الحدائق الناضرة - ج ١٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٤

على الإيمان فيعطي المنافقين ويعطي الشكاك التي تضمنتهم تلك الأخبار لأجل أن يرغبوا في الدين ويثبتوا عليه ، فأما اليوم أي وقتهم (صلى الله عليهم) فقد انكشف الغطاء وظهر المغطى وسقط التأليف فلا تعطها إلا المؤمن العارف. ولو حملت مراجعة زرارة على السؤال عن عدم المعرفة بالمعنى الذي في صدر الخبر لم يكن لهذه المراجعة معنى لأنه قد أجابه عنها في صدر الخبر فكيف يسأل عنها مرة أخرى ، فلا بد من حمل المعرفة هنا على المعرفة الحقيقية التي هي عبارة عن التصديق. ثم قال : سهم المؤلفة والرقاب عام للعارف وغيره والباقي من الفقراء والمساكين والعاملين والغارمين وابن السبيل خاص بالعارف لما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا من تحريم الدفع من الزكاة إلى غير المؤمن. والله العالم.

الخامس من الأصناف الثمانية ـ الرقاب والمراد بهم على ما ذكره الأصحاب المكاتبون والعبيد تحت الشدة أو غير شدة لكن مع عدم المستحق.

أقول : أما ما يدل على المكاتب فهو ما رواه الشيخ في التهذيب مسندا عن أبي إسحاق عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه‌السلام ورواه ابن بابويه في الفقيه مرسلا عنه عليه‌السلام (١) قال : «سئل عن مكاتب عجز عن مكاتبته وقد أدى بعضها؟ قال يؤدى عنه من مال الصدقة إن الله يقول في كتابه (وَفِي الرِّقابِ) (٢)». ومورد الخبر من عجز عن مكاتبته وقد أدى بعضها وظاهر الأصحاب المكاتب مطلقا.

وأما ما يدل على شراء العبيد تحت الشدة فما رواه في الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «سألته عن الرجل يجتمع عنده من الزكاة الخمسمائة والستمائة يشتري بها نسمة ويعتقها؟ قال إذا يظلم قوما آخرين حقوقهم. ثم مكث مليا ثم قال إلا أن يكون عبدا مسلما في ضرورة فيشتريه ويعتقه».

__________________

(١) الوسائل الباب ٤٤ من المستحقين للزكاة.

(٢) سورة التوبة الآية ٦١.

(٣) الوسائل الباب ٤٣ من المستحقين للزكاة.

١٨١

وهذه الرواية رواها الشيخ في التهذيب (١) من الكافي عن عمرو بن أبي نصر والناظر فيها ينظمها في الصحيح وهو تصحيف منه (قدس‌سره) وسهو واقع في عبارته وإنما هو عن عمرو عن أبي بصير ، وصاحب المدارك قد اغتر بنقل صاحب التهذيب لها بهذه الكيفية فنظمها في الصحيح واستدل بها.

وأما ما يدل على الثالث فهو ما رواه في الكافي والتهذيب في الموثق عن عبيد بن زرارة (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أخرج زكاة ماله ألف درهم فلم يجد لها موضعا يدفع ذلك إليه فنظر إلى مملوك يباع في من يزيد فاشتراه بتلك الألف التي أخرجها من زكاته فأعتقه هل يجوز له ذلك؟ قال نعم لا بأس بذلك. قلت فإنه لما أن أعتق وصار حرا اتجر واحترف فأصاب مالا ثم مات وليس له وارث فمن يرثه إذا لم يكن له وارث؟ قال يرثه الفقراء المؤمنون الذين يستحقون الزكاة لأنه إنما اشتري بمالهم».

هذا ما استدل به الأصحاب في المسألة على الأقسام الثلاثة.

وقال الثقة الجليل علي بن إبراهيم في تفسيره (٣) في تتمة الخبر المتقدم نقله عن العالم عليه‌السلام : (وفي الرقاب) قوم لزمتهم كفارات في قتل الخطأ وفي الظهار وفي الإيمان وفي قتل الصيد في الحرم وليس عندهم ما يكفرون وهم مؤمنون فجعل الله لهم سهما في الصدقات ليكفر عنهم.

وأنت خبير بأن غاية ما تدل عليه رواية أبي بصير وكذا موثقة عبيد بن زرارة هو شراء العبد من مال الزكاة وليس فيها تصريح ولا إشارة إلى كونه من سهم الرقاب كما ادعوه.

ومن ما يعاضدها في ذلك ما رواه الصدوق في كتاب العلل في الصحيح عن

__________________

(١) ج ١ ص ٣٧٧ وفي الوسائل الباب ٤٣ من المستحقين للزكاة.

(٢) الوسائل الباب ٤٣ من المستحقين للزكاة.

(٣) الوسائل الباب ١ من المستحقين للزكاة رقم ٧.

١٨٢

أيوب بن الحر أخي أديم بن الحر (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام مملوك يعرف هذا الأمر الذي نحن عليه أشتريه من مال الزكاة وأعتقه؟ قال فقال اشتره وأعتقه. قلت فإن هو مات وترك مالا؟ فقال ميراثه لأهل الزكاة لأنه اشتري بسهمهم» قال وفي حديث آخر «بمالهم».

وما رواه في الكافي عن محمد الوابشي عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «سأله بعض أصحابنا عن رجل اشترى أباه من الزكاة زكاة ماله؟ قال اشترى خير رقبة لا بأس بذلك».

والقول بجواز الإعتاق من الزكاة منقول عن العلامة في القواعد وقواه ولده في الشرح ونقله عن الشيخ المفيد وابن إدريس (قدس‌سره) ولا ريب أن هذه الأخبار ظاهرة الدلالة عليه وليست من أخبار ما نحن فيه في شي‌ء لما عرفت ، وحينئذ فتكون هذه الأخبار خارجة مخرج الرخصة في العتق من الزكاة لعدم دخول ذلك تحت شي‌ء من الأصناف الثمانية المعدودة في الآية كما حققنا ذلك بما لا مزيد عليه في شرحنا على المدارك وفق الله لإتمامه. ولا ريب أيضا في قوة القول المذكور لدلالة الأخبار المذكورة عليه وإن كان كثير منهم ذهب إلى عدمه كما نقله بعض الأفاضل.

وأما ما يظهر من السيد في المدارك وهو ظاهر الأصحاب ـ من الاستدلال على شراء العبد تحت الشدة أو مع عدم وجود المستحق بخبري أبي بصير وعبيد بن زرارة والاستدلال بخبري أيوب بن الحر والوابشي على جواز الشراء من مال الزكاة ـ فلا أعرف له وجها وجيها فإن مورد الجميع إنما هو الاشتراء من الزكاة مطلقا كما عرفت ، وحينئذ فإما أن يجعل الجميع دليلا على الشراء من سهم الرقاب أو دليلا على القول بجواز الشراء من الزكاة مطلقا ، وليس بين الأخبار الأربعة فرق

__________________

(١) الوسائل الباب ٤٣ من المستحقين للزكاة.

(٢) الوسائل الباب ١٩ من المستحقين للزكاة.

١٨٣

إلا باعتبار أن خبر أبي بصير قد دل بظاهره على المنع من شراء العبد إلا أن يكون تحت الشدة وباقي الروايات مطلقة سيما رواية العلل ورواية الوابشي. وما اشتمل عليه صدر رواية عبيد بن زرارة من أنه لم يجد لها موضعا لا يصلح للتخصيص لأنه إنما وقع في كلام السائل وليس في الجواب ما يدل عليه. والجمع بينها ممكن إما بإبقاء تلك الأخبار على إطلاقها وحمل رواية أبي بصير على الكراهة أو تقييد إطلاق تلك الأخبار بها أو تخصيص المنع بما إذا اشتري بالزكاة كملا كما هو ظاهر خبر أبي بصير وقوله (عليه‌السلام) فيه «إذا يظلم قوما آخرين حقوقهم» وحمل غيره على ما إذا لم يكن كذلك.

ويؤيد ما قلناه ما اشتمل عليه خبر عبيد بن زرارة وخبر العلل من انتقال ميراث العبد للفقراء مع عدم الوارث معللا بأنه اشتري من مالهم ، ومن الظاهر أن سهم الرقاب ليس من مالهم لأنه أحد الأصناف الثمانية ووجوب البسط عندنا غير ثابت حتى أنه مع الاشتراء بجميع مال الزكاة فللفقراء فيه حصة.

نعم ربما يشكل بما لو اشتري العبد من سهم سبيل الله بناء على أنه لجميع القرب والطاعات كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه وأنه لا وجه أيضا لرجوع ميراثه إلى الفقراء لأنه اشتري من مالهم فإن سهم السبيل مصرف آخر غير مالهم.

ولعل الوجه في التفصي عن هذا الإشكال هو الرجوع إلى قصد المشتري ونيته فإن اشتراه بقصد كونه من مال سهم سبيل الله فالوجه فيه ما ذكرناه وأن ميراثه يرجع إلى الإمام عليه‌السلام وإن اشتراه من الزكاة لا بهذا القصد صار الحكم فيه ما تضمنته الأخبار. ولا استبعاد في ذلك لأن العبادات بل جملة الأفعال تابعة للنيات والقصود صحة وبطلانا وثوابا وعقابا وحلية وتحريما ونحو ذلك.

ولا يخفى أن ظاهر تلك الأخبار مساعد لما ذكرناه لأنها دلت على الاشتراء من الزكاة بقول مطلق من غير تقييد بسهم خاص ، وأما إدخال ذلك في سهم الرقاب كما عليه ظاهر كلمة الأصحاب فلا أعرف له وجها لعدم فهمه من الأخبار وإجمال الآية

١٨٤

يجب فيه الرجوع إلى النصوص ، والذي دلت عليه النصوص الواردة في تفسيرها هو المكاتب كما تقدم في مرسلة أبي إسحاق وما تقدم من رواية علي بن إبراهيم في تفسيره ، إلا أن الرواية الأولى هي الأشهر بين الأصحاب فإنه لا خلاف بينهم في حملها على المكاتب وإن كان مورد الرواية أخص من ما ذكروه كما قدمنا الإشارة إليه ومن ما يؤيد ما ذكرناه أن الصدوق في الفقيه لم يذكر في مصرف سهم الرقاب غير المكاتبين العاجزين عن أداء الكتابة كما هو مورد الرواية التي قدمناها.

وأما ما دلت عليه الرواية الثانية فإنه محل خلاف بينهم ، فإن ظاهر المحقق في الشرائع التردد في ذلك حيث قال بعد ذكر الأصناف الثلاثة التي قدمنا نقلها عنهم : وروى رابع وهو من وجبت عليه كفارة ولم يجد فإنه يعتق عنه ، وفيه تردد. وهو إشارة إلى الرواية المذكورة كما صرح به السيد السند في المدارك ، وطعن فيها في المدارك أيضا بأن مقتضاها إخراج الكفارة وإن لم تكن عتقا ، وأنها غير واضحة الإسناد لأن علي بن إبراهيم أوردها مرسلة ، قال ومن ثم تردد المصنف في العمل بها وهو في محله. انتهى.

وقال الشيخ في المبسوط : وروى أصحابنا أن من وجب عليه عتق رقبة في كفارة ولا يقدر على ذلك جاز أن يعتق عنه ، والأحوط عندي أن يعطى ثمن الرقبة لكونه فقيرا فيشتري هو ويعتق عن نفسه. وظاهره أنه يعطى من سهم الفقراء ، وجوز في المعتبر إعطاءه من سهم الغارمين أيضا لأن القصد بذلك إبراء ذمة المكفر عنه من ما في عهدته. قال في المدارك بعد نقله عنه : وهو جيد لأن ذلك في معنى الغرم.

أقول : لا يخفى ما في كلامهم (نور الله تعالى مراقدهم) في هذا المقام وأنه مجرد اجتهاد في مقابلة نصوصهم (صلوات الله عليهم) وليت شعري أي مانع من العمل بالخبر المذكور بعد صراحته في تفسير الآية بذلك؟ والمناسبة للآية حيث تضمنت الرقاب لا تختص بالعتق كما توهموه بل هي أعمّ من ذلك بأن يراد بها فك الرقاب وتخليصها

١٨٥

من رق العبودية أو من حقوق لزمتها بأحد هذه الوجوه المذكورة في الخبر ، فإنه لا ريب أن من لزمه شي‌ء من هذه الحقوق فقد تعلق برقبته فجعل الله تعالى له سهما في الصدقات لفك رقبته من ذلك. ولا منافاة في هذه الرواية للرواية الأخرى الواردة أيضا في تفسير الآية كما لا يخفى ، بل مقتضى الخبرين هو كون سهم الرقاب عبارة عن ما يصرف في إعانة المكاتب كما تضمنته إحدى الروايتين أو في هذه الأشياء كما تضمنته هذه الرواية.

وبذلك يظهر لك ما في طعن صاحب المدارك في الرواية بتضمنها إخراج الكفارة وإن لم تكن عتقا فإنه لا ضير فيه ولا طعن به والآية قابلة للحمل عليه كما عرفت.

وأما طعنه بضعف السند فقد عرفت في غير مقام أنه غير معتبر ولا معتمد سيما والمرسل لها هذا الثقة الجليل ، ومن المعلوم أن مراسيلهم ومسانيدهم أمر واحد وأن هذا الإرسال إنما يقع غالبا للاختصار كما لا يخفى على من أحاط خبرا بطريقة الصدوق في الفقيه وتصريحه في غير موضع بعد ذكر الأحاديث المرسلة أني أخرجتها مسندة في كتاب كذا وكذا.

ثم إنه قد وقع الخلاف بينهم في ما لو دفع المالك من هذا السهم للمكاتب ولم يصرفه في وجه المكاتبة بأن أبرأه سيده أو تطوع عليه متطوع فهل يجب ارتجاعه منه أم لا؟ صرح الشيخ بالثاني قال لأنه ملكه بالقبض فكان له التصرف فيه كيف شاء ، واستشكله المحقق في المعتبر وقال إن الوجه أنه إذا دفعه إليه ليصرفه في مال الكتابة ارتجع بالمخالفة لأن للمالك الخيرة في صرف الزكاة في الأصناف. قال في المدارك بعد نقله عنه : وهو جيد. لكن يبقى الكلام في اعتبار هذا القصد من المالك ومقتضى كلامه في الغارم وابن السبيل اعتباره فإنه استدل على جواز الارتجاع بأن كلا من الغارم وابن السبيل إنما ملك المال ليصرفه في وجه مخصوص فلا يسوغ له غيره. وهو غير بعيد إذ لو لا ذلك لجاز إعطاء المكاتب وابن السبيل

١٨٦

ما يزيد عن قدر حاجتهم وهو باطل قطعا. انتهى. والمسألة عندي محل توقف لعدم النص وإن كان ما ذكره السيد السند لا يخلو من قرب.

تتمة (١)

قال السيد السند (قدس‌سره) في المدارك ـ بعد قول المصنف : والمكاتب إنما يعطى من هذا السهم إذا لم يكن معه ما يصرفه في كتابته ـ ما لفظه : مقتضى العبارة جواز إعطاء المكاتب من هذا السهم إذا لم يكن معه ما يصرفه في كتابته وإن كان قادرا على تحصيله بالتكسب ، وهو كذلك عملا بالإطلاق ، واعتبر الشهيد في البيان قصور كسبه عن مال الكتابة. انتهى.

أقول : لا يخفى أن الخبر الذي قدمناه مستندا لهذا الحكم وهو خبر أبي إسحاق قد دل على تقييد إعطاء المكاتب بالعجز عن أداء مال الكتابة ، والظاهر أنه هو مراد المصنف وإن كانت عبارته غير صريحة فيه إلا أن السيد المذكور لم يقف على الخبر المشار إليه وجمد على إطلاق الآية.

وبما ذكرنا صرح أيضا شيخنا الصدوق في الفقيه لما فسر سهم الرقاب بالمكاتب خاصة ، حيث قال : وسهم الرقاب يعان به المكاتبون الذين يعجزون عن أداء مال الكتابة. انتهى. وبه يظهر أن الأظهر هو ما صرح به في الدروس.

ومن ما يؤيد ذلك أيضا ما ذكره السيد المذكور في صنف الغارمين حيث قال : ويعتبر في الغارم أن يكون غير متمكن من القضاء كما صرح به الشهيدان وجماعة لأن الزكاة إنما شرعت لسد الخلة ورفع الحاجة ولا تدفع مع الاستغناء عنها. ولو تمكن من قضاء البعض دون البعض أعطي ما لا يتمكن من قضائه. انتهى ولا يخفى أن هذا الكلام جار في ما نحن فيه أيضا ، فإنه إن عمل على إطلاق الآية فهي في هذا الموضع أيضا مطلقة فكيف استجاز تقييدها بما ذكره ، وإن اعتبر بهذا التقييد ـ وهو أن الزكاة إنما شرعت لسد الخلة. إلى آخره ـ فلا معنى

__________________

(١) هذه التتمة أوردناها على طبق النسخة الخطية ولم ترد في المطبوعة.

١٨٧

لكلامه هنا لأن القادر على التحصيل بالتكسب غني عندهم فهو غير محتاج ، فلا وجه لعمله على إطلاق الآية. وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا ستر عليه.

السادس من الأصناف المذكورة ـ الغارمون وفسرهم الأصحاب بأنهم الذين عليهم الديون في غير معصية ، والظاهر أنه لا خلاف فيه كما صرح به غير واحد منهم

ويدل عليه ما رواه في الكافي عن محمد بن سليمان عن رجل من أهل الجزيرة يكنى أبا نجاد (١) قال : «سأل الرضا عليه‌السلام رجل وأنا أسمع فقال له جعلت فداك إن الله عزوجل يقول «وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ» (٢) أخبرني عن هذه النظرة التي ذكرها الله تعالى في كتابه لها حد يعرف إذا صار هذا المعسر إليه لا بد من أن ينظر وقد أخذ مال هذا الرجل وأنفقه على عياله وليس له غلة ينتظر إدراكها ولا دين ينتظر محله ولا مال غائب ينتظر قدومه؟ قال نعم ينتظر بقدر ما ينتهي خبره إلى الإمام فيقضي عنه ما عليه من الدين من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في طاعة الله عزوجل فإن كان أنفقه في معصية الله فلا شي‌ء له على الإمام. قلت فما لهذا الرجل الذي ائتمنه وهو لا يعلم في ما أنفقه في طاعة الله عزوجل أم في معصيته؟ قال يسعى له في ماله ويرده عليه وهو صاغر».

وما رواه فيه أيضا عن صباح بن سيابة عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أيما مؤمن أو مسلم مات وترك دينا لم يكن في فساد ولا إسراف فعلى الإمام أن يقضيه فإن لم يقضه فعليه إثم ذلك ، إن الله تبارك وتعالى يقول : «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ... الآية» (٤) فهو من الغارمين وله سهم عند الإمام فإن حبسه عنه فإثمه عليه».

وفي تفسير علي بن إبراهيم في تتمة الحديث المتقدم نقله (٥) في الأصناف

__________________

(١) الوسائل الباب ٩ من أبواب الدين وفيه كما في الفروع ج ١ ص ٣٥٣ والتهذيب ج ٦ ص ١٨٥ (يكنى أبا محمد).

(٢) سورة البقرة الآية ٢٨١.

(٣) الأصول ج ١ ص ٤٠٧.

(٤) سورة التوبة الآية ٦١.

(٥) الوسائل الباب ١ من المستحقين للزكاة رقم (٧).

١٨٨

المتقدمة قال : «والغارمين قوم قد وقعت عليهم ديون أنفقوها في طاعة الله من غير إسراف فيجب على الإمام أن يقضي عنهم ويفكهم من مال الصدقات».

وما رواه الحميري في كتاب قرب الإسناد عن الحسين بن علوان عن جعفر ابن محمد عن أبيه (عليهما‌السلام) (١) «أن عليا عليه‌السلام كان يقول يعطى المستدينون من الصدقة والزكاة دينهم كله ما بلغ إذا استدانوا في غير سرف».

وما رواه الكليني في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج (٢) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل عارف فاضل توفي وترك عليه دينا قد ابتلي به لم يكن بمفسد ولا مسرف ولا معروف بالمسألة هل يقضى عنه من الزكاة الألف والألفان؟ قال نعم».

ثم إنه قد ورد هنا أخبار مطلقة ينبغي حملها على هذه الأخبار المقيدة : منها ـ ما رواه في الكافي عن موسى بن بكر (٣) قال : «قال لي أبو الحسن عليه‌السلام من طلب هذا الرزق من حله ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل الله فإن غلب عليه فليستدن على الله وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يقوت به عياله فإن مات ولم يقضه كان على الإمام قضاؤه فإن لم يقضه كان عليه وزره ، إن الله عزوجل يقول (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها). إلى قوله (وَالْغارِمِينَ) (٤) وهو فقير مسكين مغرم».

وما رواه فيه أيضا عن العباس عن من ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٥) قال : «الإمام يقضي عن المؤمنين سائر الديون ما خلا مهور النساء».

إذا عرفت ذلك فاعلم أن الكلام هنا يقع في مواضع أحدها ـ قد صرح جمع من الأصحاب بأنه يعتبر في الغارم أن يكون غير متمكن من الأداء لأن الزكاة إنما شرعت لسد الخلة ورفع الحاجة ولا تدفع مع الاستغناء عنها ، واستقرب العلامة في

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٤ و ٤٨ من المستحقين للزكاة.

(٢) الوسائل الباب ٢٤ و ٤٦ من المستحقين للزكاة.

(٣) الوسائل الباب ٤٦ من المستحقين للزكاة والباب ٩ من أبواب الدين.

(٤) سورة التوبة الآية ٦١.

(٥) الوسائل الباب ٩ من أبواب الدين.

١٨٩

النهاية جواز الدفع إلى المديون وإن كان عنده ما يفي بدينه إذا كان بحيث لو دفعه يصير فقيرا لانتفاء الفائدة في أن يدفع ماله ثم يأخذ الزكاة باعتبار الفقر. قال في المدارك بعد نقله عنه : ومقتضى كلامه أن الأخذ والحال هذه يكون من سهم الغارمين ، وهو غير بعيد لإطلاق الآية وعدم صدق التمكن من أداء الدين عرفا بذلك. انتهى.

أقول : لا ريب أن ما ذكروه من أنه يعتبر في الغارم أن يكون غير متمكن من الأداء هو مقتضى الأخبار التي ذكرناها فالأولى في الاستدلال على ما ذكروه هو الاستناد إليها ، إلا أنهم (رضوان الله عليهم) لم يلموا في هذا المقام بشي‌ء منها ولا ذكروا منها شيئا بالمرة فلذا عللوا الحكم المذكور بما ذكروه ، وهو من حيث الاعتبار لا يخلو من قوة إلا أنك قد عرفت في غير موضع أن أمثال هذه التعليلات العقلية لا تصلح مجردة عن الأخبار لتأسيس الأحكام الشرعية.

وأما ما ذكره العلامة من جواز الدفع إلى المديون وإن كان عنده ما يفي بدينه فظواهر الأخبار التي ذكرناها تأباه وترده ولا سيما الخبر الأول فإنه صريح في ذلك

وما ذكره في المدارك ـ من أنه غير بعيد لإطلاق الآية. إلى آخر كلامه ـ ينافي ما صرح به أولا من ما نقلناه عنهم من أنه يعتبر في الغارم أن يكون غير متمكن من الأداء. إلى آخر ما نقلناه عنهم ، فإن هذا الكلام ظاهر في أنهم لم يعملوا على إطلاق الآية بل قيدوها بعدم التمكن ، ولا ريب أن هذا متمكن كما هو المفروض وتعليلهم الذي ذكروه أظهر ظاهر في ذلك.

وأما ما ذكره من عدم صدق التمكن من أداء الدين عرفا فهو ممنوع أشد المنع ، وكيف لا يكون متمكنا وعنده ما يفي بدينه كما هو المفروض ، وإنما يتعللون بأنه بعد الدفع في الدين يكون فقيرا محتاجا إلى الزكاة.

وهذا لا يصلح وجها لما اعتمده (أما أولا) فلأن الله تعالى ضامن للرزق فلعل الله تعالى بسبب حسن نيته في قضاء دينه والمسارعة إلى فكاك عنقه بما عنده يعجل له بالرزق من حيث لا يحتسب ولا يحتاج إلى الزكاة.

١٩٠

(وأما ثانيا) فإنه ليس الفقر إلا عدم ملك مئونة السنة وهذا لا يستلزم الحاجة إلى الزكاة في الحاضر وإن كان من أهلها باعتبار فقره وإنما يحتاج إليها لإتمام مئونة السنة ، ومع فرض احتياجه إلى الزكاة كما ادعوه فهو لا يصلح مستندا لما ذكروه.

وبالجملة فكلامهم في المقام لما كان غير مبني على خبر ولا دليل شرعي وإنما هو مجرد اعتبارات وتخريجات فالباب في ذلك واسع ، وأنت إذا رجعت إلى الأخبار التي ذكرناها لا ترتاب في صحة ما ذكرناه وظهوره منها كما بيناه.

وثانيها ـ إن ظاهر كلمة الأصحاب الاتفاق على اشتراط الأداء عن الغارمين بأن لا يكون ما استدانوه في معصية والأخبار المتقدمة صريحة في ذلك كما عرفت ، وبعضها وإن كان مطلقا لكن يجب حمله على مقيدها. وبذلك يظهر لك ما في مناقشة السيد السند في المدارك ومن اقتفاه كالفاضل الخراساني في الذخيرة.

قال في المدارك : واشترط الأصحاب في جواز الدفع إلى الغارم أن لا يكون استدانته في معصية ، واستدلوا عليه بأن في قضاء دين المعصية حملا للغريم على المعصية وهو قبيح عقلا فلا يكون متعبدا به شرعا ، وبما روي عن الرضا عليه‌السلام (١) أنه قال : «يقضى ما عليه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في طاعة الله عزوجل وإذا كان أنفقه في معصية الله فلا شي‌ء له على الإمام». ويمكن المناقشة في الأول بأن إعانة المستدين في المعصية إنما تقبح مع عدم التوبة لا مطلقا ، وفي الرواية بالطعن في السند فإنا لم نقف عليها مسندة في شي‌ء من الأصول ، ومن ثم ذهب المصنف في المعتبر إلى جواز إعطائه مع التوبة من سهم الغارمين وهو حسن. انتهى.

أقول : بل الدليل على ما ذكره الأصحاب إنما هو هذه الأخبار الواضحة الدلالة على ذلك ولكنه معذور حيث لم يقف عليها كما يفصح عنه إنكاره لوجود هذه الرواية عن الرضا عليه‌السلام في شي‌ء من الأصول وهي في كتاب الكافي لكنها حيث

__________________

(١) وهي رواية محمد بن سليمان المتقدمة ص ١٨٨.

١٩١

لم تكن في كتاب الزكاة وإنما هي في كتاب الديون لم يطلع عليها وكذا غيرها من ما نقلناه

وأما ما نقله عن المعتبر من جواز إعطائه مع التوبة فالظاهر أنه مبني على ما أجاب به هنا عن التعليل الذي استدل به الأصحاب على عدم جواز الدفع من هذا السهم لمن أنفق ما استدانه في معصية وأنه مع التوبة لا يقبح الأداء عنه وإن كان كذلك.

وأنت قد عرفت أنا لا نعتمد على هذه التعليلات الواهية وإنما العلة هي النصوص المذكورة والتوبة لا مدخل لها في ذلك ، لأن الظاهر أن إيجاب الشارع القضاء عليه من غير أن يعطى من هذا السهم ما يقضي به عن نفسه إنما وقع عقوبة له في ما فعل من صرف ما استدانه في المعصية كما ينادي به قول الرضا عليه‌السلام في الرواية الأولى (١) «يسعى له في ماله ويرده عليه وهو صاغر».

وبالجملة فإن الأخبار وكلمة الأصحاب متفقة على أن الدفع من هذا السهم مخصوص بمن استدان في غير معصية ، والخروج عن ذلك من غير دليل واضح مع كونه تحكما محضا جرأة كما لا يخفى على المنصف. إلا أن ذلك إنما هو بالنسبة إلى من وقف على الأخبار المذكورة وأما من لم يقف عليها فهو معذور في ما ذكره. إلا أن الحكم في المسألة قبل تتبع الأدلة الشرعية من مظانها مشكل فنسأل الله تعالى لنا ولهم المسامحة بجوده ومغفرته.

وثالثها ـ أنه قد ذكر الأصحاب أنه لو جهل مصرف الدين في طاعة أو معصية فإنه يعطى من سهم الغارمين ، ونقل عن الشيخ القول بالمنع ، قالوا وربما كان مستنده رواية محمد بن سليمان المتقدمة في أول الأخبار السابقة (٢) وقوله فيها «قلت فما لهذا الرجل الذي ائتمنه وهو لا يعلم في ما أنفقه في طاعة الله عزوجل أم في معصيته؟ قال يسعى له في ماله ويرده عليه وهو صاغر». قالوا : وهذه الرواية ضعيفة جدا فلا يمكن التعويل عليها في إثبات حكم مخالف للأصل ، لأن الأصل في تصرفات المسلم

__________________

(١ و ٢) ص ١٨٨.

١٩٢

وقوعها على الوجه المشروع ، ولأن تتبع مصارف الأموال عسر.

أقول : الظاهر أن الخبر المذكور لا دلالة فيه على ما ذكروه من أنه متى جهل الإمام حال إنفاقه لم يدفع له من هذا السهم ، وبيان ذلك أن الظاهر أن المرجع في الإنفاق إلى كونه طاعة أو معصية إنما هو إلى المنفق لأنه المتولي لذلك ، واطلاع الناس على ذلك أمر نادر غالبا سيما إذا كان مستور الظاهر ، وحينئذ فيرجع الحكم إليه فإن أنفقه في طاعة جاز له الأخذ من هذا السهم وحل له ذلك وإن أنفقه في معصية حرم عليه الأخذ منه. وأما الحكم بالنسبة إلى الإمام فإنه إن اطلع على أحد الأمرين عامله به وإن لم يطلع ولا سيما مع كونه مستور الظاهر غير معروف بالفسق فإنه يدفع إليه بناء على ظاهر الحال ولكنه يحرم عليه في ما بينه وبين الله إن كان ما استدانه قد أنفقه في المعصية ، وحينئذ فيرجع قوله عليه‌السلام : «إذا كان أنفقه في طاعة الله» إلى ما لو علم الإنفاق بكونه في طاعة أو بني في ذلك على حسن ظاهره كما يشير إليه قوله عليه‌السلام في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج «لم يكن بمفسد ولا مسرف» وقوله في رواية صباح بن سيابة «لم يكن في فساد ولا إسراف» فإن مرجع ذلك إلى الحكم بحسن الظاهر.

والرواية عند التأمل فيها لا منافاة فيها لما ذكرناه ، لأنه لما ذكر عليه‌السلام أنه إنما يعطيه الإمام إذا أنفقه في طاعة الله وأما إذا أنفقه في المعصية فلا شي‌ء له رجع له الراوي وقال له إن صاحب هذا الدين لا علم له بكونه أنفقه في طاعة أو معصية ، أجابه عليه‌السلام بما معناه أن صاحب الدين لا مدخلية له في ذلك وإنما المرجع فيه إلى المستدين فإن كان قد أنفق ما استدانه منه في معصية وجب عليه أن يسعى له فيه ويرده عليه وهو صاغر. هذا حاصل جوابه عليه‌السلام. وجهل الإنفاق هنا إنما نسب إلى صاحب الدين لا إلى الإمام حتى يتم ما توهموه من الخبر من أنه متى جهل الإمام وجه الإنفاق لم يدفع له من هذا السهم ، غاية الأمر أن الإمام عليه‌السلام للتفصيل الذي ذكره أولا وعلم منه الحكم أجمل في الجواب ثانيا اعتمادا على ما قدمه من التفصيل.

١٩٣

هكذا حقق المقام ولا تصغ إلى ما سبق من الأوهام.

ورابعها ـ قال الشيخ في المبسوط : وأما الغارمون فصنفان : صنف استدانوا في مصلحتهم في غير معصية ثم عجزوا عن أدائه فهؤلاء يعطون من سهم الغارمين بلا خلاف ، وقد ألحق بهذا قوم أدانوا مالا في دم بأن وجد قتيل لا يدرى من قتله وكاد أن تقع بسببه فتنة فتحمل رجل ديته لأهل القبيلة فهؤلاء أيضا يعطون أغنياء كانوا أو فقراء لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : غاز في سبيل الله أو عامل عليها أو غارم». وألحق به أيضا قوم تحملوا في ضمان مال بأن يتلف مال رجل ولا يدرى من أتلفه وكاد إن تقع بسببه فتنة فتحمل رجل قيمته وأطفأ الفتنة. انتهى.

وبذلك صرح كثير من الأصحاب ممن تأخر عنه : منهم ـ العلامة في أكثر كتبه وابن حمزة ، وظاهرهم دفع ذلك من سهم الغارمين ، ولم أقف فيه على نص من طرقنا والرواية التي ذكرها الشيخ الظاهر أنها من طرق المخالفين ، ولو أريد الدفع من سهم سبيل الله ـ بناء على ما هو الأشهر الأظهر من أن مصرفه جميع الطاعات وإصلاح ذات البين من أعظمها ـ فهو جيد.

وروى ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب محمد بن علي بن محبوب في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج (٢) أن محمد بن خالد قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصدقات فقال اقسمها في من قال الله عزوجل ولا تعطين من سهم الغارمين الذين ينادون بنداء الجاهلية شيئا. قلت وما نداء الجاهلية؟ قال هو الرجل يقول يا لبني فلان فيقع بينهم القتل والدماء فلا تؤدوا ذلك من سهم الغارمين ، ولا الذين يغرمون من مهور النساء ، ولا أعلمه إلا قال ولا الذين لا يبالون ما صنعوا في أموال الناس». وفي هذا الحديث إيماء إلى ما ذكره الأصحاب.

__________________

(١) سنن أبي داود ج ١ ص ٢٥٩.

(٢) الوسائل الباب ٤٨ من المستحقين للزكاة وفيه (يا بني فلان).

١٩٤

وخامسها ـ قد صرح الأصحاب بأنه لو كان له دين على فقير جاز له مقاصته به من الزكاة ، وهو من ما لا خلاف فيه.

ويدل عليه جملة من الأخبار : منها ـ ما رواه الكليني في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج (١) قال : «سألت أبا الحسن الأول عليه‌السلام عن دين لي على قوم قد طال حبسه عندهم لا يقدرون على قضائه وهم مستوجبون للزكاة هل لي أن أدعه وأحتسب به عليهم من الزكاة؟ قال نعم».

وعن عقبة بن خالد (٢) قال : «دخلت أنا والمعلى وعثمان بن عمران على أبي عبد الله عليه‌السلام فلما رآنا قال مرحبا بكم وجوه تحبنا ونحبها جعلكم الله معنا في الدنيا والآخرة فقال له عثمان جعلت فداك فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام نعم مه. قال إني رجل موسر فقال له بارك الله لك في يسارك قال فيجيئني الرجل فيسألني الشي‌ء وليس هو إبان زكاتي؟ فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام القرض عندنا بثمانية عشر والصدقة بعشر وما ذا عليك إذا كنت كما تقول موسرا أعطيته فإذا كان إبان زكاتك احتسبت بها من الزكاة ، يا عثمان لا ترده فإن رده عند الله عظيم ، يا عثمان إنك لو علمت ما منزلة المؤمن من ربه ما توانيت في حاجته ، ومن أدخل على مؤمن سرورا فقد أدخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقضاء حاجة المؤمن يدفع الجنون والجذام والبرص».

وروى الكليني في الموثق عن سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «سألته عن الرجل يكون له الدين على رجل فقير يريد أن يعطيه من الزكاة؟ فقال إن كان الفقير عنده وفاء بما كان عليه من الدين من عرض من دار أو متاع من متاع البيت أو يعالج عملا يتقلب فيه بوجهه فهو يرجو أن يأخذ منه ما له عنده من دينه فلا بأس أن يقاصه بما أراد أن يعطيه من الزكاة أو يحتسب بها ، وإن لم يكن عند

__________________

(١ و ٣) الوسائل الباب ٤٦ من المستحقين للزكاة.

(٢) الفروع ج ١ ص ١٦٣ باب القرض ، وفي الوسائل الباب ٤٩ من المستحقين للزكاة و ٢٥ من فعل المعروف.

١٩٥

الفقير وفاء ولا يرجو أن يأخذ منه شيئا فليعطه من زكاته ولا يقاصه بشي‌ء من الزكاة».

وذكر شيخنا الشهيد الثاني أن المقاصة احتساب الزكاة على الفقير ثم أخذها مقاصة من دينه ، وقيل هي القصد إلى إسقاط ما في ذمة الفقير للمزكي من الدين على وجه الزكاة ، وهو أظهر.

قال في المدارك : وفي معنى الفقير الغني أعني مالك قوت السنة إذا كان بحيث لا يتمكن من أداء الدين.

ولا يخفى ما فيه : أما أولا ـ فلأنه خلاف ما اتفقت عليه الأخبار وكلمة الأصحاب من غير خلاف يعرف في الباب من اشتراط الفقر في المستحق وأن الغنى وهو المالك مئونة سنة لا يجوز أن يعطى منها ، والفرق بين الإعطاء ابتداء والمقاصة من ما لا دليل عليه فلا وجه له.

والظاهر أن منشأ الشبهة عنده هو ما تقدم في الموضع الأول من أنه بأداء ما عليه من الدين يكون فقيرا محتاجا إلى الزكاة لفقره فلا معنى لأن يعطي ما عليه من الدين ثم يأخذ الزكاة.

وفيه ما عرفت وأنه ليس كل فقير يحتاج في الحاضر إلى الزكاة وإن احتاج إليها في وقت آخر ، فلو فرضنا أن شخصا عنده ألف درهم جنسا أو نقدا وهي مئونة سنته وعليه مائة درهم دينا فلو أعطى تلك المائة نقص ما عنده عن مئونة سنته وصار فقيرا يحل له أخذ الزكاة ، ولا ريب أن الواجب عليه إعطاء ما عليه من الدين لكونه مقتدرا عليه فهو داخل تحت الأوامر الدالة على وجوب الوفاء بالدين ولا يحل له حبسه مع المطالبة ، واحتساب ما عليه من الدين من وجه الزكاة غير جائز لكونه غنيا كما عرفت.

وأما ثانيا ـ فلما عرفت من الأخبار المتقدمة فإنها ظاهرة بل صريحة في عدم ملك مئونة السنة بل عدم القدرة على أداء الدين ، أما صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج فلقوله فيها «لا يقدرون على قضائه وهم مستوجبون للزكاة» وأما رواية عقبة بن

١٩٦

خالد فلقوله «يجيئني الرجل فيسألني» ومالك مئونة سنة لا يسأل ، وأما موثقة سماعة فالفرق بين الموضعين فيها لا يخلو من إجمال ، وتوضيحه بتوفيق الله وعونه سبحانه أنه لما كان الفقير هو الغير المالك لمئونة سنة فعلا أو قوة فقد يملك أشياء وإن كانت لا تفي بمئونة السنة وإن وفت بدينه وزيادة وقد لا يملك شيئا بالكلية ، فأمره عليه‌السلام بالاحتساب في الحالة الأولى من حيث الفقر وإن أمكنه أداء الدين ومنعه من الاحتساب في الحالة الثانية وذلك لأنه معسر فيجب إنظاره كما دلت عليه الآية (١) والاحتساب استيفاء وقبض للدين وهو غير جائز شرعا بالنسبة إلى المعسر لوجوب إنظاره إلى ميسرة فلذا منعه من الاحتساب عليه وأمره بإعطائه من الزكاة.

وسادسها ـ لو كان الدين على ميت جاز أن يقضى عنه من هذا السهم وإن يقاص به ، وهو من ما لا خلاف فيه وعليه تدل الأخبار :

ومنها ـ ما تقدم (٢) من صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج ورواية صباح بن سيابة وهما دالتان على القضاء.

ورواية يونس بن عمار (٣) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول قرض المؤمن غنيمة وتعجيل أجر ، إن أيسر قضاك وإن مات قبل ذلك احتسبت به من الزكاة».

ورواية إبراهيم بن السندي عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : «قرض المؤمن غنيمة وتعجيل خير ، إن أيسر أدى وإن مات احتسب به من زكاته». ونحوهما غيرهما وهما دالتان على الاحتساب.

وروى زرارة في الصحيح أو الحسن على المشهور (٥) قال : «قلت لأبي عبد الله

__________________

(١) وهي قوله تعالى «وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ» سورة البقرة الآية ٢٨١.

(٢) ص ١٨٨ و ١٨٩.

(٣ و ٤) الوسائل الباب ٤٩ من المستحقين للزكاة.

(٥) الوسائل الباب ١٨ من المستحقين للزكاة.

١٩٧

عليه‌السلام رجل حلت عليه الزكاة ومات أبوه وعليه دين أيؤدي زكاته في دين أبيه وللابن مال كثير؟ فقال إن كان أبوه أورثه مالا ثم ظهر عليه دين لم يعلم به يومئذ فيقضيه عنه قضاه من جميع الميراث ولم يقضه من زكاته ، وإن لم يكن أورثه مالا لم يكن أحد أحق بزكاته من دين أبيه فإذا أداها في دين أبيه على هذه الحال أجزأت عنه».

إذا عرفت ذلك فاعلم أنه قد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أنه هل يشترط في جواز الأداء عن الميّت من الزكاة قصور تركته عن الوفاء بالدين أم لا؟ قولان ذهب إلى الأول الشيخ في المبسوط وابن الجنيد على ما نقل عنهما وإلى الثاني الفاضلان.

ويدل على الأول حسنة زرارة المذكورة أو صحيحته على المختار ، وموردها وإن كان الأب إلا أن الظاهر أنه لا خصوصية له فيتعدى إلى غيره كما في سائر الأحكام.

واستدل العلامة في المختلف على الثاني بعموم الأمر باحتساب الدين على الميّت من الزكاة (١) ولأنه بموته انتقلت التركة إلى ورثته فصار في الحقيقة عاجزا ولا يخفى ما في هذا الاستدلال : أما العموم فإنه يجب تخصيصه بالصحيحة المذكورة كما هو القاعدة المطردة. وأما انتقال التركة فإنه في موضع النزاع ممنوع لصريح قوله عزوجل في غير موضع «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ» (٢) فإنها صريحة في عدم الانتقال مع الدين والوصية النافذة كما لا يخفى.

ثم إنه لا يخفى أنه لا فرق في جواز قضاء الدين عن الميّت أو مقاصته به بين أن يكون أجنبيا أو واجب النفقة وهو موضع وفاق بينهم ، ويدل عليه حسنة زرارة المتقدمة أو صحيحته.

وكذا لو كان الدين على من تجب نفقته مع كونه حيا فإنه يجوز القضاء عنه

__________________

(١) الوسائل الباب ٩ من أبواب الدين.

(٢) سورة النساء الآية ١٣ و ١٧.

١٩٨

أو مقاصته من غير خلاف.

ويدل عليه موثقة إسحاق بن عمار (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل على أبيه دين ولأبيه مئونة أيعطي أباه من زكاته يقضي دينه؟ قال نعم ومن أحق من أبيه».

وسابعها ـ أنه لو صرف الغارم ما دفع إليه في غير وجه الغرم فهل يجب استعادته أم لا؟ قولان ذهب إلى الأول المحقق في المعتبر والشرائع ، وإلى الثاني الشيخ ، وعلله بأنه ملكه بالقبض فلا يحكم عليه بوجوب الإعادة. وأجاب في المعتبر بأنه ملكه ليصرفه في وجه مخصوص لا يسوغ له غيره. واستحسنه في المدارك والمسألة محل توقف لعدم النص وإن كان ما ذكره لا يخلو من قرب.

السابع ـ من الأصناف المتقدمة سبيل الله ، وهل هو الجهاد خاصة أو ما يشمل جميع القرب والخيرات والمصالح؟ قولان صرح بالأول الشيخ في النهاية والشيخ المفيد في المقنعة والصدوق في الفقيه ، والمشهور الثاني وهو الظاهر من الأدلة.

ويدل عليه ما نقله الثقة الجليل علي بن إبراهيم في تفسيره (٢) في تتمة الحديث المتقدم ذكره في الأصناف المتقدمة عن العالم عليه‌السلام قال : «وفي سبيل الله قوم يخرجون إلى الجهاد وليس عندهم ما يتقوون به أو قوم مؤمنون ليس عندهم ما يحجون به أو في جميع سبل الخير ، فعلى الإمام أن يعطيهم من مال الصدقات حتى يقووا على الحج والجهاد».

وما رواه ابن بابويه في الصحيح عن علي بن يقطين (٣) «أنه قال لأبي الحسن الأول عليه‌السلام يكون عندي المال من الزكاة فأحج به موالي وأقاربي؟ قال لا بأس».

وما رواه ثقة الإسلام في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٤)

__________________

(١) الوسائل الباب ١٨ من المستحقين للزكاة.

(٢) الوسائل الباب ١ من المستحقين للزكاة رقم ٧.

(٣ و ٤) الوسائل الباب ٤٢ من المستحقين للزكاة.

١٩٩

قال : «سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا جالس فقال إني أعطى من الزكاة فأجمعه حتى أحج به؟ فقال نعم يأجر الله من يعطيك». واحتمال الدفع هنا من حيث الفقر ممكن بل هو الظاهر.

وما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر من نوادر أحمد بن محمد بن أبي نصر عن جميل عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «سألته عن الصرورة أيحجه الرجل من الزكاة؟ قال نعم».

ويدل على ذلك أيضا ما رواه المشايخ الثلاثة عن الحسن بن راشد (٢) قال : «سألت أبا الحسن العسكري عليه‌السلام بالمدينة عن رجل أوصى بمال في سبيل الله قال سبيل الله شيعتنا».

وبأسانيدهم عن الحسين بن عمر (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إن رجلا أوصى إلي بشي‌ء في سبيل الله؟ فقال لي اصرفه في الحج. قال قلت أوصى إلي في السبيل قال اصرفه في الحج فإني لا أعلم شيئا في سبيل الله أفضل من الحج» وفي رواية أحدهم (٤) لا أعلم سبيلا من سبله أفضل من الحج.

وجمع بينهما في الفقيه فقال : وهذان الحديثان متفقان وذلك أنه يصرف ما أوصى به في السبيل إلى رجل من الشيعة يحج به. ونقل ذلك الشيخ عنه ثم قال وهذا وجه حسن.

ولا يخفى ما في كلاميهما (طاب ثراهما) فإن سبيل الله إما أن يخص بالجهاد كما هو أحد القولين أو يفسر بما هو أعمّ من جميع القربات والطاعات ، والمعنى الأول لا مجال لاعتباره هنا ، وعلى الثاني فلا تنافي ليحتاج إلى الجمع بين الخبرين.

ثم إنه يفهم من جملة من الأخبار أن حمل سبيل الله على الجهاد إنما هو تقية حيث إن مذهبهم تفسير سبيل الله بذلك (٥) وهي في باب الوصايا :

__________________

(١) الوسائل الباب ٤٢ من المستحقين للزكاة.

(٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٣٣ من الوصايا.

(٥) المحلى ج ٦ ص ١٥١ ونيل الأوطار ج ٤ ص ٢٣٦.

٢٠٠