلك بحال شخص عرض له مهم يحتاج إلى فكر وتأمل تام ، فاراد أن يصفو وقته ، ويجتمع باله ، ليتفكر في هذا المهم ، فجلس تحت شجرة ، واشتغل بالفكر فيه ، وكانت العصافير ـ وغيرها من الطيور ـ تجتمع على تلك الشجرة ، وتشوش عليه فكره باصواتها وتكدر وقته ، فأخذ خشبة وضرب بها الشجرة ، فهربت العصافير والطيور عنها ، ثم اشتغل بفكره فعادت كما كانت فطردها مرة أخرى فعادت أيضاً ، وهكذا مراراً فقال له شخص : يا هذا ، إن أردت الخلاص فاقطع الشجرة من أصلها فإنها ما دامت باقية فإنّ العصافير والطيور تجتمع عليها ألبتة.

________________________

(١) انظر صحيفة : ١٣٠هامش : ١.

(٢) لعله اشارة الى الشهيد الثاني في اسرار الصلاة : ١١.

١٣١

وبعضهم شبه ذلك بقصة الكردي الذي قتل أُمه ، كما يحكى أنّ شخصاً من الأكراد كانت أُمّه معروفة بعدم العفة وتدنس الأزار ، وكان الناس يعيّرونه بذلك وهو يتوقع الفرصة لحسم تلك المادة.

فدخل يوماً إلى البيت فوجد معها رجلاً يزني بها ، فشق بالسكين صدرها واستراح من شنعتها.

فقال له أصحابه ومعارفه : يا هذا ، إنّ قتل الرجل كان أولى من قتل الأم ، فإنه أمرمستقبح!!

فقال : إني لو لم أقتلها كان يلزمني [٣٠ / ] أن أقتل في كلِّ يوم شخصاً جديداً ، وهذا الأمر لا يتناهى إلى حد.

وأنا قد نظمت قصة هذا الكردي في كتابي الموسوم بسوانح سفر الحجاز (١) هكذا :

كان في الأكراد شخص ذو سداد

اُمه ذات اشتهار بالفساد

لم تخيّب من نوال طالبا

لن تَكُفَّ عن وصال راغبا

دارها مفتوحة للداخلين

رجلها مرفوعة للفاعلين

فهي مفعول بها في كل حال

فعلها تمييز أفعال الرجال

كان ظرفا مستقراً وكرها

جاء زيدٌ قام عمرو ذكرها

جاءها بعض الليالي ذو أمل

فاعتراها الابن في ذاك العمل

شقّ بالسكين فوراً صدرها

في محاق الموت أخفى بدرها

مكّن الغيلان من أحشائها

خلّص الجيران من فحشائه

قال بعض القوم من أهل الملام :

لمْ قتلت الاُم يا هذا الغلام؟

كان قتل المرء أولى يا فتى

إنّ قتل الاُم لم شيءٌ ما أتى!!

قال : يا قوم اتركوا هذا العتاب

إنّ قتل الاُم أدنى للصواب!

________________________

(١) سوانح سفر ألحجاز : مخطوط ، أحتمل البعض أنّها منظومة « نان وحلوا » أورد في السلافة منها حدود ٦٠ بيتاً ، انظر الذريعة ١٩ : ٣١٩ ، ١٢ : ٢٥٣ ، ٢٤ : ٣٠.

١٣٢

كنت لو أبقيتها فيما تريد

كلّ يوم قاتلاً شخصاً جديد

إنّها لو لم تذق حدّ الحسام

كان شغلي دائماً قتل الأنام!!

أيّها المأسور في قيد الذنوب

أيّها المحروم من سرّ الغيوب

أنت في أسر الكلاب العاويه

من قوى النفس الكفور الجانيه

كل صبح مع مساء لا تزال

مع دواعي النفس في قيل وقال [٣١ / أ]

كلّ داع حيَّة ذات التقام

قل مع الحيات كم هذا المقام؟

إن تكن من لسع ذي تبغ الخلاص

أو تَرُم من عضّ هاتيك المناص

فاقتل النفس الكفور الجانيه

قتل كرديّ لأم زانيه

أيها الساقي أدر كأس المُدام

واجعلن في دورها عيشي المدام

خلص الأرواح من قيد الهموم

أطلق الأشباح من أسر الغموم

فالبهائي الحزين الممتحن

من دواعي النفس في أسر المحن (١)

تبيين :

يمكن أن يراد بالإحسان : في قوله عليه‌السلام : « ونعمة وإحسان » معناه الظاهري المتعارف ، والأنسب أن يراد به المعنى المتداول على لسان أصحاب القلوب ، وهو الذي فسره سيد الأولين والآخرين صلى‌الله‌عليه‌وآله أجمعين ، بقوله : ( الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك ) (٢).

وينبغي حينئذ أن يراد بالإيمان والإسلام في قوله عليه‌السلام : « هلال أمن وإيمان ، وسلامة وإسلام » ، المرتبتان المعروفتان بعين اليقين ، وحق اليقين ، على ما مرّ شرحه في الفواتح.

هذا ، وقد طلب عليه‌السلام الأمن في هذا الدعاء مرتين ، مرة مقيداً بكونه من الآفات ، ومرة مطلقا ، وكذلك طلب السلامة مرتين مرة مقيداً بكونها

________________________

(١) أورد الأبيات في الكشكول أيضاً ١ : ٢٢٨.

(٢) صحيح البخاري ٦ : ١٤٤ / سنن الترمذي ٤ : ٦ رقم ٢٦١٠ / سنن أبن ماجة ١ : ٢٤ ، ٢٥ رقم ٦٣ ، ٦٤ / سنن ابو داود ٤ : ٢٢٣ رقم ٤٦٩٥ / مسند أحمد بن حنبل ١ : ٥١ ، ٥٢ و ٢ : ١٠٧ ، ٤٢٦ و ٤ : ١٢٩ ، ١٦٤ / كنز العمال ٣ : ٢١ رقم ٥٢٤٩ و ٥٢٥٠ / حلية الأولياء ٨ : ٢٠٢.

١٣٣

من السيئات. وأُخرى مطلقاً.

ويمكن أن يراد بالمطلقة سلامة القلب عن التعلّق بغير الحقّ جلّ وعلا ، كما قاله بعض المفسرين (١) في تفسيرقوله تعالى : ( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ [٣١ / ب] إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (٢).

وأما الأمن المطلق فلعل المراد به طمأنينة النفس بحصول راحة الأنس ، وسكينة الوثوق ، فإنّ السالك ما دام في سيره إلى الحق يكون مضطرباً غيرمستقر الخاطر لخوف العاقبة ، وما يعرض في أثناء السير من العوارض العائقة عن الوصول.

فإذا هبَّ نسيم العناية الأزلية ، وارتفعت الحجب الظلمانية ، واندكت جبال التعيّنات الرسمية ، تنوّر القلب بنور العيان ، وحصلت الراحة والاطمئنان ، وزال الخوف ، وظهرت تباشير الأمن والأمان.

وهذان المقامان ـ أعني : مقامي الأمن والسلامة ـ من مقامات أصحاب النهايات ، لا من أحوال أرباب البدايات ، وقد أشار إليهما مولانا وأمامنا أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي إليه تنتهي سلسلة أهل الحقيقة والعرفان سلام الله عليه وعلى من ينتسب إليه في كلام له عليه‌السلام أورده السيد الرضي (٣) رضي‌الله‌عنه في نهج البلاغة ، وهو قوله عليه‌السلام في وصف من سلك طريق الوصول

__________________

(١) منهم الزمخشري في كشافه ٣ : ٣٢١ ، والبيضاوي في انواره ٤ : ١٠٦.

(٢) الشعراء ، مكية ، ٢٦ : ٨٨.

(٣) السيد الشريف الرضي ، ذو الحسبين ، أبو الحسن ، محمد بن الحسين الموسوي ، لم ير إنسان العين مثله ، وقد عقمت الدهور عن ألإتيان بمثله ، أمره في الفقه والجلالة أشهر من أن يذكر ، اتفق عليه المخالف والمؤالف ، روى عن جمع منهم الشيخ المفيد ، وهارون التلعكبري ، وغيرهم ، ومن العامة الطبري المالكي ، والفارسي اللغوي ، والسيرافي ، والقاضي عبد الجبار. وعنه أخذ وروى شيخ الطائفة الطوسي ، والدوريستي ، والنيسابوري ، وابن قدامة شيخ ابن شاذان ، وغيرهم.

له : أخبار قضاة بغداد ، تعليق خلاف الفقهاء ، تلخيص البيان ، حقائق التأويل ، ديوان شعره ، المجازات النبوية ، وكفاه فخراً جمعه لنهج البلاغة.

١٣٤

( قدأحيى عقله (١) وأمات نفسه ، حتى دق جليله ، ولطف غليظه ، وبرق له لامع كثير البرق (٢) ، فأبان له الطريق ، وسلك به السبيل ، وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ، ودار الإقامة ، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة ، بما استعمل قلبه وأرضى ربه (٣) انتهى كلامه صلوات الله عليه وسلامه.

ولعلّ السعد الذي لا نحس فيه ، واليمن [٣٢ / ] الذي لا نكد معه ، واليسر الذي لا يمازجه عسر والخير الذي لا يشوبه شر ، من لوازم هذين المقامين وفقنا الله سبحانه مع سائر الأحباب للارتقاء إليهما بمنه وكرمه إنه سميع مجيب.

________________________

مات في الكاظمية سنة ٤٠٦ هـ = ١٠١٥ م.

له ترجمة في أعيان الشيعة ٩ : ٢١٦ / أمل الأمل ٢ : ٢٦١ رقم ٧٦٩ / إنباه الرواة ٣ : ١١٤ رقم ٦٣٢ / البداية والنهاية ١٢ : ٣ / تاريخ بغداد ٢ : ٢٤٦ / ٧١٥ / تاسيس الشيعة : ٣٣٨ / تذكرة الحفاظ ٣ : ٢٨٩ / تنقيح المقال ٣ : ١٠٧ رقم ١٠٥٩٠ / جامع الرواة ٢ : ٩٩ / الخلاصة : ١٦٤ رقم ١٧٦ / الدرجات الرفيعة : ٤٦٦ / رجال النجاشي : ٣٩٨ / ١٠٦٥ / روضات الجنات ٦ : ١٩٠ / ٥٧٨ ومصادره شذرات الذهب ٣ : ١٨٢ / الفوائد الرجالية ٣ : ٨٧.

هذا غيض من فيض من مصادرترجمته ، كفانا مؤنة جمعها فضيلة البحاثة. الدكتور الشيخ محمد هادي الاميني ، في رسالة بعنوان مصادر ترجمة الشريف الرضي ، وتربو على المائتين.

(١) هكذا وردت في الأصل ، وفي نهج البلاغة وشروحه وردت( قلبه ).

(٢) هذه هي البروق اللامعة الدائرة على ألسنة أصحاب الحقيقة من الصوفية والحكماء المتألهين.

ولعل أول من سماها بهذا الإسم هو عليه السلام ، فحذا القوم حذوه ، فإنه عليه السلام رئيسهم وسيدهم ، وقد نقله إبن سينا عنهم في الإشارات عند ذكر السالك ٣ : ٣٨٤ قال : ثم إنه إذا بلغت الإرادة والرياضة حداً ما عنت له خلسات من إطلاع نور الحق لذيذة ، كانها بروق تومض ثم تخمد عنه ، وهي التي تسمى عندهم أوقاتاً ، وكل وقت يكتنفه وجد إليه ، ووجد عليه. إلى آخر ما قاله.

وقال القشيري في الرسالة عند ذكر الاُمور الواردة على العارفين ٤ : ١٤٤ : هي بروق تلمع ثم تخمد ، وانوار تبدوا ثم تخفى ، ما أحلى لو بقيت مع صاحبها إلى آخر ما قاله ، وكان الحلاج يعبر عن تلك البروق بالنور الشعشعاني ، وهذه اللفظة مما انكره عليه الظاهريون من علماء عصره ، وهو أحد الاُمور التي جعلوها من البواعث على قتله ، « منه ». قدس سره ، هامش المخطوط.

(٣) نهج البلاغة ٢ : ٢٢٩ ، خطبة رقم ٢١٥.

١٣٥

توضيح :

خطابه عليه‌السلام في هذا الدعاء بعضه متوجه إلى الهلال ، ومختص به ، كقوله عليه‌السلام : « جعلك مفتاح شهر حادث » وقوله عليه‌السلام : « أنْ يجعلك هلال بركة ، وهلال أمن ، وهلال سعد ».

وبعضه متوجه إلى جرم القمر ، كقوله عليه‌السلام : « وامتهنك بالزيادة والنقصان » ، فإن الهلال وإن حصل له الزيادة لكن لا يحصل له النقصان.

وأما إطلاق الهلال عليه في ليلتي ست وعشرين ، وسبع وعشرين ـ كما ذكره صاحب القاموس (١) ـ فالظاهر أنّه مجاز كما مرّ (٢) ، وعلى تقدير أن يكون حقيقة فليس هوالمخاطب بذلك قطعاً.

وكقوله عليه‌السلام « والإنارة والكسوف » فإنّ الكسوف لا يكون بشيء من معنييه للهلال.

ويمكن أن قوله عليه‌السلام : « المتردد في منازل التقدير » مما يتوجه إلى جرم القمر أيضاً. لا الهلال لأن الجمع المضاف يفيد العموم ، والهلال ـ وان كان يقطعها بأجمعها أيضاً ـ إلّا أنّ الظاهر أن مراده عليه‌السلام قطعها في كلّ شهر.

ثم لا استبعاد في أن يكون بعض تلك الفقر مقصوداً بها بعض الجرم أعني الهلال ، وبعضها مقصوداً بها كله.

ويمكن أن يجعل المقصود بكل الفقر كلّ الجرم ، بناء على [٣٣ / ] أنْ يراد من الهلال جرم القمر في الليالي الثلاث الأول ، لا المقدار الذي يرى منه مضيئاً فيها ، كما أنّ البدر هو جرم القمر ليلة الرابع عشر لا المقدار المرئي منه فيها.

وهذا وإن كان لا يخلو من بعد إلّا أنه يصير به الخطاب جارياً على وتيرة

________________________

(١) القاموس المحيط ٤ : ٧١ مادة « هلل » ، وأنظر صحيفة ١ من كتابنا هذا.

(٢) أنظر صحيفة : ٦٥ من كتابنا هذا.

١٣٦

واحدة كما هو الظاهر.

تكملة :

جَعْله عليه‌السلام مدخول « ما » التعجبية فعلاً دالاً على التعجب بجوهره ، ينبىء عن شدة تعجبه عليه‌السلام من حال القمر ، وما دبره الله سبحانه فيه ، وفي أفلاكه بلطائف صنعه وحكمته ، وهكذا كلّ من هو أشد اطلاعاً على دقائق الحكم المودعة في مصنوعات الله سبحانه فهو أشد تعجباً ، وأكثر استعظاماً.

ومعلوم أن ما بلغ إليه علمه عليه‌السلام من عجائب صنعه جلّ وعلا ، ودقائق حكمته في خلق القمر ، ونضد أفلاكه ، وربط ما ربطه به من مصالح العالم السفلّي ، وغير ذلك فوق ما بلغ إليه أصحاب الأرصاد ، ومن يحذو حذوهم من الحكماء الراسخين بأضعاف مضاعفة ، مع أنّ الذي اطلع عليه هؤلاء ـ من أحواله ، وكيفية أفلاكه ، وما عرفوه مما يرتبط به من أمور هذا العالم ـ اُمور كثيرة ، يحار فيها ذو اللبّ السليم ، قائلاً : ( رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ) (١).

وتلك الأمور ثلاثة أنواع :

الأول : ما يتعلق بكيفية أفلاكه ، وعدّها ونضدها ، وما يلزم من حركاتها من الخسوف والكسوف ، واختلاف التشكلات [٣٤ / أ] وتشابه حركة حامله حول مركز العالم لا حول مركزه ومحاذاة قطر تدويره نقطة سوى مركز العالم ، إلى غيرذلك مما هو مشروح في كتب الهيئة.

الثاني : ما يرتبط بنوره من التغيرات في بعض الأجسام العنصرية ، كزيادة الرطوبات في الأبدان بزيادته ، ونقصانها بنقصانه ، وحصول البُحارين (٢) للأمراض ، وزيادة مياه البحار والينابيع زيادة بينة في كل يوم من النصف ألأول

________________________

(١) آل عمران ، مكية ، ٣ : ١٩١.

(٢) البحارين ، البحران هو : التغير الذي يحدث للعليل فجأة في الأمراض الحمية الحادة ، بصحبه عرق غزير وانخفاض سريع في الحرارة. ولمزيد الاطّلاع انظر : القانون ٣ : ١٠٨ / الدلائل : ٢١٩ المعجم الوسيط ١ : ٤٠ ، لسان العرب ١٧ : ٤٩ ، الملحق العلمي.

١٣٧

من الشهر ، ثم أخذها في النقصان يوماً فيوماً في النصف الأخير منه ، وزيادة أدمغة الحيوانات وألبانها بزيادة النور ، ونقصانها بنقصانه.

وكذلك زيادة البقول والثمار نمواً ونضجاً عند زيادة نوره ، حتى أنّ المزاولين لها يسمعون صوتاً من القثاء والقرع والبطيخ عند تمدده وقت زيادة النور ، وكإبلاء نور القمر الكتان ، وصبغه بعض الثمار ، إلى غيرذلك من الأمور التي تشهد بها التجربة (١).

قالوا : وإنّما اختص القمر بزيادة ما نيط به من أمثال هذه الأمور بين سائر الكواكب لأنه أقرب [٣٤ / ب] إلى عالم العناصر منها ؛ ولأنه مع قربه أسرع حركة فيمتزج نوره بأنوار جميع الكواكب ، ونوره أقوى من نورها ، فيشاركها شركة غالب عليها فيما نيط بنورها من المصالح بإذن خالقها ومبدعها جلّ شأنه.

الثالث : ما يتعلق به من السعادة والنحوسة ، وما يرتبط به من الأمور التي هو علامة على حصولها في هذا العالم ، كما ذكره الديانيون من المنجمين ، ووردت به الشريعة المطهرة على الصادع بها أفضل التسليمات.

كما رواه الشيخ الجليل عماد الإِسلام ، محمد بن يعقوب الكليني قدس الله روحه ، في الكافي عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « من سافر أو تزوج والقمر في العقرب لم ير الحسنى » (٢).

وكما رواه أيضا في الكتاب المذكور عن الكاظم عليه‌السلام : « من تزوج في محاق الشهر فليسلّم لسقط الولد » (٣).

وكما رواه شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي طاب ثراه في تهذيب الأخبار عن الباقر عليه‌السلام : « أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بات ليلة

________________________

(١) لمعرفة المزيد من ذلك انظر : كتاب الدلاثل : ٨٢ وما بعدها ، وغيره من الكتب المختصّة بهذا العلم.

(٢) الكافي ٨ : ٢٧٥ ، الحديث ٤١٦ / وأنظر علل الشرائع : ٥١٤.

(٣) الكافي ٥ : ٤٩٩ ، الحديث ٢ / وانظر من لا يحضره الفقيه ٣ : ٢٥٤ ، الحديث ١٢٠٦ / تهذيب الأحكام ٧ : ٤١١ ، الحديث ١٦٤٣ / علل الشرائع : ٥١٤.

١٣٨

عند بعض نسائه فانكسف القمرفي تلك الليلة فلم يكن منه فيها شيء.

فقالت له زوجته : يا رسول الله بابي أنت وأمي كل (١) هذا البُغْض؟

فقال : لها : ( ويحك هذا الحادث في السماء فكرهت أن [٣٥ / أ]

وفي آخر الحديث ما يدل على أن المجامع في تلك الليلة إن رزق من جماعه ولداً وقد سمع بهذا الحديث لا يرى ما يحب (٢).

هداية :

ما يدعيه المنجمون من ارتباط بعض الحوادث السفليّة بالأجرام العلوية إن زعموا أنّ تلك الأجرام هي العلة المؤثرة في تلك الحوادث بالاستقلال ، أو أنّها شريكة في التاثير ، فهذا لا يحل للمسلم اعتقاده.

وعلم النجوم المبتني على هذا كفر والعياذ بالله ، وعلى هذا حمل ما ورد في الحديث من التحذير من علم النجوم والنهي عن اعتقاد صحته.

وإن قالوا : إنّ اتصالات تلك الأجرام وما يعرض لها من الأوضاع علامات على بعض حوادث هذا العالم مما يوجده الله سبحانه بقدرته وإرادته ؛ كما أنّ

________________________

(١) لفظة « كل » يمكن أن تقرأ بالنصب على المفعولية المطلقة ، أي : تبغضي كلّ هذا البعض ؛ ويمكن أن تكونة مرفوعة بالإبتداء بحذف الخبر ، أي : كلُّ هذا البغض حاصل منك لي ، منه قدس سره ، هامش المخطوط.

ثم أن هذا المقطع من الحديث ـ قول الزوجة ـ ورد بالفاظ مختلفة انظر مصادر ألحديث الآتية.

والفيض الكاشاني ـ قدس سره ـ في كتابه الوافي ١٢ : ١٠٥ ، أو المجلد ألثالث كتاب النكاح الباب ١٠٦ ، بعد أن أثبت أن بين الفقيه والتهذيب والكافي اختلاف في هذه العبارة قال : قولها : أكل هذا البغض ، تقديره اتبغضني بغضا يبلغ كل هذا ، فحذف واقيم مقام المحذوف ، وقد صحف بتصحيفات باردة ، وفسر تفسيرات كاسدة ، وليس إلّا كما ذكرناه فانه كلمة شائعة لها نظيرات.

(٢) التهذيب ٧ : ٤١١ قطعة من الحديث ١٦٤٢ وفيه « كل هذا للبغض ». وفيه ما لا يخفى حيث إنّ اللام فيه للعهد ، وهو بعيد / وفي الطبعة الحجرية منه ٢ : ٢٢٩ نحوه ، وفي هامشه : أكل هذا للبغض ، وفي ترتيب التهذيب ٣ : ١٢٧ هكذا : أكلّ هذا البغض / وفي الكافي ٥ : ٤٩٨ / حديث ١ / من لا يحضره الفقيه ٣ : ٢٥٥ حديث ١٢٠٧ / المحاسن : ٣١١ حديث ٢٦ من كتاب العلل / وانظر روضة المتقين ٨ : ١٩٧. وفي الجميع كما تقدم قطعة من حديث.

١٣٩

حركات النبض واختلافات أوضاعه علامات يستدل بها الطبيب على ما يعرض للبدن من قرب الصحّة واشتداد المرض ونحوه وكما يستدلّ باختلاج بعض الأعضاء على بعض الأحوال المستقبلة ؛ فهذا لا مانع منه ولا حرج في اعتقاده.

وما روي من صحة علم النجوم ، وجواز تعلمه محمول على هذا المعنى ، كما رواه الشيخ الجليل عماد الاسلام محمد بن يعقوب الكليني ، في كتاب الروضة من الكافي ، عن عبد الرحمن بن سيابة (١) ، قال ، قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : جعلت فداك إنّ الناس يقولون : إن النجوم لا يحل [٣٥ / ب] النظر فيها ، وهي تعجبني ، فإن كانت تضر بديني فلا حاجة لي في شيء يضر بديني ، وإن كانت لا تضر بديني فوالله إني لأشتهيها ، وأشتهي النظر فيها.

فقال عليه‌السلام : « ليس كما يقولون ، لا تضرّ بدينك ».

ثم قال : « إنكم تبصرون في شيء منها كثيره لا يدرك ، وقليله لا ينتفع به ، تحسبون على طالع القمر ».

ثم قال : « أتدري كم بين المشتري والزهرة من دقيقة »؟ فقلت : لا والله.

قال : « أتدري كم بين الزهرة والقمر من دقيقة »؟ قلت : لا والله.

قال : « أفتدري كم بين الشمس وبين السكينة (٢) من دقيقة »؟ قلت : لا والله ما سمعته من أحد من المنجمين قط.

فقال : « أفتدري كم بين السكينة واللوح المحفوظ من دقيقة »؟ قلت :

________________________

(١) عبد الرحمن بن سيابة الكوفي البجلي البزار ، من أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام. وروى عنه. وعنه روى أبان بن عثمان الأحمر ، والحسن بن محبوب ، وأحمد بن محمد بن عيسى عن البرقي عنه ، ويونس بن عبد الرحمن وغيرهم. اعتمده الإمام الصادق عليه‌السلام في توزيع المال على عيالات من قتل مع زيد بن علي بن الحسين عليهما‌السلام.

تنقيح المقال ٢ : ١٤٤ رقم ٦٣٧٨ / رجال الشيخ الطوسي : ٢٣٠ رقم ١٢٠ / جامع الرواة ١ : ٤٥١ / مجمع الرجال ٤ : ٧٩ / اختيار معرفة الرجال ، الأرقام : ٦٢٢ ، ٧٣٤ ، ١٤٧ ، وغيرها / معجم رجال الحديث ٩ : ٣٣٢ / ٦٣٨٥.

(٢) في المصدر عوضها « السنبلة » ، والمثبت أفضل للمجهولية.

١٤٠