الحدائق الناضرة - ج ١٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٤

أبا جعفر عليه‌السلام عن الرجل يبعث بزكاته فتسرق أو تضيع؟ قال ليس عليه شي‌ء».

وعن وهيب بن حفص في الموثق (١) قال : «كنا مع أبي بصير فأتاه عمرو ابن إلياس فقال له يا أبا محمد إن أخي بحلب بعث إلي بمال من الزكاة أقسمه بالكوفة فقطع عليه الطريق فهل عندك فيه رواية؟ قال نعم سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن هذه المسألة ولم أظن أن أحدا يسألني عنها أبدا فقلت لأبي جعفر عليه‌السلام جعلت فداك الرجل يبعث بزكاة ماله من أرض إلى أرض فيقطع عليه الطريق؟ فقال قد أجزأت عنه ولو كنت أنا لأعدتها». ونحوها غيرها. وإطلاقها مقيد بالخبرين الأولين. وظاهر هذا الخبر الأخير استحباب إعادة الإخراج في الصورة المذكورة.

ومن ما يدل على الثالث صحيحة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقسم صدقة أهل البوادي في أهل البوادي وصدقة أهل الحضر في أهل الحضر. الحديث».

وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «لا تحل صدقة المهاجرين للأعراب ولا صدقة الأعراب للمهاجرين».

وأورد هذين الخبرين في الكافي في باب (بعث الزكاة من بلد إلى آخر) وهو مؤذن بما قلناه وإن احتمل حملهما على ما هو أعمّ. والله أعلم.

تنبيهات

الأول ـ الظاهر أنه لا خلاف بناء على القول بتحريم النقل في أنه لو خالف ووصلت إلى الفقراء فإنها تجزئ عنه لصدق الامتثال وإن أثم باعتبار المخالفة ، إلا أنك قد عرفت أنه لا دليل على التحريم بل الدليل قائم على خلافه.

الثاني ـ قد صرحوا بأنه لو أخر الدفع مع وجود المستحق أثم وضمن ، فأما

__________________

(١) الفروع ج ١ ص ١٥٧ وفي الوسائل الباب ٣٩ من المستحقين للزكاة.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٣٨ من المستحقين للزكاة.

٢٤١

الضمان فلا ريب فيه لما عرفت من الأخبار المتقدمة ، وأما الإثم فهو مبني على القول بالفورية وعدم جواز التأخير عن وقت الوجوب ، وأما على القول بجواز التأخير شهرين أو أكثر فلا. وقد تقدم تحقيق القول في المسألة.

الثالث ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه إذا لم يجد المالك لها مستحقا فالأفضل عزلها ، بل صرح العلامة في التذكرة باستحبابه متى حال الحول وإن كان المستحق موجودا.

ويدل على ذلك موثقة يونس بن يعقوب المتقدمة في المسألة الخامسة وصحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة ثمة أيضا (١).

وحسنة عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٢) : «أنه قال إذا أخرجها من ماله فذهبت ولم يسمها لأحد فقد برئ منها».

ورواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام (٣) قال : «إذا أخرج الرجل الزكاة من ماله ثم سماها لقوم فضاعت أو أرسل بها إليهم فضاعت فلا شي‌ء عليه».

والمراد بالعزل هو تعيينها في مال خاص وبذلك تصير من قبيل الأمانة في يده لا يضمنها إلا بالتفريط أو تأخير الإخراج مع التمكن منه كما تقدم.

والظاهر أن النماء تابع لها منفصلا كان أو متصلا ، لما رواه الكليني عن علي بن أبي حمزة عن أبيه عن أبي جعفر عليه‌السلام (٤) قال : «سألته عن الزكاة تجب علي في موضع لا يمكنني أن أؤديها؟ قال اعزلها فإن اتجرت بها فأنت ضامن لها ولها الربح. إلى أن قال وإن لم تعزلها واتجرت بها في جملة مالك فلها بقسطها من الربح ولا وضيعة عليها». وبذلك يظهر ضعف ما ذهب إليه في الدروس من أن النماء مع العزل للمالك.

الثامنة ـ إذا أدركته الوفاة وعليه زكاة وجب عليه إخراجها أو الوصية بها

__________________

(١) ص ٢٢٩.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٣٩ من المستحقين للزكاة.

(٤) الوسائل الباب ٥٢ من المستحقين للزكاة.

٢٤٢

على وجه تثبت شرعا لتوقف الواجب عليه.

ويدل على ذلك الأخبار المستفيضة بوجوبها وأن تاركها معذب مؤاخذ بها حتى تؤدى عنه (١) وفي حسنة زرارة بإبراهيم التي هي صحيحة عندي (٢) قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام رجل لم يزك ماله فأخرج زكاته عند موته فأداها كان ذلك يجزئ عنه؟ قال نعم. قلت فإن أوصى بوصية من ثلثه ولم يكن زكى أيجزئ عنه من زكاته؟ قال نعم تحسب له زكاة ولا تكون له نافلة وعليه فريضة».

والظاهر ـ والله سبحانه أعلم ـ حمل الخبر على أن تلك الوصية التي أوصى بها من ثلثه داخلة تحت أحد مصارف الزكاة ومن جملتها وأنه متى صرفت الوصية في ذلك المصرف حسبت له زكاة وإن لم ينوها زكاة لعدم صحة التبرع مع اشتغال الذمة بالواجب.

وروى الكليني والشيخ في التهذيب عن عباد بن صهيب عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) «في رجل فرط في إخراج زكاته في حياته فلما حضرته الوفاة حسب جميع ما كان فرط فيه من ما لزمه من الزكاة ثم أوصى به أن يخرج ذلك فيدفع إلى من تجب له؟ قال جائز يخرج ذلك من جميع المال إنما هو بمنزلة دين لو كان عليه ليس للورثة شي‌ء حتى يؤدوا ما أوصى به من الزكاة».

وفي صحيحة شعيب ـ والظاهر أنه العقرقوفي ـ (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إن على أخي زكاة كثيرة أفأقضيها أو أؤديها عنه؟ فقال لي وكيف لك بذلك؟ فقلت أحتاط؟ قال نعم إذا تفرج عنه».

والظاهر أن معنى قوله : «وكيف لك بذلك» أي بالعلم بجميع ما عليه فقال أحتاط بالزيادة. وفيه دلالة على براءة الذمة بالتبرع بدفع الواجب عن الميّت.

__________________

(١) الوسائل الباب ١ و ٣ من ما تجب فيه الزكاة و ٢١ و ٢٢ من المستحقين للزكاة.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٢٢ من المستحقين للزكاة.

(٤) الوسائل الباب ٢٢ من المستحقين للزكاة.

٢٤٣

وفي صحيحة علي بن يقطين (١) قال : «قلت لأبي الحسن الأول عليه‌السلام رجل مات وعليه زكاة فأوصى أن تقضى عنه الزكاة وولده محاويج إن دفعوها أضر ذلك بهم ضررا شديدا؟ قال يخرجونها فيعودون بها على أنفسهم ويخرجون منها شيئا فيدفع إلى غيرهم».

أقول : الظاهر أنه لا إشكال في جواز صرفها عليهم لأنهم في تلك الحال غير واجبي النفقة على صاحب الزكاة ، وحينئذ فالأمر بإخراج شي‌ء منها إلى غيرهم ينبغي حمله على الاستحباب ، مع أنه قد تقدم في الأخبار وكلام الأصحاب ما يدل على جواز صرفها عليهم في حال حياة الأب أيضا للتوسعة مع الأمر بإخراج شي‌ء منها لغيرهم

وفي حسنة معاوية بن عمار (٢) قال : «قلت له رجل يموت وعليه خمسمائة درهم من الزكاة وعليه حجة الإسلام وترك ثلاثمائة درهم وأوصى بحجة الإسلام وأن يقضى عنه دين الزكاة؟ قال يحج عنه من أقرب ما يكون ويخرج البقية في الزكاة».

وفي رواية أخرى له أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) «في رجل مات وترك ثلاثمائة درهم وعليه من الزكاة سبعمائة درهم فأوصى أن يحج عنه؟ قال يحج عنه من أقرب المواضع ويجعل ما بقي في الزكاة».

وظاهر هذين الخبرين التوزيع كالديون المتعددة مع قصور التركة وتقديم الحج على الزكاة وأنه يحج عنه من أقرب المواقيت وما بقي يصرف في الزكاة حتى لو لم يبق شي‌ء بعد الحج.

التاسعة ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أقل ما يعطى الفقير من الزكاة ، فقيل إنه لا يعطى أقل من ما يجب في النصاب الأول وهو عشرة

__________________

(١) الوسائل الباب ١٤ من المستحقين للزكاة.

(٢) الوسائل الباب ٢١ من المستحقين للزكاة.

(٣) الوسائل الباب ٤٢ من الوصايا.

٢٤٤

قراريط أو خمسة دراهم ، ونقل عن الشيخ المفيد والشيخ في جملة من كتبه والسيد المرتضى في الإنتصار ، وهو اختيار المحقق في المعتبر والشرائع ، ونسبه في المعتبر ـ بعد أن نقله عن الشيخين وابني بابويه ـ إلى أكثر الأصحاب ، وقيل بجواز الاقتصار على ما يجب في النصاب الثاني وهو درهم أو عشر دينار قيراطان ، ونسب إلى ابن الجنيد وسلار ونقل أيضا عن المرتضى في المسائل المصرية ، وقيل لا يجزئ أن يعطى أقل من نصف دينار ، ونقل عن الشيخ علي بن الحسين بن بابويه وعن ابنه في المقنع أنه يجوز أن يعطى الرجل الواحد الدرهمين والثلاثة ولا يجوز في الذهب إلا نصف دينار ، وعن المرتضى في الجمل وابن إدريس عدم التحديد بحد لا يجزئ ما دونه ، وهو المشهور بين المتأخرين.

وأما الأخبار المتعلقة بالمسألة : فمنها ـ صحيحة محمد بن أبي الصهبان (١) قال : «كتبت إلى الصادق عليه‌السلام هل يجوز لي يا سيدي أن أعطي الرجل من إخواني من الزكاة الدرهمين والثلاثة فقد اشتبه ذلك علي؟ فكتب ذلك جائز». والمراد بالصادق في هذا الخبر أحد العسكريين (عليهما‌السلام) فإن الرجل المذكور من أصحابهما ولعل التعبير وقع تقية.

ومنها ـ صحيحة محمد بن عبد الجبار عن بعض أصحابنا (٢) قال : «كتبت على يدي أحمد بن إسحاق إلى علي بن محمد العسكري عليه‌السلام أعطي الرجل من إخواني من الزكاة الدرهمين والثلاثة؟ فكتب أفعل إن شاء الله تعالى».

ومنها ـ صحيحة أبي ولاد الحناط عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «سمعته يقول لا يعطى أحد من الزكاة أقل من خمسة دراهم وهو أقل ما فرض الله من الزكاة في أموال المسلمين فلا تعطوا أحدا أقل من خمسة دراهم فصاعدا».

ومنها ـ رواية معاوية بن عمار وعبد الله بن بكير عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : «لا يجوز أن يدفع من الزكاة أقل من خمسة دراهم فإنها أقل الزكاة». والظاهر أنه

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٢٣ من المستحقين للزكاة.

٢٤٥

بهذين الخبرين أخذ القائلون بالقول الأول.

ومنها ـ حسنة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقسم صدقة أهل البوادي في أهل البوادي وصدقة أهل الحضر في أهل الحضر ولا يقسم بالسوية وإنما يقسمها على قدر ما يحضرها منهم وما يرى ليس في ذلك شي‌ء موقت».

ومنها ـ حسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «قلت له ما يعطي المصدق؟ قال ما يرى الإمام ولا يقدر له شي‌ء».

أقول : والمصدق هو الذي يجبي الصدقات بأمر الإمام عليه‌السلام وهو أحد الأفراد التي تصرف فيها الزكاة.

وأنت خبير بأن جملة من متأخري المتأخرين ـ ومنهم السيد السند في المدارك والفاضل الخراساني في الذخيرة حيث اختاروا القول الأخير ـ حملوا الخبرين الدالين على أنه لا يجوز أقل من خمسة دراهم على الفضل والاستحباب ، وقد عرفت ما في هذا الجمع في ما تقدم في غير باب.

ولا يخفى أن الخبرين المذكورين ظاهران بل الثاني صريح في أنه لا يجوز أن يدفع أقل من ذلك فإخراجهما عن ذلك يحتاج إلى دليل ، ومجرد وجود المعارض من الأخبار ليس بدليل ولا قرينة توجب ارتكاب التجوز في إخراج الخبرين عن ظاهريهما.

مع أن المحقق في المعتبر قد نقل أن القول بعدم التقدير مذهب الجمهور (٣) وبذلك أيضا صرح السيد المرتضى (رضي‌الله‌عنه) في كتاب الإنتصار حيث اختار فيه القول الأول فقال : ومن ما انفردت به الإمامية القول بأنه لا يعطى الفقير الواحد

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٨ من المستحقين للزكاة رقم ١.

(٢) الوسائل الباب ٢٣ من المستحقين للزكاة.

(٣) البداية ج ١ ص ٢٦٩ والمجموع شرح المهذب ج ٦ ص ١٨٩.

٢٤٦

من الزكاة المفروضة أقل من خمسة دراهم ، ويروى أن الأقل درهم واحد ، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك ويجيزون إعطاء القليل والكثير من غير تحديد ، وحجتنا على ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة وطريقة الاحتياط وبراءة الذمة. انتهى.

وحينئذ فلقائل أن يقول إن مقتضى القاعدة المقررة عن أهل العصمة (عليهم‌السلام) في اختلاف الأخبار هو حمل ما دل على عدم التحديد على التقية وهما صحيحة محمد بن أبي الصهبان وصحيحة محمد بن عبد الجبار.

وأما حمل الشيخ (قدس‌سره) لهما ومثله المحقق في المعتبر ـ على أن المعطى من النصاب الثاني والثالث فإنه يجوز إذا أدى ما في النصاب الأول إلى الفقير أن يعطي ما وجب في النصاب الثاني غيره أو إليه بحيث لا يعطي أقل من ما وجب في النصاب الذي أخرج منه الزكاة. كذا ذكر في المعتبر ـ فقد رده المتأخرون عنه بالبعد وهو كذلك ، بل الأظهر هو ما قلناه من الحمل على التقية ، ولكنهم (رضوان الله عليهم) كما أشرنا إليه في غير موضع من ما تقدم قد أعرضوا عن العمل بهذه القاعدة المروية فوقعوا في أمثال هذه التكلفات البعيدة.

وأما حسنة عبد الكريم فليست ظاهرة الدلالة في المدعى لإمكان حملها على عدم البسط ، فإن سياق الرواية من أولها إنما هو الرد على عمرو بن عبيد المعتزلي ومن معه من العامة القائلين بوجوب البسط (١).

حيث إن صورة الخبر هكذا في احتجاجه عليه‌السلام على عمرو بن عبيد مع من معه (٢) قال له «ما تقول في الصدقة؟ فقرأ عليه : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ...) إلى آخر الآية. قال عليه‌السلام نعم فكيف تقسمها؟ فقال أقسمها على ثمانية أجزاء فأعطي كل جزء واحدا. قال وإن كان صنف منهم عشرة آلاف وصنف منهم رجلا واحدا أو رجلين أو ثلاثة جعلت لهذا الواحد ما جعلت للعشرة آلاف؟ قال نعم. قال

__________________

(١) ارجع إلى التعليقة ١ ص ٢٢٦.

(٢) الوسائل الباب ٢٨ من المستحقين للزكاة.

٢٤٧

وتجمع صدقات أهل الحضر وأهل البوادي فتجعلهم فيها سواء؟ قال نعم. قال فقد خالفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في كل ما قلت في سيرته : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقسم صدقة أهل البوادي في أهل البوادي وصدقة أهل الحضر في أهل الحضر ولا يقسم بينهم بالسوية وإنما يقسمه على قدر ما يحضره منهم وما يرى ، وليس في ذلك شي‌ء موقت موظف ، وإنما يصنع ذلك بما يرى على قدر ما يحضره منهم. الحديث».

ومن الجائز بل هو الأنسب بالمقام والسياق أن المراد بقوله : «ليس في ذلك شي‌ء موقت موظف» إنما هو بالنسبة إلى البسط الذي يدعي الخصم أنه موقت موظف لا يجوز مخالفته كما يدل عليه قوله بعده «وإنما يصنع ذلك بما يرى» من التوفير لبعض على بعض بالمرجحات المتقدمة وتقسيمه على من حضر من صنف واحد أو صنفين أو نحو ذلك.

ولكن الأصحاب في كتب الاستدلال نقلوا من الخبر هذه العبارة المنقولة في كلامهم وهي بحسب الظاهر موهمة لما يدعونه ، إلا أن سياق الخبر كما ذكرناه وقرينة المقام ترجح ما اخترناه ، ولا أقل من تساوي الاحتمالين فيسقط الاستدلال بالخبر من البين.

وأما حسنة الحلبي فهي وإن أوردها جملة من متأخري المتأخرين في أدلة هذا القول إلا أن فيه أنك قد عرفت أن أصل المسألة التي وقع الخلاف فيها وجعلوها محلا للنزاع إنما هو الفقير والدفع إليه من حيث الفقر دون غيره من الأصناف كما هو المفروض في عباراتهم ، ومورد هذه الرواية إنما هو العاملون الساعون في جمع الصدقات.

على أنه لا يخفى أن إجراء هذا الخلاف بالدرهم والأقل والأكثر بالنسبة إلى عمال الصدقات والمؤلفة والغارمين والرقاب ونحوهم من ما لا معنى له بالكلية ، لأنه من الظاهر المعلوم أن هؤلاء من ما لا يقوم بحقوقهم واستحقاقهم الأضعاف مضاعفة من ما وقع الخلاف فيه كما لا يخفى على المنصف.

٢٤٨

وبالجملة فالقول المشهور بين المتقدمين لا يخلو من قوة ورجحان لما ذكرناه والاحتياط لا يخفى. والله العالم.

وهاهنا فوائد الأولى ـ ظاهر عبارات أكثر الأصحاب (رضوان الله عليهم) أن هذه التقديرات على سبيل الوجوب وهو ظاهر الخبرين المتقدمين ، وظاهر كلام العلامة في جملة من كتبه بل صريحه أنه على جهة الاستحباب حتى أنه قال في التذكرة بعد أن حكم بأنه يستحب أن لا يعطى الفقير أقل من ما يجب في النصاب الأول : وما قلناه على سبيل الاستحباب لا الوجوب إجماعا. انتهى.

أقول : الظاهر أن ما ذكره (قدس‌سره) لا يخلو من نظر فإن مقتضى كلام المتقدمين ودليلهم الذي ذكرناه هو الوجوب ، والاستحباب إنما صرح به من ذهب إلى القول بعدم التحديد حملا للدليل. المشار إليه على الاستحباب جمعا كما قدمنا نقله عنهم.

الثانية ـ قد عرفت أن القائلين بالتحديد في القول الأول حددوا الأقل من نصاب الدراهم بالخمسة دراهم والأقل من نصاب الذهب بنصف دينار وهو عشرة قراريط ، ولم يصل إلينا في الأخبار ما يتعلق بنصاب الذهب وإنما الموجود فيها ما تقدم من الدراهم ، والظاهر أن مثل ابني بابويه إنما ذكروا ذلك لخبر وصلهم فيه

ثم إنه على تقدير ما وصل إلينا من الأخبار فيحتمل سقوط التحديد في غير الدراهم مطلقا كما هو مقتضى الأصل ، ويحتمل اعتبار بلوغ قيمة المدفوع ذلك ذهبا كان أو غيره ، واختاره شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) وهو الأحوط.

ولو فرض نقص قيمة الواجب عن ذلك كما لو وجب عليه شاة واحدة لا تساوي خمسة دراهم دفعها إلى الفقير وسقط اعتبار التقدير قطعا.

الثالثة ـ إنما يستحب أو يجب إعطاء الخمسة دراهم إذا بلغ الواجب ذلك ، فلو أعطى ما في النصاب الأول لواحد ثم وجبت عليه الزكاة في النصاب الثاني

٢٤٩

أخرج زكاته وسقط اعتبار التقدير فيه كما تقدم في كلام المحقق.

ولو كان عند المالك نصابان أول وثان قال شيخنا الشهيد الثاني وغيره أنه يجوز إعطاء ما في الأول لواحد وما في الثاني لآخر من غير كراهية ولا تحريم على القولين.

قال في المدارك بعد نقل ذلك عنهم : وهو مشكل لإطلاق النهي عن إعطاء أقل من الخمسة وإمكان الامتثال بدفع الجميع إلى الواحد. انتهى.

أقول : والذي يقرب بالبال العليل والفكر الكليل أن الخبرين الواردين بالتحديد بالخمسة دراهم إنما خرجا بناء على ما هو الغالب المتكرر في الزكوات من اجتماع مبلغ يعتد به يراد قسمته على الفقراء والمساكين ، فينبغي أن يقسم عليهم على وجه لا ينقص أحد منهم عن خمسة دراهم التي هي أول ما تجب في الزكاة لا باعتبار نصاب واحد أو نصابين ونحو ذلك من الفروض النادرة. والله العالم.

العاشرة ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب الدعاء على الإمام عليه‌السلام والساعي لصاحب الزكاة بعد قبضها منه واستحبابه ، فقيل بالوجوب وبه صرح العلامة في الإرشاد ، والمحقق في المعتبر اختار الوجوب إلا أنه خص ذلك بالإمام وهو المنقول عن الشهيد في الدروس ، وقيل بالاستحباب وبه صرح جمع من الأصحاب.

ومن قال بالوجوب استند إلى ظاهر الآية وهي قوله عزوجل «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» (١).

ولا يخفى أن البحث عن ذلك بالنسبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام قليل الجدوى فإنهم (عليهم‌السلام) أعرف بما يجب أو يستحب ، وإنما الكلام في الساعي والفقيه والمستحق ، والآية المذكورة غير ظاهرة الدلالة في شمولهم ولا دليل سواها في الباب ، والأصل العدم ، ويؤيده خلو الرواية الواردة عن أمير المؤمنين

__________________

(١) سورة التوبة الآية ١٠٥.

٢٥٠

عليه‌السلام (١) بإرسال ساعيه لأخذ الزكاة من ذلك مع اشتمالها على كثير من الآداب والسنن والأحكام ، وظاهر الأصحاب استحباب ذلك. وفيه أنه من حيث التوقيف في المقام مشكل لعدم الدليل وإن كان الدعاء للمؤمنين مستحبا بقول مطلق

الحادية عشرة ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو اجتمع للمستحق أسباب توجب الاستحقاق مثل كونه فقيرا وغارما ومكاتبا فإنه يجوز أن يعطى بكل سبب نصيبا.

ولم أقف لهم على دليل إلا أن يكون دعوى صدق هذه العنوانات عليه من كونه فقيرا وغارما ونحو ذلك فيدخل تحت عموم الآية (٢).

وفيه أنه لا يخفى أن المتبادر من الآية إنما هو الشائع المتكثر من تعدد هذه الأفراد ولهذا صارت أصنافا ثمانية باعتبار مقابلة كل منها بالآخر. وأيضا فإنه متى أعطي من حيث الفقر ما يغنيه ويزيده على غناه فكيف يعطى من حيث الغرم والكتابة المشروطين ـ كما تقدم ـ بالعجز عن الأداء؟ وبالجملة فالحكم عندي محل توقف لعدم الدليل عليه.

الثانية عشرة ـ الظاهر أنه لا خلاف فيما لو دفع إليه مال من الزكاة ليفرقه في المستحقين وكان من جملتهم أنه يجوز له أن يأخذ كنصيب أحدهم ما لم يعلم التخصيص بغيره.

وعلى ذلك تدل جملة من الأخبار : منها ـ صحيحة سعيد بن يسار (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الرجل يعطى الزكاة يقسمها في أصحابه أيأخذ منها شيئا؟ قال نعم».

وحسنة الحسين بن عثمان بإبراهيم بن هاشم عن أبي إبراهيم عليه‌السلام (٤) «في رجل أعطي مالا يفرقه في من يحل له أله أن يأخذ منه شيئا لنفسه وإن لم يسم له؟ قال يأخذ

__________________

(١) وهي صحيحة بريد المتقدمة ص ٥١.

(٢) وهي قوله تعالى «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ ...» سورة التوبة الآية ٦١.

(٣ و ٤) الوسائل الباب ٤٠ من المستحقين للزكاة.

٢٥١

منه لنفسه مثل ما يعطي غيره».

وموثقة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) «في رجل أعطاه رجل مالا ليقسمه في المساكين وله عيال محتاجون أيعطيهم منه من غير أن يستأمر صاحبه؟ قال نعم».

وأما ما رواه في التهذيب بهذا الإسناد (٢) ـ قال : «سألته عن رجل أعطاه رجل مالا ليقسمه في محاويج أو مساكين وهو محتاج أيأخذ منه لنفسه ولا يعلمه؟ قال لا يأخذ منه شيئا حتى يأذن له صاحبه». ـ فحمله الشيخ على محامل أقربها الكراهة واحتمل بعض مشايخنا (عطر الله مراقدهم) حمله أيضا على ما إذا علم أن مراده غيره أو الأخذ زيادة على غيره.

وهذه المحامل وإن كانت لا تخلو من بعد إلا أنها لا مندوحة عنها في مقام الجمع إذ ليس بعدها إلا طرح الخبر لرجحان ما عارضه بالكثرة ، مضافا إلى اتفاق الأصحاب ظاهرا على ذلك.

ختام به الإتمام

اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ميراث العبد المشترى من الزكاة إذا مات ولا وارث له هل يكون ميراثه للإمام عليه‌السلام أو لأرباب الزكاة؟ قولان المشهور الثاني وقيل بالأول وهو منقول عن بعض القدماء إلا أنه مجهول القائل ، واختاره العلامة في الإرشاد والقواعد وولده في الشرح.

حجة المشهور موثقة عبيد بن زرارة (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أخرج زكاة ماله ألف درهم فلم يجد لها موضعا يدفع ذلك إليه فنظر إلى مملوك يباع في من يزيد فاشتراه بتلك الألف التي أخرجها من زكاته فأعتقه هل يجوز له ذلك؟ قال نعم لا بأس بذلك : قلت فإنه لما أن أعتق وصار حرا اتجر

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٨٤ من ما يكتسب به.

(٣) الوسائل الباب ٤٣ من المستحقين للزكاة.

٢٥٢

واحترف فأصاب مالا ثم مات وليس له وارث فمن يرثه إذا لم يكن له وارث؟ قال يرثه الفقراء المؤمنون الذين يستحقون الزكاة لأنه إنما اشترى بمالهم».

حجة القول الآخر على ما نقل أن الرقاب أحد مصارف الزكاة فيكون سائبة ، قال المحقق في المعتبر بعد الحكم بأن ميراثه لأرباب الزكاة وإسناد ذلك إلى علمائنا : ويمكن أن يقال لا يرثه الفقراء لأنهم لا يملكون العبد المبتاع بمال الزكاة لأنه أحد مصارفها فيكون كالسائبة. وتضعف الرواية لأن في طريقها ابن فضال وهو فطحي وعبد الله بن بكير وفيه ضعف ، غير أن القول بها عندي أقوى لمكان سلامتها من المعارض وإطباق المحققين منا على العمل بها. انتهى.

وتوقف العلامة في المختلف في المسألة من أجل ما ذكر هنا.

أقول : والتحقيق في المقام بما لم يسبق إليه سابق من علمائنا الأعلام إن يقال : لا ريب أن كلا من القولين المذكورين لا يخلو من النظر والإشكال ، وذلك لأنهم متفقون على أن الشراء في الصورة المذكورة من سهم الرقاب ، فإنهم كما تقدم في المسألة فصلوا صنف الرقاب إلى ثلاثة أقسام : أحدها المكاتبون. وثانيها العبيد تحت الشدة. وثالثها العبيد مع عدم وجود المستحق ، واستدلوا على القسم الثالث بموثقة عبيد المذكورة.

وحينئذ فوجه الإشكال في القول المشهور هو أنه إذا كان المفروض الشراء من سهم الرقاب الذي هو أحد الأصناف الثمانية التي اشتملت عليها الآية ـ وليس فيه مدخل ولا تعلق للفقراء بالكلية وإلا فلا معنى لقسمة الزكاة في الآية على الأصناف الثمانية المؤذن بمغايرة كل منها للآخر كما هو ظاهر ـ فكيف ترثه الفقراء لأنه اشترى من مالهم ، وأي مال للفقراء في سهم الرقاب كما هو ظاهر لذوي الأفهام والألباب فاللازم إما كون الشراء ليس من سهم الرقاب كما زعموه وإنما هو من الزكاة بقول مطلق كما هو أحد القولين في المسألة على ما تقدم ذكره ، وهذا هو ظاهر الرواية المذكورة وغيرها من الروايات المتقدمة في تلك المسألة ، أو كون الشراء من سهم

٢٥٣

الرقاب كما ادعوه ، ولكن لا دليل عليه فإن هذه الرواية لا تنطبق على ذلك كما عرفت

ويؤيد ما قلناه قوله عليه‌السلام في رواية أبي بصير (١) التي استدلوا بها أيضا على القسم الثاني وهو شراء العبيد تحت الشدة «إذا يظلم قوما آخرين حقوقهم» وأي ظلم في إعطاء أهل هذا الصنف من سهمهم على أولئك الآخرين الذين هم باقي الأصناف مع أن البسط غير واجب عندنا بل يجوز صرف الزكاة كملا في صنف واحد بل في واحد من أي الأصناف.

وبالجملة فإن الاستدلال بهذين الخبرين على هذين الفردين وأنهما من سهم الرقاب تعسف محض وخروج عن مقتضى الأصول المقررة عندهم.

ووجه الإشكال في القول الثاني أنه لا ريب في صحة ما ذكره ذلك القائل من كونه متى اشتري من سهم الرقاب فإنه يكون سائبة ويكون ميراثه للإمام عليه‌السلام كما هو مقتضى القواعد الشرعية والضوابط المرعية ، إلا أن استدلال هذا القائل المذكور على هذا الحكم بهذه الموثقة الدالة على أن ميراثه للفقراء لا يوافق مدعاه كما عرفت ، فالواجب عليه تحصيل دليل يدل على أنه يجوز أن يشترى العبد من سهم الرقاب ويعتق ليتم له ما ذكره وإلا فالقول بذلك من غير دليل باطل مردود عند ذوي التحصيل ، ونحن لم نقف لهم على دليل إلا ما يدعونه من هاتين الروايتين وفيهما من الإشكال ما قد عرفت رأي العين.

وقد عرفت من ما قدمنا في تلك المسألة أن الذي وردت به النصوص عن أهل الخصوص (عليهم‌السلام) في تفسير الرقاب في الآية إنما هو المكاتبون أو قوم لزمتهم كفارات في قتل الخطأ أو في الظهار أو في الأيمان أو في قتل الصيد كما في رواية علي بن إبراهيم (٢) وأما هذه الأخبار فلا دلالة فيها على أزيد من أنه يشترى من الزكاة بقول مطلق ، وحمل ذلك على سهم الرقاب ـ مع كونه لا دليل في

__________________

(١) الوسائل الباب ٤٣ من المستحقين للزكاة وقد تقدمت ص ١٨١.

(٢) ص ١٨١ و ١٨٢.

٢٥٤

تلك الأخبار عليه بل ولا أدنى إشارة إليه ـ مدافع لما دل عليه بعضها من مسألة الميراث كما ذكرناه وما دل عليه الآخر من كونه يظلم قوما آخرين حقوقهم كما أوضحناه ، بل التحقيق كما قدمنا ذكره في تلك المسألة أن جملة هذه الأخبار الدالة على شراء العبد من الزكاة وعتقه كخبر أبي بصير وخبر عبيد بن زرارة وخبر أيوب وخبر الوابشي المتقدم جميع ذلك (١) إنما خرجت مخرج الرخصة في جواز ذلك من غير أن يكون ذلك داخلا تحت شي‌ء من الأصناف الثمانية كما ذهب إليه جملة من الأصحاب المتقدم ذكرهم ثمة ، وهذه الأخبار ظاهرة الدلالة على هذا القول.

والعجب من صاحب المعتبر وما في كلامه من التناقض الذي أغمض عنه النظر ، فإنه لا ريب في أن ما ذكره ـ من أن العبد المبتاع بسهم الرقاب كالسائبة وأن الفقراء لا مدخل لهم فيه بوجه هو الموافق للقواعد الشرعية ، وبمقتضى ذلك فميراثه للإمام عليه‌السلام فمن أين جاز له الخروج عن ذلك والرواية لا دلالة فيها على أزيد من كونه اشتري من مال الزكاة بقول مطلق؟ نعم ما زعموه من كون العبد يجوز ابتياعه من سهم الرقاب لا دليل عليه كما عرفت ولكن مع الإغماض عن الدليل فإن القول بذلك يلزم منه ما ذكرناه. وقول المحققين بمضمون الرواية إن قصدوا به كون ذلك من سهم الرقاب فهم محجوجون بما ذكرنا ، وإن أرادوا به من الزكاة مطلقا كما هو القول المشار إليه آنفا فلا حجة له فيه كما عرفت.

وبالجملة فإن كلامهم في هذه المسألة لا يخلو من تناقض واضطراب ومنه يظهر وجه توقف العلامة في المختلف في هذه المسألة ولنعم ما فعل.

نعم يبقى الكلام في أن الميراث هل هو مخصوص بالفقراء والمساكين كما تدل عليه رواية عبيد بن زرارة أو يكون لجميع أرباب الزكاة كما تدل عليه صحيحة أيوب بن الحر المروية في كتاب العلل وقد تقدمت في تلك المسألة (٢)؟ إشكال وعبائر الأصحاب أيضا في هذا المقام بعضها اشتمل على كونه للفقراء والمساكين

__________________

(١) ص ١٨١ و ١٨٢ و ١٨٣.

(٢) ص ١٨٢.

٢٥٥

وبعضها اشتمل على كونه لأرباب الزكاة. والعلامة في المختلف بعد أن نقل عبارة الشيخ المفيد الدالة على التخصيص بالفقراء والمساكين من المؤمنين ، قال : والظاهر أن مراده ليس تخصيص الفقراء والمساكين بل أرباب الزكاة أجمع لأن التعليل يعطيه.

ووجه الجمع بين الخبرين المذكورين ممكن بأحد وجهين : أولهما ـ أن يقال إن الميراث إنما هو لجميع أرباب الزكاة كما هو ظاهر كلام الأكثر وإن ذكر الفقراء في موثقة عبيد بن زرارة إنما خرج مخرج التمثيل لا الحصر ، فإنه لما كان أصل مال الزكاة مشتركا بين الأصناف الثمانية ـ وكان الشراء على هذا الوجه خارجا عن الأصناف المذكورة كما عرفت ـ كان ما اشتري بذلك من مال الأصناف المذكورة ، فميراثه حينئذ يرجع إليهم بالولاء لأنه من مالهم.

وثانيهما ـ ولعله الأظهر ـ أن يقال إن ظاهر رواية عبيد المذكورة كون المال المشترى به إنما هو من سهم الفقراء خاصة ، لحكمه عليه‌السلام بكون ميراثه للفقراء خاصة وتعليله ذلك بأنه اشتري بمالهم ، وإلا فلو كان إنما اشترى بالمال المشترك بين الأصناف الثمانية لم يكن لتخصيصه بالفقراء وجه ظاهر لأن نسبته إلى الأصناف بالسوية ، وحينئذ فيمكن بمعونة ما ذكرناه أن يقال إن المراد من صدر الخبر أن صاحب الزكاة قد خص هذه الألف الدرهم التي أخرجها زكاة ماله بالفقراء لأنها أحد الأصناف والبسط عندنا غير واجب ولما لم يجدهم كما تضمنه الخبر اشترى بها العبد المذكور وأعتقه ثم سأل الإمام عليه‌السلام عن ذلك فأجازه. هذا هو الذي ينطبق عليه عجز الخبر بلا تمحل وإشكال.

وحينئذ فوجه الجمع بين الخبرين المذكورين هو حمل الشراء في موثقة عبيد على الشراء من سهم الفقراء بالتقريب الذي ذكرناه ، وبذلك يكون الميراث للفقراء لأنه من مالهم ، وحمل صحيحة أيوب على أن الشراء وقع بالمال المشترك من غير قصد لتخصيصه بصنف من الأصناف ، فإنه يكون الميراث حينئذ لجميع

٢٥٦

أرباب الزكاة لأنه قد اشتري بمالهم ، والفارق في المقامين هو قصد المشتري ونيته ولا بعد في ذلك فإن العبادات بل الأفعال كملا تابعة للقصود والنيات صحة وبطلانا وثوابا وعقابا وتعددا واتحادا ونحو ذلك ، ألا ترى أنه لو قصد صرف زكاته كملا في سبيل الله الذي هو عبارة عن جميع الطاعات والقربات كما هو الأشهر الأظهر ثم إنه اشترى بها عبدا وأعتقه فإنه لا إشكال في كونه سائبة وأن ميراثه للإمام عليه‌السلام ولا ريب في قوة هذا الاحتمال وعليه تجتمع الأخبار بلا إشكال.

بقي الكلام في أنه على تقدير كون الشراء بمال الزكاة لا بقصد صنف مخصوص وكون الميراث حينئذ لأرباب الزكاة كما ذكره عليه‌السلام في خبر أيوب فهل يكون قسمة هذا الميراث بينهم على حسب قسمة المواريث من وجوب بسطه عليهم كملا أو يكون حسب قسمة الزكاة من جواز تخصيص بعض الأصناف به؟ إشكال ينشأ من احتمال كونه في حكم الزكاة لأنه فرع عليها والشركة في الزكاة ليست باعتبار وجوب البسط وإنما هي باعتبار التخيير بين تلك الأصناف وأفرادها ، ومن أن الأصل في الشركة لغة وعرفا وشرعا هو وجوب التقسيط والبسط بين الشركاء ، قام الدليل بالنسبة إلى الزكاة على عدم وجوب البسط وبقي ما عداه على حكم الأصل وهذا ليس زكاة ، وقيام الدليل في الزكاة لا يستلزم إجراءه في ما نحن فيه.

وبالجملة فالمسألة عندي محل توقف وإشكال وإن كان للاحتمال الأخير نوع رجحان. ولم أقف على من تعرض لذلك ولا نبه عليه أحد من أصحابنا (رضوان الله عليهم) والله العالم بحقائق أحكامه.

الباب الثاني

في زكاة الفطرة

قيل : المراد بالفطرة أما الخلقة أو الدين أو الفطر من الصوم ، والمعنى على الأول زكاة الخلقة أي البدن ، وعلى الثاني زكاة الدين والإسلام ، وعلى الثالث

٢٥٧

زكاة الفطر من الصوم.

أقول : ويمكن إن يؤيد الأول بقول الصادق عليه‌السلام (١) لمعتب : «اذهب فأعط عن عيالنا الفطرة وعن الرقيق وأجمعهم ولا تدع منهم أحدا فإنك إن تركت منهم إنسانا تخوفت عليه الفوت. قلت : وما الفوت؟ قال الموت». فإن فيه إشارة إلى أن الزكاة موجبة لبقائه وحفظه من الموت فيكون الغرض منها حفظ البدن وبقاءه ، ووجه المناسبة ظاهر.

وأن يؤيد الثاني بما ورد في صحيحة أبي بصير وزرارة (٢) من أن من تمام الصوم إعطاء الزكاة لأنه من صام ولم يؤد الزكاة فلا صوم له إذا تركها متعمدا.

ثم إنه يجب أن يعلم أنه حيث كان وجوبها مشروطا بشرائط مخصوصة والمخرج منها مخصوص بأجناس مقدرة بوزن خاص وهي أيضا مخصوصة بوقت لا تقدم عليه ولا تؤخر عنه ومصرفها مخصوص بأفراد مخصوصة فالبحث عنها يجب أن يجعل في فصول أربعة :

الفصل الأول ـ في شروط وجوبها وهي ثلاثة : الأول ـ التكليف فلا تجب على الصبي والمجنون إجماعا كما نقله الفاضلان في المعتبر والمنتهى.

ويدل عليه عدم توجه الخطاب إليهما ورفع القلم عنهما (٣) وخطاب الولي يحتاج إلى دليل وليس فليس ، فيكون ساقطا بالأصل.

ويدل على ذلك أيضا ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن القاسم بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام (٤) قال : «كتبت إليه : الوصي يزكي زكاة الفطرة عن اليتامى إذا كان لهم مال؟ فكتب : لا زكاة على يتيم».

__________________

(١) الوسائل الباب ٥ من زكاة الفطرة.

(٢) الوسائل الباب ١ من زكاة الفطرة.

(٣) ارجع إلى التعليقة ١ ص ١٧.

(٤) الوسائل الباب ١ ممن تجب عليه الزكاة والباب ٤ من زكاة الفطرة.

٢٥٨

وروى الشيخ المفيد في المقنعة عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «تجب الفطرة على كل من تجب عليه الزكاة».

ثم اعلم أنه قد ذكر جملة من المتأخرين هنا تفريعا على هذا الشرط سقوط الفطرة عن من أهل عليه شوال وهو مغمى عليه ولم ينقلوا عليه دليلا.

واعترضهم بعض متأخري المتأخرين بأنه على إطلاقه لا يخلو من إشكال نعم لو كان الإغماء مستوعبا لوقت الوجوب اتجه ذلك.

الثاني ـ الحرية فلا تجب على المملوك ولو قيل بملكه مدبرا كان أو أم ولد أو مكاتبا مشروطا أو مطلقا لم يتحرر منه شي‌ء ، وظاهرهم الاتفاق على ذلك.

ولا أعلم فيه مخالفا سوى الصدوق (قدس‌سره) في من لا يحضره الفقيه بالنسبة إلى المكاتب حيث روى فيه صحيحة علي بن جعفر (٢) «أنه سأل أخاه موسى عليه‌السلام عن المكاتب هل عليه فطرة شهر رمضان أو على من كاتبه وتجوز شهادته؟ قال الفطرة عليه ولا تجوز شهادته». ثم قال (قدس‌سره) قال مصنف هذا الكتاب : وهذا على الإنكار لا على الإخبار ، يريد بذلك أنه كيف تجب عليه الفطرة ولا تجوز شهادته؟ أي أن شهادته جائزة كما أن الفطرة عليه واجبة. انتهى.

ومقتضى ذلك وجوب الفطرة عليه وهو جيد لدلالة الصحيحة على ذلك سواء حملت على الإنكار كما ذكره (قدس‌سره) أو على الإخبار. ويمكن مع حملها على الإخبار خروجها مخرج التقية بالنسبة إلى الشهادة (٣) والظاهر أنه أقرب من ما ذكره (قدس‌سره).

والأصحاب (رضوان الله عليهم) قد احتجوا على انتفاء الوجوب عن المملوك بالأصل والأخبار المستفيضة المتضمنة لوجوب فطرة المملوك على مولاه من غير

__________________

(١) الوسائل الباب ٤ من زكاة الفطرة.

(٢) الوسائل الباب ١٧ من زكاة الفطرة.

(٣) في المهذب ج ٢ ص ٣٣١ ، والمبسوط ج ١٦ ص ١٢٤ لا تقبل شهادة العبد.

٢٥٩

تفصيل كما سيأتي إن شاء الله تعالى نقل شطر منها في المقام ، وفي قيام الدليل بها نظر إذ ظاهر سياقها كما سيظهر لك أن وجوب ذلك على المولى إنما هو من حيث العيلولة ووجوب الإنفاق كسائر تلك الأفراد المعدودة معه ، ويؤيد ذلك دلالة صحيحة علي ابن جعفر المتقدمة على وجوب الفطرة على المكاتب.

وأما ما رواه في الكافي عن محمد بن يحيى عن محمد بن أحمد رفعه عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) ـ قال : «يؤدي الرجل زكاة الفطرة عن مكاتبه». ـ فيمكن حملها على العيلولة جمعا.

ومن ما يؤيد ذلك ما قدمناه أيضا في أول الكتاب (٢) من دلالة ظاهر بعض الأخبار على وجوب الزكاة عليه في ما يملكه متى أذن له المولى ، والتقريب أنه متى وجبت عليه الزكاة المالية وجبت عليه زكاة الفطرة لما تقدم في الرواية المنقولة عن المقنعة من قوله عليه‌السلام «تجب الفطرة على كل من تجب عليه الزكاة».

وبالجملة فإني لم أقف لهم على دليل صريح يدفع الإيراد مع ما عرفت من ظهور ما ذكرناه في المراد.

ثم إنه ينبغي أن يعلم أن وجوب الزكاة على المملوك مبني على القول بملكه وإلا فإنه لا وجه للقول بذلك كما قدمنا ذكره أيضا في الزكاة المالية.

وظاهر الأصحاب أنه لو تحرر منه شي‌ء وجبت الزكاة بالنسبة إلا أن يعوله المولى فإن العيلولة كافية في الوجوب وإن كانت تبرعا كما ستأتي الأخبار به إن شاء الله تعالى.

واستدل في المنتهى على وجوب الزكاة عليهما بالنسبة بأن النصيب المملوك تجب نفقته على مالكه فتكون فطرته لازمة له ، وأما النصيب الحر فلا يجب على السيد أداء الزكاة عنه لأنه لا تتعلق به الرقية بل تكون زكاته واجبة عليه إذا ملك لجزئه

__________________

(١) الوسائل الباب ١٧ من زكاة الفطرة.

(٢) ص ٢٨.

٢٦٠