الحدائق الناضرة - ج ١٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٤

بأنه تضم الثمار المتباعدة في البلاد بعضها إلى بعض وإن تفاوتت في الإدراك وأن حكمها في ذلك حكم البلد الواحدة فإذا بلغ بعضه الحد الذي يتعلق به الوجوب ، فإن كان نصابا أخذ منه الزكاة ثم يؤخذ من الباقي قل أو كثر بعد أن يتعلق به الوجوب ، وإن كان الذي أدرك أولا أقل من النصاب يتربص به حتى يدرك الآخر ويتعلق به الوجوب فيكمل منه النصاب الأول ثم يؤخذ من الباقي كائنا ما كان ، ونقل العلامة في التذكرة إجماع المسلمين عليه.

قال في المنتهى : لو كان له نخل يتفاوت إدراكه بالسرعة والبطء بأن يكون في بلدين مزاج أحدهما أسخن من الآخر فتدرك الثمرة في الأسخن قبل إدراكها في الآخر فإنه تضم الثمرتان إذا كانا لعام واحد وإن كان بينهما شهر أو شهران أو أكثر ، لأن اشتراك إدراك الثمار في الوقت الواحد متعذر وذلك يقتضي إسقاط الزكاة غالبا. ولا نعرف في هذا خلافا. انتهى.

أقول : ويؤيده أن في بلادنا البحرين نخلا يسمى الطيار يسبق سائر النخيل في بدو الصلاح بما يقرب من شهر ونخلا يسمى خصبة عصفور يتأخر إلى آخر الوقت ويكون ما بينه وبين الأول ما يقرب من شهرين.

وبالجملة فالظاهر أن الحكم لا إشكال فيه لدخوله تحت عموم الأدلة وإطلاقها

خاتمة

المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) تعلق الزكاة بالعين ونقل عن شذوذ من أصحابنا تعلقها بالذمة والأظهر الأول ، ويدل عليه ظواهر النصوص كقولهم (عليهم‌السلام) (١) «في كل أربعين شاة شاة». و «في كل عشرين مثقالا من الذهب نصف مثقال» (٢). ونحو ذلك ، و «في ما سقت السماء العشر» (٣). ونحو

__________________

(١) الوسائل الباب ٦ من زكاة الأنعام.

(٢) الوسائل الباب ١ من زكاة الذهب والفضة.

(٣) الوسائل ٤ من زكاة الغلات.

١٤١

ذلك من الألفاظ التي من هذا الباب.

ويمكن خدشه بحمل «في» على السببية دون الظرفية ويؤيده قولهم (عليهم‌السلام) (١) «في خمس من الإبل شاة». فإنه لا مجال هنا لاعتبار الظرفية.

واستدل على ذلك أيضا بأنها لو وجبت في الذمة لتكررت في النصاب الواحد بتكرر الحول ، وللزم أن لا تقدم على الدين مع بقاء عين النصاب إذا قصرت التركة ، وللزم أن لا تسقط بتلف النصاب من غير تفريط ، وللزم أن لا يجوز للساعي تتبع العين لو باعها المالك بعد الحول قبل أن يؤدي زكاتها ، واللوازم كلها باطلة بالاتفاق فالملزوم مثله. ولا يخفى أنه وإن كان للمناقشة في بعض ما ذكر مجال إلا أنه يحصل من المجموع ما يفيد دلالة على الحكم المذكور.

والأجود الرجوع في ذلك إلى الروايات ومنها ـ صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجل لم يزك إبله أو شاءه عامين فباعها على من اشتراها أن يزكيها لما مضى؟ قال نعم تؤخذ منه زكاتها ويتبع بها البائع أو يؤدي زكاتها البائع».

وما رواه ابن بابويه عن أبي المغراء عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «إن الله تبارك وتعالى أشرك بين الأغنياء والفقراء في الأموال فليس لهم أن يصرفوا إلى غير شركائهم».

وصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : «إن الله فرض في أموال الأغنياء للفقراء ما يكتفون به ولو علم أن الذي فرض لا يكفيهم لزادهم. الحديث».

__________________

(١) الوسائل الباب ٢ من زكاة الأنعام.

(٢) الوسائل الباب ١٢ من زكاة الأنعام.

(٣) الوسائل الباب ٢ من المستحقين للزكاة ، والرواية للكليني.

(٤) الوسائل الباب ١ من ما تجب فيه الزكاة.

١٤٢

وحسنة عبد الله بن مسكان وغير واحد عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «إن الله تعالى جعل للفقراء في أموال الأغنياء ما يكفيهم ولو لا ذلك لزادهم».

وفي حسنة الوشاء عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام (٢) قال : «قيل لأبي عبد الله عليه‌السلام لأي شي‌ء جعل الله الزكاة خمسة وعشرين في كل ألف ولم يجعلها ثلاثين؟ فقال أن الله تعالى جعلها خمسة وعشرين أخرج من أموال الأغنياء بقدر ما يكتفي به الفقراء. الحديث».

وفي رواية قثم عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «قلت له جعلت فداك أخبرني عن الزكاة كيف صارت من كل ألف خمسة وعشرين لم تكن أقل ولا أكثر ما وجهها؟ فقال إن الله تعالى خلق الخلق كلهم فعلم صغيرهم وكبيرهم وغنيهم وفقيرهم فجعل من كل ألف إنسان خمسة وعشرين مسكينا».

وفي رواية مؤمن الطاق عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٤) «إن الله حسب الأموال والمساكين فوجد ما يكفيهم من كل ألف خمسة وعشرين درهما».

فهذه الأخبار كلها كما ترى ظاهرة الدلالة مكشوفة المقالة في أن الزكاة حصة متعلقة بالأموال ومفروضة فيها ومنتزعة منها ، ومن الظاهر أنه ليس المراد مطلق الأموال بل الأموال الزكوية بالشرائط المقررة في غير هذه الأخبار.

احتج من قال بتعلق الزكاة بالذمة بأنها لو وجبت في العين لكان للمستحق إلزام المالك بالأداء من العين ، ولمنع من التصرف في النصاب إلا مع إخراج الزكاة.

وأجاب المحقق في المعتبر عن الأول بالمنع من الملازمة فإن الزكاة وجبت جبرا للفقراء فجاز أن يكون العدول عن العين تخفيفا عن المالك ليسهل عليه دفعها. قال : وكذا الجواب عن جواز التصرف إذا ضمن الزكاة. وهو جيد.

والظاهر من ضم الأخبار بعضها إلى بعض ما ذكر هنا وما تقدم دالا على جواز إخراج القيمة في النقدين والغلات هو أنها وإن وجبت في العين إلا أن

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من ما تجب فيه الزكاة.

(٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٣ من زكاة الذهب والفضة.

١٤٣

الشارع رخص للمالك ووسع عليه ـ كما هو المعهود من بناء الشريعة المحمدية المبنية على السهولة ورفع الحرج ـ أن يدفع من غير النصاب سواء كان من مال آخر غير عين الفريضة أو قيمة فلا منافاة.

وبذلك يظهر أن ما ذكره جملة من المتأخرين في هذا المقام ـ من أنه على تقدير تعلقها بالعين فهل هو بطريق الاستحقاق فالفقير شريك أو بطريق الاستيثاق فيحتمل أنه كالرهن ويحتمل كتعلق أرش الجناية بالعبد؟ قالوا : وتضعف الشركة بالإجماع على جواز أدائها من مال آخر وهو مرجح للتعلق بالذمة. وعورض بالإجماع على تتبع الساعي العين لو باعها المالك ولو تمحض التعلق بالذمة امتنع. وفرعوا على ذلك ما لو بيع النصاب بعد الحول وقبل إخراج الزكاة فإنه ينفذ ذلك في نصيبه قولا واحدا ، وفي قدر الفرض يبنى على الخلاف فعلى الشركة يبطل البيع ويتخير المشتري الجاهل لتبعيض الصفقة ، وعلى القول بالذمة يصح البيع قطعا فإن أدى المالك لزم وإلا فالساعي يتبع العين فيتجدد البطلان ويتخير المشتري للتبعيض ، وعلى الرهن يبطل البيع إلا أن يتقدم الضمان أو يخرج من غيره ، وعلى الجناية يكون البيع التزاما بالزكاة فإن أداها نفذ وإن منع تتبع الساعي العين ـ من ما لا حاجة تلجئ إليه ولا حكم يتوقف عليه بل الظاهر أنه تطويل بغير طائل وكلام لا يرجع إلى حاصل ، والأخبار في ما ذكرناه مكشوفة القناع وهي الأحرى بالاقتداء والاتباع. والله العالم.

المطلب الرابع ـ في ما يستحب فيه الزكاة وهي أصناف (الأول) مال التجارة ، وعرفوه بأنه الذي يملك بعقد معاوضة بقصد الاكتساب به ، فخرج منه ما ملك لا بعقد كالميراث وحيازة المباحات ونحو ذلك وإن قصد به الاكتساب وكذا خرج ما يملك بعقد لا على جهة المعاوضة كالهبة والصدقة والوقف ونحو ذلك. والمراد بالمعاوضة ما كانت معاوضة محضة وهي ما يقوم طرفاها بالمال كالبيع والصلح ونحوهما ، ويخرج الصداق والخلع فإن أحد العوضين ليس مالا ، وكذا

١٤٤

يخرج ما لم يقصد به الاكتساب كأن يقصد القنية والصدقة.

وعلى جميع ذلك تدل ظواهر الأخبار ، ففي صحيحة محمد بن مسلم الحسنة في المشهور (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل اشترى متاعا وكسد عليه وقد زكى ماله قبل أن يشتري المتاع متى يزكيه؟ فقال إن كان أمسك متاعه يبتغي به رأس ماله فليس عليه زكاة وإن كان حبسه بعد ما يجد رأس ماله فعليه الزكاة بعد ما أمسكه بعد رأس المال. قال وسألته عن الرجل توضع عنده الأموال يعمل بها؟ فقال إذا حال الحول فليزكها».

وصحيحة إسماعيل بن عبد الخالق (٢) قال : «سأله سعيد الأعرج وأنا حاضر أسمع فقال إنا نكبس الزيت والسمن نطلب به التجارة فربما مكث عندنا السنة والسنتين هل عليه زكاة؟ قال إن كنت تربح فيه شيئا أو تجد رأس مالك فعليك فيه زكاة وإن كنت إنما تربص به لأنك لا تجد إلا وضيعة فليس عليك زكاة حتى يصير ذهبا أو فضة فإذا صار ذهبا أو فضة فزكه للسنة التي تتجر فيها».

ورواية أبي الربيع الشامي عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) «في رجل اشترى متاعا فكسد عليه متاعه وقد كان زكى ماله قبل أن يشتري به هل عليه زكاة أو حتى يبيعه؟ فقال إن كان أمسكه ليلتمس الفضل على رأس المال فعليه الزكاة».

ورواية محمد بن مسلم (٤) وفيها قال : «كل مال عملت به فعليك فيه الزكاة إذا حال عليه الحول».

وفي كتاب الفقه الرضوي (٥) «وإن كان مالك في تجارة وطلب منك المتاع برأس مالك ولم تبعه تبتغي بذلك الفضل فعليك زكاته إذا حال عليك الحول وإن لم يطلب منك برأس مالك فليس عليك الزكاة». إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الظاهرة في ما ذكرناه.

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ١٣ من ما تجب فيه الزكاة.

(٥) ص ٢٣.

١٤٥

والمشهور اشتراط مقارنة قصد الاكتساب للتملك فلو قصد به القنية أولا ثم نوى به الاكتساب لم تتعلق به الزكاة ، والأخبار مطلقة لا يفهم منها هذا التقييد ولهذا ذهب جمع من الأصحاب : منهم ـ المحقق في المعتبر والشهيد في الدروس والشهيد الثاني في جملة من كتبه إلى أن مال القنية إذا قصد به التجارة تتعلق به الزكاة نظرا إلى أنه مال تجارة فيدخل تحت تلك الأخبار. وهو جيد.

ولا بد من استمرار نية الاكتساب طول الحول ليتحقق كونه مال تجارة فلو نوى القنية في أثناء الحول انتفى الاستحباب ، وهو من ما لا خلاف فيه وعليه تدل ظواهر الأخبار المتقدمة وغيرها.

ثم إن استحباب الزكاة هنا مشروط عند الأصحاب بشروط أحدها ـ بلوغ النصاب وهو نصاب النقدين بأن تبلغ قيمة مال التجارة أحد نصابي الذهب أو الفضة وهو مجمع عليه من الخاصة والعامة (١) ولم أقف على دليل على وجوب اعتبار النصاب هنا فضلا عن كونه نصاب أحد النقدين سوى الإجماع المدعى في المقام ، وما يدعونه ـ من أن ظاهر الروايات أن هذه الزكاة بعينها زكاة النقدين فيعتبر فيها نصابهما ويتساويان في قدر المخرج ـ فلا يخفى ما فيه ، والمسألة لا تخلو من إشكال ، فإن ظاهر الروايات الإطلاق.

وظاهرهم بناء على ذلك اعتبار النصاب الثاني كما في النقدين فإذا بلغت القيمة عشرين دينارا أو مائتي درهم ثبتت الزكاة وهي ربع العشر ثم الزائد إذا بلغ النصاب الثاني وهو أربعة دنانير أو أربعون درهما ثبتت فيه الزكاة وإلا فلا.

وفي فهم ذلك من الأخبار تأمل ، ولهذا إن شيخنا الشهيد الثاني قال إنه لم يقف على دليل يدل على اعتبار النصاب الثاني هنا وإن العامة صرحوا بالأول خاصة (٢) واعترضه سبطه في المدارك بأن الدليل على اعتبار الأول هو بعينه الدليل

__________________

(١) المغني ج ٣ ص ٣١ ، والهداية للمرغيناني ج ١ ص ٧٤ ، وبدائع الصنائع ج ٢ ص ٢٠.

(٢) راجع المغني ج ٣ ص ٣١ ، وبدائع الصنائع ج ٢ ص ٢٠.

١٤٦

على اعتبار الثاني والجمهور إنما لم يعتبروا النصاب الثاني هنا لعدم اعتبارهم له في زكاة النقدين (١) كما ذكره في التذكرة. ومراده (قدس‌سره) بالدليل على النصاب الأول هو ما ذكروه من كون هذه الزكاة بعينها زكاة النقدين فتحصل المساواة في الحكم مطلقا. وقد عرفت ما فيه.

وظاهرهم أيضا تفريعا على ما تقدم الاتفاق على وجود النصاب في الحول فلو نقص في أثناء الحول ولو يوما سقط الاستحباب.

وثانيها ـ الحول فلا بد من وجود ما يعتبر في الزكاة من أول الحول إلى آخره وعليه يدل ما تقدم في صحيحة محمد بن مسلم وهي الأولى من الأخبار المتقدمة من قوله : «وسألته عن الرجل توضع عنده الأموال. الحديث» وروايته الأخيرة أيضا

وثالثها ـ أن يطلب برأس المال طول الحول أو زيادة فلو طلب بما هو أنقص من رأس المال سقط الاستحباب ، وعليه تدل الأخبار المتقدمة وغيرها.

وهل يشترط في زكاة التجارة بقاء عين السلعة طول الحول كما في المالية أم لا فتثبت الزكاة وإن تبدلت الأعيان بالمعاوضات مع بلوغ القيمة النصاب؟ قولان أشهرهما بين المتأخرين الثاني بل ادعى عليه الإجماع وأظهرهما الأول ، وهو الظاهر من كلام الشيخ المفيد في المقنعة وابن بابويه في من لا يحضره الفقيه وهو ظاهر المحقق في الشرائع وبه جزم في المعتبر ، وعليه تدل ظواهر الأخبار كقوله

__________________

(١) في المغني ج ٣ ص ٦ ـ بعد أن ذكر أن نصاب الفضة مائتا درهم ونصاب الذهب عشرون مثقالا ـ قال وفي زيادتها وإن قلت ، روى هذا عن علي وابن عمر وبه قال عمر بن عبد العزيز والنخعي ومالك والثوري وابن أبي ليلى والشافعي وأبو يوسف ومحمد وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر ، وقال سعيد بن المسيب وعطاء وطاوس والشعبي ومكحول والزهري وعمرو بن دينار وأبو حنيفة لا شي‌ء في زيادة الدراهم حتى تبلغ أربعين ولا في زيادة الدنانير حتى تبلغ أربعة دنانير لقوله (ص) «من كل أربعين درهما درهما» وفي بدائع الصنائع ج ٢ ص ١٧ نحو ذلك ، وكذا في بداية المجتهد ج ١ ص ٢١٨ ونسب القول الأول إلى الجمهور.

١٤٧

عليه‌السلام في صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة (١) «إن كان أمسك متاعه يبتغي به رأس ماله» وقوله : «وإن كان حبسه بعد ما يجد رأس ماله». وقوله في رواية أبي الربيع المتقدمة أيضا (٢) «إن كان أمسكه ليلتمس الفضل. إلى آخره». ومثلها صحيحة إسماعيل بن عبد الخالق المتقدمة أيضا (٣) فإنها كلها ظاهرة بل صريحة في بقاء العين طول الحول.

تنبيهات

يتوقف عليها تحقيق الكلام في المقام

(الأول) ما ذكرناه من استحباب الزكاة في مال التجارة هو المشهور بين الأصحاب ونقل المحقق عن بعض علمائنا قولا بالوجوب ، وبذلك صرح الشيخ في بعض كلامه ، قيل وهو الظاهر من كلام ابن بابويه ، ونقل عن ابن أبي عقيل أنه قال اختلفت الشيعة في زكاة التجارة فقالت طائفة منهم بالوجوب وقال آخرون بعدمه وقال وهو الحق عندي.

أقول : ويدل على القول بالوجوب ظواهر كثير من الأخبار كالأخبار المتقدمة من حيث التعبير فيها بقوله : «فعليك فيه الزكاة» أو «فعليه» من ما هو ظاهر في الوجوب ، ومثل الأخبار المذكورة كثير في الأخبار أيضا تركنا نقلها اختصارا.

واستدل على القول بالاستحباب كما هو المشهور بما دل من الأخبار على عدم الوجوب مضافا إلى الأخبار المتقدمة الدالة على ثبوت الزكاة في التسعة المتقدمة خاصة :

منها ـ ما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن زرارة (٤) قال : «كنت قاعدا عند أبي جعفر عليه‌السلام وليس عنده غير ابنه جعفر عليه‌السلام فقال يا زرارة إن أبا ذر وعثمان تنازعا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال عثمان كل مال من ذهب أو فضة يدار به ويعمل به ويتجر به ففيه الزكاة إذا حال عليه الحول. فقال أبو ذر

__________________

(١ و ٢ و ٣) ص ١٤٥.

(٤) الوسائل الباب ١٤ من ما تجب فيه الزكاة.

١٤٨

أما ما اتجر به أو دير وعمل به فليس فيه زكاة إنما الزكاة فيه إذا كان ركازا أو كنزا موضوعا فإذا حال عليه الحول ففيه الزكاة. فاختصما في ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال فقال القول ما قال أبو ذر. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام لأبيه ما تريد إلا أن يخرج مثل هذا فيكف الناس أن يعطوا فقراءهم ومساكينهم فقال أبوه عليه‌السلام إليك عني لا أجد منها بدا».

وما رواه أيضا في الموثق عن إسحاق بن عمار (١) قال : «قلت لأبي إبراهيم عليه‌السلام الرجل يشتري الوصيفة يثبتها عنده لتزيد وهو يريد بيعها أعلى ثمنها زكاة؟ قال لا حتى يبيعها. قلت فإن باعها أيزكي ثمنها؟ قال لا حتى يحول عليه الحول وهو في يده». ورواه في الكافي عنه أيضا بسند فيه سهل (٢).

وما رواه في الموثق عن ابن بكير وعبيد وجماعة من أصحابنا (٣) قالوا : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام ليس في المال المضطرب به زكاة فقال له إسماعيل ابنه يا أبت جعلت فداك أهلكت فقراء أصحابك فقال أي بني حق أراد الله أن يخرجه فخرج».

وما رواه في الصحيح عن سليمان بن خالد (٤) قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل كان له مال كثير فاشترى به متاعا ثم وضعه فقال هذا متاع موضوع فإذا أحببت بعته فيرجع إلى رأس مالي وأفضل منه هل عليه فيه صدقة وهو متاع؟ قال لا حتى يبيعه. قال فهل يؤدي عنه إن باعه لما مضى إذا كان متاعا؟ قال لا».

وأنت خبير بأن ظواهر الأخبار المتقدمة كما عرفت هو الوجوب وصريح هذه الأخبار نفي الوجوب ، والشيخ قد جمع بين الأخبار بحمل الأخبار المتقدمة على الاستحباب وتبعه على ذلك الأصحاب كما هي عادتهم وقاعدتهم في جميع الأبواب. وعندي فيه توقف لما عرفته في غير موضع من ما تقدم ، نعم لو كان في الأخبار من أحد الطرفين ما يدل على الاستحباب صريحا أو ظاهرا لزال الإشكال ، وأما أن الاستحباب يثبت بمجرد اختلاف الأخبار وجمعها عليه فهو

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ١٤ من ما تجب فيه الزكاة.

١٤٩

من ما لا دليل عليه يوجب الركون إليه ، وكيف لا والاستحباب حكم شرعي يتوقف على الدليل الواضح ومجرد اختلاف الأخبار ليس بدليل يوجب ذلك كما لا يخفى على المنصف ، ومع ذلك فإنه لا ينحصر الجمع بين الأخبار في ما ذكروه بل لا يبعد حمل الروايات المتقدمة على التقية ، حيث إن الوجوب مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد (١) على ما نقله في المعتبر ، وفي صحيحة زرارة وموثقة ابن بكير وعبيد وجماعة من أصحابنا ما يشير إلى ذلك. والمسألة لذلك لا تخلو من الإشكال.

ولم أر من تنبه لما ذكرناه سوى المحدث الكاشاني في الوافي حيث قال بعد أن نقل الأخبار الأخيرة ونعم ما قال : في هذه الأخبار ما يشعر بأن الأخبار الأولة إنما وردت للتقية إلا أن صاحب التهذيبين وجماعة من الأصحاب حملوها على الاستحباب. انتهى.

(الثاني) اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أنه هل تتعلق الزكاة بعين مال التجارة أم بالقيمة؟ قولان اختار ثانيهما الشيخ وأتباعه والظاهر أنه هو المشهور قال في المنتهى : قال الشيخ تتعلق بالقيمة وتجب فيها. ونقل الخلاف عن بعض العامة (٢) وهو مشعر بعدم الخلاف عندنا ، والذي يدل عليه اعتبار نصاب النقدين والشريعة السهلة وأصل جواز التصرف بالبيع وغيره في أموال التجارة ، والتعلق بالعين يمنع عن ذلك إلا مع التخمين والضمان كما في الزكاة. انتهى.

وظاهر المحقق في المعتبر والعلامة في التذكرة اختيار الأول واستحسنه في المدارك ، والمسألة محل تردد لعدم الوقوف فيها على نص يقتضي المصير إلى أحد القولين. واستحسانه في المدارك لهذا القول مع عدم إقامته دليلا عليه لا أعرف له وجها.

وتظهر فائدة الخلاف في جواز بيع العين على تقدير القول بالوجوب بعد

__________________

(١) المغني ج ٣ ص ٣٠.

(٢) المغني ج ٣ ص ٣١.

١٥٠

الحول وقبل إخراج الزكاة أو ضمانها فيجوز على القول بتعلقها بالقيمة ويمتنع على تقدير تعلقها بالعين ، وفي ما لو زادت القيمة بعد الحول فيخرج ربع عشر الزيادة على تقدير التعلق بالعين وربع عشر القيمة قبل تمام الحول على تقدير التعلق بالقيمة

(الثالث) لا خلاف في أن مقدار الزكاة في مال التجارة هي زكاة النقدين كما تقدم سواء اشترى بهما أو بغيرهما من العروض ، وعلى كل تقدير فهو يقوم بالدراهم والدنانير ، وهو ظاهر في ما إذا اشترى بهما لأن نصاب العرض مبني على ما اشترى به ورأس المال إنما يعلم بعد التقويم به. ولو كان الثمن عروضا قوم بالنقد الغالب واعتبر بلوغ النصاب ووجود رأس المال به. ولو تساوى النقدان كان مخيرا بالتقويم بأيهما شاء.

(الرابع) لو اشترى نصابا للتجارة مثل أربعين شاة أو ثلاثين بقرة ثم حال الحول عليها فالمشهور بل ادعى عليه الإجماع غير واحد هو وجوب الزكاة المالية وسقوط زكاة التجارة لقول الصادق عليه‌السلام في صحيحة زرارة أو حسنته على المشهور بإبراهيم بن هاشم (١) «لا يزكى المال من وجهين في عام واحد». وحينئذ فلا ريب في سقوط زكاة التجارة على القول باستحبابها.

ونقل المحقق في الشرائع قولا باجتماع الزكاتين هذه وجوبا وهذه استحبابا ، ثم قال : ويشكل ذلك على القول بوجوب زكاة التجارة. مع أنه في المعتبر ادعى الاتفاق على عدم اجتماعهما فقال : ولا يجتمع زكاة العين والتجارة في مال واحد اتفاقا. ونحوه قال العلامة في التذكرة والمنتهى.

أقول : لا ريب في ضعف هذا القول المذكور بعد ما عرفت من دلالة الخبر الصحيح الصريح على نفي ذلك.

وأما ما ذكره من الإشكال وتبعه غيره وأطالوا البحث به في هذا المجال على تقدير القول بوجوب زكاة التجارة فلا طائل تحته ولا ثمرة فيه بعد ما عرفت من

__________________

(١) ص ٣٩.

١٥١

اتفاقهم على الاستحباب وردهم لهذا القول والإعراض عنه الموجب لبطلانه وحمل الأخبار كلها على ما ادعوه. وأما على ما ذكرناه من دلالة الأخبار المتقدمة عليه فالأمر فيه لا يخلو من الإشكال لما عرفت من إمكان حمل الأخبار المذكورة على التقية ومن شهرة القول باستحباب الزكاة المذكورة قديما وحديثا بل قيل بوجوبها وحمل الأخبار المذكورة على التقية يقتضي سقوطها رأسا. والله العالم.

الثاني من الأصناف المتقدمة ـ الخيل الإناث السائمة والبراذين ، يخرج عن كل عتيق ديناران وعن كل برذون دينار ، والمراد بالعتيق كريم الأصل وهو ما كان أبواه عربيين والبرذون بكسر الباء خلافه. وقد صرحوا بأنه يشترط فيها شروط ثلاثة : السوم والحول والأنوثة.

والمستند في ذلك ما رواه ثقة الإسلام في الكافي والشيخ عنه في التهذيب في الصحيح أو الحسن على المشهور عن محمد بن مسلم وزرارة عنهما (عليهما‌السلام) (١) قالا «وضع أمير المؤمنين عليه‌السلام على الخيل العتاق الراعية في كل فرس في كل عام دينارين وجعل على البراذين دينارا».

وحسنة زرارة (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام هل في البغال شي‌ء؟ فقال لا فقلت فكيف صار على الخيل ولم يصر على البغال؟ فقال لأن البغال لا تلقح والخيل الإناث ينتجن وليس على الخيل الذكور شي‌ء. قال قلت فما في الحمير؟ فقال ليس فيها شي‌ء. قال قلت هل على الفرس أو البعير يكون للرجل يركبهما شي‌ء؟ فقال لا ليس على ما يعلف شي‌ء إنما الصدقة على السائمة المرسلة في مرجها عامها الذي يقتنيها فيه الرجل فأما ما سوى ذلك فليس فيه شي‌ء». أقول : المرج بالجيم المرعى.

وإنما حملت هاتان الروايتان على الاستحباب مع أن ظاهرهما الوجوب لما تقدم من انتفاء الوجوب عن ما سوى الأصناف التسعة.

واحتمل بعضهم أن هذه الزكاة إنما هي في أموال المجوس يومئذ جزية أو

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١٦ من ما تجب فيه الزكاة.

١٥٢

عوضا عن انتفاعهم بمراعي المسلمين. وظاهر الخبر الثاني يدفعه.

الثالث ـ كل ما أنبتت الأرض من ما يدخله المكيال والميزان غير الأربعة المشهورة التي اتفقوا على وجوب الزكاة فيها ، ومستند الاستحباب عندهم هو الجمع بين الأخبار الدالة على الوجوب في هذه الأشياء والأخبار الدالة على حصر الوجوب في التسعة المتقدمة. وقد قدمنا أن الأظهر حمل ما دل على الوجوب في هذه الأشياء على التقية.

الرابع ـ غلات الأطفال والمجانين ومواشيهم تفصيا من خلاف الشيخ ومن تبعه ومن الأخبار الدالة على ذلك. وفيه ما تقدم سابقا من أن ما ورد فيه الأخبار من غلات الأطفال فهي محمولة على التقية (١) وما لم يرد فيه خبر فلا وجه فيه للاستحباب ، لأن الاستحباب حكم شرعي يتوقف على الدليل وخلاف بعض الأصحاب مع كونه خاليا عن الدليل لا يوجب الحكم بالاستحباب.

الخامس ـ الحلي المحرم كالخلخال للرجل ، ذكره الشيخ وتبعه الجماعة ، ولم نقف له على دليل مع ورود الأخبار (٢) بأنه لا زكاة في الحلي ، وهي مطلقة شاملة للمحلل والمحرم ، وروي (٣) أن زكاته إعارته.

السادس ـ المال الغائب والمدفون الذي لا يتمكن صاحبه من التصرف فيه إذا مضى عليه أحوال ثم وقع في يده فإنه يستحب أن يزكيه لسنة ، وقد تقدم ما يدل عليه من الأخبار في الشرط الخامس من شروط وجوب الزكاة من المقصد الأول.

السابع ـ العقار المتخذ للنماء كالحمامات والخانات والدكاكين والبساتين على ما صرحوا به ، واستحباب الزكاة في حاصلها مقطوع به في كلامهم ولم يوردوا

__________________

(١) في المغني ج ٢ ص ٦٢٢ ، والمحلى ج ٥ ص ٢٠١ وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون ، وفي بدائع الصنائع ج ٢ ص ٤ ذكر الاختلاف في ذلك واختار العدم.

(٢) الوسائل الباب ٩ من زكاة الذهب والفضة.

(٣) الوسائل الباب ١٠ من زكاة الذهب والفضة.

١٥٣

لذلك دليلا ، ولم نقف له على دليل ولا على مخالف فيه ، وكأنه مسلم الثبوت بينهم.

ثم إنه على تقدير الاستحباب صرحوا بأنه لا يشترط هنا الحول ولا النصاب للعموم قاله العلامة في التذكرة ، ولا أدري أي عموم أراد مع عدم الدليل كما عرفت؟ واستقرب الشهيد في البيان اعتبارهما.

ولا يخفى أنه لو كان النماء المتخذ من هذه العقارات من الأموال الزكوية تعلق به حكم الزكاة المالية بلا خلاف ولا إشكال فيصير محل الاستحباب في كلامهم مخصوصا بالعروض الغير الزكوية.

الثامن ـ ما ذكره جملة منهم في ما إذا قصد الفرار قبل الحول بناء على القول بعدم وجوب الزكاة بقصد الفرار كما تقدم ، فإنهم بناء على القول المذكور حملوا الأخبار الدالة على وجوب الزكاة متى قصد الفرار بسببك الدراهم والدنانير أو إبدال الجنس بغيره على الاستحباب تارة ، فحكموا على كل من فعل ذلك قبل حول الحول باستحباب الزكاة عليه بعد الحول ، وتارة على حصول الفرار بعد حول الحول وقد تقدم الكلام في هذين الحملين وبينا ما فيهما. والله العالم.

المقصد الثالث ـ في مصرف الزكاة وما يتعلق بذلك من الأحكام وتفصيل ذلك يقع في أبحاث :

البحث الأول ـ في أصناف المستحقين لها وهي ثمانية أصناف كما دلت عليه الآية الشريفة (١) :

الأول والثاني ـ الفقراء والمساكين ، وقد اختلف الأصحاب في ترادف هذين اللفظين وتغايرهما والأشهر الأظهر الثاني وعليه فتكون الأصناف ثمانية كما ذكرناه ، وقيل بالأول وإليه ذهب المحقق في الشرائع وعليه فتكون الأصناف سبعة

ثم إنه على تقدير التغاير قد اختلفوا في ما به يتحقق ذلك وبه يتميز أحدهما عن الآخر على أقوال متعددة وكذلك اختلف كلام أهل اللغة ، وليس في

__________________

(١) وهي قوله تعالى : «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ...» سورة التوبة الآية ٦١.

١٥٤

تطويل الكلام بنقل ذلك مزيد فائدة.

والأظهر في بيان وجه التغاير ما دل عليه صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) «أنه سأله عن الفقير والمسكين فقال الفقير الذي لا يسأل والمسكين الذي هو أجهد منه الذي يسأل».

وحسنة أبي بصير (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام قول الله تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ)؟ (٣) فقال الفقير الذي لا يسأل الناس والمسكين أجهد منه والبائس أجهدهم. الحديث».

وقال الشيخ في التهذيب (٤) : ذكر علي بن إبراهيم في كتاب التفسير تفصيل هذه الثمانية الأصناف فقال : فسرهم العالم عليه‌السلام فقال الفقراء هم الذين لا يسألون لقول الله تعالى في سورة البقرة (٥) (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافاً). والمساكين هم أهل الديانات. الحديث».

والجميع صريح في المغايرة كما ترى ، ودل الخبران الأولان على أن المسكين أسوأ حالا من الفقير.

ولا يخفى أن ثمرة هذا الخلاف لا مظهر لها في هذا الباب للإجماع على جواز إعطاء كل منهما وإنما تظهر في ما لو نذر أو وقف أو أوصى لأسوئهما حالا ، وظاهر الأصحاب أنه متى ذكر أحدهما خاصة دخل فيه الآخر بغير خلاف كما في آية الكفارة المخصوصة بالمسكين (٦) فيدخل فيه الفقير ، وإنما الخلاف في ما لو جمعا كما في آية الزكاة لا غير ، ولا يخلو من إشكال لأنه متى ثبت التغاير كما ذكرناه وهو المشهور عندهم فدخول أحدهما تحت الآخر مجاز لا يصار إليه إلا بالقرينة ، اللهمّ

__________________

(١ و ٢ و ٤) الوسائل الباب ١ من المستحقين للزكاة.

(٣) سورة التوبة الآية ٦١.

(٥) الآية ٢٧٥.

(٦) وهي قوله تعالى في سورة المائدة الآية ٩٢ «وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفّارَتُهُ ...».

١٥٥

إلا أن يجعل الإجماع قرينة على ذلك ، وفيه ما فيه.

بقي الكلام في الحد المسوغ لتناول هذين الصنفين للزكاة ، ولا خلاف في أن الحد الشامل لهما عدم الغنى فإنه الشامل لمعناهما فإذا تحقق ذلك استحق صاحبه الزكاة ، وإنما الخلاف في ما به يتحقق الغنى المانع لاستحقاق الزكاة.

فنقل عن الشيخ في الخلاف أنه قال : الغني من ملك نصابا تجب فيه الزكاة أو قيمته. وقال في المبسوط : الغنى الذي يحرم معه أخذ الصدقة أن يكون قادرا على كفايته وكفاية من يلزمه كفايته على الدوام ، فإن كان مكتفيا بصنعة وكانت صنعته ترد عليه كفايته وكفاية من يلزمه نفقته حرمت عليه وإن كانت لا ترد عليه حل له ذلك ، وهكذا حكم العقار ، وإن كان من أهل البضائع احتاج أن يكون معه بضاعة ترد عليه قدر كفايته فإن نقصت عن ذلك حلت له الصدقة ، ويختلف ذلك على حسب حاله حتى إن كان الرجل بزازا أو جوهريا يحتاج إلى بضاعة قدرها ألف دينار أو ألفا دينار فنقص عن ذلك قليلا حل له أخذ الصدقة. هذا عند الشافعي (١) والذي رواه أصحابنا أنها تحل لصاحب السبعمائة وتحرم على صاحب الخمسين وذلك على قدر حاجته إلى ما يتعيش به ولم يرووا أكثر من ذلك. وفي أصحابنا من قال إن من ملك نصابا يجب عليه فيه الزكاة كان غنيا وتحرم عليه الصدقة وذلك قول أبي حنيفة (٢) انتهى.

والظاهر كما استظهره بعض الأصحاب أن المراد بقوله «على الدوام» أن يكون له ما يحصل به الكفاية عادة من صنعة أو ضيعة أو مال يتجر به بحيث لا ينقص فاضلها عن حاجته. وأما حمله على أن المراد به مئونة السنة كما ذكره العلامة في المختلف فالظاهر بعده.

وقال ابن إدريس : اختلف أصحابنا في من يكون معه مقدار من المال ويحرم عليه بملك ذلك المال أخذ الزكاة ، فقال بعضهم إذا ملك نصابا من الذهب وهو

__________________

(١ و ٢) المغني ج ٢ ص ٦٦٢ ، ونيل الأوطار ج ٤ ص ١٧٠.

١٥٦

عشرون دينارا فإنه يحرم عليه أخذ الزكاة ، وقال بعضهم لا يحرم على من ملك سبعين دينارا ، وقال بعضهم لا أقدره بقدر بل إذا ملك من الأموال ما يكون قدر كفايته لمئونته طول سنته على الاقتصاد فإنه يحرم عليه أخذ الزكاة سواء كان نصابا أو أقل أو أكثر ، فإن لم يكن بقدر كفاية سنته فلا يحرم عليه أخذ الزكاة. وهذا هو الصحيح وإليه ذهب أبو جعفر الطوسي في مسائل الخلاف. انتهى.

وإلى هذا القول ذهب المحقق والعلامة وعامة المتأخرين إلا أنه على إطلاقه مشكل بما صرح به جملة منهم كالشيخ والمحقق في النافع والعلامة وغيرهم من جواز تناول الزكاة لمن كان له مال يتعيش به أو ضيعة أو دار يستغلها إذا كانت الغلة والنماء يعجز عن كفايته وإن كان بحيث يكفيه رأس المال وثمن الضيعة أو الدار لكفاية سنته فإنه لا يكلف بالإنفاق من رأس ماله ولا بيع ضيعته وداره بل يأخذ التتمة من الزكاة. والقول الفصل والمذهب الجزل في ذلك هو أنه متى كان كذلك يعني يتجر في دراهمه ويستنميها لأجل معاشه ويستغل عقاره لذلك فإن الحكم فيه ما ذكر ومتى لم يكن كذلك اعتبر فيه قصور أمواله عن مئونة سنته كما ذكروه أولا.

ويدل على الحكم الأول جملة من الأخبار : منها ـ ما رواه في الكافي في الصحيح عن معاوية بن وهب (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون له ثلاثمائة درهم أو أربعمائة درهم وله عيال وهو يحترف فلا يصيب نفقته فيها أيكب فيأكلها ولا يأخذ الزكاة أو يأخذ الزكاة؟ قال لا بل ينظر إلى فضلها فيقوت بها نفسه ومن وسعه ذلك من عياله ويأخذ البقية من الزكاة ويتصرف بهذه لا ينفقها».

وما رواه الشيخ عن هارون بن حمزة الغنوي (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام يروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي؟ فقال لا تصلح لغني. قال فقلت له الرجل يكون له ثلاثمائة درهم في بضاعته وله عيال فإن أقبل عليها أكلها عياله ولم يكتفوا بربحها؟ قال فلينظر ما يستفضل منها فيأكله

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١٢ من المستحقين للزكاة.

١٥٧

هو ومن يسعه ذلك وليأخذ لمن لم يسعه من عياله».

وما رواه في التهذيب والفقيه في الموثق عن سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «سألته عن الزكاة هل تصلح لصاحب الدار والخادم؟ فقال نعم إلا أن تكون داره دار غلة فيخرج له من غلتها دراهم تكفيه لنفسه وعياله ، فإن لم تكن الغلة تكفيه لنفسه وعياله في طعامهم وكسوتهم وحاجتهم في غير إسراف فقد حلت له الزكاة وإن كانت غلتها تكفيهم فلا».

وما رواه في الكافي والفقيه عن أبي بصير (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل من أصحابنا له ثمانمائة درهم وهو رجل خفاف وله عيال كثيرة أله أن يأخذ من الزكاة؟ فقال يا أبا محمد أيربح في دراهمه ما يقوت به عياله ويفضل؟ قال قلت نعم. قال كم يفضل؟ قلت لا أدري. قال إن كان يفضل عن القوت مقدار نصف القوت فلا يأخذ الزكاة وإن كان أقل من نصف القوت أخذ الزكاة. قلت فعليه في ماله زكاة تلزمه؟ قال بلى. قلت كيف يصنع؟ قال يوسع بها على عياله في طعامهم وكسوتهم وإن بقي منها شي‌ء يناوله غيرهم ، وما أخذ من الزكاة فضه على عياله حتى يلحقهم بالناس».

أقول : قوله عليه‌السلام «إن كان يفضل عن القوت مقدار نصف القوت» لعل المراد به أنه متى فضل هذا المقدار فإنه يجزئ للقيام بكسوتهم وسائر ضرورياتهم فلا يجوز له تناول الزكاة ، وإن كان أقل من ذلك فإنه لا يقوم بمئونة السنة فيجوز له أخذ الزكاة. ولا يخفى ما في هذا الخبر من الدلالة الظاهرة على وجوب زكاة التجارة كما تقدم في تلك الأخبار التي قدمناها في أول المطلب الرابع إلا أنه عليه‌السلام جعل مصرفها هنا في التوسعة على نفسه وعياله لأنه إذا جاز أخذها من الغير لذلك فبالأولى من نفسه ، والظاهر أن الأمر بإعطاء الغير من زكاة ماله في هذا الخبر وغيره

__________________

(١) الوسائل الباب ٩ من المستحقين للزكاة. ورواه في الفروع ج ١ ص ١٥٩ أيضا.

(٢) الوسائل الباب ٨ من المستحقين للزكاة.

١٥٨

محمول على الاستحباب.

ويدل على الثاني ما رواه الشيخ المفيد (قدس‌سره) في كتاب المقنعة عن يونس بن عمار (١) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول تحرم الزكاة على من عنده قوت السنة وتجب الفطرة على من عنده قوت السنة».

وروى ابن إدريس في مستطرفات السرائر من كتاب المشيخة للحسن بن محبوب عن أبي أيوب عن سماعة (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل تكون عنده العدة للحرب وهو محتاج أيبيعها وينفقها على عياله ويأخذ الصدقة؟ قال يبيعها وينفقها على عياله». وهو محمول على ما إذا كانت قيمتها تكفيه لمئونة سنته.

وروى ثقة الإسلام في الكافي في الصحيح إلى أبي بصير (٣) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول يأخذ الزكاة صاحب السبعمائة إذا لم يجد غيره. قلت فإن صاحب السبعمائة تجب عليه الزكاة؟ قال زكاته صدقة على عياله ، ولا يأخذها إلا أن يكون إذا اعتمد على السبعمائة أنفدها في أقل من سنة فهذا يأخذها ، ولا تحل الزكاة لمن كان محترفا وعنده ما تجب فيه الزكاة أن يأخذ الزكاة».

وحاصل معنى الخبر أنه متى كان يملك سبعمائة درهم وهي موضوعة عنده إلا أنه متى أقبل عليها وأنفق منها لم تكفه لمئونة سنته فإنه يجوز له أخذ الزكاة وكذا يجوز له أن ينفق زكاتها متى حال عليها الحول على نفسه وعياله.

ونحوه ما رواه الصدوق في كتاب العلل في الموثق عن محمد بن مسلم وغيره عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : «تحل الزكاة لمن له سبعمائة درهم إذا لم تكن له حرفة ويخرج زكاتها منها ويشتري منها بالبعض قوتا لعياله ويعطي البقية أصحابه ، ولا تحل الزكاة لمن له خمسون درهما وله حرفة يقوت بها عياله».

وما رواه في الكافي في الموثق عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٥)

__________________

(١ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٨ من المستحقين للزكاة.

(٢) الوسائل الباب ١٠ من المستحقين للزكاة.

(٥) الوسائل الباب ١٢ من المستحقين للزكاة.

١٥٩

قال : «قد تحل الزكاة لصاحب السبعمائة وتحرم على صاحب الخمسين درهما. فقلت له وكيف يكون هذا؟ قال إذا كان صاحب السبعمائة له عيال كثير فلو قسمها بينهم لم تكفه فليعف عنها نفسه وليأخذها لعياله ، وأما صاحب الخمسين فإنه تحرم عليه إذا كان وحده وهو محترف يعمل بها وهو يصيب منها ما يكفيه إن شاء الله تعالى».

دلت هذه الأخبار بمفاهيمها على أن السبعمائة المذكورة فيها لو قامت بمئونة سنته لم يجز له أخذ الزكاة كما دل عليه الخبران الأولان.

وأما القول بحصول الغنى بملك النصاب فنقل الاستدلال عليه بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) أنه قال لمعاذ : «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم». فجعل الغني من تجب عليه الزكاة ومقتضاه أن من لا تجب عليه ليس بغني فيكون فقيرا. وبأن مالك النصاب يجب عليه دفع الزكاة فلا يحل له أخذها للتنافي.

ورد الأول بأن الرواية عامية فلا تقوم حجة مع ما في الدلالة من إمكان المناقشة. والثاني بالمنع من التنافي فإنه مجرد استبعاد لا دليل عليه.

فروع

الأول ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أن من قصر كسبه عن مئونة سنته أو قصر ماله فإنه يأخذ من الزكاة وإنما اختلفوا في المأخوذ بأنه هل يتقدر بقدر أم لا؟ فالمشهور الثاني وقيل بالأول وهو أنه لا يأخذ أزيد من تمام مئونة سنته ، وظاهر جماعة من الأصحاب أن محل الخلاف ذو الكسب القاصر وظاهر كلام المنتهى وقوع الخلاف في غيره من المال أيضا ، حيث قال ولو كان معه ما يقصر عن مئونته ومئونة عياله حولا جاز له أخذ الزكاة لأنه محتاج وقيل لا يأخذ زائدا عن تتمة المئونة حولا وليس بالوجه. إلا أنه قال في موضع آخر من الكتاب المذكور : يجوز أن يعطى الفقير ما يغنيه وما يزيد على غناه

__________________

(١) المغني ج ٢ ص ٦٦٢ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٥٤٣.

١٦٠