الحدائق الناضرة - ج ١٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٤

وهو قول علمائنا أجمع.

وكيف كان فالظاهر من الأخبار وهي التي عليها المدار في الإيراد والإصدار هو القول المشهور :

ومنها ـ ما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن سعيد بن غزوان عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «تعطيه من الزكاة حتى تغنيه».

وما رواه الكليني في الموثق عن إسحاق بن عمار عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام (٢) قال : «قلت له أعطي الرجل من الزكاة ثمانين درهما؟ قال نعم وزده. قلت أعطيه مائة؟ قال نعم وأغنه إن قدرت أن تغنيه». وفي معناها موثقة عمار بن موسى ورواية زياد بن مروان ورواية إسحاق بن عمار وغيرها (٣).

وأما القول الآخر فلم أقف له على حجة ، وقال الشهيد في البيان ـ وهو ممن اختار هذا القول بالنسبة إلى من قصر كسبه عن مئونة سنته ـ وما ورد في الحديث من الإغناء بالصدقة محمول على غير المكتسب.

وفيه أن صحة هذا الحمل متفرعة على وجود المعارض وليس فليس ، نعم قد ورد في صحيحة معاوية بن وهب المتقدمة «ويأخذ البقية من الزكاة» وموردها كما تقدم من كان له مال يتجر به وعجز عن استنماء الكفاية ، مع أنها غير صريحة في المنع من الزائد.

الثاني ـ الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أن دار السكنى والخادم وفرس الركوب لا تمنع من أخذ الزكاة مع الحاجة إليها.

وعلى ذلك تدل جملة من الأخبار : منها ـ ما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن عمر بن أذينة عن غير واحد عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما‌السلام) (٤)

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٤ من المستحقين للزكاة رقم (١) عن الكليني ورقم (٥) عن الشيخ.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٢٤ من المستحقين للزكاة.

(٤) الوسائل الباب ٩ من المستحقين للزكاة.

١٦١

«أنهما سئلا عن الرجل له دار وخادم أو عبد أيقبل الزكاة؟ قالا نعم إن الدار والخادم ليسا بمال».

والظاهر من قولهما (عليهما‌السلام) «ليسا بمال» إنهما من حيث الحاجة وإلجاء الضرورة إليهما لا يعدان من المال الذي يكون به غنيا وتحرم عليه الزكاة ، ومن أجل ذلك إن الأصحاب ألحقوا بذلك ثياب التجمل وفرس الركوب وكتب العلم إذا كان من أهله.

ويدل على فرس الركوب بخصوصها ما رواه علي بن جعفر (رضي‌الله‌عنه) في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما‌السلام) (١) قال : «سألته عن الزكاة أيعطاها من له الدابة؟ قال نعم ومن له الدار والعبد فإن الدار ليس نعدها بمال».

وروى الشيخ عن سعيد بن يسار (٢) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول تحل الزكاة لصاحب الدار والخادم لأن أبا عبد الله عليه‌السلام لم يكن يرى الدار والخادم شيئا». قوله : «لأن أبا عبد الله عليه‌السلام» الظاهر أنه من كلام الراوي.

وما رواه الشيخ عن إسماعيل بن عبد العزيز عن أبيه (٣) قال : «دخلت أنا وأبو بصير على أبي عبد الله عليه‌السلام فقال له أبو بصير إن لنا صديقا وهو رجل صدوق يدين الله بما ندين به. فقال من هذا يا أبا محمد الذي تزكيه؟ فقال العباس بن الوليد ابن صبيح. فقال رحم الله الوليد بن صبيح ما له يا أبا محمد؟ قال جعلت فداك له دار تسوى أربعة آلاف درهم وله جارية وله غلام يستقي على الجمل كل يوم ما بين الدرهمين إلى الأربعة سوى علف الجمل وله عيال أله أن يأخذ من الزكاة؟ قال نعم. قال وله هذه العروض؟ فقال يا أبا محمد فتأمرني أن آمره أن يبيع داره وهي عزه ومسقط رأسه أو يبيع جاريته التي تقيه الحر والبرد وتصون وجهه ووجه عياله أو آمره أن يبيع غلامه وجمله وهي معيشته وقوته ، بل يأخذ الزكاة فهي له

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٩ من المستحقين للزكاة.

(٣) الفروع ج ١ ص ١٥٩ وفي الوسائل الباب ٩ من المستحقين للزكاة.

١٦٢

حلال ولا يبيع داره ولا غلامه ولا جمله». إلى غير ذلك من الأخبار.

والظاهر من فحوى هذه الأخبار أن الحكم في ذلك مرتب على أحوال الناس وما هم عليه من الرفعة والضعة ، فمن كان من أهل الشرف والرفعة الذين جرت عادتهم بالبيوت الواسعة والخدم والخيل ونحو ذلك من ثياب التجمل بين الناس والفروش والأسباب فإن ذلك لا يمنع من أخذه الزكاة من حيث هذه الأشياء ولا يكلف بيعها والاقتصار على أقل المجزئ من ذلك ، وأما من لم يكن كذلك بل المناسب لحاله ما هو أقل من ذلك مع حصول هذه الأشياء عنده فلا يبعد القول بالاقتصار على ما يناسب حاله وجرت به عادة أبناء نوعه من المسكن والمركوب والخدم وبيع الزائد إذا قام بمئونة سنته. والله العالم.

الثالث ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأن من ادعى الفقر إن عرف صدقه أو كذبه عومل به وهو من ما لا إشكال فيه ، وإن جهل حاله فالمشهور بل ظاهرهم الاتفاق عليه أنه يصدق في دعواه ولا يكلف يمينا ولا بينة كما يظهر من المعتبر والمنتهى وغيرهما.

وربما علل بعضهم قبول قوله في الصورة المذكورة بأنه مسلم ادعى أمرا ممكنا ولم يظهر ما ينافي دعواه فكان قوله مقبولا ، كما في المعتبر. وربما علل بأنه ادعى ما يوافق الأصل وهو عدم المال وأن الأصل عدالة المسلم فكان قوله مقبولا كما في المنتهى.

ولم أقف على من تعرض للمناقشة في هذا الحكم سوى السيد السند في المدارك واقتفاه وزاد عليه الفاضل الخراساني في الذخيرة.

والأظهر عندي هو القول المشهور ويدل عليه وجوه : (أحدها) ما رواه في الكافي عن عبد الرحمن العزرمي عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «جاء رجل إلى الحسن والحسين (عليهما‌السلام) وهما جالسان على الصفا فسألهما فقالا إن الصدقة

__________________

(١) الفروع ج ١ ص ١٦٧ وفي الوسائل الباب ٩ من المستحقين للزكاة.

١٦٣

لا تحل إلا في دين موجع أو غرم مفضع أو فقر مدقع ففيك شي‌ء من هذا؟ قال نعم. فأعطياه ، وقد كان الرجل سأل عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر فأعطياه ولم يسألاه عن شي‌ء فرجع إليهما فقال لهما ما لكما لم تسألاني عن ما سألني عنه الحسن والحسين (عليهما‌السلام)؟ وأخبرهما بما قالا فقالا إنهما غذيا بالعلم غذاء».

وما اعترض به الفاضل المشار إليه آنفا على هذه الرواية ـ من ضعف السند أولا وعدم موافقة الحصر المفهوم منه لما ثبت بالأدلة.

مردود : أما الأول فبأنه مفروغ عنه عندنا لأنا لا نرى العمل بهذا الاصطلاح المحدث إذ لم يدل عليه دليل بل الأدلة على خلافه واضحة السبيل ، مع أنه يمكن الجواب على قواعدهم من أن ضعفه مجبور بالشهرة بل الاتفاق على الحكم المذكور كما اعتذروا عن ضعف الأخبار متى اضطروا إلى العمل بها. وأما الثاني فبأن المراد الحصر بالنسبة إلى ذلك السائل لا مطلقا كأنه قيل «الأمر الموجب لسؤالك هل هو لدين موجع؟» وإلا فمن المعلوم أنه ليس من العاملين ولا من أبناء السبيل ولا المؤلفة ولا نحو ذلك من الأصناف وإنما هذا سؤال عن وجوه الفقر الموجبة لسؤاله (الثاني) اتفاق الأصحاب على الحكم المذكور من غير ظهور مخالف وإلا لنقل خلافه في المسألة.

(الثالث) موافقة الأصل بأن الأصل عدم المال ، والأصل الآخر وهو عدم البينة واليمين.

(الرابع) استلزام التكليف بالبينة واليمين الحرج والعسر في كثير من الموارد سيما إذا كان من يستحي من إظهار ذلك كما في أكثر المتجملين.

(الخامس) أنه لو كان شرطا لخرج عنهم (عليهم‌السلام) فيه خبر دال على ذلك ولنقل وليس فليس. وهذا الوجه يرجع إلى الاستدلال بالبراءة الأصلية على الوجه الذي قدمنا بيانه في غير موضع من كتاب الصلاة ، ومحصله أن المحدث الماهر إذا تتبع الأخبار الواردة حق التتبع في مسألة لو كان فيها حكم مخالف للأصل

١٦٤

لاشتهر لعموم البلوى بها ولم يظفر بذلك في الأخبار يحصل له العلم أو الظن المتآخم له بعدم ذلك الحكم ، والأمر هنا كذلك.

(السادس) وهو أمتنها وأظهرها وأوجهها وأنضرها أنه لا يخفى على من تأمل الأخبار الواردة بالبينة واليمين في أبواب الدعاوي أنه لا عموم فيها فضلا عن الخصوص على وجه يشمل مثل ما نحن فيه ، فإن موردها إنما هو ما إذا كانت الدعوى بين اثنين مدع ومنكر ولا دلالة فيها على من ادعى شيئا وليس له من يقابله وينكر دعواه بأنه يكلف البينة أو اليمين ، وفي الأخبار الكثيرة (١) «البينة على المدعى واليمين على من أنكر». بل ورد في جملة من الأخبار وبه قال علماؤنا الأبرار أن من ادعى شيئا ولا مناقض له في دعواه يقبل قوله من غير بينة ولا يمين بمجرد احتمال صدقه.

ومن ذلك ما رواه في الكافي والتهذيب عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «قلت عشرة كانوا جلوسا وفي وسطهم كيس فيه ألف درهم فسأل بعضهم بعضا ألكم هذا الكيس؟ فقالوا كلهم لا وقال واحد هو لي فلمن هو؟ قال للذي ادعاه».

ويستفاد من هذا الخبر أن كل من ادعى ما لا يد عليه قضي له به ، وبذلك صرح الأصحاب من غير خلاف ينقل ، قال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك بعد نقل الرواية المذكورة دليلا للحكم المذكور : ولأنه مع عدم المنازع لا وجه لمنع المدعي منه ولا لطلب البينة ولا لإحلافه إذ لا خصم له حتى يترتب عليه ذلك. وفيه إشارة إلى ما قدمناه من أن البينة واليمين إنما هي في مقام الخصومة ومع عدم خصم يقابل بإنكار تلك الدعوى فليس المقام مقام البينة ولا اليمين.

ومن ذلك رواية ميسر (٣) وهي صحيحة إليه قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ألقى المرأة في الفلاة التي ليس فيها أحد فأقول لها ألك زوج؟ فتقول لا فأتزوجها؟

__________________

(١) الوسائل الباب ٣ من كيفية الحكم.

(٢) الوسائل الباب ١٧ من كيفية الحكم.

(٣) الوسائل الباب ١٠ من أبواب المتعة.

١٦٥

قال نعم هي المصدقة على نفسها».

وفي رواية أبان بن تغلب عنه عليه‌السلام (١) «ليس هذا عليك إنما عليك أن تصدقها في نفسها».

وفي رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر (٢) قال : «قلت للرضا عليه‌السلام الرجل يتزوج المرأة فيقع في قلبه أن لها زوجا؟ قال وما عليه أرأيت لو سألها البينة كان يجد من يشهد أن ليس لها زوج؟». وفي هذا الخبر إشارة إلى ما قدمناه في الوجه الرابع من لزوم العسر والحرج بطلب البينة في أمثال هذه المواضع من ما يكون بين المكلف وبين الله تعالى.

وفي بعض الأخبار الصحاح عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) «في رجل طلق امرأته ثلاثا فبانت منه فأراد مراجعتها فقال لها إني أريد مراجعتك فتزوجي زوجا غيري فقالت له قد تزوجت زوجا غيرك وحللت لك نفسي. أيصدق قولها ويراجعها وكيف يصنع؟ قال إذا كانت المرأة ثقة صدقت في قولها».

قال بعض مشايخنا (رضوان الله عليهم) المراد بكونها ثقة أي موثوق بأخبارها غير متهمة لا الثقة بالمعنى المصطلح ، وهو كذلك. والظاهر أن قبول قول المدعي في جملة هذه المواضع وعدم تكليفه باليمين أو البينة إنما هو من حيث عدم المناقض له في دعواه لا من حيث خصوصية هذه المواضع ، وحينئذ فيطرد الحكم في كل موضع كذلك ، ولهذا صرح الأصحاب بذلك في مواضع عديدة : منها ـ ما دل عليه بخصوصه دليل ، ومنها ما لم يدل عليه دليل وإنما استندوا فيه إلى ما ذكرناه ومنه قبول قول من عليه زكاة أو خمس في إخراجه ، ومنه ما لو ادعى صاحب النصاب إبداله في أثناء الحول فرارا من الزكاة ، وما لو خرص عليه وادعى النقصان عن بلوغ النصاب ، ولو ادعى الدين ولم يكذبه غريمه أو الكتابة ولم يكذبه سيده ، أو ادعى

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١٠ من أبواب المتعة.

(٣) الوسائل الباب ١١ من أقسام الطلاق وأحكامه.

١٦٦

ذهاب ماله بعد أن كان غنيا ، وقد أنهى شيخنا الشهيد الثاني جملة منها تزيد على عشرين موضعا. ثم قال وضبطها بعضهم بأن كل ما كان بين العبد وبين الله ولا يعلم إلا منه ولا ضرر فيه على الغير أو ما تعلق به الحد أو التعزير. انتهى.

ولا يخفى أن هذه الوجوه التي ذكرناها وإن أمكن المناقشة في بعضها إلا أنه بالنظر إلى مجموعها ولا سيما الأول والأخير منها فإنه لا يبقى للتوقف فيها مجال.

وأما ما توهمه في المدارك في مقابلة ذلك ـ من أن الشرط اتصاف المدفوع إليه بأحد الأوصاف الثمانية فلا بد من تحقق الشرط كما في نظائره ـ فجوابه أن الظاهر أن الفقر المشترط في الآية ليس عبارة عن الفقر بحسب الواقع ونفس الأمر ، فإن الأحكام الشرعية لم تبن على الواقع ونفس الأمر لا في هذا الموضع ولا في غيره للزوم الحرج وتكليف ما لا يطاق إذ ذلك غير ممكن إلا له عز شأنه وإنما جرى التكليف على الظاهر ، وحينئذ فالمراد بالفقر في الآية ما يظهر من حال الفقير ويكفي فيه مجرد إخباره ودعواه استنادا إلى ما ذكرنا من الوجوه.

ويؤكد ذلك ما صرحوا به من أنه لو دفع له الزكاة بناء على ظاهر الفقر ثم ظهر يسره وأنه ليس بمستحق للزكاة فإنه لا يجزئ عنه استنادا إلى ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحسين بن عثمان عن من ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) «في رجل يعطي زكاة ماله رجلا وهو يرى أنه معسر فوجده موسرا؟ قال لا يجزئ عنه».

ومن ما يؤيد البناء على الظاهر أيضا والاكتفاء بدعوى الفقر والحاجة ما استفاض في الأخبار من استحباب إعطاء من مد يده للسؤال وعدم رده كما في صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام (٢) قال : «أعط السائل ولو كان على ظهر فرس». ومن الظاهر أن هذا الاستحباب إنما ترتب على مجرد مد يده للسؤال حتى ولو كان ظاهر حاله يخالف ذلك من كونه على ظهر فرس ومتجملا ، وهو مؤذن بتصديقه

__________________

(١) الوسائل الباب ٢ من المستحقين للزكاة.

(٢) الوسائل الباب ٢٢ من أبواب الصدقة.

١٦٧

في دعوى الفقر وإلا لما ثبت الاستحباب بمجرد ذلك.

وبما ذكرناه من هذا التحقيق الرشيق يظهر لك ما في كلام الفاضل الخراساني (قدس‌سره) من التشكيك في المقام كما هي عادته في جل الأحكام حيث قال ـ بعد البحث مع الأصحاب ومناقشتهم في هذا الباب ـ ما لفظه : وبالجملة جواز إعطاء الفقير بدون البينة أو الحلف محل إشكال ينشأ من عدم دليل دال عليه فلا يحصل اليقين بالبراءة ، ومن أنه لم يعهد عنهم (صلوات الله عليهم) شي‌ء من ذلك والظاهر أنه لو كان لنقل. إلى أن قال : والتحقيق أن تحصيل العلم بالفقر غير معتبر وإلا لزم حرمان أكثر الفقراء وانتفاء ذلك معلوم من حال الأئمّة (صلى الله عليهم أجمعين) وكذا السلف. وهل يكفي الظن الحاصل من الأمارات أو من دعواه مطلقا أو إذا كان أمينا مطلقا أو عند تعذر البينة أم لا بل يحتاج إلى البينة مطلقا أو في بعض صور المسألة أو يحتاج إلى الحلف كذلك؟ لي فيه توقف إلى أن يفتح الله علي طريق معرفته. انتهى. ولا أراك ترتاب بعد ما حققناه في المقام في ضعف هذا الكلام وأنه من جملة الأوهام. والله العالم بحقائق الأحكام.

الرابع ـ الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أنه متى دفع الزكاة إلى الفقير ثم ظهر عدم فقره فإنه يجب استرجاعها مع الإمكان لظهور أن القابض لها عاص غاصب فيجب عليه إرجاعها إلى المالك.

بقي الكلام هنا في موضعين أحدهما ـ ما لو لم يعلم الآخذ بأنها زكاة ، وقد قطع في المعتبر بعدم جواز الارتجاع لأن الظاهر أنها صدقة. واختلف كلام العلامة في ذلك فقال في المنتهى : ليس للمالك الرجوع لأن دفعه محتمل للوجوب وللتطوع. واستقرب في التذكرة جواز الارتجاع لفساد الدفع ولأنه أبصر بنيته. وقال في المدارك بعد نقل كلام التذكرة : وهو جيد مع بقاء العين وانتفاء القرائن الدالة على كون المدفوع صدقة.

أقول : وكلماتهم (رضوان الله عليهم) هنا لا تخلو عن إجمال والتحقيق أن يقال

١٦٨

إنه متى دفعه إليه بنية الزكاة ولم يعلم المدفوع إليه بكونها زكاة ولا أعلمه المالك فإنه ما دامت العين باقية يجب عليه إرجاعها متى علم أو أعلمه المالك لعدم الاستحقاق شرعا ، ومتى تلفت العين قبل العلم فالظاهر أنه لا يجب عليه عوضها ولا قيمتها لظهور حل التصرف ، والتضمين يحتاج إلى دليل.

وثانيهما ـ ما لو قبضها بعنوان الزكاة وتعذر الارتجاع ، وظاهرهم الاتفاق على أنه متى كان الدافع الإمام أو نائبه أجزأ ذلك ، وفي المنتهى أنه لا خلاف فيه بين العلماء لأن المالك قد خرج فيه من العهدة بالدفع إلى الإمام أو نائبه والدافع خرج من العهدة بالدفع إلى من يظهر منه الفقر ، وإيجاب الإعادة تكليف جديد منفي بالأصل. ولا يخلو من القرب إلا أن الفتوى به مع عدم النص في المسألة مشكل.

وأما لو كان الدافع المالك فقد اختلف الأصحاب فيه على أقوال ثلاثة : أحدها ـ القول بالإجزاء ونقل عن الشيخ في المبسوط وجماعة من الأصحاب ، وثانيها ـ وجوب الإعادة ونقل عن الشيخ المفيد وأبي الصلاح ، وثالثها ـ التفصيل بين الاجتهاد فيسقط الضمان وعدمه فتجب الإعادة ، وهو اختيار المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى وإليه يميل كلام المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد.

احتج الأولون بأنه دفعها إلى من ظاهره الفقر وهو دفع مشروع فيحصل الامتثال ولا يتعقبه الإعادة لعدم الدليل. وفيه ما يأتي في ثانيه.

احتج القائلون بالثاني بما تقدم قريبا من صحيحة الحسين بن عثمان عن من ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) «في رجل يعطي زكاة ماله رجلا وهو يرى أنه معسر فوجده موسرا؟ قال لا يجزئ عنه». وبهذه الرواية تبطل حجة القول الأول كما أشرنا إليه آنفا.

احتج المفصلون بأن المالك أمين على الزكاة فيجب عليه الاجتهاد والاستظهار في دفعها إلى مستحقها فبدونه تجب الإعادة.

__________________

(١) الوسائل الباب ٢ من المستحقين للزكاة.

١٦٩

وبما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عندي والحسن على المشهور بإبراهيم ابن هاشم عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «قلت له رجل عارف أدى زكاته إلى غير أهلها زمانا هل عليه أن يؤديها ثانية إلى أهلها إذا علمهم؟ قال نعم. قال قلت فإن لم يعرف لها أهلا فلم يؤدها أو لم يعلم أنها عليه فعلم بعد ذلك؟ قال يؤديها إلى أهلها لما مضى. قال قلت له فإنه لم يعلم أهلها فدفعها إلى من ليس هو لها بأهل وقد كان طلب واجتهد ثم علم بعد ذلك سوء ما صنع؟ قال ليس عليه أن يؤديها مرة أخرى». وقالا في الكافي والتهذيب بعد نقل هذه الرواية : وعن زرارة مثله (٢) غير أنه قال : «إن اجتهد فقد برئ وإن قصر في الاجتهاد في الطلب فلا».

وأورد على الأول أنه إن أريد بالاجتهاد القدر المسوغ لجواز الدفع ولو بسؤال الفقير فلا ريب في اعتباره إلا أن ذلك لا يسمى اجتهادا ، ومع ذلك فيرجع هذا التفصيل بهذا الاعتبار إلى ما أطلقه الشيخ في المبسوط من انتفاء الضمان مطلقا ، وإن أريد به البحث عن حال المستحق زيادة على ذلك كما هو المتبادر من لفظ الاجتهاد فهو غير واجب إجماعا على ما نقله جماعة. وعلى الروايتين أن موردهما خلاف محل النزاع لكنهما يدلان بالفحوى على انتفاء الضمان بالاجتهاد.

أقول : والتحقيق في المقام أنه ليس في المسألة إلا رواية الحسين بن عثمان المتقدمة والوقوف على ظاهرها متعين. وأما حمل من قال بالتفصيل لها على عدم الاجتهاد جمعا بينها وبين صحيحة عبيد بن زرارة فهو فرع ثبوت دلالة الصحيحة المذكورة على ما ادعوه وموردها من أولها إلى آخرها إنما هو الدفع إلى المخالف وهو المعبر عنه بغير أهلها ، مع ما في محل الاستدلال من الإشكال أيضا فإن ظاهرها أنه يجزئ الدفع إلى المخالف متى اجتهد في تحصيل أهلها من الشيعة فلم يجدهم والأصحاب لا يقولون به ، والأخبار أيضا ترده كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى حتى ورد في بعض الأخبار إلقاؤها في البحر مع تعذر وجود أهلها من الشيعة الإمامية (٣)

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٢ من المستحقين للزكاة.

(٣) الوسائل الباب ٥ من المستحقين للزكاة.

١٧٠

وظاهر السيد السند في المدارك اختيار القول الأول حيث قال بعد البحث في المسألة ونقل الأقوال والأدلة على كل منها : وكيف كان فينبغي القطع بسقوط الضمان مع الاجتهاد لتحقق الامتثال وفحوى الروايتين ، وإنما يحصل التردد مع استناد الدفع إلى مجرد الدعوى من كون الدفع مشروعا فلا يستعقب الإعادة ومن عدم وصول الحق إلى مستحقه. ولعل الأول أرجح. انتهى.

وأنت خبير بأن كلامه هذا مبني على طرح صحيحة الحسين بن عثمان من البين مع أنه بعد نقلها دليلا للقول الثاني لم يتعرض للطعن فيها بوجه إلا أن المعلوم من قاعدته ذلك فهي من حيث الإرسال ضعيفة باصطلاحه ، والأظهر عندي هو الوقوف على ظاهرها والعمل بها ، ويؤيده أنه الأوفق بالاحتياط والخروج عن عهدة التكليف الثابت في الذمة بيقين. والله العالم.

الخامس ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) من غير خلاف يعرف بأنه لو كان الفقير ممن يستحي من قبول الزكاة جاز دفعه إليه على وجه الصلة.

ويدل عليه حسنة أبي بصير المروية في الفقيه (١) قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام الرجل من أصحابنا يستحي أن يأخذ من الزكاة فأعطيه من الزكاة ولا أسمي له أنها من الزكاة؟ فقال أعطه ولا تسم له ولا تذل المؤمن».

وطعن في هذه الرواية في المدارك بأنها ضعيفة السند باشتراك الراوي بين الثقة والضعيف. وفيه أن الراوي عن أبي بصير هنا عاصم بن حميد وقد ذكر أصحاب هذا الاصطلاح أنه قرينة المرادي الثقة الجليل القدر وكذلك ابن مسكان فحيث ما وجد أحدهما حكموا بصحة روايته ، وحسن هذه الرواية كما ذكرنا إنما هو بإبراهيم بن هاشم الذي حديثه في الصحيح عند جملة من محققي هذا الفن.

ويؤيد الرواية المذكورة أيضا ما رواه الشيخ الطوسي في المجالس بسنده عن إسحاق بن عمار (٢) قال : «قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام يا إسحاق كيف تصنع بزكاة مالك إذا

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٥٨ من المستحقين للزكاة.

١٧١

حضرت؟ قال يأتوني إلى المنزل فأعطيهم. فقال لي ما أراك يا إسحاق إلا قد أذللت المؤمنين فإياك إياك إن الله تعالى يقول : من أذل وليا لي فقد أرصد لي بالمحاربة». وفي هذا الخبر ما يدل على استحباب قصد المالك بالزكاة إلى الفقراء وابتدائهم وكراهة تكليفهم بالإتيان إليه.

وأما ما رواه الكليني في الصحيح أو الحسن بإبراهيم بن هاشم على المشهور عن محمد بن مسلم (١) ـ قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام الرجل يكون محتاجا فنبعث إليه بالصدقة فلا يقبلها على وجه الصدقة يأخذه من ذلك ذمام واستحياء وانقباض أفنعطيها إياه على غير ذلك الوجه وهي منا صدقة؟ فقال لا إذا كانت زكاة فله أن يقبلها فإن لم يقبلها على وجه الزكاة فلا تعطها إياه ولا ينبغي له أن يستحي من ما فرض الله إنما هي فريضة الله فلا يستحي منها» ـ.

فهو غير معمول به على ظاهره ولا قائل به بل الأخبار وكلام الأصحاب على خلافه فلا يلتفت إليه في مقابلة ما ذكرناه ، فما ذكره في المدارك ـ من المعارضة به لحسنة أبي بصير بعد طعنه فيها بما قدمنا نقله باعتبار حسن هذه وضعف تلك بزعمه ـ ليس من ما يعول عليه لأنها وإن صح سندها فضلا عن أن يكون حسنا مع كون مضمونها مخالفا للأخبار وكلام الأصحاب بل اتفاقهم فإن هذه الصحة مجازية كما نبهنا عليه في غير موضع من ما سبق ، والصحة في التحقيق إنما هي باعتبار المتون ومطابقتها للقواعد الشرعية والأخبار المروية واتفاق الأصحاب ونحو ذلك كما عليه جملة من متقدمي أصحابنا (رضوان الله عليهم).

وكيف كان فلا بد من ارتكاب جادة التأويل في الخبر المذكور ، والأظهر عندي في تأويله هو حمل قوله عليه‌السلام في الجواب «لا» على الإضراب عن الكلام السابق لا على نفي إعطائها إياه على غير ذلك الوجه كما وقع في سؤال السائل ويكون ما بعد «لا» بيان ما هو الأولى في هذا المقام ، فبين أنها إذا كانت زكاة فله أن

__________________

(١) الوسائل الباب ٥٨ و ٥٧ من المستحقين للزكاة.

١٧٢

يقبلها ولا ينبغي أن يستحي من قبولها وهي حق فرضه الله تعالى ، ثم قال فإن لم يقبلها على هذا الوجه فلا تلزمه بها وتعطيها إياه على وجه الزكاة ويفهم منه جواز الإعطاء لا على الوجه المذكور ، فجواب السؤال إنما علم من المفهوم وإلا فمنطوق الخبر إنما سيق في الكلام على ذلك المستحق وأنه ينبغي له كذا ولا ينبغي له كذا.

وحمل الرواية المذكورة في المدارك على الكراهة بناء على رجوع النهي بقوله «لا» إلى ما ذكره السائل بقوله «أفنعطيها إياه على غير ذلك الوجه» وفيه بعد لما عرفت من ما ذكرناه.

وأبعد منه حمل صاحب الوسائل الخبر المذكور على احتمال كون الامتناع لعدم الاحتياج وانتفاء الاستحقاق مع أن الراوي ذكر العلة في الامتناع وأنه الاستحياء والانقباض فكيف يتم ما ذكره؟.

وقال في الوافي بعد نقل الخبر الأول أولا والثاني ثانيا : لعل الفرق بين هذا وما في الخبر السابق أن ذلك كان قد علم من حاله الاستحياء منها والتنزه عنها ولكنه كان بحيث إذا بعثت إليه لقبلها إذا كان مضطرا إليها بخلاف هذا فإنه قد بعثت إليه واستنكف منها ، وإنما نهى عن إعطائها إياه لأنه إن كان مضطرا إليها فقد وجب عليه أخذها وإن لم يأخذها فهو عاص وهو كمانع الزكاة وقد وجبت عليه وإن لم يضطر إليها ولم يقبلها فلا وجه لإعطائها إياه. انتهى. وأنت خبير بما فيه كما لا يخفى على الفطن النبيه

الثالث من أصناف المستحقين ـ العاملون عليها ، والمراد بهم السعاة في تحصيلها وجبايتها بأخذ وكتابة وحفظ وحساب ونحو ذلك.

قال الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي في تفسيره (١) نقلا عن العالم عليه‌السلام : (والعاملين عليها) هم السعاة والجباة في أخذها وجمعها وحفظها حتى يؤدوها إلى من يقسمها.

وقد أجمع الأصحاب وأكثر العامة (٢) على أن لهؤلاء حصة من الزكاة كما

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من المستحقين للزكاة رقم (٧).

(٢) المغني ج ٢ ص ٦٥٤ والبداية ج ١ ص ٢٣٥.

١٧٣

يدل عليه ظاهر الآية.

وما رواه ثقة الإسلام في الكافي في الصحيح أو الحسن وابن بابويه في الفقيه في الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم (١) «أنهما قالا لأبي عبد الله عليه‌السلام أرأيت قول الله عزوجل (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) (٢) أكل هؤلاء يعطى وإن كان لا يعرف؟ فقال إن الإمام يعطي هؤلاء جميعا لأنهم يقرون له بالطاعة. الحديث».

قالوا : ولا يجوز أن يكون العامل هاشميا لتحريم الزكاة عليه. وهو كذلك إن كان المدفوع إليه من الزكاة أما لو استؤجر على العمل ودفع إليه الإمام من بيت المال فالظاهر أنه لا مانع منه.

ومن ما يدل على أصل الحكم ما رواه الشيخ في الصحيح عن عيص بن القاسم عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «إن أناسا من بني هاشم أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فسألوه أن يستعملهم على صدقات المواشي وقالوا يكون لنا هذا السهم الذي جعله الله للعاملين عليها فنحن أولى به. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا بني عبد المطلب إن الصدقة لا تحل لي ولا لكم ولكني قد وعدت الشفاعة ـ ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام أشهد لقد وعدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فما ظنكم يا بني عبد المطلب إذا أخذت بحلقة باب الجنة أتروني مؤثرا عليكم غيركم».

والظاهر أن الاختيار إلى الإمام بين أن يجعل لهم أجرة معينة أو يعطيهم ما يراه

ويدل على الثاني صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : «قلت له ما يعطى المصدق؟ قال ما يرى الإمام ولا يقدر له شي‌ء». والظاهر أن المراد من

__________________

(١ و ٤) الوسائل الباب ١ من المستحقين للزكاة.

(٢) سورة التوبة الآية ٦١.

(٣) الوسائل الباب ٢٩ من المستحقين للزكاة.

١٧٤

آخر الخبر أنه ليس له سهم مقدر مفروض لا يحتمل الزيادة والنقصان.

ثم إنه قد ذكر جمع من الأصحاب : منهم ـ الشهيد في البيان والمحقق الشيخ على في حاشية الشرائع أنه لو عين له أجرة فقصر السهم عن أجرته أتمه الإمام من بيت المال أو من باقي السهام ، ولو زاد نصيبه عن أجرته فهو لباقي المستحقين. ولا يخفى ما فيه فإن هذا إنما يتم على القول بوجوب البسط على الأصناف بالسوية وهو غير معمول عليه عندنا كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

الرابع من الأصناف المذكورة ـ (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) ، وقد اضطرب كلام أصحابنا في معنى المؤلفة أشد الاضطراب وكثرت الاحتمالات والأقوال في هذا الباب فما بين من خصهم بالكفار الذين يستمالون للجهاد ، قالوا ولا نعرف مؤلفة غيرهم والظاهر أنه المشهور ، وفسره بعضهم بالمنافقين ، وأدخل بعضهم بعض المسلمين.

وكلامهم في ذلك واسع الذيل كما لا يخفى على من راجع مطولاتهم وليس في التطويل بنقله مزيد فائدة مع عدم اعتمادهم على دليل غير مجرد الاعتبارات والمناسبات التي ليس عليها مزيد تعويل.

والعجب منهم (رضوان الله عليهم) في هذا الخلاف والاضطراب وأخبار أهل البيت (عليهم‌السلام) بذلك مكشوفة النقاب مرفوعة الحجاب قد رواها ثقة الإسلام في الكافي وعنون لها بابا على حدة فقال «باب المؤلفة قلوبهم».

وها أنا أسوق لك جملة أخباره ومنها ـ ما رواه في الصحيح أو الحسن عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام (١) قال : «سألته عن قول الله عزوجل (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ)؟ قال هم قوم وحدوا الله عزوجل وخلعوا عبادة من يعبد من دون الله وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم في ذلك شكاك في بعض ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمر الله نبيه أن يتألفهم بالمال والعطاء لكي يحسن إسلامهم ويثبتوا على دينهم الذي دخلوا فيه وأقروا به ، وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم حنين تألف

__________________

(١) الأصول ج ٢ ص ٤١١.

١٧٥

رؤساء العرب من قريش وسائر مضر : منهم ـ أبو سفيان بن حرب وعيينة بن حصين الفزاري وأشباههم من الناس ، فغضبت الأنصار واجتمعت إلى سعد بن عبادة فانطلق بهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالجعرانة فقال يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أتأذن لي في الكلام؟ فقال نعم. فقال إن كان هذا الأمر من هذه الأموال التي قسمت بين قومك شيئا أنزله الله رضينا وإن كان غير ذلك لم نرض. قال زرارة : وسمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا معشر الأنصار أكلكم على قول سيدكم سعد؟ فقالوا سيدنا الله ورسوله. ثم قالوا في الثالثة نحن على مثل قوله ورأيه. قال زرارة فسمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول فحط الله نورهم وفرض الله للمؤلفة قلوبهم سهما في القرآن».

وما رواه فيه عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (١) قال : «المؤلفة قلوبهم قوم وحدوا الله وخلعوا عبادة من دون الله ولم تدخل المعرفة قلوبهم إن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان رسول الله يتألفهم ويعرفهم لكيما يعرفوا ويعلمهم».

وما رواه عن زرارة أيضا عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٢) قال : «المؤلفة قلوبهم لم يكونوا قط أكثر منهم اليوم».

وما رواه عن إسحاق بن غالب (٣) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام يا إسحاق كم ترى أهل هذه الآية (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ)؟ (٤) قال ثم قال هم أكثر من ثلثي الناس».

وما رواه عن موسى بن بكر عن رجل (٥) قال : «قال أبو جعفر عليه‌السلام ما كانت المؤلفة قلوبهم قط أكثر منهم اليوم وهم قوم وحدوا الله تعالى وخرجوا من الشرك ولم تدخل معرفة محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قلوبهم وما جاء به فتألفهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتألفهم المؤمنون بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لكيما يعرفوا».

وقال الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي (قدس‌سره) في تفسيره (٦) نقلا

__________________

(١ و ٢) الأصول ج ٢ ص ٤١١.

(٣ و ٥) الأصول ج ٢ ص ٤١٢.

(٤) سورة التوبة الآية ٥٩.

(٦) الوسائل الباب ١ من المستحقين للزكاة رقم ٧.

١٧٦

عن العالم عليه‌السلام : (والمؤلفة قلوبهم) قال هم قوم وحدوا الله وخلعوا عبادة من دون الله ولم تدخل المعرفة قلوبهم إن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتألفهم ويعلمهم ويعرفهم كيما يعرفوا فجعل لهم نصيبا في الصدقات لكي يعرفوا ويرغبوا».

وهذه الأخبار كلها كما ترى ظاهرة في أن المؤلفة قلوبهم قوم مسلمون قد أقروا بالإسلام ودخلوا فيه لكنه لم يستقر في قلوبهم ولم يثبت ثبوتا راسخا فأمر الله تعالى نبيه بتألفهم بالمال لكي تقوى عزائمهم وتشتد قلوبهم على البقاء على هذا الدين ، فالتأليف إنما هو لأجل البقاء على الدين والثبات عليه لا لما زعموه (رضوان الله عليهم) من الجهاد كفارا كانوا أو مسلمين وأنهم يتألفون بهذا السهم لأجل الجهاد.

بقي الكلام في قوله عليه‌السلام في رواية زرارة الثالثة «الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لم يكونوا قط أكثر منهم اليوم». ونحوها رواية موسى بن بكر ، ولعل معناه ـ والله سبحانه وقائله أعلم ـ أن ضعفة الدين المحتاجين إلى التأليف لأجل البقاء عليه ورسوخه في قلوبهم ليسوا مخصوصين بوقته صلى‌الله‌عليه‌وآله بل هم أكثر كثير في هذه الأوقات ، ولعل ذلك باعتبار عدم الإقرار بإمامتهم والاعتقاد بها التي هي أعظم ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فإن الشكاك في إمامتهم وهم القسم الثالث المتوسط بين النصاب والمؤمنين ـ ويعبر عنهم في الأخبار تارة بالشكاك وتارة بالضلال وتارة بالمستضعفين ـ أكثر الناس في زمانهم (عليهم‌السلام) كما دلت عليه الأخبار ، وقد دلت الأخبار على أن حكمهم في الدنيا حكم أهل الإسلام وأنهم في الآخرة من المرجئين لأمر الله.

وأما قوله عليه‌السلام في رواية إسحاق «كم ترى أهل هذه الآية فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا ... إلى آخره» فالظاهر أن المعنى فيها ما أفاده المحدث الكاشاني في معنى خبر زرارة المتقدم وهو بهذا الخبر أنسب ، حيث قال : وذلك لأن أكثر المسلمين في أكثر الأزمنة والبلاد دينهم مبتن على دنياهم إن أعطوا من الدنيا رضوا الدين وإن

١٧٧

لم يعطوا منها إذا هم يسخطون. انتهى. ولعل المراد بالمؤمنين في قوله عليه‌السلام «وتألفهم المؤمنون» في خبر موسى بن بكر هم الأئمّة (صلوات الله عليهم) ولكن المراد بالتألف الاستمالة إلى الدين الحق والاستقرار عليه بالهداية والتعليم والإدخال فيه بالطريق الأحسن لا بالمال ، فإنهم (صلوات الله عليهم) لم تكن لهم يد مبسوطة تقتضي التأليف بالزكاة.

ثم إن أصحابنا (رضوان الله عليهم) اختلفوا في سقوط هذا السهم بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعدمه ، وبالأول قطع الصدوق في الفقيه حيث قال : وسهم (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) ساقط بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وإلى الثاني يميل كلام المحقق في المعتبر حيث قال : إن الظاهر بقاؤه لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعتمد التأليف إلى حين وفاته ولا نسخ بعده.

وقال الشيخ إنه يسقط في زمن غيبة الإمام خاصة لأن الذي يتألفهم إنما يتألفهم للجهاد وأمر الجهاد موكول إلى الإمام وهو غائب.

واعترضه في المنتهى بأنا نقول قد يجب الجهاد في حال غيبة الإمام عليه‌السلام بأن يدهم المسلمين والعياذ بالله عدو يخاف منه عليهم فيجب عليهم الجهاد لدفع الأذى لا للدعاء إلى الإسلام فإذا احتيج إلى التأليف حينئذ جاز صرف السهم إلى أربابه من المؤلفة. انتهى. قال في المدارك بعد نقله : ولا ريب في قوة هذا القول تمسكا بظاهر التنزيل السالم من المعارض.

أقول : لا يخفى عليك بعد الوقوف على ما قدمناه من أخبارهم (عليهم‌السلام) أن هذا الخلاف والبحث في هذا المقام نفخ في غير ضرام فإن كلامهم أولا وآخرا يدور كله على أن المراد بالمؤلفة في الآية الشريفة هو التأليف لأجل الجهاد مع أنهم لم ينقلوا بذلك خبرا ولا أوردوا عليه دليلا ، والأخبار الواردة في تفسيرها كلها كما عرفت قد اتفقت على أن التأليف إنما هو لأجل البقاء على الدين والثبات عليه لمن دخل فيه دخولا متزلزلا غير مستقر فأمر الله تعالى رسوله بدفع هذا السهم

١٧٨

لهؤلاء لكي يرغبوا في الدين ويستقر في قلوبهم. وبالجملة فإن هذا من أعجب العجائب من الأصحاب.

بقي الكلام في أنه على تقدير المعنى الذي ذكرناه في بيان المؤلفة هل يسقط هذا السهم بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله أم لا؟ الظاهر من الأخبار المتقدمة بالتقريب الذي شرحناه أنه لا ريب في سقوطه في زمن الغيبة كزماننا هذا وما قبله وما بعده إلى أن يعجل الله تعالى فرج وليه ، وأما في وقت الأئمّة (صلوات الله عليهم) فالأخبار وإن دلت على وجود من يحتاج إلى التأليف في زمانهم (صلوات الله عليهم) كما قدمنا الإشارة إليه إلا أن التأليف لما كان مخصوصا بهم وأيديهم (عليهم‌السلام) يومئذ قاصرة عن إقامة الحدود الشرعية وتنفيذ الأحكام لغلبة التقية ـ إلا أن يكون تأليفا بغير الأموال كما أشرنا إليه آنفا ـ فمن أجل ذلك سقط أيضا.

ويؤيد ما ذكرناه ما صرح به شيخنا أمين الإسلام الطبرسي (قدس‌سره) في كتاب مجمع البيان حيث قال : ثم اختلف في هذا السهم هل هو ثابت بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أم لا؟ فقيل هو ثابت في كل زمان عن الشافعي واختاره الجبائي (١) وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام إلا أنه قال من شرطه أن يكون هناك إمام عادل يتألفهم به على ذلك. ثم نقل القول بالاختصاص بزمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتقريب الذي نقله في المدارك عن بعض العامة وأسنده إلى الحسن والشعبي وأبي حنيفة وأصحابه (٢).

ومن المحتمل قريبا أن إسقاط ابن بابويه سهم المؤلفة بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما هو لما ذكرناه فإنه لم يتعرض لبيان معنى المؤلفة وأنهم عبارة عن ما ذا.

وروى الصدوق (قدس‌سره) في الصحيح وثقة الإسلام في الصحيح أو

__________________

(١) نسبه في البداية ج ١ ص ٢٣٥ إلى الشافعي وأبي حنيفة وفي نيل الأوطار ج ٤ ص ٢٣٤ إلى الجبائي والشافعي وفي المغني ج ٢ ص ٦٦٦ إلى الحسن والزهري وأبي جعفر ع.

(٢) نسبه في البداية ج ١ ص ٢٣٥ إلى مالك وفي نيل الأوطار ج ٤ ص ٢٣٤ إلى أبي حنيفة وأصحابه وفي المغني ج ٢ ص ٦٦٦ إلى الشعبي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي.

١٧٩

الحسن عن زرارة ومحمد بن مسلم (١) «أنهما قالا لأبي عبد الله عليه‌السلام أرأيت قول الله تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) (٢) أكل هؤلاء يعطى وإن كان لا يعرف؟ فقال إن الإمام يعطي هؤلاء جميعا لأنهم يقرون له بالطاعة. قال زرارة قلت فإن كانوا لا يعرفون؟ فقال يا زرارة لو كان يعطى من يعرف دون من لا يعرف لم يوجد لها موضع وإنما يعطى من لا يعرف ليرغب في الدين فيثبت عليه ، فأما اليوم فلا تعطها أنت وأصحابك إلا من يعرف فمن وجدت من هؤلاء المسلمين عارفا فأعطه دون الناس. ثم قال : سهم المؤلفة قلوبهم وسهم الرقاب عام والباقي خاص. قال قلت فإن لم يوجدوا؟ قال لا تكون فريضة فرضها الله لا يوجد لها أهل. قال قلت فإن لم تسعهم الصدقات؟ فقال إن الله فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم ولو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم إنهم لم يؤتوا من قبل فريضة الله ولكن أوتوا من منع من منعهم حقهم لا من ما فرض الله لهم ولو أن الناس أدوا حقوقهم لكانوا عائشين بخير».

أقول : لعل المراد بالخبر ـ والله سبحانه وقائله أعلم ـ أنه لما سأله زرارة «أكل هؤلاء يعطى وإن كان لا يعرف؟» أجاب عليه‌السلام بأن الإمام القائم بأعباء الإمامة والمتمكن على كرسي تلك الشوكة والزعامة كالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام وقت خلافته يعطيهم لأنهم مقرون بإمامته مذعنون لدعوته منقادون له بالطاعة. راجعه بأنه لو كانوا لا يعرفون يعني لا يصدقون بإمامته وإن أقروا بها ظاهرا؟ أجابه بأنه لو كان يختص الإعطاء بالعارفين المصدقين يومئذ لم يوجد لها بجميع أصنافها موضع لتخلف ذلك في صنف المؤلفة كما يشير إليه قوله : «وإنما يعطى من لا يعرف ليرغب في الدين» ويحتمل أن المراد أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في وقته كان يعطي على الإسلام لا

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من المستحقين للزكاة.

(٢) سورة التوبة الآية ٦١.

١٨٠