الحدائق الناضرة - ج ١٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٤

«الفطرة على كل قوم من ما يغذون عيالاتهم من لبن أو زبيب أو غيره».

وما رواه الشيخ في التهذيب عن إبراهيم بن محمد الهمداني (١) قال : «اختلفت الروايات في الفطرة فكتبت إلى أبي الحسن صاحب العسكر عليه‌السلام أسأله عن ذلك فكتب إن الفطرة صاع من قوت بلدك : على أهل مكة ـ واليمن والطائف وأطراف الشام واليمامة والبحرين والعراقين وفارس والأهواز وكرمان ـ تمر ، وعلى أهل أوساط الشام زبيب ، وعلى أهل الجزيرة والموصل والجبال كلها بر أو شعير ، وعلى أهل طبرستان الأرز ، وعلى أهل خراسان البر إلا أهل مرو والري فعليهم الزبيب ، وعلى أهل مصر البر ، ومن سوى ذلك فعليهم ما غلب قوتهم ، ومن سكن البوادي من الأعراب فعليهم الأقط. والفطرة عليك وعلى سائر الناس. الحديث».

وزاد شيخنا المفيد في المقنعة في الخبر بعد قوله «فعليهم الأقط» : «ومن عدم الأقط من الأعراب ووجد اللبن فعليه الفطرة منه» ويحتمل أن تكون هذه الزيادة من كلامه (قدس‌سره).

أقول : وبهذه الأخبار الأخيرة أخذ من قال بالقول المشهور وضم إليها الأخبار الأول بحمل ما ذكر فيها على جهة التمثيل لا الحصر كما توهمه من خالف في المسألة ، وصاحب المدارك لما كان اختياره يدور مدار صحة الأسانيد اختار ما دلت عليه تلك الأخبار الأولة وأجاب عن ما عداها بضعف الإسناد وعدم صلاحيته لمعارضة تلك الأخبار.

وأنت خبير بأن من لا يعتمد على هذا الاصطلاح الذي هو إلى الفساد أقرب من الصلاح فالظاهر عنده هو حمل ما ذكره من الأخبار على ما ذكره ، ولهذا اختلفت الأخبار في ذكر هذه الأجناس بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير ، فنقص من صحيحة صفوان الشعير ومن صحيحة عبد الله بن ميمون البر وزيد الأقط

وفي صحيحة أبي عبد الرحمن الحذاء وهو أيوب بن عطية عن أبي عبد الله

__________________

(١) الوسائل الباب ٨ من زكاة الفطرة.

٢٨١

عليه‌السلام (١) «أنه ذكر صدقة الفطرة أنها تجب. إلى أن قال صاع من تمر أو صاع من زبيب أو صاع من شعير أو صاع من ذرة». فنقص من هذه الرواية البر وزيد الذرة ، وكان الواجب عليه أن يعد الذرة أيضا لصحة الخبر ولعله لم يقف عليه.

وفي صحيحة معاوية بن وهب (٢) «جرت السنة بصاع من تمر أو صاع من زبيب أو صاع من شعير». وقد ترك الحنطة مع أنه في مقام البيان لما جرت به السنة.

وفي رواية عبد الله بن المغيرة (٣) قال : «يعطى من الحنطة صاع ومن الشعير صاع ومن الأقط صاع». وفي صحيحة الحلبي (٤) «صاع من تمر أو نصف صاع من بر». وفي صحيحة عبد الله بن سنان (٥) «صاع من حنطة أو صاع من شعير». إلى غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المتتبع.

ولو لا الحمل على ما ذكرناه من مجرد التمثيل وذكر الأفراد في الجملة لكانت هذه الأخبار مختلفة متضادة ، إذ كل منها ورد في مقام البيان لما يجب إخراج الفطرة منه ، وحينئذ فتحمل تلك الأخبار على ما حملنا عليه هذه لاختلافها كما عرفت بالزيادة والنقصان والتغيير والتبديل ، على أن صحيحة سعد بن سعد ليست واضحة الدلالة على ما ادعاه فإن الأجناس المذكورة إنما ذكرت في السؤال ، وصحيحة معاوية بن عمار بالدلالة على القول المشهور أشبه ، لأن تخصيص أصحاب الإبل والغنم بالأقط مشعر بأن ذلك من حيث كونه هو القوت الغالب عندهم كما تضمنه آخر رواية الهمداني.

وبذلك يظهر قوة القول المشهور بين المتقدمين والمتأخرين وانطباق الأخبار عليه ، ويضعف ما اعتمد عليه وصار إليه وإن تبعه فيه من تبعه من غير تأمل ولا تدبر في المقام. ومنه يظهر أن جميع الأخبار كلها متفقة الدلالة على القول المشهور بحمل مطلقها على مقيدها ومجملها على مفصلها. والله العالم.

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٦ من زكاة الفطرة.

(٥) الوسائل الباب ٥ من زكاة الفطرة.

٢٨٢

ثم إن في هذا المقام فوائد الأولى ـ قد ذكر الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه لا يجوز إخراج ما عدا الأجناس المتقدم ذكرها من كونها أربعة أو سبعة أو خمسة أو القوت الغالب إلا بالقيمة ، إلا أن كلامهم في هذا المقام مع اختيارهم القول المشهور لا يخلو من اضطراب.

قال المحقق في المعتبر : الركن الثاني في جنسها وقدرها ، والضابط إخراج ما كان قوتا غالبا كالحنطة والشعير والتمر والزبيب والأرز والأقط واللبن وهو مذهب علمائنا. ثم قال بعد ذلك قال الشيخ في الخلاف : لا يجزئ الدقيق والسويق من الحنطة والشعير على أنهما أصل ويجزئان بالقيمة. ثم نقل عن بعض فقهائنا قولا بجواز إخراجهما أصالة وقال : الوجه ما ذكره الشيخ في الخلاف ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نص على الأجناس المذكورة فيجب الاقتصار عليها أو على قيمتها. ثم قال بعد ذلك : ولا يجزئ الخبز على أنه أصل ويجزئ بالقيمة وقال شاذ منا يجزئ لأن نفعه معجل ، وليس بوجه لاقتصار النص على الأجناس المعينة فلا يصار إلى غيرها إلا بالقيمة. انتهى. أقول : ومراده بالبعض المخالف في كل من الموضعين هو ابن إدريس.

ونحوه قال العلامة في المنتهى حيث قال : البحث الثالث في قدرها وجنسها ، ثم قال : الجنس ما كان قوتا غالبا كالحنطة والشعير والتمر والزبيب والأرز والأقط واللبن ذهب إليه علماؤنا أجمع. ثم استدل على كل من هذه الأجناس بما تقدم من الروايات إلى أن قال : قال الشيخ في الخلاف لا يخرج الدقيق. إلى آخر ما تقدم نقله في عبارة المعتبر. ثم نقل عن أبي حنيفة وأحمد جواز إخراج هذه الأشياء أصلا لا قيمة (١) قال وبه قال ابن إدريس منا. ثم قال : والأقرب ما قاله الشيخ ، لنا أن المنصوص الأجناس المعدودة فيقتصر عليها. إلى أن قال أيضا : وفي إجزاء الخبز على أنه أصل لا قيمة تردد أقربه عدم الإجزاء خلافا لابن إدريس. إلى أن قال

__________________

(١) المغني ج ٣ ص ٦٣ وبدائع الصنائع ج ٢ ص ٧٢.

٢٨٣

لنا أن النص يتناول الأجناس المعينة فلا يصار إلى غيرها إلا بدليل ولم يقع على المتنازع فيه دليل ، والقياس على الطعام ضعيف. ونحوه كلامه في المختلف أيضا.

وأنت خبير بأن الظاهر من هذا الكلام ـ ونحوه أيضا من ما تقدم من عبارة الشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ في كتابي الخلاف والمبسوط حيث اختاروا القول بوجوب الزكاة من القوت الغالب وفسروه بهذه السبعة ـ أنه ليس المراد بالقوت الغالب مطلقا بل ما كان غالبا من هذه الأفراد المنصوصة ، وكأنه بناء منهم على أن غالب الأقوات هي هذه السبعة وأن النصوص إنما وردت بها من حيث كونها كذلك ، وهو يرجع إلى ما حققناه سابقا من أن ما اشتمل من النصوص على فردين أو ثلاثة أو أربعة زيادة ونقصانا وتغييرا وتبديلا إنما خرجت مخرج التمثيل وهو وجه الجمع بين روايات المسألة ، وحيث كانت هذه الأشياء المذكورة ليست مذكورة في النصوص فلا يجوز إخراجها أصلا بل قيمة ، إلا أن المحقق في الشرائع قد نص على كون الدقيق والخبز من ما يخرج أصلا لا قيمة حيث قال : والضابط إخراج ما كان قوتا غالبا كالحنطة والشعير ودقيقهما وخبزهما والتمر والزبيب والأرز واللبن ومن غير ذلك يخرج بالقيمة السوقية. ومثله العلامة في القواعد أيضا حيث قال : المطلب الثالث في الواجب وهو صاع من ما يقتات به غالبا كالحنطة والشعير والتمر والزبيب والأرز واللبن والأقط والدقيق والخبز أصلا ويخرج من غيرها بالقيمة السوقية.

ثم إن هنا روايات أخر غير ما تقدم مشتملة على زيادة على السبعة المذكورة مثل صحيحة محمد بن مسلم (١) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول الصدقة لمن لا يجد الحنطة والشعير يجزئ عنه القمح والعدس والذرة نصف صاع من ذلك كله. الحديث».

وما رواه في الفقيه (٢) مرسلا قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام من لم يجد الحنطة

__________________

(١) الوسائل الباب ٦ من زكاة الفطرة.

(٢) ج ٢ ص ١١٥ وفي الوسائل الباب ٨ من زكاة الفطرة.

٢٨٤

والشعير أجزأ عنه القمح والسلت والعلس والذرة».

ورواية الفضلاء عن الباقر والصادق (عليهما‌السلام) (١) قالوا : «سألناهما عن زكاة الفطرة قالا صاع من تمر أو زبيب أو شعير أو نصف ذلك كله حنطة أو دقيق أو سويق أو ذرة أو سلت. الحديث».

وظاهر الأصحاب الجواب عن هذه الأفراد الزائدة إما بالحمل على القيمة أو الحمل على عدم إمكان الإخراج من تلك الأجناس ، ويؤيد الثاني صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة ومرسلة الفقيه ، وأما الأول فمحل إشكال كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى قالوا : والسلت إن كان نوعا من الشعير فلا بأس بإخراجه أصالة وإلا تعين أن يكون بالقيمة. والظاهر أن منشأ هذه التأويلات التعويل على الإجماع المدعى على السبعة المذكورة كما عرفت.

بقي الكلام في ما لو كان غالب القوت غير هذه السبعة المذكورة ، وظاهر كلامهم المتقدم عدم الإجزاء لخروجه عن المنصوص من تلك الأفراد كما ردوا به كلام ابن إدريس في الدقيق والخبز ، إلا أن الأقرب الإجزاء عملا بعموم الأخبار المتقدمة من قوله عليه‌السلام في رواية زرارة وابن مسكان (٢) «الفطرة على كل قوم من ما يغذون عيالاتهم من لبن أو زبيب أو غيره». وقوله في مرسلة يونس (٣) «الفطرة على كل من اقتات قوتا فعليه أن يؤدي من ذلك القوت». وقوله في رواية الهمداني «ومن سوى ذلك فعليهم ما غلب قوتهم». وحينئذ فتحمل أخبار السبعة على ما إذا كانت هي القوت الغالب.

نعم يبقى الكلام في الدليل على ما ذكروه من جواز جعل ما عدا هذه الأجناس قيمة عن الواجب وسيأتي الكلام فيه.

ثم إنه ينبغي أن يعلم أنه ليس مرادهم بالقوت الغالب من هذه السبعة يعني

__________________

(١) الوسائل الباب ٦ من زكاة الفطرة.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٨ من زكاة الفطرة.

٢٨٥

باعتبار كل بلدة وما غلب على قوتها بل مرادهم هذه الأجناس مطلقا ، فلو كان غالب قوت أهل بلد التمر مثلا لم يتعين عليهم التمر بل يجوز لهم إخراج غيره من هذه الأفراد المتقدمة ، وبذلك صرح العلامة في المنتهى والمحقق في المعتبر.

ومن ما حققناه في المقام يتضح لك ما في اعتراض السيد السند في المدارك على كلام المحقق المتقدم نقله عن المعتبر حيث نقله (قدس‌سره) كما نقلناه وقال بعد نقله : هذا كلامه (قدس‌سره) وهو جيد لكنه رجوع عن ما أفهمه ظاهر كلامه في الضابط الذي ذكره أولا ، اللهمّ إلا أن يقال بانحصار القوت الغالب في هذه الأنواع السبعة وهو بعيد. انتهى. فإن فيه أنه لا بعد فيه بل هو الظاهر كما لا يخفى على من لاحظ البلدان في كل قطر ومكان ، وهذا الكلام كما عرفت ليس مختصا بالمحقق المذكور بل هو ظاهر جملة من المتقدمين والمتأخرين كما عرفت ، ومنهم شيخه المحقق الأردبيلي أيضا في شرح الإرشاد حيث قال : أما الجنس فهو ما كان قوتا غالبا كالحنطة والشعير والتمر والزبيب والأرز والأقط واللبن. وقد عرفت نقل العلامة في المنتهى والمحقق في المعتبر الإجماع على ذلك ، ومثلهما عبارة الشيخ في الخلاف ، وحينئذ فلا معنى لاستبعاده ذلك إلا أن يكون غفلة عن مراجعة كلامهم في المقام.

وكيف كان فالأحوط الاقتصار على الحنطة والشعير في البلدان التي يكون مدار أهلها عليهما والتمر في البلدان التي يكون مدار أهلها عليه وهكذا غيرها من الأجناس المنصوصة التي يكون مدار أهل تلك البلاد عليها.

الثانية ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أفضل ما يخرج في الزكاة فقال ابنا بابويه والشيخان وابن أبي عقيل إن أفضل ما يخرج التمر قال الشيخ ثم الزبيب ، وهو قول ابن البراج في كامله والمحقق في شرائعه ، وفي الشرائع : ويليه أن يخرج كل إنسان ما يغلب على قوته. وقال ابن البراج في المهذب : التمر والزبيب هو أفضل ما يخرج في الفطرة. وقال سلار : فأما ما يخرج في الفطرة فأفضله أقوات أهل البلاد من التمر والزبيب والحنطة والشعير والأرز والأقط واللبن ، إلا أنه

٢٨٦

إن اتفق أن يكون في بلد بعض هذه الأشياء أغلى سعرا وهو موجود فإخراجه أفضل ما لم يجحف ، وروي أن التمر أفضل. وقال الشيخ في المبسوط : الأفضل أن يخرج من قوته أو ما هو أغلى منه ، وأفضل ما يخرجه التمر. وقال الشيخ في الخلاف : المستحب ما يكون غالبا على قوت البلد ، وهو ظاهر اختيار المحقق في المعتبر حيث قال بعد أن اختار في صدر المسألة إن الأفضل التمر ثم ساق الأقوال. إلى أن قال : وقال آخرون ما يغلب على قوت البلد ولعل هذا أجود لرواية العسكري عليه‌السلام المتضمنة لتمييز الفطرة وما يستحب أن يخرجه أهل كل إقليم.

والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه الشيخ في الصحيح عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «التمر في الفطرة أفضل من غيره لأنه أسرع منفعة وذلك أنه إذا وقع في يد صاحبه أكل منه».

وما رواه عن زيد الشحام (٢) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام لأن أعطي صاعا من تمر أحب إلي من أن أعطي صاعا من ذهب في الفطرة».

وما رواه الصدوق في الفقيه مرسلا (٣) قال : «قال الصادق عليه‌السلام لأن أعطي في الفطرة صاعا من تمر أحب إلي من أعطي صاعا من تبر».

وما رواه الشيخ عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : «سألته عن صدقة الفطرة؟ قال عن كل رأس من أهلك صاع» وقد تقدم إلى أن قال في آخره : «وقال التمر أحب إلي فإن لك بكل تمرة نخلة في الجنة».

وما رواه عن منصور بن خارجة عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٥) قال : «سألته عن صدقة الفطرة؟ قال صاع من تمر أو نصف صاع من حنطة أو صاع من شعير والتمر أحب إلي».

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ١٠ من زكاة الفطرة.

(٤) الوسائل الباب ٥ و ١٠ من زكاة الفطرة.

(٥) الوسائل الباب ٦ من زكاة الفطرة.

٢٨٧

وما رواه في الموثق عن إسحاق بن عمار (١) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن صدقة الفطرة؟ قال التمر أفضل».

وما رواه في الصحيح عن الحلبي (٢) في حديث في صدقة الفطرة بعد ذكر الحنطة والشعير والتمر والزبيب قال : «وقال التمر أحب ذلك إلي».

وما رواه عن إسحاق بن المبارك عن أبي إبراهيم عليه‌السلام (٣) في حديث في الفطرة قال : «صدقة التمر أحب إلي لأن أبي عليه‌السلام كان يتصدق بالتمر. ثم قال : ولا بأس أن يجعلها فضة والتمر أحب إلي».

وما رواه الشيخ المفيد في المقنعة مرسلا (٤) قال : «سئل الصادق عليه‌السلام عن الأنواع أيها أحب إليك في الفطرة؟ فقال أما أنا فلا أعدل عن التمر للسنة شيئا».

وأنت خبير بأنه لا معدل بعد هذه الأخبار عن القول الأول ولعل من أضاف الزبيب إلى التمر أو جعله بعده في المرتبة اعتمد على التعليل الذي في صحيحة هشام المتقدمة فإنه يقتضي مساواة الزبيب للتمر في ذلك ، وفيه ما فيه. وأما من ذهب إلى القوت الغالب فالظاهر أنه اعتمد على رواية الهمداني المتقدمة كما يدل عليه كلام المحقق في المعتبر ، ومثلها في ذلك رواية يونس المتقدمة أيضا ورواية ابن مسكان المتقدمة أيضا. والجمع بين الأخبار يقتضي حمل ما اشتملت عليه هذه الروايات من القوت الذي يقتاتون به على المرتبة الثانية في الفضل بعد التمر كما دلت عليه عبارة الشرائع المتقدمة.

الثالثة ـ الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في جواز إخراج القيمة السوقية عن ما وجب من الفطرة سواء وجدت الأنواع المنصوصة أم لم توجد.

وعلى ذلك دلت الأخبار المستفيضة : ومنها ـ ما رواه الصدوق في الصحيح

__________________

(١ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ١٠ من زكاة الفطرة.

(٢) الوسائل الباب ٦ و ١٠ من زكاة الفطرة.

٢٨٨

عن محمد بن إسماعيل بن بزيع (١) قال : «بعثت إلى أبي الحسن الرضا عليه‌السلام بدراهم لي ولغيري وكتبت إليه أخبره أنها من فطرة العيال فكتب عليه‌السلام إلي بخطه : قبضت».

وما رواه الكليني في الصحيح عن أيوب بن نوح (٢) قال : «كتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام إن قوما سألوني عن الفطرة ويسألوني أن يحملوا قيمتها إليك وقد بعثت إليك هذا الرجل عام أول وسألني أن أسألك فأنسيت ذلك وقد بعثت إليك العام عن كل رأس من عيالي بدرهم على قيمة تسعة أرطال بدرهم فرأيك جعلني الله فداك في ذلك؟ فكتب عليه‌السلام الفطرة قد كثر السؤال عنها وأنا أكره كل ما أدى إلى الشهرة فاقطعوا ذكر ذلك واقبض ممن دفع لها وأمسك عن من لم يدفع».

وما رواه الشيخ عن عمر بن يزيد في الصحيح (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون عنده الضيف. إلى أن قال : وسألته يعطي الرجل الفطرة دراهم ثمن التمر والحنطة فيكون أنفع لأهل بيت المؤمن؟ قال لا بأس».

وموثقة إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : «لا بأس بالقيمة في الفطرة».

وموثقته الأخرى (٥) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الفطرة؟ قال الجيران أحق بها ولا بأس أن تعطي قيمة ذلك فضة».

وموثقته الأخرى أيضا (٦) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن تعجيل الفطرة بيوم؟ فقال لا بأس به. قلت فما ترى أن نجمعها ونجعل قيمتها ورقا ونعطيها رجلا واحدا مسلما؟ قال لا بأس به».

ورواية إسحاق بن عمار الصيرفي (٧) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام جعلت فداك ما تقول في الفطرة يجوز أن أؤديها فضة بقيمة هذه الأشياء التي سميتها؟

__________________

(١ و ٢ و ٤ و ٥ و ٧) الوسائل الباب ٩ من زكاة الفطرة.

(٣) الوسائل الباب ٥ و ٩ من زكاة الفطرة.

(٦) الوسائل الباب ١٢ و ٩ من زكاة الفطرة.

٢٨٩

قال نعم إن ذلك أنفع له يشتري ما يريد».

ورواية سليمان بن حفص المروزي (١) قال : «سمعته يقول إن لم تجد من تضع الفطرة فيه فاعزلها تلك الساعة قبل الصلاة. والصدقة بصاع من تمر أو قيمته في تلك البلاد دراهم».

ورواية أبي علي بن راشد (٢) قال : «سألته عن الفطرة لمن هي؟ قال للإمام. قال قلت له فأخبر أصحابي؟ قال : نعم من أردت أن تطهره منهم. وقال : لا بأس بأن تعطي وتحمل ثمن ذلك ورقا».

إذا عرفت ذلك فاعلم أن ظاهر كلام الأصحاب وبه صرح الشيخ (قدس‌سره) هو جواز إخراج القيمة نقدا كانت أو جنسا كما ينادي به كلامهم في المسألة المتقدمة من أنه يجوز إخراج ما عدا الأجناس المنصوصة بالقيمة ، قال الشيخ في المبسوط : يجوز إخراج القيمة عن أحد الأجناس التي قدرناها سواء كان الثمن سلعة أو حبا أو خبزا أو ثيابا أو دراهم أو شيئا له ثمن بقيمة الوقت. ولا يخفى أن الأخبار التي قدمناها كلها متفقة الدلالة في كون القيمة المرخص فيها إنما هي من النقد خاصة ، نعم موثقة إسحاق بن عمار الأولى مطلقة وحملها على غيرها من الأخبار متعين ، ويؤيده أن المتبادر من لفظ القيمة إنما هو النقد سيما مع وجود التعليل الدال على ذلك في بعضها. وإلى التخصيص بالنقد يميل كلام ابن إدريس كما نقله عنه في المختلف ، وإليه يميل كلام المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) في شرح الإرشاد ، وهو الظاهر والعلامة في المختلف ـ بعد أن نقل كلام الشيخ المتقدم وكلام ابن إدريس عليه ونزاعه للشيخ ـ اختار كلام الشيخ (قدس‌سره) واستدل عليه بأدلة أظهرها موثقة إسحاق بن عمار المشار إليها وقد عرفت ما فيها.

وبالجملة فإني لا أعرف لهذا القول دليلا سوى الشهرة ، نعم ربما يمكن الاستدلال على ذلك بصحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «سألته

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ٩ من زكاة الفطرة.

٢٩٠

تعطى الفطرة دقيقا مكان الحنطة؟ قال : لا بأس يكون أجر طحنه بقدر ما بين الحنطة والدقيق».

وظاهر المحقق في المعتبر الاستدلال بهذه الرواية على ذلك حيث أنه ـ بعد أن نقل عن الشيخ في الخلاف أنه لا يجزئ الدقيق والسويق من الحنطة والشعير على أنهما أصل ويجزئان بالقيمة ـ قال روى عمر بن يزيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام. ثم ساق الرواية. ويظهر ذلك من العلامة في المنتهى حيث إنه نقل هذه الرواية دليلا لابن إدريس في جواز إخراج الدقيق أصلا ثم أجاب عنها بأن فيها تنبيها على اعتبار القيمة لأنه عليه‌السلام ذكر المساواة بين أجرة الطحن والتفاوت.

أقول : الظاهر أن معنى الرواية المذكورة هو أن السائل سأل عن إعطاء الدقيق الذي يحصل من صاع الحنطة بعد طحنه هل يجزئ عن صاع الحنطة أم لا؟ فأجاب عليه‌السلام أنه يجزئ لأنه تكون أجرة الطحن في مقابلة التفاوت الذي بين الحنطة والدقيق ، ولا دلالة في الرواية على كونه قيمة عن الحنطة إن كان إلا من حيث قوله «مكان الحنطة» أي عوضا عنها ، وهو غير ظاهر في ذلك إذ يجوز أن يكون السائل توهم انحصار جواز الإعطاء في الحنطة دون دقيقها فأجابه عليه‌السلام بأنه لا ينحصر فيها بل يجزئ إعطاء الدقيق ، وكونه أقل من الصاع بعد الطحن يكون في مقابلة أجرة الطحن التي دفعها المالك ، وحينئذ فلا دلالة في الخبر المذكور.

ومن ما ذكرنا يعلم أن ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) في المسألة المتقدمة من جواز إخراج بعض الأجناس قيمة عن الأجناس الواجبة في الفطرة من ما لا دليل عليه سوى مجرد الشهرة بينهم.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن المشهور بين الأصحاب هو إخراج القيمة بسعر الوقت ، ونقل في المعتبر أن بعض الأصحاب قدرها بدرهم وآخرون بأربعة دوانيق

وقال الشيخ المفيد في المقنعة (١) «وسئل ـ يعني الصادق عليه‌السلام ـ عن القيمة مع وجود النوع فقال لا بأس بها. وسئل عن مقدار القيمة فقال درهم في الغلاء

__________________

(١) الوسائل الباب ٩ من زكاة الفطرة.

٢٩١

والرخص. وروى إن أقل القيمة في الرخص ثلثا درهم. وذلك متعلق بقيمة الصاع في وقت المسألة عنه ، والأصل إخراج القيمة عنها بسعر الوقت الذي تجب فيه. انتهى

وقد ورد بالدرهم خبر إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) وفيه «لا بأس أن يعطيه قيمتها درهما». والظاهر حمله على قيمة الوقت وأنه يومئذ كان كذلك كما يدل عليه خبر أيوب بن نوح المتقدم.

الرابعة ـ قد صرح جمع من الأصحاب بأنه لا يجزئ إخراج صاع واحد من جنسين وقيده بعضهم بما إذا كان أصالة أما بالقيمة فيجوز ، واستقرب العلامة في المختلف الجواز أصالة ، والأظهر هو القول الأول لما مر في غير خبر من الأخبار المتقدمة (٢) من قولهم : «صاع من حنطة أو صاع من شعير أو صاع من تمر أو من زبيب». ونحو ذلك ، وهي صريحة في وجوب إخراج الصاع من جنس معين فلا يحصل الامتثال بدونه.

احتج العلامة بأن المطلوب شرعا إخراج الصاع وليس تعيين الصاع معتبرا في نظر الشرع وإلا لما جاز التخيير ، ولأنه يجوز إخراج الأصواع المختلفة من الشخص الواحد عن جماعة فكذا الصاع الواحد. إلى آخر كلامه الذي من هذا القبيل من ما لا يشفي العليل ولا يبرد الغليل.

المقام الثاني ـ في المقدار ، الظاهر أنه لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) في أن القدر الواجب في زكاة الفطرة صاع وهو قول أكثر العامة أيضا (٣) ويدل على ذلك أخبار كثيرة مستفيضة قد تقدم كثير منها لا ضرورة إلى إعادته ولا التطويل بنقل غيرها.

نعم قد ورد بإزائها ما يدل على خلافها مثل ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي (٤) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن صدقة الفطرة؟ فقال على كل من يعول الرجل. إلى أن قال : صاع من تمر أو نصف صاع من بر ، والصاع أربعة أمداد».

__________________

(١) الوسائل الباب ٩ من زكاة الفطرة.

(٢) ص ٢٧٩ و ٢٨٠.

(٣) المغني ج ٣ ص ٥٧.

(٤) الوسائل الباب ٦ من زكاة الفطرة.

٢٩٢

وعن عبد الله بن سنان في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) «في صدقة الفطرة؟ فقال : تصدق عن جميع من تعول. إلى أن قال : على كل إنسان نصف صاع من حنطة أو صاع من تمر أو صاع من شعير ، والصاع أربعة أمداد».

وفي صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما‌السلام) (٢) «أنهما قالا : على الرجل أن يعطي عن كل من يعول. إلى أن قالا : فإن أعطى تمرا فصاع لكل رأس وإن لم يعط تمرا فنصف صاع لكل رأس من حنطة أو شعير والحنطة والشعير سواء ما أجزأ عنه الحنطة فالشعير يجزئ عنه».

وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «صدقة الفطرة على كل رأس من أهلك. إلى أن قال : عن كل إنسان نصف صاع من حنطة أو شعير والحنطة والشعير سواء ما أجزأ عنه الحنطة فالشعير يجزئ».

قال الشيخ (قدس‌سره) في كتابي الأخبار : هذه الأخبار وما يجري مجراها خرجت مخرج التقية ووجه التقية فيها أن السنة كانت جارية في إخراج الفطرة بصاع من كل شي‌ء فلما كان زمن عثمان وبعده في أيام معاوية جعل نصف صاع من حنطة بإزاء صاع من تمر وتابعهم الناس على ذلك (٤) فخرجت هذه الأخبار وفاقا لهم على جهة التقية انتهى. وهو جيد.

ويدل عليه ما رواه في التهذيب عن سلمة أبي حفص عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٥) قال : «صدقة الفطرة على كل صغير وكبير. إلى أن قال : صاع من تمر أو صاع

__________________

(١ و ٥) الوسائل الباب ٦ من زكاة الفطرة.

(٢) الوسائل الباب ١٢ و ٦ من زكاة الفطرة.

(٣) الوسائل الباب ٦ من زكاة الفطرة. وليس قوله : «والحنطة والشعير. إلى آخره» جزء من هذه الصحيحة وإنما هو جزء من الصحيحة المتقدمة فقط كما في التهذيب ج ١ ص ٣٦٩ والإستبصار ج ٢ ص ٤٢ والوافي ـ باب من تجب عنه الفطرة ومن لا تجب ـ والوسائل.

(٤) سنن البيهقي ج ٤ ص ١٦٥ ونيل الأوطار ج ٤ ص ١٩٠ والمغني ج ٣ ص ٥٨.

٢٩٣

من شعير أو صاع من زبيب ، فلما كان زمن عثمان حوله مدين من قمح».

أقول : القمح بالقاف والحاء المهملة الحنطة كما هو المعروف من اللغة والعرف إلا إن صحيحة محمد بن مسلم وكذا مرسلة الفقيه المتقدمتين في الفائدة الأولى من الفوائد الملحقة بالمقام الأول (١) يشعران بخلاف ذلك ، ومثلهما في روايات العامة (٢) إلا أن روايات العامة قابلة للتأويل.

وما رواه في الصحيح عن أبي عبد الرحمن الحذاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) «أنه ذكر صدقة الفطرة. إلى أن قال صاع من تمر أو صاع من زبيب أو صاع من شعير أو صاع من ذرة ، فلما كان زمن معاوية وخصب الناس عدل الناس ذلك إلى نصف صاع من حنطة».

وعن إبراهيم بن أبي يحيى عن أبي عبد الله عن أبيه (عليهما‌السلام) (٤) «أن أول من جعل مدين من الزكاة عدل صاع من تمر عثمان».

وعن معاوية بن وهب في الصحيح (٥) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول في الفطرة : جرت السنة بصاع من تمر أو صاع من زبيب أو صاع من شعير فلما كان زمن عثمان وكثرت الحنطة قومه الناس فقال نصف صاع من بر بصاع من شعير».

وعن ياسر القمي عن الرضا عليه‌السلام (٦) قال : «الفطرة صاع من حنطة وصاع من شعير وصاع من تمر وصاع من زبيب وإنما خفف الحنطة معاوية».

والمفهوم من هذه الأخبار أن الحنطة كانت في الصدر الأول قليلة وأنهم إنما يخرجون الزكاة من التمر أو الزبيب أو الشعير ، ولما كان زمان عثمان وكثرت الحنطة فأرادوا إعطاء الزكاة منها وكان قيمتها ضعف قيمة الشعير قوموها ووازنوا قيمة الصاع من الشعير بنصف الصاع من الحنطة فأعطوا من الحنطة نصف صاع ، وبعد

__________________

(١) ص ٢٨٤.

(٢) سنن البيهقي ج ٤ ص ١٦٧ ونيل الأوطار ج ٤ ص ١٩٣.

(٣ و ٤ و ٥ و ٦) الوسائل الباب ٦ من زكاة الفطرة.

٢٩٤

موت عثمان ورجوع الخلافة إلى مقرها ومستقرها انتسخت تلك البدعة ، ولما انتقلت إلى معاوية أحيى سنة عثمان ، ومن أجل ذلك نسب ذلك في بعض الأخبار إلى عثمان وفي بعض إلى معاوية ، ووجه الجمع ما ذكرناه.

وروى المحقق في المعتبر مرسلا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) «أنه سئل عن الفطرة فقال : صاع من طعام. فقيل أو نصف صاع؟ فقال (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ)» (٢).

بقي الكلام في أنه قد ورد النصف في غير الحنطة أيضا في الأخبار المتقدمة وهو غير قابل لهذا التأويل لإطباق الكل على خلافه ، والشيخ قد أورد الأخبار المتضمنة لذلك فقال إنها محمولة على التقية (٣) واستدل بالأخبار الواردة في الحنطة خاصة ، ولم أر من تعرض للجواب عن ذلك بوجه.

وأما قدر الصاع فقد تقدم بيانه في الزكاة المالية.

ثم إن الشيخ وجماعة من الأصحاب قد ذكروا أنه يجزئ من اللبن أربعة أرطال ، ومستندهم في ذلك إلى ما رواه الشيخ عن القاسم بن الحسن رفعه إلى أبي عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : «سئل عن الرجل في البادية لا يمكنه الفطرة؟ قال يتصدق بأربعة أرطال من لبن». ورواه الكليني في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه رفعه عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٥).

ولا يخفى أن الخروج عن تلك الأخبار المستفيضة بوجوب الصاع بمثل هذا الخبر الضعيف السند المجمل القابل للتأويل مشكل ، فإن الأرطال فيه غير معلومة بأنها من الأرطال المدنية أو العراقية والصاع كما تقدم ستة بالمدني وتسعة بالعراقي ، وظاهر الخبر عدم التمكن من الفطرة فيمكن حمله على الاستحباب. واحتمل بعض الأصحاب

__________________

(١) الوسائل الباب ٦ من زكاة الفطرة.

(٢) سورة الحجرات الآية ١٢.

(٣) المغني ج ٣ ص ٥٧ ونيل الأوطار ج ٤ ص ١٩٣.

(٤ و ٥) الوسائل الباب ٧ من زكاة الفطرة.

٢٩٥

أن وضع الأرطال هنا موضع الأمداد وقع سهوا من الراوي ، ولا يخلو عن قرب بأن يكون معنى قوله : «لا يمكنه الفطرة» يعني من الغلات.

والشيخ قد فسر الأرطال هنا بالمدنية استنادا إلى ما رواه عن محمد بن أحمد عن محمد بن عيسى عن محمد بن الريان (١) قال : «كتبت إلى الرجل عليه‌السلام أسأله عن الفطرة وزكاتها كم تؤدى؟ فكتب أربعة أرطال بالمدني». مع أنه بعد ذكر هذه الرواية احتمل فيها وجهين : أحدهما أن يكون أربعة أمداد فصحف الراوي ، والثاني أنه أراد أربعة أرطال من اللبن والأقط لأن من كان قوته ذلك يجب عليه منه القدر المذكور أقول : ويحتمل أيضا تبديل الستة بالأربعة وهو الأوفق بتقييده بالمدني.

وبالجملة فالخروج عن تلك الأخبار بمثل هذين الخبرين المجملين مشكل ، ولذا قال في المعتبر : والرواية في الضعف على ما ترى.

قال في المدارك بعد نقل ذلك عن المعتبر : وكأن الوجه في ذلك إطباق الأصحاب على ترك العمل بظاهرها وإلا فهي معتبرة الإسناد. انتهى.

أقول : فيه أولا ـ أن الصحة على الوجه الصحيح والنهج الصريح إنما هو عبارة عن مطابقة مضمون الرواية لمقتضى الأصول والقواعد والكتاب والسنة المستفيضة واتفاق الأصحاب ونحو ذلك صح سندها باصطلاحه أو ضعف ، والصحة باعتبار الأسانيد كما عليه أصحاب هذا الاصطلاح إنما هي صحة مجازية وإلا فالواجب عليه القول بمضمون هذه الرواية لصحة سندها واعتباره عنده وإن أطبق الأصحاب على ترك العمل بها ولا أراه يتفوه به ، ومثل ذلك في الأخبار من ما صح سنده وأعرض الأصحاب عنه كثير كما لا يخفى على المتتبع.

وثانيا ـ أنه لا يخفى أن محمد بن عيسى في سند الخبر مشترك بين العبيدي والأشعري وهو دائما يعد حديث العبيدي في الضعيف ويرد حديثه كما عليه أكثر أصحاب هذا الاصطلاح فكيف يدعي إن الرواية معتبرة الإسناد؟

__________________

(١) الوسائل الباب ٧ من زكاة الفطرة.

٢٩٦

الفصل الثالث ـ في وقت وجوبها والبحث في هذا الفصل يقع في مواضع :

الأول ـ في مبدأ وقت الوجوب ، وقد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ذلك ، فقيل إنها تجب بغروب شمس آخر يوم من شهر رمضان ، وهو المنقول عن الشيخ في الجمل والاقتصاد وهو اختيار ابن حمزة وابن إدريس وبه صرح المحقق في المعتبر والشرائع والعلامة في المنتهى والمختلف وسائر كتبه واختاره شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، والظاهر أنه هو المشهور بين المتأخرين ، وقيل إن أول وقت وجوبها طلوع الفجر من يوم الفطر ، كذا قاله ابن الجنيد واختاره المفيد في المقنعة والرسالة الغرية والسيد المرتضى وأبو الصلاح وابن البراج وسلار وابن زهرة ، كذا نقله عنهم في المختلف ، وإلى هذا القول مال السيد السند في المدارك. ونقل في المختلف أيضا عن ابني بابويه أنهما قالا : وإن ولد لك مولود يوم الفطر قبل الزوال فادفع عنه الفطرة وإن ولد بعد الزوال فلا فطرة عليه ، وكذا إذا أسلم الرجل قبل الزوال أو بعده. وهذه العبارة مشعرة بامتداد وقت الوجوب إلى الزوال كما فهمه الأصحاب منها ونسبوه إليهما ، قال شيخنا الشهيد في البيان : ويظهر من ابني بابويه أن تجدد الشرائط ما بين طلوع الفجر إلى الزوال مقتضية للوجوب كما لو أسلم الكافر أو تجدد الولد. أقول : والعبارة المنقولة عنهما عبارة كتاب الفقه الرضوي (١).

والظاهر عندي هو القول الأول ، ويدل عليه ما رواه في الفقيه عن علي بن أبي حمزة عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٢) «في المولود يولد ليلة الفطر واليهودي والنصراني يسلم ليلة الفطر؟ قال ليس عليهم فطرة. ليس الفطرة إلا على من أدرك الشهر».

وما رواه الشيخ في التهذيب والكليني في الصحيح عن معاوية بن عمار أيضا (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن مولود ولد ليلة الفطر عليه فطرة؟ قال لا قد

__________________

(١) ص ٢٥.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ١١ من زكاة الفطرة.

٢٩٧

خرج الشهر. وسألته عن يهودي أسلم ليلة الفطر عليه فطرة؟ قال لا».

احتج في المدارك على القول الثاني حيث إنه هو المعتمد عنده فقال : لنا ـ أن الوجوب في هذا الوقت متحقق وقبله مشكوك فيه فيجب الاقتصار على المتيقن.

وما رواه الشيخ في الصحيح عن العيص بن القاسم (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفطرة متى هي؟ فقال قبل الصلاة يوم الفطر. قلت فإن بقي منه شي‌ء بعد الصلاة؟ قال لا بأس نحن نعطي عيالنا منه ثم يبقى فنقسمه».

وفي الصحيح عن معاوية بن عمار عن إبراهيم بن ميمون (٢) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام الفطرة إن أعطيت قبل أن تخرج إلى العيد فهي فطرة وإن كانت بعد ما تخرج إلى العيد فهي صدقة».

والجواب : أما عن الأول فبأن ما ادعاه ـ من أن الوجوب قبل الوقت الذي ذكره مشكوك فيه ـ محل منع فإنه بعد قيام الدليل الصحيح الصريح عليه لا شك فيه ولا مرية تعتريه.

وأما عن الروايتين المذكورتين فإن موردهما إنما هو وقت الإخراج لا وقت الوجوب ، وهاهنا شيئان وقت وجوب الفطرة وتعلقها بالذمة واشتغالها بها ووقت وجوب إخراجها ومحل البحث هو الوقت الأول ، وقد دل الخبران الأولان على أن وجوبها منوط بمن يمضي عليه جزء من شهر رمضان ويهل عليه هلال شوال مستكملا لشروط الوجوب ، كالمولود يولد والكافر يسلم والعبد يشترى والفقير يصير غنيا والصغير يبلغ والمعال يبقى في العيلولة ونحو ذلك من الفروع التي يتفرع على ذلك ، ولو لم يتجدد شي‌ء من هذه المذكورات إلا بعد الهلال فإنه لا يتعلق به الوجوب بنص الخبرين المذكورين. وأما وقت وجوب الإخراج فالمفهوم من الأخبار كالخبرين المذكورين أنه قبل الصلاة ، وقيل قبل الزوال بناء على حمل الصلاة

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١٢ من زكاة الفطرة.

٢٩٨

في الأخبار على وقت الصلاة وأن وقتها ممتد إلى الزوال. وفيه ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

ومن العجب أنه مع تصلبه في اصطلاحه ورده الأخبار الضعيفة والطعن فيها يستدل هنا برواية إبراهيم بن ميمون ويصفها بالصحة باعتبار صحة السند إليه حيث إنه أراد الاستدلال بها مع رده لها في ثالث هذه المقالة ـ في مسألة انتهاء وقت الفطرة ـ بجهالة الراوي (١).

وأما ما أجاب به عن صحيحة معاوية بن عمار لما نقلها دليلا للقول الأول ـ حيث قال : وعن الرواية أنها إنما تدل على وجوب الإخراج عن من أدرك الشهر لا على أن أول وقت الإخراج الغروب وأحدهما غير الآخر. انتهى ـ

فلا يخفى ما فيه على المتأمل فإن محل النزاع ومحط البحث كما عرفت إنما هو في بيان وقت وجوب الفطرة وتعلقها بالمكلف وإخراجها عن نفسه ومن يعوله وقد اعترف بدلالة الرواية عليه ، وليس محل النزاع وقت وجوب الإخراج كما يعطيه كلامه حتى إنه بمنع دلالة الرواية على ذلك يسقط الاستدلال بها.

وهذا ظاهر كتب الأصحاب كالمعتبر والمنتهى والمختلف وغيرها فإن خلاف ابن الجنيد ومن معه في المسألة إنما هو في أصل تعلق الوجوب بالمكلف عن نفسه أو غيره ، ولهذا إن العلامة في المختلف قد استدل لهم بصحيحة العيص بن القاسم بالتقريب الذي ذكره العامة في روايتهم المطابقة للصحيحة المذكورة.

وبيانه أن المحقق (قدس‌سره) في المعتبر ـ بعد أن ذكر أنه تجب الفطرة بغروب الشمس آخر يوم من شهر رمضان ـ قال : وقال ابن الجنيد وجماعة من الأصحاب تجب بطلوع الفجر يوم العيد وبه قال أبو حنيفة لما رواه ابن عمر (٢)

__________________

(١) سيأتي نقل ذلك عنه في الموضع الثاني ص ٣٠٢.

(٢) سنن البيهقي ج ٤ ص ١٧٤ ونيل الأوطار ج ٤ ص ١٩١ والمغني ج ٣ ص ٦٧.

٢٩٩

«أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يأمرنا أن نخرج الفطرة قبل الخروج إلى المصلى». وهو لا يأمر بتأخير الواجب عن وقته. ثم إن المحقق استدل على ما قدمه بما ذكره الشارح هنا من الدليل العقلي ثم صحيحة معاوية بن عمار ، ثم قال : وحجة أبي حنيفة ضعيفة لاحتمال أن يكون الأفضل إخراجها قبل الصلاة. وقوله : «لا يأمر بالتأخير عن وقت الوجوب» قلنا : متى إذا لم يشتمل التأخير على مصلحة أم إذا اشتمل؟ وهنا التأخير مشتمل على مصلحة لأنه يجمع فيه بين إيتاء الزكاة والصلاة كما تؤخر المغرب لمن أفاض من عرفة إلى المشعر ليجمع بينها وبين العشاء وإن كان التقديم جائزا ، ولأن حاجة الفقير إليها نهارا فكان دفعها في وقت الحاجة أفضل من دفعها ليلا. وقوله : «كان يأمر بإخراج الزكاة قبل الخروج» لا يدل على أن ذلك الوقت وقت الوجوب بإجماع الناس لأن الصلاة لا تكون إلا بعد طلوع الشمس وانبساطها والوجوب عنده يتحقق مع طلوع الفجر فقد صارت حجته غير دالة على موضع النزاع. انتهى.

ولم ينقل في المقام دليل لمذهب ابن الجنيد من طرق الأصحاب ، وفي المختلف استدل لهم بصحيحة العيص بهذا التقريب ورده بما ذكره في المعتبر وإن كان بطريق أخصر.

وحينئذ فقد علم من ذلك أن مدلول الرواية وموردها إنما هو بيان وقت الإخراج ، ولكنهم إنما استدلوا بها على تعلق أصل الوجوب من حيث قبح التأخير عن وقت الوجوب ، فهو إنما أمر بالإخراج في هذا الوقت لأنه هو الوقت الذي تعلق فيه الوجوب بالمكلف.

وبذلك يظهر لك صحة ما قلناه وهو أن أصل المسألة ومحل البحث والخلاف إنما هو في وقت تعلق الوجوب لا وقت الإخراج كما يعطيه كلامه.

ولهذا إن الشيخ وكذلك المحقق في المعتبر والشرائع والعلامة في كتبه فرعوا على ما اختاروه من تعلق الوجوب بغروب شمس آخر نهار يوم من شهر رمضان فروعا : منها ـ لو وهبه عبدا قبل الهلال ولم يقبض ، ومنها ـ لو أوصى له بعبد

٣٠٠