الحدائق الناضرة - ج ١٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٤

الزكاة فلا تدل على وجوب البسط.

أقول : والتحقيق في هذا المقام أن يقال لا ريب أن عبارة الشيخ في المبسوط راجعة في المعنى إلى روايتي أحمد بن محمد وحماد بن عيسى المتقدمتين (١) بل هي نقل لهما بزيادة موضحة لإجمالهما ، ونحوهما في ذلك أيضا الرواية التي نقلناها عن رسالة المحكم والمتشابه للسيد المرتضى (رضي‌الله‌عنه) وحينئذ يقع التعارض بين الروايات المذكورة وبين صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر المذكورة ، إلا أن صحيحة ابن أبي نصر ليس فيها من الصراحة ما في روايتي أحمد بن محمد وحماد بن عيسى ، والظاهر من معناها هو أنه لما كان ظاهر الآية البسط على الطوائف الثلاث أثلاثا سأله السائل أنه لو كانت طائفة من هذه الطوائف الثلاث كثيرة متعددة والطائفة الأخرى واحدا أو اثنين فهل الواجب أن يدفع إلى إحداهما كما يدفع إلى الأخرى ويساوي بينهما كما هو الظاهر من الآية؟ أجاب عليه‌السلام بأن ذلك إلى الإمام وما يراه كما كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يقسم بما يراه من المساواة إن رأى المصلحة فيها أو العدم والزيادة والنقيصة بما يراه من الوجوه المرجحة. وحملها على ما هو أعمّ ـ من أنه يجوز أن يخص بذلك السهم الذي للطوائف الثلاث واحدا من طائفة كما هو المدعى في المسألة الأولى أو طائفة من الطوائف الثلاث كما هو المدعى في المسألة الثانية ـ بعيد غاية البعد عن ظاهرها بالتقريب الذي ذكرناه ، فالاستناد إليها في ذلك مشكل غاية الإشكال والخروج عن ظاهر الأخبار التي أشرنا إليها مع صراحة بعضها وظاهرية بعضها مشكل.

وأما ما ذكروه في الجواب عن احتجاج الشيخ بالآية ـ من أنها مسوقة لبيان المصرف كما في آية الزكاة ـ ففيه أن ما ذكره الشيخ في بيان الاستدلال بالآية هو الظاهر الذي لا ينكر ، والحمل على ما ذكروه خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا بدليل ، والقياس على آية الزكاة ممنوع بأنه قد قام الدليل ثمة من خارج على عدم

__________________

(١) ص ٣٧٠ و ٣٧١.

٣٨١

البسط وبه خصت الآية ولولاه لكان القول بالبسط جيدا ، والدليل هنا غير موجود بل ظاهر الروايات التي ذكرناها موافق لظاهر الآية. وأيضا لو تم ما ذكروه من أن الآية إنما سيقت لبيان المصرف كما في آية الزكاة للزم جواز صرف الخمس كله إلى أحد الأصناف الستة ولا قائل به بالكلية لأنهم لا يختلفون في أن النصف للإمام عليه‌السلام وبذلك يظهر لك ضعف القول المشهور في كلتا المسألتين وقوة ما قابله مضافا إلى موافقته للاحتياط كما لا يخفى.

الثالثة ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أن بني المطلب لا يعطون من الخمس شيئا ، وقال الشيخ المفيد في الرسالة الغرية أنهم يعطون واختاره ابن الجنيد على ما نقله في المختلف ، وما ذكره الشيخ المفيد هنا مبني على ما تقدم في كتاب الزكاة من تحريم الزكاة على المطلبي استنادا إلى موثقة زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) أنه قال : «لو كان العدل ما احتاج هاشمي ولا مطلبي إلى صدقة إن الله جعل لهم في كتابه ما فيه سعتهم». ولا ريب أنها دالة على تحريم الزكاة واستحقاق الخمس. إلا أنه قد تقدم الجواب عنها وأن المراد بالمطلبي إنما هو المنسوب إلى عبد المطلب بالنسبة إلى الجزء الأخير من المركب كما هو القاعدة عندهم.

ثم إنه من ما يدل هنا على الاختصاص بالهاشمي قوله عليه‌السلام في صحيحة حماد ابن عيسى عن بعض أصحابه عن العبد الصالح عليه‌السلام (٢) قال : «ومن كانت أمه من بني هاشم وأبوه من سائر قريش فإن الصدقة تحل له وليس له من الخمس شي‌ء» وقال فيها أيضا «وهؤلاء الذين جعل الله لهم الخمس هم قرابة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهم بنو عبد المطلب أنفسهم الذكر والأنثى منهم ليس فيهم من أهل بيوتات قريش ولا من العرب أحد. الحديث».

الرابعة ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أن الإمام عليه‌السلام يقسم النصف الذي يخص الطوائف الثلاث عليهم على قدر الكفاية مقتصدا فإن فضل

__________________

(١) الوسائل الباب ٣٣ من المستحقين للزكاة.

(٢) الوسائل الباب ١ من قسمة الخمس.

٣٨٢

كان له وإن أعوز كان عليه أن يتمه من نصيبه ، وخالف في هذا الحكم ابن إدريس فقال لا يجوز له أن يأخذ فاضل نصيبهم ولا يجب عليه إكمال ما نقص لهم.

ويدل على القول المشهور ما قدمناه من مرسلتي أحمد بن محمد وحماد بن عيسى

احتج ابن إدريس بوجوه ثلاثة : الأول ـ أن مستحق الأصناف يختص بهم ولا يجوز التسلط على مستحقهم من غير إذنهم لقوله عليه‌السلام (١) «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه». الثاني ـ أن الله سبحانه جعل للإمام قسطا وللباقين قسطا فلو أخذ الفاضل وأتم الناقص لم يبق للتقدير فائدة. الثالث ـ أن الذين يجب الإنفاق عليهم محصورون وليس هؤلاء من الجملة فلو أوجبنا عليه إتمام ما يحتاجون إليه لزدنا في من يجب عليهم الإنفاق فريقا لم يقم عليه دلالة.

وأجاب المحقق في المعتبر عن هذه الوجوه بأجوبة اعترضه فيها صاحب المدارك ومن تبعه من أراد الوقوف عليها فليرجع إليها ثمة.

والتحقيق في الجواب الذي لا يداخله الشك ولا الارتياب أن يقال إن ما ذكره ابن إدريس جيد بناء على أصله الغير الأصيل وقواعده المخالفة لما عليه الأخبار والعلماء جيلا بعد جيل ، وأما من تمسك بالأخبار المعتضدة بعمل الأصحاب في جملة الأعصار والأدوار فلا يخفى عليه أن المفهوم منها هو أنه حال وجود الإمام عليه‌السلام ينبغي إيصال مجموع الخمس إليه وجوبا أو استحبابا ، وأما أن الواجب عليه فيه ما ذا فنحن غير مكلفين بالبحث عنه بل ربما أشعر الكلام في ذلك بنوع من سوء الأدب في حقه عليه‌السلام فإنه المرجع في جميع الأحكام والأعرف في كل حلال وحرام إلا أن المفهوم من أخبارهم (عليهم‌السلام) أنه ربما عمل فيه بعد وصوله إليه بما

__________________

(١) الوسائل الباب ٣ من الأنفال رقم ٦ والباب ١ من الغصب عن صاحب الزمان «ع» «لا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه». وفي مستدرك الوسائل الباب ١ من الغصب «لا يحل مال المسلم إلا عن طيب نفس منه». وفي نيل الأوطار ج ٥ ص ٢٦٨ «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه» ...

٣٨٣

دلت عليه روايتا حماد بن عيسى وأحمد بن محمد من القسمة وأخذ الزائد وإتمام الناقص كما صرح به الأصحاب ، وربما أباح صاحب الخمس به كملا كما ستأتيك الأخبار به إن شاء الله تعالى مكشوفة القناع ، ولا بعد في جواز التصرف له حسبما أراد وما رآه من المصلحة في العباد فإن الأرض وما فيها كله له عليه‌السلام كما ستأتيك إن شاء الله تعالى الأخبار به في المقام (١) وقد تقدمت (٢) رواية أبي خالد الكابلي الدالة على أن للإمام عليه‌السلام أن يعطي ما في بيت المال لرجل واحد وأنه لا يفعل إلا بأمر الله عزوجل.

وبالجملة فإنه متى ثبت عنه بالأخبار المتفق عليها بين الأصحاب فعل من الأفعال وجب قبوله وحمله على أنه الحق الوارد من الملك المتعال ، وما يتراءى من مخالفة ذلك لظاهر القرآن كما هو أقوى مستند للخصم في هذا المكان ففيه أنهم قد اتفقوا على تخصيص أحكام القرآن في غير مقام بالأخبار الثابتة عنهم (عليهم‌السلام) وبذلك يظهر لك أن القول المشهور ليس على إطلاقه كما يدعونه من أن مصرف الخمس دائما على هذه الكيفية بل ربما وقع كذلك وربما لم يقع.

قال المحقق في المعتبر هنا ـ ونعم ما قال في الجواب عن الطعن في الروايتين المشار إليهما بضعف الإسناد ـ ما صورته : والذي ينبغي العمل به اتباع ما نقله الأصحاب وأفتى به الفضلاء ولم يعلم من باقي العلماء رد لما ذكر من كون الإمام (عليه‌السلام) يأخذ ما فضل ويتم ما أعوز ، وإذا سلم النقل من المعارض ومن المنكر لم يقدح إرسال الرواية الموافقة لفتواهم ، فإنا نعلم مذهب أبي حنيفة والشافعي وإن كان الناقل عنه واحدا ، وربما لم يعلم الناقل عنه بلا فصل وإن علمنا نقل المتأخرين له ، وليس كل ما أسند عن مجهول لا يعلم نسبته إلى صاحب المقالة ، ولو قال إنسان لا أعلم مذهب أبي هاشم في الكلام ولا مذهب الشافعي في الفقه لأنه لم ينقل مسندا

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٤٠٧.

(٢) ص ٣٥٧ و ٣٥٨.

٣٨٤

كان متجاهلا ، وكذا مذهب أهل البيت (عليهم‌السلام) ينسب إليهم بحكاية بعض شيعتهم سواء أرسل أو أسند إذا لم ينقل عنهم ما يعارضه ولا رده الفضلاء منهم. انتهى. ومرجعه إلى جبر الأخبار الضعيفة السند باتفاق الأصحاب على العمل بها ، وهو عند التأمل الصادق حق لا ريب فيه ولكن الاعتماد حينئذ إنما هو على اتفاق الأصحاب على الحكم المذكور ، ولا شك أن مذهب كل إمام وصاحب مقالة إنما يعلم بنقل أتباعه ومقلديه وشيعته المشهورين بمتابعته والأخذ عنه والاعتماد عليه كما أشار إليه في المعتبر من أصحاب المذاهب الأربعة ونحوهم ، إلا أن جعل هذه المسألة من قبيل ذلك لا يخلو من إشكال.

وبالجملة فالمرجع إلى ما حققناه أولا فإنه هو المفهوم من الأخبار التي عليها الاعتماد في الإيراد والإصدار.

الخامسة ـ الظاهر أنه لا خلاف في أن ابن السبيل هنا كما تقدم في كتاب الزكاة لا يشترط فيه الفقر بل المعتبر حاجته في بلد التسليم وإن كان غنيا في بلده ، إنما الخلاف في اليتيم وهو الذي لا أب له فقيل باعتبار الفقر فيه والظاهر أنه هو المشهور ، واحتجوا عليه بأن الخمس جبر ومساعدة فيختص به أهل الحاجة كالزكاة. ولأن الطفل لو كان له أب ذو مال لم يستحق شيئا فإذا كان له مال كان أولى بالحرمان إذ وجود المال له أنفع من وجود الأب. وقيل بعدم اعتبار الفقر وهو قول الشيخ في المبسوط وابن إدريس تمسكا بعموم الآية ، وبأنه لو اعتبر الفقر فيه لم يكن قسما برأسه.

أقول : والظاهر هو القول المشهور لا لما ذكر من التعليل فإنه وإن كان من حيث الاعتبار لا يخلو من قوة إلا أنه لا يصلح لتأسيس حكم شرعي بل لظاهر صحيحة حماد بن عيسى عن بعض أصحابه المتقدمة حيث قال في آخرها (١) «وليس في مال الخمس زكاة لأن فقراء الناس جعل أرزاقهم في أموال الناس على ثمانية أسهم فلم يبق منهم أحد ، وجعل لفقراء قرابة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) نصف

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من قسمة الخمس.

٣٨٥

الخمس فأغناهم به عن صدقات الناس (١) فلم يبق فقير من فقراء الناس ولم يبق فقير من فقراء قرابة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلا وقد استغنى فلا فقير ، ولذلك لم يكن على مال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والوالي زكاة لأنه لم يبق فقير محتاج. الحديث».

وما ذكروه من ما قدمنا نقله عنهم يصلح توجيها للنص بل هو عين معنى النص المذكور إلا أنه من حيث عدم الإسناد إلى الإمام لا يصلح أن يكون مستندا في الأحكام.

وأما ما ذكر في حجة القول الثاني ـ من أنه لو اعتبر الفقر فيه لم يكن قسما برأسه ـ ففيه أنه يمكن أن يكون جعله قسما برأسه مع اندراجه في المساكين لمزيد التأكيد مثل الأمر بالمحافظة على الصلوات والصلاة الوسطى (٢) مع اندراجها في الصلوات المذكورة قبلها.

السادسة ـ الظاهر أنه لا خلاف في أنه لا يجوز نقل الخمس مع وجود المستحق ، والكلام هنا جار على ما تقدم في نقل الزكاة بلا إشكال لأن الجميع من باب واحد فلا حاجة إلى التطويل بالتفصيل ، وقد تقدم تحقيق الكلام في المقام في كتاب الزكاة.

السابعة ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه يعتبر في الطوائف الثلاث أعني اليتامى والمساكين وابن السبيل الانتساب إلى عبد المطلب جد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وعليه تدل الأخبار المتكاثرة ، ومنها ـ ما تقدم في أول الفصل من المراسيل الثلاث المتقدمة وكذا الرواية المنقولة من رسالة المحكم والمتشابه (٣).

ومثل ذلك أيضا ما رواه في التهذيب (٤) بسنده عن سليم بن قيس الهلالي

__________________

(١) «وصدقات النبي (ص) وولي الأمر».

(٢) في قوله تعالى «حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى» سورة البقرة الآية ٢٤٠.

(٣) ص ٣٧٠ و ٢٧١.

(٤) ج ١ ص ٣٨٥ وفي الوسائل الباب ١ من قسمة الخمس رقم ٤.

٣٨٦

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «سمعته يقول كلاما كثيرا ثم قال : وأعطهم من ذلك كله سهم ذي القربى الذين قال الله تعالى «إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» (١) نحن والله عني بذي القربى وهم الذين قرنهم الله بنفسه وبنبيه فقال (٢) «فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» منا خاصة ولم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيبا أكرم الله نبيه وأكرمنا أن يطعمنا أوساخ أيدي الناس».

وما رواه الكليني عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام (٣) «في قول الله عزوجل (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) (٤) قال هم قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والخمس لله وللرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولنا».

ومنها ـ ما قدمنا نقله في سابق هذه المسألة من عجز صحيحة حماد بن عيسى عن بعض أصحابه زيادة على ما في صدرها الذي قدمناه ثمة (٥).

فإن هذه الأخبار قد اشتركت في الدلالة صريحا على أن الخمس لا يخرج منه شي‌ء إلى غير الإمام عليه‌السلام والطوائف الثلاث المنتسبين إليهم (عليهم‌السلام).

ونقل عن ابن الجنيد أنه قال : وأما سهام اليتامى والمساكين وابن السبيل وهي نصف الخمس فلأهل هذه الصفات من ذوي القربى وغيرهم من المسلمين إذا استغنى عنها ذوو القربى ولا يخرج من ذوي القربى ما وجد فيهم محتاج إليها إلى غيرهم ومواليهم عتاقة أحرى بها من غيرهم. انتهى.

قال في المدارك بعد نقل ذلك إلى قوله : «إذا استغنى عنها ذوو القربى» ما صورته : والظاهر أن هذا القيد على سبيل الأفضلية عنده لا التعيين. ثم قال : ويدل على ما ذكره إطلاق الآية الشريفة وصحيحة ربعي المتقدمة (٦) وغيرها من الأخبار والعلامة في المختلف نقل عن ابن الجنيد أنه احتج بالعموم ثم قال : والجواب

__________________

(١ و ٢ و ٤) سورة الأنفال الآية ٤٣.

(٣) الوسائل الباب ١ من قسمة الخمس.

(٥) ٣٧١ و ٣٨٥.

(٦) تقدمت ص ٣٧٣.

٣٨٧

أن العام هنا مخصوص بالإجماع بالإيمان فيكون مخصوصا بالقرابة لما تقدم. قال في المدارك بعد نقل ذلك : وهو جيد لو كان النص المتضمن لذلك صالحا للتقييد وكيف كان فلا خروج عن ما عليه الأصحاب.

أقول : العجب منه (قدس‌سره) في ميله إلى هذه الأقوال الشاذة النادرة المخالفة للأخبار المتكاثرة واتفاق الأصحاب قديما وحديثا من ما ذكر هنا وما تقدم بمجرد هذه الخيالات الضعيفة والتوهمات السخيفة ، ولا ريب أن ما ذكره ابن الجنيد هنا هو مذهب العامة (١) كما نقله في المعتبر حيث قال بعد نقل قول ابن الجنيد وإنه قال إنه يدخل معهم بنو المطلب ويشركهم غيرهم من أيتام المسلمين ومساكينهم وأبناء سبيلهم لكن لا يصرف إلى غير القرابة إلا بعد كفايتهم : ولم أعرف له موافقا من الإمامية ، وأما شركة بني المطلب فالخلاف فيهم كما مر في باب الزكاة ، وأطبق الجمهور على عمومه في أيتام المسلمين ومساكينهم وأبناء سبيلهم متمسكين بإطلاق اللفظ وعمومه. انتهى.

وأما ما ادعاه من عموم الآية فهو مخصوص بالأخبار التي ذكرناها ، وهل يجسر ذو دين وديانة على رد هذه الأخبار المستفيضة في الأصول المتكررة في غير كتاب وطرحها بمجرد ضعف أسنادها بهذا الاصطلاح الذي هو إلى الفساد كما عرفت هنا أقرب من الصلاح حتى أنها لا تصلح بذلك إلى تخصيص الآية كما زعمه وتوهمه؟ ما هذه إلا خرافات باردة وتمحلات شاردة.

وأما ما ادعاه من دلالة صحيحة ربعي المتقدمة وغيرها من الأخبار فهو من أعجب العجاب عند ذوي البصائر والأبصار ، وأي دلالة في صحيحة ربعي أو غيرها على إعطاء الخمس لغير بني هاشم؟ وغاية ما تدل عليه صحيحة ربعي المذكورة هو إطلاق اليتامى والمساكين وابن السبيل حيث قال فيها : «ثم يقسم الأربعة الأخماس بين ذوي القربى واليتامى والمساكين وأبناء السبيل» ولا ريب أن هذا الإطلاق

__________________

(١) المحلى ج ٧ ص ٣٢٧ والمغني ج ٦ ص ٤١٣ ومنار السبيل ص ٢٩٤.

٣٨٨

يجب تقييده بالأخبار المتقدمة ، ولكنه (قدس‌سره) لتصلبه في هذا الاصطلاح جمد على إطلاق هذه الرواية وألغى تلك الأخبار المتكاثرة لعدم صحة سند شي‌ء منها ثم العجب منه مع ذلك في قوله أخيرا : إلا أنه لا خروج عن ما عليه الأصحاب وهل هو إلا مجرد تقليد لهم في هذا الباب؟ ولا يخفى ما في هذا الكلام من الاضطراب الناشئ عن التصلب في هذا الاصطلاح وإلا فجميع الأصحاب من أصحاب هذا الاصطلاح وغيرهم لم يخالف في هذه المسألة سوى ابن الجنيد الذي طعن عليه الأصحاب بموافقته العامة في جملة من فتاواه ومنها هذا الموضع.

وبالجملة فالمسألة أظهر من أن تحتاج إلى تطويل زيادة على ما ذكرناه.

الثامنة ـ قد صرح جمع من الأصحاب (رضوان الله عليهم) باشتراط الإيمان في المستحق فلا يعطى غير المؤمن ، وتردد المحقق في الشرائع نظرا إلى إطلاق الآية وإلى أن الخمس عوض عن الزكاة والزكاة مشروطة بالإيمان اتفاقا نصا وفتوى. وفي المعتبر جزم بالاشتراط واستدل عليه بأن غير المؤمن محاد لله بكفره فلا يفعل معه ما يؤذن بالموادة. قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : وهذا الدليل مخالف لما هو المعهود من مذهبه. انتهى. وهو كذلك فإن مذهبه الحكم بإسلام المخالفين ووجوب إجراء أحكام الإسلام عليهم بل له غلو ومبالغة في ذلك فكيف حكم هنا بكفرهم؟ قال المحقق الشيخ علي (قدس‌سره) ومن العجائب هاشمي مخالف يرى رأى بني أمية فيشترط الإيمان لا محالة. وظاهر صاحب الذخيرة التردد في ذلك تبعا للمحقق ، وهو الظاهر من صاحب المدارك وإن لم يصرح به حيث إنه اقتصر على نقل القولين وبيان وجه التردد ولم يحكم بشي‌ء في البين. والأصح الاشتراط وإن قلنا بإسلام المخالف كما ذهبوا إليه لقوله عليه‌السلام في رواية حماد بن عيسى (١) «وإنما جعل الله هذا الخمس خاصة لهم دون مساكين الناس وأبناء سبيلهم عوضا لهم من صدقات الناس تنزيها من الله لهم لقرابتهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكرامة

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من قسمة الخمس.

٣٨٩

من الله لهم عن أوساخ الناس فجعل لهم خاصة من عنده ما يغنيهم به عن أن يصيرهم في موضع الذل والمسكنة. الحديث». دل على أن الخمس من الله عزوجل كرامة لذريته صلى‌الله‌عليه‌وآله وتنزيه ولا ريب أن المخالف ليس أهلا لذلك بالاتفاق فلا يجوز إعطاؤه. هذا مع أن الحق عندنا في المسألة هو كفره وشركه وأنه شر من اليهودي والنصراني كما حققناه في موضعه اللائق به.

المطلب الثاني ـ في بيان حكم من انتسب إلى هاشم بالأم دون الأب ، المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه يعتبر في الطوائف الثلاث انتسابهم إلى هاشم بالأبوة فلو انتسبوا بالأم لم يعطوا من الخمس شيئا وإنما يعطون من الزكاة ، وذهب السيد المرتضى (رضي‌الله‌عنه) إلى أنه يكفي في الاستحقاق الانتساب بالأم ويكون الحكم فيه حكم المنتسب بالأب من غير فرق ، ومنشأ هذا الخلاف أن أولاد البنت أولاد حقيقة أو مجازا فالمرتضى ومن تبعه على الأول والمشهور الثاني

والأصحاب لم ينقلوا الخلاف هنا إلا عن السيد (رضي‌الله‌عنه) وابن حمزة مع أن شيخنا الشهيد الثاني في شرح المسالك في بحث ميراث أولاد الأولاد نقله عن المرتضى وابن إدريس ومعين الدين المصري ، ونقله في بحث الوقف على الأولاد عن الشيخ المفيد والقاضي وابن إدريس ، ونقل بعض أفاضل العجم في رسالة له صنفها في هذه المسألة واختار فيها مذهب السيد هذا القول أيضا عن القطب الراوندي والفضل بن شاذان ، ونقله المقداد في كتاب الميراث من كتابه كنز العرفان عن الراوندي والشيخ المحقق الشيخ أحمد بن المتوج البحراني الذي كثيرا ما يعبر عنه بالمعاصر ، ونقله في الرسالة المشار إليها أيضا عن ابن أبي عقيل وأبي الصلاح والشيخ الطوسي في الخلاف وابن الجنيد وابن زهرة في الغنية ، ونقل عن المحقق المولى أحمد الأردبيلي الميل إليه أيضا ، وهو مختار المحقق المدقق المولى العماد مير محمد باقر الداماد وله في المسألة رسالة جيدة قد وقفت عليها ، واختاره أيضا المحقق المولى محمد صالح المازندراني في شرح الأصول والسيد المحدث السيد

٣٩٠

نعمة الله الجزائري وشيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني ، وسيأتي نقل كلامهم في المقام.

وأنت خبير بأن جملة من هؤلاء المذكورين وإن لم يصرحوا في مسألة الخمس بما نقلناه عن السيد المرتضى (رضي‌الله‌عنه) إلا أنهم في مسائل الميراث والوقف ونحوها لما صرحوا بأن ولد البنت ولد حقيقة اقتضى ذلك إجراء حكم الولد الحقيقي عليه في جميع الأحكام التي من جملتها جواز أخذ الخمس وتحريم أخذ الزكاة ومسائل الميراث والوقوف ونحوها ، لأن مبنى ذلك كله على كون المنتسب بالأم ابنا حقيقيا فكل من حكم بكونه ابنا حقيقيا يلزمه أن يجري عليه هذه الأحكام ، بل الخلاف المنقول هنا عن السيد إنما بنوا فيه على ما ذكره في مسائل الميراث والوقوف ونحوها من حكمه بأن ابن البنت ابن حقيقة كما سيأتيك ذكره.

ولا بأس بنقل بعض عباراتهم المشار إليها في المقام ، قال شيخنا الشهيد الثاني (أعلى الله رتبته) في كتاب الميراث من المسالك في مسألة أولاد الأولاد هل يقومون مقام آبائهم في الميراث فلكل نصيب من يتقرب به أو يقتسمون اقتسام أولاد الصلب والابن له؟ بعد نسبة القول الأول للأكثر : وقال المرتضى وتبعه جماعة : منهم ـ معين الدين المصري وابن إدريس أن أولاد الأولاد يقتسمون تقاسم الأولاد من غير اعتبار من تقربوا به ، ومستندهم أنهم أولاد حقيقة فيدخلون في عموم «يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» (١) ويدل على كونهم أولادا وإن انتسبوا إلى الأنثى تحريم حلائلهم بقوله تعالى «وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ» (٢) وتحريم بنات الابن والبنت بقوله تعالى «وَبَناتُكُمْ» (٣) وحل رؤية زينتهن لأبناء أولادهن مطلقا بقوله «أَوْ أَبْنائِهِنَّ» (٤) وحلها لأولاد أولاد بعولتهن مطلقا

__________________

(١) سورة النساء الآية ١٣.

(٢ و ٣) سورة النساء الآية ٢٨.

(٤) سورة النور الآية ٣٢.

٣٩١

بقوله «أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ» (١) والإجماع على أن أولاد الابن وأولاد البنت يحجبون الأبوين عن ما زاد عن السدسين والزوج إلى الربع والزوجة إلى الثمن ، وكل ذلك في الآية متعلق بالولد ، فمن سماه الله ولدا في حجب الأبوين والزوجين هو الذي سماه ولدا في قوله «يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ» (٢) إلى أن قال (قدس‌سره) : وهذه توجيهات حسنة إلا أن الدليل قد قام أيضا على أن أولاد البنات ليسوا أولادا حقيقة لثبوت ذلك في اللغة والعرف وصحة السلب الذي هو علامة المجاز. إلى آخره

وقال العلامة في المختلف نقلا عن ابن إدريس في هذه المسألة : وقال ابن إدريس بعض أصحابنا يذهب إلى أن ابن البنت يعطى نصيب البنت وبنت الابن تعطى نصيب الابن ، وذهب آخرون من أصحابنا إلى خلاف ذلك وقالوا ابن البنت ولد ذكر حقيقة فنعطيه نصيب الولد الذكر دون نصيب أمه وبنت الابن بنت حقيقة نعطيها نصيب البنت دون نصيب الابن الذي هو أبوها.

قال : واختاره السيد المرتضى واستدل على صحته بما لا يمكن للمنصف دفعه من الأدلة القاهرة اللائحة والبراهين الواضحة ، قال (رضي‌الله‌عنه) اعلم. ثم ساق كلام المرتضى وهو كلام طويل يتضمن البحث والاستدلال مع المخالفين له في هذه المسألة وإلزامهم بوجوه ذكرها.

ومن جملة كلامه (قدس‌سره) في هذا المقام (فإن قيل) فما دليلكم على صحة ما ذهبتم إليه من توريث أولاد الأولاد والقسمة للذكر مثل حظ الأنثيين؟ (قلنا) دليلنا قوله تعالى «يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» (٣) ولا خلاف بين أصحابنا في أن ولد البنين وولد البنات وإن سفلوا تقع عليهم هذه التسمية وتتناولهم على سبيل الحقيقة ، ولهذا حجبوا الأبوين إلى السدسين بولد الولد وإن هبط والزوج من النصف إلى الربع والزوجة إلى الثمن ، فمن سماه الله تعالى ولدا في حجب الأبوين وحجب الزوجين يجب أن يكون هو الذي سماه في قوله تعالى :

__________________

(١) سورة النور الآية ٣٢.

(٢ و ٣) سورة النساء الآية ١٣.

٣٩٢

«يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ» (١) فكيف يخالف بين حكم الأولاد ويعطى بعضهم للذكر مثل حظ الأنثيين والبعض الآخر نصيب آبائهم الذي يختلف ويزيد وينقص ويقتضي تارة تفضيل الأنثى على الذكر والقليل على الكثير وتارة المساواة بين الذكر والأنثى؟ وعلى أي شي‌ء يعول في الرجوع عن ظاهر كتابه تعالى؟ فأما مخالفونا فإنهم لا يوافقونا في تسمية ولد البنت بأنه ولد على الحقيقة وفيهم من وافق على ذلك ، ووافق جميعهم على أن ولد الولد وإن هبط يسمى ولدا على الحقيقة (٢). إلى أن قال : ومن ما يدل على أن ولد البنين والبنات يقع عليهم اسم الولد قوله تعالى : «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ» (٣) وبالإجماع أن بظاهر هذه الآية حرمت بنات أولادنا ، ولهذا لما قال الله تعالى «وَأَخَواتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ» (٤) ذكرهن في المحرمات لأنهن لم يدخلن تحت اسم الأخوات ، ولما دخل بنات البنات تحت اسم البنات لم يحتج أن يقول : وبنات بناتكم. وهذه حجة قوية في ما قصدناه. وقوله تعالى «وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ» (٥) وقوله تعالى : «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ... إلى قوله أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ» (٦) لا خلاف في عموم الحكم لجميع أولاد الأولاد من ذكور وإناث. ولأن الإجماع على تسمية الحسن والحسين (عليهما‌السلام) بأنهما ابنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنهما يفضلان بذلك ويمدحان ، ولا فضيلة ولا مدح في وصف مجاز مستعار. ولم تزل العرب في الجاهلية تنسب الولد إلى جده إما في موضع مدح أو ذم ولا يتناكرون ذلك ولا يحتشمون منه ، وقد كان يقال للصادق عليه‌السلام أبدا : أنت ابن الصديق لأن أمه بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر. ولا خلاف في أن عيسى عليه‌السلام من بني آدم وولده وإنما ينسب إليه بالأمومة دون

__________________

(١) سورة النساء الآية ١٣.

(٢) المغني ج ٥ ص ٥٦٠ و ٥٦١.

(٣ و ٤ و ٥) سورة النساء الآية ٢٨.

(٦) سورة النور الآية ٣٢.

٣٩٣

الأبوة (فإن قيل) اسم الولد يجري على ولد البنات مجازا وليس كل شي‌ء استعمل في غيره يكون حقيقة (قلنا) الظاهر من الاستعمال الحقيقة وعلى مدعي المجاز الدلالة. إلى أن قال العلامة في آخر كلام ابن إدريس : هذا كلام السيد المرتضى (رضي‌الله‌عنه) وهو الذي يقوى في نفسي وأفتي به وأعمل عليه لأن العدول إلى ما سواه عدول إلى غير دليل من كتاب ولا سنة مقطوع بها ولا إجماع منعقد ، بل ما ذهبنا إليه هو ظاهر الكتاب الحكيم ، والإجماع حاصل على أن ولد الولد ولد حقيقة. ولا يعدل عن هذه الأدلة القاطعة للأعذار إلا بأدلة مثلها توجب العلم ، ولا يلتفت إلى أخبار الآحاد في هذا الباب التي لا توجب علما ولا عملا ولا إلى كثرة القائلين به والمودعية كتبهم وتصانيفهم لأن الكثرة لا دليل معها. وإلى ما اختاره السيد المرتضى واخترناه ذهب الحسن بن أبي عقيل في كتاب التمسك وهذا الرجل من أجلة أصحابنا وفقهائنا وكان شيخنا المفيد يكثر الثناء عليه. انتهى وقال في المختلف في كتاب الخمس بعد ذكر القول المشهور أولا : وذهب السيد المرتضى إلى أن ابن البنت ابن حقيقة ، ومن أوصى بمال لولد فاطمة (عليها‌السلام) دخل فيه أولاد بنيها وأولاد بناتها حقيقة ، وكذا لو وقف على ولده دخل فيه ولد البنت لدخول ولد البنت تحت الولد. والأقرب الأول ، لنا ـ أنه إنما يصدق الانتساب حقيقة إذا كان من جهة الأب عرفا فلا يقال تميمي إلا لمن انتسب إلى تميم بالأب ولا حارثي إلا لمن انتسب إلى حارث بالأب ، ويؤيده قول الشاعر :

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد

وما رواه حماد بن عيسى قال رواه لي بعض أصحابنا عن العبد الصالح أبي الحسن الأول عليه‌السلام (١) «ومن كانت أمه من بني هاشم وأبوه من سائر قريش فإن الصدقة تحل له وليس له من الخمس شي‌ء لأن الله يقول : ادعوهم لآبائهم» (٢).

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من قسمة الخمس.

(٢) سورة الأحزاب الآية ٦.

٣٩٤

ولأنه أحوط. احتج السيد المرتضى بأن الأصل في الإطلاق الحقيقة وقد ثبت إطلاق الاسم في قوله عليه‌السلام (١) في الحسن والحسين (عليهما‌السلام) «هذان ابناي إمامان قاما أو قعدا». والجواب المنع من اقتضاء الإطلاق الحقيقة مطلقا بل إذا لم يعارض معارض. انتهى.

وقال الشيخ في الخلاف في باب الوقف : مسألة ـ إذا وقف على أولاده وأولاد أولاده دخل أولاد البنات فيه ويشتركون فيه مع أولاد البنين الذكر والأنثى فيه سواء كلهم وبه قال الشافعي ، وقال أصحاب أبي حنيفة لا يدخل أولاد البنات فيه (٢). إلى أن قال : دليلنا إجماع المسلمين على أن عيسى بن مريم عليه‌السلام من ولد آدم وهو ولد ابنته لأنه ولد من غير أب. وأيضا دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الحسن عليه‌السلام ابنا وهو ابن بنته وقال : «لا تزرموا ابني». أي لا تقطعوا عليه بوله وكان قد بال في حجره فهموا بأخذه فقال لهم ذلك (٣) فأما استشهادهم بقول الشاعر :

«بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد»

فإنه مخالف لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإجماع الأمة والمعقول فوجب رده. وقال في كتاب الميراث مثله واستدل بما استدل به هنا. انتهى. ولهذا أنه لم ينقل عنه موافقة القول المشهور إلا في النهاية والمبسوط وإلا فهو في الخلاف قد وافق قول السيد كما عرفت.

وقال الشيخ المفيد في كتاب الوقف من المقنعة : وإذا وقف على العلوية

__________________

(١) قال المجلسي في البحار ج ١٠ ص ٧٨ في مقام الاستدلال على إمامتهما «ع» : ويستدل بالخبر المشهور أنه «ص» قال : «ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا». وفيه ج ٩ ص ١٤٠ في حديث و «إنهما إمامان قاما أو قعدا». وأيضا ج ٩ ص ١٥٠ في حديث «وابناه الحسن والحسين «ع» سبطاي من هذه الأمة إمامان قاما أو قعدا» ..

(٢) في المغني ج ٥ ص ٥٦٠ و ٥٦١ نسب القول بالعدم إلى مالك ومحمد بن الحسن والقول بالدخول إلى الشافعي وأبي يوسف.

(٣) الوسائل الباب ٨ من النجاسات.

٣٩٥

كان لولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وولد ولده من الذكور والإناث ، فإن وقف على الطالبيين كان على ولد أبي طالب (رحمة الله عليه) وولد ولده من الذكور والإناث. وهو كما ترى مطابق لما نقل عنه آنفا حيث أنه أدخل المتقربين بالأم في النسبة إلى علي وأبي طالب (عليهما‌السلام) والمخالفون من أصحابنا في المسألة ينكرون دخول المتقرب بالأم في النسبة كما سمعته من كلام العلامة.

وقال الفضل بن شاذان ـ على ما نقله عنه في الكافي (١) في باب الميراث بعد أن نقل عن العامة القول ببنوة ابن البنت في جميع الأحكام إلا في الميراث ـ ما حاصله : أنهم إنما أنكروا ذلك في باب الميراث اقتداء بأسلافهم الذين أرادوا إبطال بنوة الحسن والحسين (عليهما‌السلام) بسبب أمهما والله المستعان. هذا مع ما قد نص الله عليه في كتابه بقوله عزوجل «كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ ... إلى قوله وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصّالِحِينَ» (٢) فجعل عيسى من ذرية نوح ومن ذرية آدم وهو ابن بنته لأنه لا أب لعيسى ، فكيف لا يكون ولد الابنة ولد الرجل بلى لو أرادوا الإنصاف والحق. وبالله التوفيق. انتهى

أقول : وقد ظهر لك من ما ذكرنا حجج القولين وما أوردوه في البين.

والظاهر عندي هو مذهب السيد (قدس‌سره) لوجوه الأول ـ الآيات القرآنية التي هي أقوى حجة وأظهر محجة الواردة في باب النكاح وباب الميراث ، فإنها متفقة في صدق الولد شرعا على ولد البنت والابن وصدق الأب على الجد منهما ، ولذلك ترتبت عليه الأحكام الشرعية في البابين المذكورين ، والأحكام الشرعية لا تترتب إلا على المعنى الحقيقي للفظ دون المجازي المستعار الذي قد يعتبر وقد لا يعتبر.

وها أنا أتلو عليك شطرا من تلك الآيات الواردة في هذا المجال لتحيط

__________________

(١) الفروع ج ٢ ص ٢٦٠.

(٢) سورة الأنعام الآية ٨٥ و ٨٦.

٣٩٦

خبرا بأن ما ذهبنا إليه لا يعتريه غشاوة الإشكال وإن كان قد تقدم في كلام السيد ما يشير إلى بعض ذلك :

فمن ذلك قوله عزوجل «وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ» (١) فإنه لا خلاف في أنه بهذه الآية يحرم على ابن البنت زوجة جده من الأم لكونه أبا له بمقتضى الآية ، فهي تدل على أن أب الأم أب حقيقة إذ لو لا ذلك لما اقتضت تحريم زوجة جده عليه ، فيكون ولد البنت ولدا حقيقة للتضايف.

ومن ذلك قوله عزوجل في تعداد المحرمات «وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ» (٢) فإنه لا خلاف في أنه بهذه الآية يحرم نكاح الرجل لزوجة ابن ابنته لصدق الابنية عليه المذكورة.

ومنه قوله تعالى في تعداد المحرمات أيضا «وَبَناتُكُمْ» (٣) فإنه بهذه الآية حرمت بنت البنت على جدها.

ومنه أيضا في تعداد من يحل نظره إلى الزينة قوله سبحانه «أَوْ أَبْنائِهِنَّ» (٤) فإنه بهذه الآية يحل لابن البنت النظر إلى زينة جدته لأمه بل زوجة جده بقوله «أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ» (٥).

ومنه في الميراث في حجب الزوجين عن السهم الأعلى وحجب الأبوين عن ما زاد على السدس قوله عزوجل : «فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ ... فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ» (٦) «وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ» (٧) فإن الولد في جميع هذه المواضع شامل بإطلاقه لولد البنت ، والأحكام المذكورة مرتبة عليه بلا خلاف كما ترتبت على ولد الصلب بلا واسطة.

__________________

(١) سورة النساء الآية ٢٧.

(٢ و ٣) سورة النساء الآية ٢٨.

(٤ و ٥) سورة النور الآية ٣٢.

(٦) سورة النساء الآية ١٤ و ١٥.

(٧) سورة النساء الآية ١٣.

٣٩٧

ومن الظاهر البين أنه لو لا صدق الإطلاق حقيقة لما جاز ترتب الأحكام الشرعية المذكورة في جملة هذه الآيات ونحوها عليه.

وأما ما أجاب به في المسالك في كتاب الوقف وفي كتاب الميراث من أن دخول أولاد الأولاد بدليل من خارج لا من حيث الإطلاق فهو مردود بأن الروايات قد فسرت الآيات المذكورة بذلك وأنه قد أريد بها هذا المعنى ، ومنها ـ الروايات الآتية في المقام حيث استدل الأئمّة (عليهم‌السلام) بالآيات على هذا المعنى وفسروها به لا أن هذا المعنى إنما استفيد من أخبار خارجة أو من الإجماع كما ادعاه. وأيضا فإن الأصحاب قد استدلوا على الأحكام المذكورة بإطلاق هذه الآيات كما لا يخفى على من راجع كتبهم فلو لا أن أولاد الأولاد مطلقا داخلون في الإطلاق ومستفادون منه لما صح هذا الاستدلال الذي أوردوه (عليهم‌السلام) ولا الذي ذكره الأصحاب. وبذلك يظهر أن جوابه (قدس‌سره) شعري لا يعتمد عليه وقشري لا يلتفت إليه.

الثاني ـ الأخبار الظاهرة المنار الساطعة الأنوار : ومنها ـ ما رواه ثقة الإسلام الكليني (عطر الله مرقده) في كتاب روضة الكافي (١) والثقة الجليل علي بن إبراهيم في تفسيره (٢) بسنديهما إلى أبي الجارود قال : «قال لي أبو جعفر عليه‌السلام يا أبا الجارود ما يقولون لكم في الحسن والحسين (عليهما‌السلام)؟ قلت ينكرون علينا أنهما ابنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. قال فأي شي‌ء احتججتم عليهم؟ قلت احتججنا عليهم بقول الله عزوجل في عيسى بن مريم عليه‌السلام : ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى (٣) فجعل عيسى بن مريم من ذرية نوح عليه‌السلام. قال عليه‌السلام : فأي شي‌ء قالوا لكم؟ قلت قالوا قد يكون ولد الابنة من الولد ولا يكون من الصلب. قال : فأي شي‌ء احتججتم

__________________

(١) ص ٣١٧.

(٢) ص ١٩٦.

(٣) سورة الأنعام الآية ٨٥ و ٨٦.

٣٩٨

عليهم؟ قلت احتججنا عليهم بقول الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ» (١) قال فأي شي‌ء قالوا؟ قلت قالوا قد يكون في كلام العرب أبناء رجل وآخر يقول : أبناؤنا. قال فقال أبو جعفر عليه‌السلام يا أبا الجارود لأعطينكها من كتاب الله عزوجل إنهما من صلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يردها إلا كافر. قلت : وأين ذلك جعلت فداك؟ قال من حيث قال الله عزوجل «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ ... الآية إلى أن انتهى إلى قوله تعالى وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ» (٢) فسلهم يا أبا الجارود هل كان يحل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نكاح حليلتيهما؟ فإن قالوا نعم كذبوا وفجروا وإن قالوا لا فهما ابناه لصلبه» وزاد في رواية علي بن إبراهيم «وما حرمتا عليه إلا للصلب. الحديث».

ولا يخفى ما فيه من الصراحة في المطلوب والظهور والتشنيع الفظيع على من قال بالقول المشهور ومشاركته للعامة في رد كتاب الله المؤذن بالخروج عن الإسلام نعوذ بالله من زيغ الأفهام وطغيان الأقلام ، ولكن العذر لهم تجاوز الله عنا وعنهم واضح بعدم تتبع الأدلة والوقوف عليها من مظانها لتفرقها وعدم اجتماعها في باب معلوم.

وفي الخبر كما ترى دلالة واضحة على أن إطلاق الولد في الآيات المتقدمة على ابن البنت على جهة الحقيقة وأنه ولد للصلب حقيقة وإن كان بواسطة لا فرق بينه وبين الولد للصلب الذي هو متفق عليه بينهم.

ومنها ـ ما رواه في الكافي في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٣) «أنه قال لو لم تحرم على الناس أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لقول الله عزوجل : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) (٤)

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ٥٥.

(٢) سورة النساء الآية ٢٨.

(٣) الوسائل الباب ٢ من ما يحرم بالمصاهرة.

(٤) سورة الأحزاب الآية ٥٤.

٣٩٩

حرمن على الحسن والحسين (عليهما‌السلام) لقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) (١) ولا يصلح للرجل أن ينكح امرأة جده». والتقريب فيها ما تقدم عند ذكر الآية المشار إليها.

ومنها ـ ما رواه الصدوق في عيون الأخبار (٢) والطبرسي (قدس‌سره) في كتاب الاحتجاج (٣) في حديث طويل عن الكاظم عليه‌السلام يتضمن ذكر ما جرى بينه وبين الخليفة هارون الرشيد لما أدخل عليه ، وموضع الحاجة منه أنه قال له الرشيد : «لم جوزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقولون لكم يا بني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنتم بنو علي وإنما ينسب المرء إلى أبيه وفاطمة إنما هي وعاء والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جدكم من قبل أمكم؟ فقال يا أمير المؤمنين لو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نشر فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه؟ فقال سبحان الله ولم لا أجيبه بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك. فقال لكنه لا يخطب إلى ولا أزوجه. فقال ولم؟ فقلت لأنه ولدني ولم يلدك. فقال أحسنت يا موسى ثم قال كيف قلتم إنا ذرية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والنبي لم يعقب وإنما العقب للذكر لا للأنثى وأنتم ولد لابنته ولا يكون لها عقب؟. ثم ساق الخبر إلى أن قال : فقلت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيّا وَيَحْيى وَعِيسى» (٤) من أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟ فقال ليس لعيسى أب. فقلت إنما ألحقناه بذراري الأنبياء من طريق مريم وكذلك ألحقنا بذراري النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل أمنا فاطمة. أزيدك يا أمير المؤمنين؟ قال هات فقال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ ... الآية» (٥) ولم يدع أحد أنه أدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تحت الكساء عند المباهلة للنصارى إلا علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين

__________________

(١) سورة النساء الآية ٢٧.

(٢) ج ١ ص ٨٣ الطبع الحديث.

(٣) ص ١٩٩.

(٤) سورة الأنعام الآية ٨٥ و ٨٦.

(٥) سورة آل عمران الآية ٥٥.

٤٠٠