الحدائق الناضرة - ج ١٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٤

فإذا أدرك الحول كانت عليه زكاة باعتبار مضي الحول عليه كذلك ، وإن جعل جملة مستقلة مع بعده يكون المعنى أنه ليس عليه لما يستقبل من الزمان زكاة متى حال الحول عليه حتى يحول عليه وهو مدرك بالغ فإذا حال عليه وهو كذلك وجبت زكاة واحدة.

و (ثانيا) ـ أن ما ذكره من أن أدلة الحول لا يستفاد منها اشتراط كون الحول في زمن التكليف إن أريد به أنه لم يصرح بذلك فيها فهو مسلم لكن المفهوم من جملة منها ذلك ، فإنه يستفاد منها صريحا في بعض وظاهرا في آخر أنه لا بد في وجوب الزكاة على المكلف أن يحول الحول على النصاب عنده وفي يده كما في روايات الدين وروايات المال الغائب (١) والمتبادر من كونه عنده وفي يده هو التصرف فيه كيف شاء وهو المشار إليه في تلك الشروط بإمكان التصرف ، ولا ريب أن المال بالنسبة إلى الطفل محجور عليه ليس عنده ولا في يده. وبالجملة فإن قيد إمكان التصرف المشترط في وجوب الزكاة وأنه لا بد أن يحول عليه الحول متمكنا من التصرف من ما ينفي وجوب الزكاة في الصورة المفروضة على الطفل حتى يبلغ ويحول عليه الحول في يده.

الثاني ـ لا ريب أن الذي اشتملت عليه روايات المسألة كما سمعت من ما نقلناه منها وكذا ما لم ننقله إنما هو التعبير باليتيم وهو لغة وشرعا من لا أب له ، والأصحاب هنا كملا من غير خلاف يعرف أرادوا به المتولد حيا ما لم يبلغ وإن كان بين أبويه ، وأكثرهم إنما يعبر بالصبي ، وخصوصية اليتم غير مرادة في كلامهم والظاهر أن التعبير بهذه العبارة في الأخبار خرج مخرج الغالب من عدم الملك للطفل إلا من جهة موت الأب. وبالجملة فإنه لا إشكال في إرادة المعنى الأعم ، لأن المفهوم من الأخبار أن هذه العبارة وقعت في مقابلة البلوغ ، ويؤيده التعبير في بعض أخبار التجارة بغير هذه العبارة من ما يحمل على المعنى الأعم.

الثالث ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) باستحباب الزكاة في مال

__________________

(١) الوسائل الباب ٦ ممن تجب عليه الزكاة.

٢١

اليتيم والمجنون إذا اتجر به الولي لهما ، وظاهر الشيخ المفيد في المقنعة الوجوب إلا أن الشيخ في التهذيب حمل كلامه على الاستحباب محتجا بأن المال لو كان لبالغ واتجر به لما وجبت فيه الزكاة فالطفل أولى. ونقل عن ابن إدريس نفي الوجوب والاستحباب ، وإليه مال السيد السند في المدارك.

حجة القول المشهور على عدم الوجوب الأخبار الآتية في زكاة التجارة المؤيدة بالأصل ، وعلى الاستحباب أخبار عديدة : منها ـ حسنة محمد بن مسلم (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) هل على مال اليتيم زكاة؟ قال لا إلا أن يتجر به أو يعمل به».

وما رواه في الكافي عن سعيد السمان (٢) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول ليس في مال اليتيم زكاة إلا أن يتجر به فإن اتجر به فالربح لليتيم وإن وضع فعلى الذي يتجر به».

وما رواه في الموثق عن يونس بن يعقوب (٣) قال : «أرسلت إلى أبي عبد الله (عليه‌السلام) إن لي إخوة صغارا فمتى تجب على أموالهم الزكاة؟ فقال إذا وجبت عليهم الصلاة وجبت عليهم الزكاة. قلت فما لم تجب عليهم الصلاة؟ قال إذا اتجر به فزكه».

وما رواه في التهذيب عن أحمد بن عمر بن أبي شعبة عن أبيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٤) «أنه سئل عن مال اليتيم فقال لا زكاة عليه إلا أن يعمل به».

وما رواه عن محمد بن الفضيل (٥) قال : «سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن صبية صغار لهم مال بيد أبيهم أو أخيهم هل يجب على مالهم زكاة؟ فقال لا يجب في مالهم زكاة حتى يعمل به فإذا عمل به وجبت الزكاة فأما إذا كان موقوفا فلا زكاة عليه».

ويدل على ذلك بالنسبة إلى المجنون ما رواه الكليني في الصحيح عن

__________________

(١ و ٢ و ٥) الوسائل الباب ٢ ممن تجب عليه الزكاة.

(٣ و ٤) الوسائل الباب ١ ممن تجب عليه الزكاة.

٢٢

عبد الرحمن بن الحجاج (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) امرأة من أهلنا مختلطة أعليها زكاة؟ فقال إن كان عمل به فعليها زكاة وإن لم يعمل به فلا».

وعن موسى بن بكر (٢) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن امرأة مصابة ولها مال في يد أخيها فهل عليه زكاة؟ فقال إن كان أخوها يتجر به فعليه زكاة».

وأنت خبير بأن ظاهر هذه الأخبار هو الوجوب كما نقل عن الشيخ المفيد ولكن الشيخ ومن تبعه من الأصحاب كما هو المشهور لما اتفقوا على الاستحباب في مال التجارة وهذه المسألة من أفراد تلك المسألة حكموا بالاستحباب هنا ، وسيأتي في زكاة التجارة ما في المسألة من الإشكال.

وقال بعض المحققين من متأخري المتأخرين : والظاهر أن للولي الأجرة في الصورة المذكورة إن لم يتبرع وله المضاربة أيضا وكل ذلك مع المصلحة. ولا إشكال في صحة ما ذكره (قدس‌سره).

ويدل عليه رواية أبي الربيع (٣) قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يكون في يده مال لأخ له يتيم وهو وصيه أيصلح له أن يعمل به؟ قال نعم كما يعمل بمال غيره والربح بينهما. قال قلت فهل عليه ضمان؟ قال لا إذا كان ناظرا له».

ونقل عن ابن إدريس أنه أنكر جواز أخذ الولي من الربح شيئا في هذه الصورة. وهو اجتهاد في مقابلة النص لكنه بناء على أصله الغير الأصيل صحيح.

وأما القول الآخر وهو ما ذهب إليه ابن إدريس من نفي الزكاة وجوبا واستحبابا فاحتج عليه بأن الروايات الواردة بالاستحباب ضعيفة شاذة أوردها الشيخ في كتبه إيرادا لا اعتقادا.

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٣ ممن تجب عليه الزكاة.

(٣) الوسائل الباب ٢ ممن تجب عليه الزكاة.

٢٣

قال في المدارك : وهذا القول جيد على أصله بل لا يبعد المصير إليه لأن ما استدل به على الاستحباب غير نقي الإسناد بل ولا واضح الدلالة أيضا. انتهى.

وفيه نظر : أما ما طعن به من ضعف إسناد هذه الأخبار فمنها حسنة محمد بن مسلم وحسنها إنما هو بإبراهيم بن هاشم الذي اتفق أصحاب هذا الاصطلاح على قبول روايته وأنها لا تقصر عن الصحيح بل عدها في الصحيح جملة من محققي متأخري المتأخرين ، وهو أيضا قد عدها في الصحيح في مواضع أشرنا إلى جملة منها في كتاب الطهارة والصلاة ، ومنها موثقة يونس بن يعقوب التي ذكرها أيضا وقد تقدم في غير موضع من شرحه عمله بالموثقات المعتضدة بالشهرة بين الأصحاب ، ومنها أيضا زيادة على ما ذكره صحيحة زرارة المروية في الفقيه عن أبي جعفر عليه‌السلام (١) قال «ليس في الجوهر وأشباهه زكاة وإن كثر وليس في نقر الفضة زكاة ولا على مال اليتيم زكاة إلا أن يتجر به فإن اتجر به ففيه الزكاة ، والربح لليتيم وعلى التاجر ضمان المال». ومن ما يعضدها ما ورد في مال المجنون من الأخبار المتقدمة ورواية موسى بن بكر.

وأما ما طعن به من عدم وضوح الدلالة فهو محل العجب فإن وضوحها في الدلالة على ذلك أوضح من أن ينكر وصراحة مقالاتها في ما هنالك ظاهر لذوي النظر.

وبالجملة فإن رد هذه الأخبار التي ذكرناها من غير معارض في المقام يحتاج إلى مزيد جرأة على الملك العلام وأهل الذكر (عليهم‌السلام) وهذا أحد مفاسد هذا الاصطلاح الذي هو إلى الفساد أقرب من الصلاح ، ولهذا إن الفاضل الخراساني مع اقتفائه أثر السيد المذكور في جل الأحكام والانتصار لمقالاته في غير مقام نكص عنه هنا حيث قال بعد نقل جل هذه الأخبار ما صورته : وهذه الأخبار

__________________

(١) الوسائل الباب ١٢ من ما تجب فيه الزكاة و ٢ ممن تجب عليه الزكاة.

٢٤

واضحة الدلالة على المدعى مع كون أكثرها معتبرا صالحا للحجية واعتضادها بالشهرة بين الطائفة وعدم خلاف محقق ، فلا وجه لتوقف بعض المتأخرين في الحكم المذكور نظرا إلى أن ما استدل به على الاستحباب غير نقي السند ولا واضح الدلالة أيضا. انتهى وبالجملة فإن كلامه (قدس‌سره) هنا لا يخلو من مجازفة. نعم في المسألة إشكال يأتي ذكره في زكاة التجارة إن شاء الله تعالى.

الرابع ـ إنهم صرحوا بأنه يجوز للناظر متى كان وليا مليا أن ينقل المال إلى ذمته ويتجر به لنفسه فيكون الربح له والزكاة عليه.

ويدل عليه ما رواه الشيخ عن ربعي بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) «في رجل عنده مال ليتيم؟ فقال إن كان محتاجا وليس له مال فلا يمس ماله وإن هو اتجر به فالربح لليتيم وهو ضامن».

وما رواه عن أسباط بن سالم عن أبيه (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام قلت أخي أمرني أن أسألك عن مال يتيم في حجره يتجر به؟ فقال إن كان لأخيك مال يحيط بمال اليتيم إن تلف أو أصابه شي‌ء غرمه وإلا فلا يتعرض لمال اليتيم».

واستثنى الأصحاب من غير خلاف يعرف من الولي الذي يشترط في جواز تصرفه الملاءة أن لا يكون أبا أو جدا فجوزوا لهما الاقتراض من مال الطفل مطلقا واستشكله السيد في المدارك ، والظاهر أن ما ذكره الأصحاب هو الأقرب ولا سيما مع اشتراط الضمان لما استفاض في الأخبار أن الولد وماله لأبيه (٣).

ولو اختل أحد الشرطين المتقدمين من الولاية والملاءة فقد ذكروا أنه يكون ضامنا والربح لليتيم أو المجنون ، وتدل عليه صحيحة ربعي المتقدمة.

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٧٥ من ما يكتسب به. والراوي في الحديث أسباط بن سالم كما في الفروع ج ١ ص ٣٦٥ ، وفي التهذيب ج ٦ ص ٣٤١ الطبع الحديث عن الكليني الراوي أسباط بن سالم عن أبيه كما هنا.

(٣) الوسائل الباب ٧٨ من ما يكتسب به.

٢٥

ومثلها رواية منصور الصيقل عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «سألته عن مال اليتيم يعمل به؟ قال فقال إذا كان عندك مال وضمنته فلك الربح وأنت ضامن للمال وإن كان لا مال لك وعملت به فالربح للغلام وأنت ضامن للمال».

وأنت خبير بأن ما اشتمل عليه الخبران من الضمان فلا إشكال فيه ، لأن التصرف على هذا الوجه منهي عنه شرعا فيكون المتصرف غاصبا عاصيا والغصب يستلزم الضمان ، وإنما الإشكال في ما دلا عليه من أن الربح لليتيم مطلقا فإنه على إطلاقه مخالف لجملة من القواعد الشرعية والضوابط المرعية ، بل لا بد في صحة انتقاله لليتيم أن يقيد بكون الشراء وقع بعين المال لا في الذمة فإنه متى كان بعين المال اقتضى انتقال المبيع إلى الطفل والربح يتبعه ، ولا بد أيضا من تقييده بما إذا كان المشتري وليا أو بإجازة الولي كما صرح به الشهيد وغيره وإلا كان باطلا لأنه تصرف منهي عنه شرعا ، بل لا يبعد كما ذكره السيد السند في المدارك توقف الشراء وإن كان من الولي أو بإجازته على الإجازة من الطفل بعد البلوغ ، لأن الشراء لم يقع بقصد الطفل ابتداء وإنما أوقعه المتصرف لنفسه فلا ينصرف إلى الطفل بدون الإجازة ، قال : ومع ذلك كله يمكن المناقشة في صحة مثل هذا العقد وإن قلنا بصحة العقد الواقع من الفضولي مع الإجازة لأنه لم يقع للطفل ابتداء من غير من إليه النظر في ماله وإنما وقع بقصد التصرف ابتداء على وجه منهي عنه. انتهى وظاهر الخبرين المتقدمين كما ترى الحكم بانتقال الربح لليتيم مطلقا. وبالجملة فإن الخروج عن مقتضى هذه القواعد إلى العمل بإطلاق الخبرين مشكل ومخالفته أشكل.

الخامس ـ إنه قد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في استحباب الزكاة في الصورة المتقدمة ، فذهب المحقق والعلامة إلى نفيه ، واحتج عليه في النهاية بأنه تجارة باطلة ، وبما رواه سماعة في الموثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «قلت له الرجل يكون عنده مال اليتيم فيتجر به أيضمنه؟ قال نعم. قلت فعليه زكاة؟

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٢ ممن تجب عليه الزكاة.

٢٦

قال : لا لعمري لا أجمع عليه خصلتين الضمان والزكاة». وأثبته الشيخ والشهيدان والمحقق الشيخ علي لعموم الأدلة السابقة.

قال بعض فضلاء متأخري المتأخرين : ويمكن الجمع بين هذه الرواية والعمومات السابقة إما بتخصيص الأخبار السابقة بصورة يكون الاتجار لليتيم وتخصيص هذه بغيرها وإما بحمل هذه الرواية على نفي الوجوب أو الاستحباب المؤكد. انتهى.

أقول : الظاهر هو الأول والحمل الثاني بعيد غاية البعد ، وذلك فإن صحيحة ربعي المتقدمة ومثلها رواية منصور الصيقل قد دلتا على أن الربح لليتيم ومن الظاهر أن الربح تابع للأصل ، ومتى كان أصل المبيع لليتيم وربحه له فلا وجه لجعل الزكاة على المتصرف في مال اليتيم ، هذا إن عملنا على إطلاق الخبرين المذكورين ، وإن خصصناهما كما تقدم يرجع الكلام إلى صورة ما إذا اشترى في الذمة حيث إن المبيع ينتقل له والربح له وإن كان تصرفه في الثمن محرما ، وفي دخول هذه الصورة تحت تلك العمومات نظر لأن ظاهر قولهم (عليهم‌السلام) «ليس في مال اليتيم زكاة إلا أن يتجر به» لا يصدق على هذه الفروض التي اشتراها في الذمة فإنها ليست مال اليتيم وإنما هي مال المشتري. وبالجملة فإن الاتجار بمال اليتيم إنما يصدق في ما إذا اشترى لليتيم بعين ماله أو شرى في الذمة نيابة وولاية عنه ودفع الثمن من ماله وما عدا ذلك فلا يدخل تحت عمومات تلك الأخبار إلا على وجه المجاز البعيد.

السادس ـ ما تقدم من الحكم بسقوط الزكاة عن المجنون من ما لا إشكال فيه لو كان الجنون مطبقا أما لو اعتراه أدوارا فهل يكون حكمه كذلك أو يتعلق به الوجوب في حال الإفاقة؟ صرح العلامة في التذكرة والنهاية بالأول ، قال في التذكرة : لو كان الجنون يعتوره أدوارا اشترط الكمال طول الحول فلو جن في أثنائه سقط واستأنف من حين عوده. واستقرب في المدارك تعلق الوجوب به في حال الإفاقة ، قال إذ لا مانع من توجه الخطاب إليه في تلك الحال. والمسألة

٢٧

محل إشكال وإن كان الأقرب ما ذكره العلامة (قدس‌سره) لما قدمناه قريبا من أن المستفاد من أدلة الحول الدالة على أنه يشترط أن يحول عليه الحول عند ربه وفي يد مالكه ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى في موضعها ـ هو إمكان التصرف مدة الحول وفي أي وقت شاء ، وهذا لا يجري في ذي الأدوار لأنه في حال الجنون يخرج عن مصداق هذه الأخبار كما لا يخفى على الناظر بعين التفكر والاعتبار.

الشرط الثالث ـ الحرية ولا خلاف بين الأصحاب في ذلك مع القول بعدم ملكه ، بل الظاهر أنه لا وجه لهذا الشرط على هذا التقدير لأن اشتراط الملك يقوم مقامه ، إنما الخلاف على تقدير ملكه كما هو الأصح وعليه دلت جملة من الأخبار وبه صرح جملة من الأصحاب من ملكه أرش الجناية وفاضل الضريبة وما وهبه سيده ، والمشهور عدم الوجوب وقيل بالوجوب ونقل عن المعتبر والمنتهى

والمعتمد الأول لصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «ليس في مال المملوك شي‌ء ولو كان له ألف ألف ولو احتاج لم يعط من الزكاة شيئا».

وصحيحته الأخرى عنه عليه‌السلام (٢) قال : «سأله رجل وأنا حاضر عن مال المملوك أعليه زكاة؟ فقال لا ولو كان له ألف ألف درهم ، ولو احتاج لم يكن له من الزكاة شي‌ء».

وموثقة إسحاق بن عمار (٣) قال «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما تقول في رجل يهب لعبده ألف درهم أو أقل أو أكثر. إلى أن قال قلت : فعلى العبد أن يزكيها إذا حال عليه الحول؟ قال لا إلا أن يعمل له فيها ، ولا يعطي العبد من الزكاة شيئا».

قيل : إن عدم الزكاة عليه في هذه الأخبار إنما هو من حيث حجر المولى عليه فلو صرفه وأذن له وأزال عنه الحجر وجب عليه ، وهو غير بعيد لما رواه في كتاب قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن عن علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام (٤) قال : «ليس على المملوك زكاة إلا بإذن مواليه».

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٤ ممن تجب عليه الزكاة.

٢٨

وحمل في الوسائل هذه الرواية على الاستحباب ، والظاهر أن الموجب لهذا الحمل إنما هو عدم وجود القائل بمضمونها مع أنك قد عرفت القول بوجوب الزكاة على العبد مطلقا ، وهو جيد لو لا ورود هذه الأخبار التي ذكرناها عملا بعموم الأخبار الدالة على وجوب الزكاة على من ملك النصاب (١) وحينئذ فيمكن تخصيص هذه الأخبار الدالة على عدم وجوب الزكاة على العبد في ما يملكه بهذه الرواية فإن ظاهرها الوجوب مع إذن السيد ، وكيف كان فلا ريب أنه الأحوط.

ثم لا يخفى أن ظاهر الأخبار المذكورة هو سقوط الزكاة عن المملوك مطلقا مكاتبا كان أو غير مكاتب ، نعم يخرج منه المكاتب المطلق إذا تحرر منه شي‌ء وبلغ نصيب جزئه الحر نصابا لدخوله تحت العمومات الدالة على من ملك النصاب مع شرط الحرية ، ولو لا الاتفاق على الحكم المذكور لأمكن المناقشة في دخوله تحت العمومات المذكورة ، فإن تلك العمومات إنما ينصرف إطلاقها إلى الأفراد الشائعة المتكثرة وهي من كان رقا بتمامه لا من تبعض بأن صار بعضه رقا وبعضه حرا فإنه من الفروض النادرة.

وجملة من الأصحاب إنما استدلوا على سقوط الزكاة عن المكاتب برواية وهب بن وهب القرشي عن جعفر عن آبائه عن علي (عليهم‌السلام) (٢) قال : «ليس في مال المكاتب زكاة». ورد بضعف السند. والأظهر الاستدلال بما ذكرنا من الأخبار في المقام.

قال في المدارك : وأما السقوط عن المكاتب المشروط والمطلق الذي لم يؤد شيئا فهو المعروف من مذهب الأصحاب ، واستدل عليه في المعتبر بأنه ممنوع من التصرف فيه إلا بالاكتساب فلا يكون ملكه تاما ، وبما رواه الكليني عن أبي البختري. ثم أورد الرواية المتقدمة ثم قال : وفي الدليل الأول نظر وفي سند

__________________

(١) يستفاد ذلك من أخبار الباب ٧ ممن تجب عليه الزكاة من الوسائل.

(٢) الوسائل الباب ٤ ممن تجب عليه الزكاة.

٢٩

الرواية ضعف ، مع أن مقتضى ما نقلناه عن المعتبر والمنتهى من وجوب الزكاة على المملوك إن قلنا بملكه الوجوب على المكاتب بل هو أولى بالوجوب. انتهى.

أقول : ظاهر كلامه أنه باعتبار بطلان الاستدلال المذكور لما ذكره من النظر في الدليلين المذكورين فإنه يقوي القول بالوجوب لعدم الدليل على السقوط وأيد ذلك بما ذهب إليه في المعتبر والمنتهى من الوجوب على المملوك مطلقا فالكاتب أولى.

وفيه (أولا) أن ما نقله عن الكتابين المذكورين في سابق هذه المقالة قد رده بالأخبار المتقدمة فكيف يعتضد به هنا؟

و (ثانيا) ـ أن الأخبار المتقدمة قد دلت على أنه ليس في مال المملوك شي‌ء وهو أعمّ من المكاتب وغيره ، وهي صحيحة صريحة شاملة بعمومها لما نحن فيه فهي الدليل على السقوط عن المكاتب ، نعم يخرج منه من تحرر بعضه بما يوجب بلوغ نصيب الحرية نصابا لما ذكره من الأدلة المشار إليها ويبقى الباقي.

و (ثالثا) ـ أنه كيف يكون المكاتب أولى بالوجوب وأصل القول لا دليل عليه بل الدليل كما عرفت قائم على خلافه فأي معنى لهذه الأولوية. نعم لو كان مجرد كلام المعتبر والمنتهى حجة شرعية أو ناشئا عن دليل اتجه القول بالأولويّة وإن كانت الأحكام الشرعية عندنا لا تبنى على مجرد الأولوية بل على الأدلة الواضحة الجليلة وبالجملة فإن كلامه هنا جار على ما تقدم في غير موضع من الاستعجال وعدم التأمل والتحقيق في ذلك المجال. والله العالم.

الشرط الرابع ـ الملك للنصاب وعليه اتفاق العلماء كما نقله في المعتبر ، ولأن الأخبار الدالة على وجوب الزكاة مصرحة بالملك إذ لا يخاطب بزكاة ما لا يملكه.

وقد فرعوا على هذا الشرط فروعا : منها ـ ما لو وهب له نصاب لم يجر في الحول إلا بعد القبض ، وهو مبني على أن القبض شرط في صحة الهبة كما هو أحد القولين لا في اللزوم كما هو القول الآخر ، فعلى القول الثاني لا يعتبر حصول القبض في

٣٠

جريان الموهوب في الحول بل المعتبر من حين الهبة التي بها حصل الملك ، نعم يخرج هذا بقيد التمكن من التصرف كما سيأتي.

ومنها ـ ما لو استقرض مالا وكانت عينه باقية عند المقترض فإنه يجري في الحول من حين القبض الذي حصل به الملك على المشهور ، وأما على مذهب الشيخ من أن القرض لا يملك إلا بالتصرف فلا يجب فيه شي‌ء وإن بقي أحوالا ، والأخبار صريحة في وجوب الزكاة في مال القرض على المقترض إذا بقي بعينه بعد القرض كما هو المشهور من ملكه بمجرد القبض إلا أن يتبرع المقرض بأداء الزكاة عنه كما دلت عليه صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) «في رجل استقرض مالا فحال عليه الحول وهو عنده؟ فقال إن كان الذي أقرضه يؤدي زكاته فلا زكاة عليه وإن كان لا يؤدي أدى المستقرض». واعتبر الشهيد في الإجزاء إذن المستقرض وإطلاق الرواية يدفعه.

ومنها ـ المبيع ذو الخيار خيار حيوان أو خيار شرط للبائع أو المشتري ، فإن المشهور أن المبيع ينتقل إلى المشتري من حين البيع ، وحينئذ فيجري في الحول من ذلك الوقت ، ومذهب الشيخ أنه لا ينتقل إلا بعد مضي الخيار والحيوان لا ينتقل إلا بعد مضي الثلاثة وذو الشرط حتى ينقضي الشرط ، وعلى ذلك فلا يدخل في الحول إلا بعد انقضاء الشرط. وقال إن الخيار إذا اختص بالمشتري ينتقل المبيع من ملك البائع بالعقد ولا يدخل في ملك المشتري ، ومقتضى ذلك سقوط الزكاة عن البائع والمشتري جميعا. وسيجي‌ء تحقيق هذه المسألة إن شاء الله تعالى في محلها.

الشرط الخامس ـ التمكن من التصرف وهو أيضا من ما لا خلاف فيه في ما أعلم ، فلا تجب الزكاة في المفقود ولا الغائب الذي ليس في يد وكيله ونحو ذلك.

ومن ما يدل على ذلك ما رواه في الكافي عن سدير الصيرفي (٢) قال : «قلت

__________________

(١) الوسائل الباب ٧ ممن تجب عليه الزكاة.

(٢) الوسائل الباب ٥ ممن تجب عليه الزكاة.

٣١

لأبي جعفر عليه‌السلام ما تقول في رجل كان له مال فانطلق به فدفنه في موضع فلما حال عليه الحول ذهب ليخرجه من موضعه فاحتفر الموضع الذي ظن أن المال فيه مدفون فلم يصبه فمكث بعد ذلك ثلاث سنين ثم إنه احتفر الموضع من جوانبه كله فوقع على المال بعينه كيف يزكيه؟ قال يزكيه لسنة واحدة لأنه كان غائبا عنه وإن كان احتبسه».

وموثقة إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) «رجل مات أبوه وهو غائب فعزل ميراثه هل عليه زكاة؟ قال لا حتى يقدم. قلنا يزكيه حين يقدم؟ قال لا حتى يحول عليه الحول وهو عنده».

وموثقة زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٢) «أنه قال في رجل ماله عنه غائب لا يقدر على أخذه؟ قال فلا زكاة عليه حتى يخرج فإذا خرج زكاه لعام واحد ، وإن كان يدعه متعمدا وهو يقدر على أخذه فعليه الزكاة لكل ما مر به من السنين».

وفي صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «لا صدقة على الدين ولا على المال الغائب عنك حتى يقع في يدك».

ويدل على ذلك أيضا الأخبار الدالة على أن كل ما لم يحل عليه الحول عند ربه فلا شي‌ء عليه (٤) وستأتي في محلها إن شاء الله تعالى.

ولا يخفى أنه وإن كان كل واحد من هذه الأخبار أخص من المدعى إلا أنه بضم بعضها إلى بعض من ما ذكرناه ومن ما لم نذكره ينتج منها الحكم المذكور ، فإن أكثر القواعد الشرعية إنما تحصل من ضم الجزئيات بعضها إلى بعض مثل القواعد النحوية الحاصلة من تتبع الجزئيات.

__________________

(١) لم نقف على رواية لإسحاق بهذا اللفظ عن أبي عبد الله (ع) نعم له موثقتان بهذا المضمون عن أبي إبراهيم (ع) راجع الوسائل الباب ٥ ممن تجب عليه الزكاة.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٥ ممن تجب عليه الزكاة.

(٤) الوسائل الباب ٨ من زكاة الأنعام.

٣٢

بقي الكلام في أن الأمر في بعض هذه الأخبار بزكاة المال لسنة واحدة هل هو على الاستحباب أو الوجوب؟ المشهور الأول بناء على اشتراط إمكان التصرف في الوجوب طول الحول كما تضمنته موثقة إسحاق المتقدمة وروايات الحول ، وظاهر بعض فضلاء متأخري المتأخرين الوجوب وحمل مطلق الأخبار على مقيدها. ولا ريب أنه الأحوط.

مسائل

الأولى ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في الدين الذي يقدر صاحبه على أخذه متى شاء لو لم يأخذه هل تجب عليه فيه الزكاة بعد الحول أم لا؟ قولان اختار أولهما الشيخ في النهاية والجمل والخلاف والمبسوط والشيخ المفيد والسيد المرتضى ، وثانيهما ابن أبي عقيل وابن الجنيد وابن إدريس ، وهو المشهور بين المتأخرين ومتأخريهم.

ومنشأ الاختلاف اختلاف ظواهر الأخبار ، ففي الموثق عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) : قال : «قلت له ليس في الدين زكاة؟ قال لا».

وفي موثقة إسحاق بن عمار (٢) قال : «قلت لأبي إبراهيم عليه‌السلام الدين عليه زكاة؟ فقال لا حتى يقبضه. قلت فإذا قبضه أيزكيه؟ قال لا حتى يحول عليه الحول في يده».

وموثقة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «سألته عن رجل يكون نصف ماله عينا ونصفه دينا فتحل عليه الزكاة؟ قال يزكي العين ويدع الدين».

وصحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة قريبا (٤) وتؤيده الأخبار الدالة على أن كل ما لا يحول عليه الحول عند ربه فلا شي‌ء عليه (٥) هذا ما يدل على المشهور.

وأما ما يدل على القول الآخر فموثقة زرارة المتقدمة (٦) وقوله فيها :

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ٦ ممن تجب عليه الزكاة.

(٤) ص ٣٢.

(٥) الوسائل الباب ٨ من زكاة الأنعام.

(٦) ص ٣٢.

٣٣

«وإن كان يدعه متعمدا وهو يقدر على أخذه فعليه الزكاة لكل ما مر به من السنين».

وما رواه في الكافي عن عمر بن يزيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «ليس في الدين زكاة إلا أن يكون صاحب الدين هو الذي يؤخره ، فإذا كان لا يقدر على أخذه فليس عليه زكاة حتى يقبضه».

وما رواه في التهذيب عن عبد العزيز (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون له الدين أيزكيه؟ قال كل دين يدعه هو إذا أراد أخذه فعليه زكاته ، وما كان لا يقدر على أخذه فليس عليه زكاة».

ومن قال بالقول المشهور حمل هذه الأخبار على الاستحباب جمعا بين الأخبار ، ومن قال بالقول الآخر حمل مطلق الأخبار على مقيدها ، وهو الأظهر فإن الجمع بين الأخبار بالحمل على الاستحباب وإن اشتهر بين الأصحاب حتى صار هو المعول عليه في جميع الأبواب إلا أنه لا دليل عليه من سنة ولا كتاب ، مع ما في منافرة التفصيل الذي في الروايتين الأخيرتين لذلك. وأما أخبار الحول فهي غير منافية لأن المراد بالعندية فيها الكناية عن إمكان التصرف سواء كان في يده أو يد وكيله أو نحو ذلك اتفاقا ، ولا يخفى أنه هو الأوفق بالاحتياط أيضا.

والظاهر أنه لا خلاف في عدم الوجوب في الدين الذي لا يقدر صاحبه على أخذه ، ويدل عليه مضافا إلى روايتي عمر بن يزيد وعبد العزيز المتقدمتين صحيحة إبراهيم بن أبي محمود (٣) قال : «قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام الرجل يكون له الوديعة والدين فلا يصل إليهما ثم يأخذهما متى تجب عليه الزكاة؟ قال إذا أخذهما ثم يحول عليه الحول يزكي».

وأما ما رواه في الكافي عن عبد الحميد بن سعد (٤) ـ قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل باع بيعا إلى ثلاث سنين من رجل ملي بحقه وماله في ثقة يزكي ذلك المال في كل سنة تمر به أو يزكيه إذا أخذه؟ قال لا بل يزكيه إذا أخذه. قلت لكم

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٦ ممن تجب عليه الزكاة.

٣٤

يزكيه إذا أخذه؟ قال لثلاث سنين». ـ فحمله جملة من الأصحاب على الاستحباب والأظهر حمله على ما إذا كان تأخير القبض من صاحب المال أو حمله على مال التجارة وعدم الوضيعة عن رأس المال.

وكذا ما رواه في الكافي في الموثق عن سماعة (١) قال : «سألته عن الرجل يكون له الدين على الناس تجب فيه الزكاة؟ قال ليس عليه فيه زكاة حتى يقبضه فإذا قبضه فعليه الزكاة ، وإن هو طال حبسه على الناس حتى يمر لذلك سنون فليس عليه زكاة حتى يخرج فإذا خرج زكاه لعامه ذلك ، وإن كان يأخذ منه قليلا قليلا فليزك ما خرج منه أولا فأولا ، وإن كان متاعه ودينه وماله في تجارته التي يتقلب فيها يوما بيوم يأخذ ويعطي ويبيع ويشتري فهو شبه العين في يده فعليه الزكاة ، ولا ينبغي له أن يغير ذلك إذا كان حال متاعه وماله على ما وصفت لك فيؤخر الزكاة». وحملت على الاستحباب أيضا ، والظاهر هو الحمل على الوجوب لكن بتقدير حول الحول عليه بعينه. وأما آخر الخبر فالظاهر أن المراد به زكاة التجارة وإن كان معناه لا يخلو من نوع غموض.

تتمة

تتضمن الكلام على كلام بعض الأعلام

قال السيد في المدارك بعد اختياره القول المشهور بين المتأخرين : لنا التمسك بمقتضى الأصل والروايات المتضمنة لسقوط الزكاة في مال القرض عن المقرض (٢) فإنه من أنواع الدين. ثم استدل بصحيحة عبد الله بن سنان وموثقة إسحاق بن عمار وموثقة الحلبي ، ثم نقل احتجاج الشيخ برواية درست وعبد العزيز (٣) وأجاب عنهما بضعف السند ، ثم نقل عن العلامة في المختلف حملهما على الاستحباب مع كلام له تأتي الإشارة إليه.

__________________

(١) الوسائل الباب ٦ ممن تجب عليه الزكاة.

(٢) الوسائل الباب ٧ ممن تجب عليه الزكاة.

(٣) ص ٣٤ ورواية درست هي رواية عمر بن يزيد إلا أن الشيخ في التهذيب ج ١ ص ٣٥٧ لم يذكر عمر بن يزيد.

٣٥

أقول : فيه (أولا) أن ما اعتمده من الأصل فإنه يجب الخروج عنه بالدليل وقد عرفته وستعرف ما يؤكده.

و (ثانيا) أن ما استند إليه من روايات القرض مردود بأن الروايات المذكورة قد دل أكثرها على تعليل وجوب الزكاة على المقترض بأنه صار ماله بالقرض وهو ملكه فنسبة المقرض إليه نسبة الأجنبي وما أجمل منها فهو محمول على ذلك ، فلا دلالة فيها على ما ادعاه إذ المفهوم منها أن محل السؤال فيها إنما هو عن تلك العين التي اقترضها المقترض ومحل البحث إنما هو في الدين المستقر في ذمة المستدين مع حلوله عليه وبذله ، ولا ريب أن إحدى المسألتين غير الأخرى كما لا يخفى على من راجع روايات القرض الآتية في تلك المسألة ، ومنها صحيحة زرارة أو حسنته وصحيحة منصور بن حازم الآتيتان (١) وهو إنما استند إلى روايات القرض من حيث كونه من أنواع الدين والروايات المذكورة لم تتضمن سقوط الزكاة من هذه الحيثية وإنما تضمنت السقوط عن تلك العين المخصوصة من حيث إنها ليست ملكا للمقرض فلا تعلق له بروايات القرض في هذا المقام.

و (ثالثا) ما أجاب به عن حجة الشيخ بالطعن في السند فإنه لا يقوم حجة على الشيخ وأمثاله من المتقدمين الذين لا أثر لهذا الاصطلاح عندهم بل يحكمون بصحة جميع الأخبار ، على أن الدليل غير منحصر في هاتين الروايتين :

فقد روى الكليني في الكافي في الصحيح عن أبي الصباح الكناني عن الصادق عليه‌السلام (٢) «في الرجل ينسئ أو يعين فلا يزال ماله دينا كيف يصنع في زكاته؟ فقال يزكيه ولا يزكي ما عليه من الدين إنما الزكاة على صاحب المال». وموثقة زرارة المتقدمة.

وقال عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (٣) : وإن غاب مالك عنك فليس عليك

__________________

(١) ص ٣٩ و ٤٠.

(٢) الوسائل الباب ٩ ممن تجب عليه الزكاة.

(٣) مستدرك الوسائل الباب ٥ و ٦ ممن تجب عليه الزكاة.

٣٦

الزكاة إلا أن يرجع إليك ويحول عليه الحول وهو في يدك ، إلا أن يكون مالك على رجل متى ما أردت أخذت منه فعليك زكاته.

ولا يخفى أن اعتماده في الاستدلال لما ذهب إليه إنما هو على إطلاق صحيحة عبد الله بن سنان ، حيث إن الموثق عنده من قسم الضعيف وإن أغمض النظر عنه في وقت الاحتياج إليه كما هنا ، وإن ما عارض ذلك من روايتي درست وعبد العزيز في حكم العدم عنده لضعفهما ، وحينئذ فمع وجود صحيحة الكناني المذكورة وموثقة زرارة يضعف ما صار إليه لمعارضة صحيحة عبد الله بن سنان بصحيحة الكناني وموثقتي إسحاق بن عمار والحلبي بموثقة زرارة مع بقية الأخبار المذكورة ، والجمع بين الجميع بتقييد إطلاق تلك الأخبار التي اعتمدها بهذه الأخبار التي ذكرناها مقتضى القاعدة المطردة في كلامهم من حمل المطلق على المقيد والعام على الخاص والمجمل على المبين ، على أن الحمل على الاستحباب وإن اشتهر بين الأصحاب في جميع الأبواب إلا أنه لا دليل عليه من سنة ولا كتاب وأن النظر بعين الإنصاف والاعتبار يقتضي ضعفه وأنه ناقص العيار ، وذلك فإن الاستحباب حكم شرعي يتوقف على الدليل الواضح كغيره من الوجوب والتحريم ونحوهما واختلاف الأخبار ليس دليلا على ذلك. وأيضا فإن الحمل على الاستحباب مجاز لا يصار إليه إلا مع القرينة واختلاف الأخبار ليس من قرائن المجاز.

و (رابعا) أن قول العلامة في المختلف في ما نقله السيد عنه واستجوده ـ من أنه يلزم من تقييد الإطلاق في رواية الحلبي تأخير البيان عن وقت الحاجة ـ ممنوع وإنما اللازم تأخير البيان عن وقت الخطاب وإلا لزم ذلك في جميع الأخبار المطلقة بالنسبة إلى الأخبار المقيدة فلا يمكن تقييدها بها وهم لا يلتزمونه ، ووقت الحاجة هنا غير معلوم ولا مدلول عليه بصريح ولا إشارة.

نعم ذكر بعض الأصحاب ممن اختار القول بعدم الوجوب أن جمهور العامة على القول بالوجوب في الدين فإن ثبت فلا يبعد حمل هذه الأخبار على التقية. إلا

٣٧

أن فيه أيضا أن الأخبار المذكورة دلت على التفصيل في الدين بين ما يمكن أخذه وما لا يمكن أخذه والخلاف المنقول عن العامة كما نقله العلامة في المنتهى في الدين مطلقا ، فبعض قال فيه بالوجوب مطلقا ونقله عن الثور وأبي ثور وأصحاب الرأي وجابر وطاوس والنخعي والحسن والزهري وقتادة وحماد والشافعي وأحمد ، وبعض قال بعدم الوجوب مطلقا ونقله عن عكرمة وعائشة وابن عمر والشافعي في القديم. وأما القول بالتفصيل كما دلت عليه الأخبار فلم ينقل عن أحد منهم (١) وبذلك يظهر ضعف الحمل على التقية كما ذكره البعض المشار إليه.

وبالجملة فالظاهر هو قوة القول بالوجوب للأخبار المذكورة ويجب حمل مطلقها على مقيدها. والله العالم.

الثانية ـ الظاهر أنه لا خلاف في عدم الزكاة في الوقف ، لأنها مشروطة كما تقدم بالملك والوقف غير مملوك للموقوف عليه على أحد القولين أو مملوك له ولكنه غير مستقل بالملك لأنه حق البطون بعده ، ولأنه ممنوع من التصرف فيه إلا بالاستنماء. نعم تجب الزكاة في نمائه إذا كان الوقف على شخص معين أو أشخاص مع بلوغ

__________________

(١) في المغني ج ٣ ص ٤٦ : إذا كان له دين على معترف به باذل له فعلى صاحبه زكاته إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يقبضه فيؤدي لما مضى ، روى ذلك عن علي (ع) وبه قال للثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي ، وقال عثمان وابن عمر وجابر وطاوس والنخعي وجابر بن زيد والحسن وميمون بن مهران والزهري وقتادة وحماد بن أبي سليمان والشافعي وإسحاق وأبو عبيد : عليه إخراج الزكاة في الحال وإن لم يقبضه لأنه قادر على أخذه والتصرف فيه فلزمه إخراج زكاته كالوديعة ، وقال عكرمة ليس في الدين زكاة وروى ذلك عن عائشة وابن عمر ، وقال سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وعطاء الخراساني وأبو الزناد : يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة. وأما الدين على معسر أو مماطل أو جاحد ففيه روايتان : إحداهما ـ لا تجب قال به قتادة وإسحاق وأبو ثور وأهل العراق ، والثانية ـ يزكيه إذا قبضه قال به الثوري وأبو عبيد ، وللشافعي قولان كالروايتين ، وعن عمر بن عبد العزيز والحسن والليث والأوزاعي ومالك يزكيه إذا قبضه لعام واحد.

٣٨

حصة كل منهم على تقدير التعدد النصاب ، أما لو كان الوقف على جهة عامة كالوقف على المساجد ونحوها فهو في الحقيقة وقف على سائر المسلمين كما صرحوا به ولا زكاة فيه كما لا زكاة في بيت المال من غير خلاف ولا إشكال لأن خطابات الزكاة لا عموم فيها بحيث تتعلق بمثل ذلك.

الثالثة ـ قد صرحوا من غير خلاف يعرف أنه لا يشترط في وجوب الزكاة التمكن من الأداء بل تجب عليه وإن لم يتمكن من إيصالها إلى مستحقها ، ويدل عليه ظواهر جملة من الأخبار مثل قولهم (عليهم‌السلام) (١) «أيما رجل عنده مال وحال عليه الحول فإنه يزكيه». نعم يشترط ذلك في الضمان ، والظاهر أنه متفق عليه أيضا ، ويدل عليه ظواهر جملة من الأخبار الدالة على أن من وجد لها موضعا فلم يدفعها فضاعت فإن عليه الضمان ومن لم يجد فليس عليه ضمان (٢) وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى في موضعه اللائق به.

الرابعة ـ قد تقدم أن الأشهر الأظهر هو أن مال القرض تجب زكاته على المقترض إذا حال الحول عليه عنده.

ويدل عليه جملة من الأخبار : منها ـ صحيحة زرارة أو حسنته على المشهور بإبراهيم بن هاشم (٣) قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام رجل دفع إلى رجل مالا قرضا على من زكاته على المقرض أو على المقترض؟ قال لا بل زكاتها إن كانت موضوعة عنده حولا على المقترض. قال قلت فليس على المقرض زكاتها؟ قال لا يزكى المال من وجهين في عام واحد ، وليس على الدافع شي‌ء لأنه ليس في يده شي‌ء إنما المال في يد الآخر فمن كان المال في يده زكاه. قال قلت أفيزكي مال غيره من ماله؟ قال إنه ماله ما دام في يده وليس ذلك المال لأحد غيره. ثم قال يا زرارة أرأيت وضيعة ذلك

__________________

(١) الوسائل الباب ١٠ ممن تجب عليه الزكاة و ١٢ من زكاة الذهب والفضة.

(٢) الوسائل الباب ٢٩ من المستحقين للزكاة.

(٣) الوسائل الباب ٧ ممن تجب عليه الزكاة ، واللفظ مطابق لما في التهذيب ج ١ ص ٣٥٧ عن الكليني.

٣٩

المال أو ربحه لمن هو وعلى من هو؟ قلت للمقترض. قال فله الفضل وعليه النقصان وله أن ينكح ويلبس منه ويأكل منه ، ولا ينبغي له أن لا يزكيه بل يزكيه فإنه عليه جميعا». وبمضمونها أخبار عديدة.

وبه يظهر ضعف قول الشيخ المتقدم ذكره من أنه لا يدخل في ملك المقترض إلا بالتصرف في عينه وأنه لا زكاة عليه حينئذ. نعم لو تبرع المقرض بالزكاة عنه أجزأ كما سيأتي في صحيحة منصور بن حازم.

بقي الكلام هنا في أنه لو اشترط المقترض زكاته على المقرض فهل تسقط عن المقترض وتجب على المقرض أم لا؟ المشهور الثاني ونقل عن الشيخ الأول.

قال العلامة في المختلف : ولا زكاة على المقرض مطلقا أما المستقرض فإن ترك المال بعينه حولا وجبت عليه الزكاة وإلا فلا ، وهو اختيار ابن أبي عقيل والشيخ في النهاية في باب لزكاة والخلاف والمفيد في المقنعة والشيخ علي بن بابويه في الرسالة وابن إدريس. وقال الشيخ في باب القرض من النهاية إن شرط المقترض الزكاة على القارض وجبت عليه دون المستقرض. لنا ـ أنه ملك المقترض فالزكاة عليه والشرط غير لازم لأنه اشتراط للعبادة على غير من وجبت عليه وإنه باطل كما لو شرط غير الزكاة من العبادات ، وما رواه يعقوب بن شعيب في الصحيح (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يقرض المال للرجل السنة والسنتين والثلاث لو ما شاء الله على من الزكاة على المقرض أو على المستقرض؟ فقال على المستقرض لأن له نفعه وعليه زكاته». ثم ساق جملة من الأخبار الدالة على ذلك ومنها حسنة زرارة المتقدمة ، ثم قال احتجوا بما رواه منصور بن حازم في الصحيح عن الصادق عليه‌السلام (٢) «في رجل استقرض مالا فحال عليه الحول وهو عنده؟ فقال إن كان الذي أقرضه يؤدي زكاته فلا زكاة عليه وإن كان لا يؤدي أدى المستقرض». والجواب أنا نقول بموجبه فإن المقرض لو تبرع بالأداء سقط عن المقترض أما الوجوب مع الشرط فممنوع

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٧ ممن تجب عليه الزكاة.

٤٠