الحدائق الناضرة - ج ١٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٤

من كل صنف خمسة أوساق غير شي‌ء وإن قل فليس فيه شي‌ء. الحديث».

وصحيحة زرارة (١) قال : «قلت لأبي جعفر ولابنه (عليهما‌السلام) الرجل تكون له الغلة الكثيرة من أصناف شتى أو مال ليس فيه صنف تجب فيه الزكاة هل عليه في جميعه زكاة واحدة؟ فقال لا إنما تجب عليه إذا تم فكان يجب في كل صنف منه الزكاة تجب عليه في جميعه في كل صنف منه الزكاة ، فإن أخرجت أرضه شيئا قدر ما لا تجب فيه الصدقة أصنافا شتى لم تجب فيه زكاة واحدة».

المقام الخامس ـ قد صرح جملة من الأصحاب بأن الزكاة إنما تجب في الغلات إذا ملكت بالزراعة لا الابتياع ونحوه كالإرث والهبة. وهو على إطلاقه مشكل فإنهم قد صرحوا من غير خلاف يعرف بوجوب الزكاة في ما ينتقل إلى الملك قبل تعلق الوجوب.

وذكر شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) في مقام الاعتذار عن ذلك بأن مرادهم بالزراعة في اصطلاحهم انعقاد الثمرة في الملك أو احمرارها واصفرارها إذا توقف الوجوب عليه ، وحمل الابتياع ونحوه على وقوعه بعد تحقق الوجوب بحصول أحد الأمور المذكورة قبل وقوع البيع.

وفيه ـ مع الإغماض عن المناقشة بما فيه من البعد وأنه من قبيل الألغاز والمعميات ـ أن ما ذكره إنما يتم على تقدير تعلق الوجوب بالانعقاد وبدو الصلاح ولا يجري على القول الآخر مع أن ممن صرح بذلك المحقق في الشرائع مع تصريحه فيه بالقول المشار إليه.

وجعل المحقق في المعتبر والنافع والعلامة في جملة من كتبه الشرط هو النمو في الملك.

وفيه أيضا أن الثمرة إذا انتقلت بعد بدو الصلاح كانت الزكاة على الناقل وإن حصل النمو في ملك المنتقل إليه على القول المشهور ، وكذلك إذا انتقل قبل صدق اسم التمر والزبيب والحنطة والشعير كان الزكاة على المنتقل إليه على القول الآخر

__________________

(١) الإستبصار ج ٢ ص ٣٩ وفي الوسائل الباب ٢ من زكاة الغلات.

١٢١

وإن حصل النمو في ملك الناقل ، وحينئذ فهذا الشرط لا وجه له على كل من القولين.

والتحقيق أن يجعل الشرط حصولها في ملكه في الوقت الذي تتعلق الزكاة فيه بمعنى أنه يدخل هذا الوقت وهي في ملكه ، وهذا الشرط جار على كل من القولين كما لا يخفى والأدلة عليه ظاهرة. والله العالم.

المقام السادس ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) من غير خلاف يعرف بأن ما سقي سيحا أو بعلا أو عذيا ففيه العشر وما سقي بالدوالي والنواضح ففيه نصف العشر ، والمراد بالسيح الجريان قال الجوهري السيح الماء الجاري. وظاهره أنه أعمّ من أن يكون على وجه الأرض أو في الأنهار ، وهو كذلك كما صرح به الأصحاب. وأما البعل فقال في الصحاح أنه النخل الذي يشرب بعروقه فيستغني عن السقي. وأما العذي بالتسكين والكسر فقال هو الزرع لا يسقيه إلا ماء المطر والدوالي جمع دالية ، قال والدالية المنجنون تديرها البقرة والناعورة يديرها الماء وقال إن المنجنون هو الدولاب التي يستقى عليها.

ويدل على الحكم المذكور مضافا إلى الإجماع الأخبار المستفيضة : ومنها ـ صحيحة زرارة وبكير عن أبي جعفر عليه‌السلام (١) قال «في الزكاة ما كان يعالج بالرشاء والدوالي والنواضح ففيه نصف العشر وإن كان يسقى من غير علاج بنهر أو عين أو بعل أو سماء ففيه العشر كاملا». ونحوها غيرها (٢) والحكم موضع اتفاق نصا وفتوى.

ثم إنه متى اجتمع الأمر إن كان الحكم للأكثر فأيهما غلب تبعه الحكم من العشر أو نصف العشر ، ومع التساوي يؤخذ من نصفه العشر ومن النصف الآخر نصف العشر وهو يرجع إلى ثلاثة أرباع العشر ، وهو من ما لا خلاف فيه أيضا.

ويدل عليه ما رواه الشيخ عن معاوية بن شريح عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣)

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٤ من زكاة الغلات.

(٣) الوسائل الباب ٦ من زكاة الغلات.

١٢٢

قال : «في ما سقت السماء والأنهار أو كان بعلا فالعشر فأما ما سقت السواني والدوالي فنصف العشر. فقلت له فالأرض تكون عندنا تسقى بالدوالي ثم يزيد الماء وتسقى سيحا؟ فقال إن ذا ليكون عندكم كذلك؟ قلت نعم. قال النصف والنصف نصف بنصف العشر ونصف بالعشر. فقلت الأرض تسقى بالدوالي ثم يزيد الماء فتسقى السقية والسقيتين سيحا؟ قال وكم تسقى السقية والسقيتين سيحا؟ قلت في ثلاثين ليلة أو أربعين ليلة وقد مكث قبل ذلك في الأرض ستة أشهر سبعة أشهر قال نصف العشر».

وهل الاعتبار في الكثرة بالأكثر زمانا أو عددا أو نفعا؟ أوجه ثلاثة أقربها إلى ظاهر النص الأول.

المقام السابع ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في استثناء حصة السلطان ، والمراد بها ما يجعله على الأرض الخراجية من الدراهم ويسمى خراجا أو حصة من الحاصل ويسمى مقاسمة ، وإنما اختلفوا في غيرها من المؤن هل يجب استثناؤها كالخراج أم لا وإنما يختص بالمالك؟ قولان فذهب الشيخ في الخلاف والمبسوط إلى أن المؤن كلها على رب المال دون الفقراء ، ونسبه في الخلاف إلى جميع الفقهاء ، ونقل جمع من الأصحاب عنه في الخلاف دعوى الإجماع عليه إلا من عطاء (١) ونقل عن الفاضل يحيى بن سعيد صاحب الجامع القول بذلك أيضا واختاره شيخنا الشهيد الثاني أيضا في فوائد القواعد على ما نقله عنه سبطه في المدارك وأنه ذكر أنه لا دليل على استثناء المؤن سوى الشهرة وقال إن إثبات الحكم بمجرد الشهرة مجازفة ، وإلى هذا القول مال جملة من متأخري المتأخرين. وقال الشيخ في النهاية باستثناء المؤن كلها وهو قول الشيخ المفيد والمحقق وابن إدريس والعلامة ونسبه في المنتهى إلى أكثر الأصحاب وفي المختلف إلى المشهور.

واستدل على الأول بعموم الأخبار الدالة على العشر ونصف العشر في

__________________

(١) المحلى ج ٥ ص ٢٥٨ رقم ٦٥٧.

١٢٣

الغلات الأربع من غير استثناء ، نعم ورد استثناء حصة السلطان فيجب الاقتصار عليها كما رواه الكليني والشيخ عنه في الصحيح عندنا أو الحسن على المشهور عن أبي بصير ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام (١) أنهما قالا له : «هذه الأرض التي يزارع أهلها ما ترى فيها؟ قال كل أرض دفعها إليك السلطان فما حرثته فيها فعليك في ما أخرج الله منها الذي قاطعك عليه ، وليس على جميع ما أخرج الله منها العشر إنما العشر عليك في ما يحصل في يدك بعد مقاسمته لك».

أقول : ومن ما يعضد هذا الخبر أيضا ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد ابن علي بن شجاع النيسابوري وهو مجهول (٢) «أنه سأل أبا الحسن الثالث عليه‌السلام عن رجل أصاب من ضيعته من الحنطة مائة كر ما يزكى فأخذ منه العشر عشرة أكرار وذهب منه بسبب عمارة الضيعة ثلاثون كرا وبقي في يده ستون كرا ما الذي يجب لك من ذلك؟ وهل يجب لأصحابه من ذلك عليه شي‌ء؟ فوقع عليه‌السلام لي منه الخمس من ما يفضل من مئونته». وهو كما ترى صريح في أخذ العشر من جميع ما حصل من الأرض وأن المئونة إنما خرجت بعد ذلك ، وهو وإن كان في كلام السائل إلا أن الإمام عليه‌السلام قرره على ذلك ولم ينكره وتقريره حجة كما اتفقوا عليه.

وما رواه صفوان وأحمد بن محمد بن أبي نصر (٣) قالا : «ذكرنا له الكوفة وما وضع عليها من الخراج وما سار فيها أهل بيته فقال من أسلم طوعا تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر من ما سقت السماء والأنهار ونصف العشر من ما كان بالرشاء في ما عمروه منها وما لم يعمروه منها أخذه الإمام فقبله ممن يعمره وكان للمسلمين ، وعلى المتقبلين في حصصهم العشر ونصف العشر. إلى أن قال وعلى المتقبلين سوى قبالة الأرض العشر ونصف العشر في حصصهم. الحديث».

__________________

(١) الوسائل الباب ٧ من زكاة الغلات.

(٢) الوسائل الباب ٥ من زكاة الغلات.

(٣) الوسائل الباب ٤ من زكاة الغلات.

١٢٤

واستدل العلامة في المنتهى وقبله المحقق في المعتبر على القول المشهور بأن النصاب مشترك بين المالك والفقراء فلا يختص أحدهم بالخسارة عليه كغيره من الأموال المشتركة ، وبأن المئونة سبب الزيادة فتكون على الجميع ، وبأن إلزام المالك بالمئونة كلها حيف عليه وإضرار به وهو منفي ، وبأن الزكاة في الغلات تجب في النماء والفائدة وهو لا يتناول المئونة.

ولا ريب في ضعف هذه التعليلات فإنها بمجردها لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية وإن زعموها أدلة عقلية مقدمة على النصوص كما هي قاعدتهم الكلية ، هذا مع أن جملة من فضلاء متأخري المتأخرين : منهم ـ السيد السند في المدارك بينوا ضعف هذه الوجوه مشروحا فليرجع إليه من أحب الوقوف عليه.

نعم يدل على هذا القول ما في كتاب الفقه الرضوي (١) حيث قال عليه‌السلام : وليس في الحنطة والشعير شي‌ء إلى أن يبلغ خمسة أوسق والوسق ستون صاعا والصاع أربعة أمداد والمد مائتان واثنان وتسعون درهما ونصف ، فإذا بلغ ذلك وحصل بعد خراج السلطان ومئونة العمارة والقرية أخرج منه العشر إن كان سقي بماء المطر أو كان بعلا وإن كان سقي بالدلاء والغرب ففيه نصف العشر ، وفي التمر والزبيب مثل ما في الحنطة والشعير.

أقول : وبهذه العبارة بعينها عبر الصدوق في الفقيه ومنه يظهر أن مستنده في الحكم المذكور إنما هو هذا الكتاب ، والظاهر أيضا أنه هو المستند لغيره من القائلين بهذا القول من متقدمي الأصحاب ، ويمكن تخصيص إطلاق تلك الأخبار بهذه الرواية.

وبالجملة فالمسألة غير خالية من شوب الإشكال وإن كان القول الأول أظهر لقوة مستنده وأوفقيته بالاحتياط.

وفي هذا المقام فوائد الأولى ـ قد عرفت أن المراد بخراج السلطان وحصته

__________________

(١) ص ٢٢.

١٢٥

هو ما يأخذه من الأرض الخراجية من نقد أو حصة من الحاصل وإن سمي الأخير مقاسمة ، وحينئذ فيكون هذا الحكم مخصوصا بما إذا كانت الأرض خراجية وهي المفتوحة عنوة والآخذ الإمام إمام عدل كان أو إمام جور كخلفاء الأموية والعباسية ومن يحذو حذوهم إلى يومنا هذا كما هو الظاهر من الأخبار وكلام أكثر الأصحاب وإن خالف فيه شذوذ من أصحابنا.

بقي الكلام في ما لو لم تكن الأرض خراجية أو كانت وكان الآخذ ليس ممن يدعي الإمامة كسلاطين الشيعة في بلاد العجم فهل يكون ما يأخذونه على الأرض والحال هذه مستثنى ويكون على الجميع كحصة السلطان المتقدمة أو يختص بالمالك؟ إشكال ينشأ من أن هذا ليس من الخراج المستثنى لما عرفت من شروطه ودلالة ظواهر الأخبار على وجوب العشر ونصف العشر على ما أخرجت الأرض مطلقا خرج منه حصة السلطان بالدليل المتقدم وبقي ما عداه ، ومن أن هذا ظلم لحق المالك في هذه الزراعة فيصير من قبيل السرقة ونحوها من أسباب التلف من غير تفريط فلا تكون مضمونة عليه بل توزع على الجميع ويكون إخراج النصاب بعده إن وقع ذلك قبل استقرار الوجوب وإلا فبالنسبة بين المالك والفقراء. وهو الأقرب.

ويؤيده ظاهر رواية سعيد الكندي (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إني آجرت قوما أرضا فزاد السلطان عليهم؟ قال أعطهم فضل ما بينهما. قلت أنا لم أظلمهم ولم أزد عليهم؟ قال إنهم إنما زادوا على أرضك». فإنه يستفاد من هذا الخبر أنه لا ضمان على من جبره الحاكم وأخذ مال الغير من يده ظلما.

ويعضد ذلك ما صرح به شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) في المسالك في صورة ما إذا أخذ الجائر زيادة على الخراج المعتاد ظلما ، حيث قال فلا يستثنى الزائد إلا أن يأخذه قهرا بحيث لا يتمكن المالك من منعه سرا أو جهرا فلا يضمن حصة الفقراء من الزائد. انتهى.

__________________

(١) الوسائل الباب ١٦ من المزارعة والمساقاة.

١٢٦

الثانية ـ قد أجمع الأصحاب (رضوان الله عليهم) وهو المشهور بين الجمهور أيضا (١) أنه بعد أخذ السلطان الخراج من الأرض الخراجية فإنه يجب على المالك إخراج الزكاة من ما بقي في يده ، وعليه تدل الأخبار التي قدمناها ، ولم ينقل الخلاف هنا إلا عن أبي حنيفة (٢) فإنه ذهب إلى أنه لا زكاة فيها بعد أخذ الخراج منها ، ورده في المعتبر والمنتهى بوجوه إقناعية.

إلا أنه قد ورد في أخبارنا ما يدل على ذلك : ومنها ـ رواية أبي كهمش عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «من أخذ من السلطان الخراج فلا زكاة عليه». وحملها الشيخ على الأرضين الخراجية فيفهم منه حينئذ القول بعدم وجوب الزكاة فيها كما هو المنقول عن أبي حنيفة مع أن العلامة في المنتهى ادعى الإجماع على ما قدمنا نقله عنهم.

ومنها ـ صحيحة سليمان بن خالد (٤) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إن أصحاب أبي أتوه فسألوه عن ما يأخذه السلطان فرق لهم وأنه ليعلم أن الزكاة لا تحل إلا لأهلها فأمرهم أن يحتسبوا به فجاز ذا والله لهم. فقلت أي أبت إنهم إن سمعوا ذلك لم يزك أحد؟ فقال أي بني حق أحب الله أن يظهره».

ورواية رفاعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٥) قال : «سألته عن الرجل يرث الأرض أو يشتريها فيؤدي خراجها إلى السلطان هل عليه فيها عشر؟ قال لا».

ورواية أبي قتادة عن سهل بن اليسع (٦) «أنه حيث أنشأ سهل‌آباد سأل أبا الحسن عليه‌السلام عن ما يخرج منها ما عليه؟ فقال إن كان السلطان يأخذ خراجه فليس عليك شي‌ء وإن لم يأخذ السلطان منها شيئا فعليك إخراج عشر ما يكون فيها».

__________________

(١) المهذب ج ١ ص ١٥٧ والإنصاف ج ٣ ص ١١٣.

(٢) بدائع الصنائع للكاساني الحنفي ج ٢ ص ٥٧.

(٣ و ٥ و ٦) الوسائل الباب ١٠ من زكاة الغلات.

(٤) الوسائل الباب ٢٠ من المستحقين للزكاة. وفي الفروع ج ١ ص ١٥٣ (فجال فكري) مكان (فجاز ذا) في التهذيب ج ١ ص ٣٥٩.

١٢٧

وصحيحة رفاعة أيضا (١) «عن الرجل له الضيعة فيؤدي خراجها هل عليه فيها عشر؟ قال لا».

والمنقول عن الشيخ حمل هذه الأخبار على نفي الزكاة في الحصة التي يأخذها السلطان بعنوان الخراج فيصير حاصل المعنى أن العشر لا يثبت في غلة الضيعة بكمالها

قال المحقق الشيخ حسن في كتاب المنتقى بعد نقل صحيحة رفاعة الأخيرة ونقل تأويل الشيخ المذكور : ولا بأس بهذا الحمل إذ هو خير من الاطراح. وفيه أن هذا الحمل وإن أمكن في هذه الرواية على بعد إلا أنه لا يجري في رواية قتادة لأنه حكم عليه‌السلام بأنه مع أخذ الخراج ليس عليه شي‌ء ، ونحوها رواية أبي كهمش حيث قال : «لا زكاة عليه» وتأويلهما بأنه ليس عليه شي‌ء معين في خراج السلطان تعسف محض. وبالجملة فإن هذا الاحتمال بعيد غاية البعد.

واحتمل بعض الأصحاب حمل الخراج في هذه الأخبار على الزكاة وأنه متى أخذها الجائر قهرا فإنه تبرأ ذمة المالك وتسقط عنه استنادا إلى ما دل من الأخبار على احتسابها بذلك :

كصحيحة يعقوب بن شعيب (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن العشور التي تؤخذ من الرجل أيحتسب بها من زكاته؟ قال نعم إن شاء».

وصحيحة عيص بن القاسم عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) «في الزكاة؟ قال ما أخذ منكم بنو أمية فاحتسبوا به ولا تعطوهم شيئا ما استطعتم فإن المال لا يبقى على هذا أن يزكيه مرتين». ونحو ذلك صحيحة الحلبي (٤).

وفيه أنه وإن دلت هذه الروايات على جواز احتساب ما يأخذونه بعنوان الزكاة عن الزكاة الواجبة عليه لكن إطلاق الخراج في تلك الأخبار على الزكاة بعيد جدا. نعم صحيحة سليمان بن خالد حيث لم يصرح فيها بلفظ الخراج قابلة لهذا التأويل بل ظاهرها

__________________

(١) التهذيب ج ١ ص ٣٥٩ وفي الوسائل الباب ١٠ من زكاة الغلات.

(٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٢٠ من المستحقين للزكاة.

١٢٨

إنما هو الزكاة مثل هذه الأخبار الأخيرة.

على أنه قد ورد ما يعارض هذه الأخبار الأخيرة أيضا كصحيحة زيد الشحام (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام جعلت فداك إن هؤلاء المصدقين يأتوننا فيأخذون منا الصدقة فنعطيهم إياها أتجزئ عنا؟ فقال لا إنما هؤلاء قوم غصبوكم ـ أو قال ظلموكم ـ أموالكم وإنما الصدقة لأهلها».

وحمله الشيخ على استحباب الإعادة ، والأظهر حمله على ما إذا تمكن من عدم الإعطاء بإنكار ونحوه ومع ذلك أعطاها كما هو ظاهر سياق الخبر بأن يكون معنى «فيأخذون منا الصدقة» يعني يطلبونها منا فنعطيهم مع أنه يمكنه أن ينكر أن لا صدقة عليه مثلا.

وكيف كان فحيث كانت الأخبار المتقدمة من ما أعرض عن العمل بها كافة الأصحاب قديما وحديثا مع معارضتها بالأخبار المتقدمة في المقام السابع وكونها على خلاف الاحتياط فلا بد من تأويلها أو طرحها وإرجاعها إلى قائلها ، والأظهر هو حملها على التقية فإنه مذهب أبي حنيفة (٢) ومذهبه في وقته له صيت وانتشار زيادة على غيره من أصحاب المذاهب فإنها إنما اعتبرت في الأزمان المتأخرة.

الثالثة ـ لو قلنا باستثناء المؤن كما هو المشهور فهل تعتبر بعد النصاب فيزكى الباقي منه بعد إخراج المئونة وإن قل أم قبله فإن لم يبلغ الباقي بعدها نصابا فلا زكاة أم يعتبر ما سبق على الوجوب كالسقي والحرث قبله وما تأخر كالحصاد والجذاذ بعده؟ احتمالات ذهب إلى كل منها قائل ، فقطع بأولها العلامة في التذكرة حيث قال : الأقرب أن المئونة لا تؤثر في نقصان النصاب وإن أثرت في نقصان الفريضة فلو بلغ الزرع خمسة أوسق مع المئونة وإذا سقطت المئونة منه قصر عن النصاب وجبت الزكاة لكن لا في المئونة بل في الباقي. واختار هذا الوجه السيد السند في المدارك ومثله الفاضل الخراساني في الذخيرة. وجزم العلامة في المنتهى بالثاني فقال المؤن تخرج

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٠ من المستحقين للزكاة.

(٢) بدائع الصنائع للكاساني الحنفي ج ٢ ص ٥٧.

١٢٩

وسطا من المالك والفقراء فما فضل وبلغ نصابا أخذ منه العشر أو نصف العشر. وهو ظاهر المحقق في الشرائع. وأنت خبير بأن هذا هو الذي دل عليه كلامه عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي فيكون أظهر الاحتمالات لذلك بناء على القول المذكور. واستوجه شيخنا الشهيد الثاني في المسالك الثالث وجعل الأول أحوط.

المقام الثامن ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) وجوب الزكاة في حصة العامل في المزارعة والمساقاة مع الشرائط وكذا حصة المالك ، لحصول ذلك في ملكهما قبل بلوغ حد الوجوب وهو مناط تعلق الزكاة كما تقدم ، ويدل عليه أيضا ما تقدم في حسنة أبي بصير ومحمد بن مسلم (١) وقوله عليه‌السلام فيها «إنما العشر عليك في ما يحصل في يدك بعد مقاسمته لك». وكذا رواية صفوان وأحمد بن محمد ابن أبي نصر (٢) لقوله عليه‌السلام فيها «وعلى المتقبلين سوى قبالة الأرض العشر ونصف العشر في حصصهم».

ونقل العلامة في المختلف عن السيد ابن زهرة أنه قال : لا زكاة على العامل في المزارعة والمساقاة لأن الحصة التي يأخذها كالأجرة من عمله ، وكذا لو كان البذر من العامل فلا زكاة على رب الأرض لأن الحصة التي يأخذها كأجرة أرضه.

قال في المختلف : وأنكر ابن إدريس ذلك كل الإنكار ومنعه كل المنع وأوجب الزكاة عليه إذا بلغ نصيبه النصاب. وهو الأقرب ، لنا أنه قد ملك بالزراعة فيجب عليه الزكاة. واحتج بأنه أجرة ولا زكاة في الأجرة إجماعا. والجواب المنع من الصغرى. انتهى.

أقول : من ما يدل على ما ذكره ابن زهرة ما رواه الشيخ في الموثق عن عبد الله ابن بكير عن بعض أصحابنا عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٣) قال : «في زكاة الأرض إذا قبلها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام عليه‌السلام بالنصف أو الثلث أو الربع فزكاتها عليه وليس

__________________

(١ و ٣) الوسائل الباب ٧ من زكاة الغلات.

(٢) ص ١٢٤.

١٣٠

على المتقبل زكاة إلا أن يشترط صاحب الأرض أن الزكاة على المتقبل فإن اشترط فإن الزكاة عليهم. وليس على أهل الأرض اليوم زكاة إلا على من كان في يده شي‌ء من ما أقطعه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وما رواه في الصحيح عن محمد بن مسلم (١) قال : «سألته عن الرجل يتكارى الأرض من السلطان بالثلث أو النصف هل عليه في حصته زكاة؟ قال لا. الحديث».

وحمل الشيخ في الخبر الأول نفي الزكاة عن المتقبل على نفيها عن جميع ما أخرجت الأرض وإن كان يلزمه زكاة ما يحصل في يده بعد المقاسمة مستدلا بما مر.

وأنت خبير بأن قوله : «زكاتها عليه» يعني على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام عليه‌السلام لا جائز أن يحمل على الحصة التي يأخذها عليه‌السلام لأنها مال للمسلمين كافة فهي من مال بيت المال ، وقد تقدم أن مال بيت المال ونحوه من الجهات العامة ليس فيه زكاة فلم تبق إلا حصة المتقبل وقد أخبر أن زكاتها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام فكيف يتم ما ذكره من أنه يلزمه زكاة ما يحصل في يده؟ وبالجملة فما ذكره من التأويل لا يقبله الخبر المذكور.

وأما صحيحة محمد بن مسلم فالظاهر جعلها في عداد الروايات المتقدمة الدالة على ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن من أخذ منه السلطان الخراج فلا زكاة عليه (٢) لأن المراد بالخراج ما هو أعمّ من الدراهم والدنانير التي يأخذها على الأرض أو الحصة من الحاصل المسماة عندهم بالمقاسمة كما أشرنا إليه في ما سبق ، وهذه الرواية دلت على أنه إذا أخذ السلطان منه حصة فلا زكاة عليه ، وحينئذ فتحمل على ما حملت عليه تلك الروايات ، وحينئذ فلم يبق إلا الرواية الأولى وهي لا تبلغ قوة في معارضة الروايات المتقدمة في المقام السابع.

__________________

(١) الوسائل الباب ٧ من زكاة الغلات.

(٢) بدائع الصنائع للكاساني الحنفي ج ٢ ص ٥٧.

١٣١

ومثلها أيضا ما رواه الشيخ في الصحيح عن أحمد بن محمد بن أبي نصر (١) قال «ذكرت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام الخراج وما سار به أهل بيته فقال العشر ونصف العشر على من أسلم تطوعا تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر ونصف العشر في ما عمر منها وما لم يعمر منها أخذه الوالي فقبله ممن يعمره وكان للمسلمين. إلى أن قال : وما أخذ بالسيف فذلك للإمام يقبله بالذي يرى كما صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بخيبر قبل أرضها ونخلها ، والناس يقولون لا تصلح قبالة الأرض والنخل إذا كان البياض أكثر من السواد. وقد قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خيبر وعليهم في حصصهم العشر ونصف العشر».

واحتمال الاشتراط في هذه الأخبار جمعا بينها وبين الموثقة المذكورة الظاهر بعده والمسألة لا تخلو من نوع توقف إذ لا يحضرني الآن محمل لتلك الموثقة المذكورة.

ثم إن قوله عليه‌السلام في الموثقة المشار إليها «وليس على أهل الأرض اليوم زكاة» لعله من قبيل ما تقدم من تلك الأخبار الدالة على سقوطها عن المالك بأخذ الجائر لها بعنوان الزكاة أو الخراج ، ولعل استثناء من كان في يده شي‌ء من ما أقطعه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من حيث إن تلك القطائع إنما هي في أيدي الظلمة الذين لا يؤخذ منهم شي‌ء يوجب سقوط الزكاة عنهم.

المقام التاسع ـ المفهوم من كلام الأصحاب ومنهم المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى وغيرهما من المتقدمين والمتأخرين جواز الخرص في النخيل والكروم وتضمينهم حصة الفقراء ، ونقل عليه في المعتبر الإجماع منا ومن أكثر العامة (٢).

واستدل عليه في المعتبر بما روي (٣) من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يبعث إلى الناس

__________________

(١) التهذيب ج ١ ص ٣٨٣ وفي الوسائل الباب ٤ من زكاة الغلات.

(٢) المغني ج ٢ ص ٧٦ ونيل الأوطار ج ٤ ص ٢٠٥.

(٣) سنن أبي داود ج ٢ ص ١١٠ رقم ١٦٠٣.

١٣٢

من يخرص عليهم نخيلهم وكرومهم. ولأن أرباب الثمار يحتاجون إلى الأكل والتصرف في ثمارهم فلو لم يشرع الخرص لزم الضرر.

وإنما اختلفوا في جواز الخرص في الزرع فأثبته الشيخ وجماعة لوجود المقتضي وهو الاحتياج إلى الأكل منه قبل يبسه وتصفيته ، ونفاه ابن الجنيد والمحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى والتحرير ، لأنه نوع تخمين ولا يثبت إلا في موضع الدلالة ، ولأن الزرع قد يخفى خرصه لاستتار بعضه وتبدده بخلاف النخل والكرم فإن ثمرتهما ظاهرة فيتمكن الخارص من إدراكها والإحاطة بها ، ولأن الحاجة في النخل والكرم ماسة إلى الخرص لاحتياج أربابها إلى تناولها غالبا رطبة قبل الجذاذ والاقتطاف بخلاف الزرع فإن الحاجة إلى تناول الفريك قليلة جدا.

أقول : من ما يدل على جواز الخرص في الزرع ما تقدم في المقام الثالث من صحيحة سعد بن سعد الأشعري عن الرضا عليه‌السلام قال : «سألته عن الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب متى تجب على صاحبها؟ قال إذا صرم وإذا خرص.

ثم إن المحقق في المعتبر ذكر في هذه المسألة فروعا : منها ـ أن وقت الخرص حين بدو صلاح الثمرة ، قال لأنه وقت الأمن على الثمرة من الجائحة غالبا لما روي (١) «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يبعث عبد الله بن رواحة يخرص على يهود خيبر نخلهم حين يطيب».

ومنها ـ صفة الخرص أن تقدر الثمرة لو صارت تمرا والعنب لو صار زبيبا فإن بلغ الأوساق وجبت الزكاة ثم يخيرهم بين تركه أمانة في أيديهم وبين تضمينهم حصة الفقراء أو يضمن لهم حقهم فإن اختاروا الضمان كان لهم التصرف كيف شاءوا وإن أبوا جعله أمانة ولم يجز لهم التصرف فيه بالأكل والبيع والهبة لأن فيه حق المساكين. إلى غير ذلك من الفروع المذكورة.

ثم قال في المدارك بعد نقل جملة تلك الفروع : أقول إن في كثير من هذه

__________________

(١) سنن أبي داود ج ٢ ص ١١٠ رقم ١٦٠٦.

١٣٣

الأحكام نظرا والقدر المتحقق من ذلك جواز البناء على قدر الخرص عند عدم العلم بالمقدار وجواز التصرف في الثمرة بعد الضمان ، لأن ذلك فائدة الخرص وللإجماع المنقول عليه من جماعة : منهم ـ العلامة في المنتهى ، فإنه قال : لو أكل المالك رطبا فإن كان ذلك بعد الخرص والتضمين جاز إجماعا لأن فائدة الخرص إباحة التناول ، وإن كان بعد الخرص وقبل التضمين بأن خرص عليه الخارص ولم يضمنه جاز أيضا إذا ضمن نصيب الفقراء ، وكذلك لو كان قبل الخرص إذا خرصها هو بنفسه أما مع عدم الخرص فلا. انتهى.

ثم قال في المدارك : واعلم أنا لم نقف للأصحاب على تصريح بمعنى الضمان هنا والظاهر أن المراد به العزم على أداء الزكاة ولو من غير النصاب.

أقول : إذا عرفت ذلك فاعلم أن في المقام إشكالا لم أقف على من تنبه له ولا نبه عليه ، وذلك فإنه لا ريب في صحة هذا الكلام وما فرعوه عليه من الفروع الداخلة في سلك هذا النظام بناء على ما هو المشهور من أن الوقت الذي تتعلق به الزكاة في الغلات عبارة عن بدو الصلاح وانعقاد الحب واشتداده ، وأما على القول الآخر من أن الوقت الذي تتعلق به إنما هو ما إذا صارت تمرا وزبيبا وحنطة وشعيرا فلا أعرف وجه صحة لهذا الكلام ، كيف وقد جعلوا من فروع القولين عدم جواز تصرف المالك بعد بدو الصلاح وانعقاد الحب إلا مع الخرص والتضمين بناء على القول المشهور وجوازه مطلقا على القول الآخر ، والمحقق المذكور ممن ذهب في كتبه الثلاثة إلى القول بعدم تعلق الوجوب إلا بعد التسمية بتلك الأسماء المذكورة. وفي المعتبر بعد أن صرح بذلك نقل عن الشيخ القول المشهور وفرع الفرع المذكور على القولين ثم بعد هذا بسطرين أو ثلاثة ذكر مسألة الخرص بالنحو الذي نقلناه عنه وهو من أعجب العجاب عند ذوي الألباب. ومثله صاحب المدارك فإن ظاهره في تلك المسألة اختيار قول المحقق وفي مسألة الخرص جرى على ما جرى عليه المحقق من أنه لا بد في صحة التصرف من الخرص والضمان.

١٣٤

(لا يقال) إن هذا مبني عندهم على تقدير القول المشهور (لأنا نقول) لو كان الأمر كذلك لأشاروا إليه ونبهوا عليه وكلامهم هذا كله إنما جرى على سبيل الفتوى في المسألة كغيرها من المسائل كما لا يخفى على من راجع كلامهم وما فيه من زيادة التأكيد في الحكم المذكور.

هذا. وأما ما ذكره من أخبار الخرص فمنه ما هو عامي ومنه ما لا دلالة فيه مثل خبر إرسال عبد الله بن رواحة يخرص على اليهود فإن ذلك ليس من المسألة في شي‌ء ، فإن الخبر الوارد بذلك في يهود خيبر الذين قبلهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أرضها ونخيلها بالنصف فهم شركاء بلا ريب من أول بدو الحاصل ، وإنما الأخبار الدالة على الخرص ما قدمناه من صحيحة سعد بن سعد الأشعري والروايات الآتية قريبا إن شاء الله تعالى.

المقام العاشر ـ قد صرح العلامة في التذكرة بأنه إن كانت الثمرة جنسا واحدا أخذ منه جيدا كان كالبرني وهو أجود نخيل الحجاز أو رديئا كالجعرور ومصران الفأرة ولا يطالب بغيره ، ولو تعددت الأنواع أخذ من كل نوع بحصته ولا يجوز إخراج الردي‌ء لقوله تعالى «وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ» (١) ولا يجوز أخذ الجيد عن الردي‌ء لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) «إياك وكرائم أموالهم». فإن تطوع المالك جاز ، انتهى. وهو تفصيل حسن.

ويدل على ما ذكره من عدم جواز إعطاء الردي‌ء عن الجيد روايات عديدة : منها ـ ما رواه في الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) «في قول الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ ، وَمِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ)» (٤) قال كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أمر بالنخل أن

__________________

(١ و ٤) سورة البقرة الآية ٢٧٠.

(٢) سنن ابن ماجة ج ١ ص ٥٤٣ أول الزكاة.

(٣) الوسائل الباب ١٩ من زكاة الغلات.

١٣٥

يزكى يجي‌ء قوم بألوان من التمر وهو من أردأ التمر يؤدونه من زكاتهم تمرا يقال له الجعرور والمعى‌فأرة قليلة اللحاء عظيمة النوى وكان بعضهم يجي‌ء بها عن التمر الجيد فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تخرصوا هاتين التمرتين ولا تجيئوا منهما بشي‌ء وفي ذلك نزل «وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ» والإغماض أن يأخذ هاتين التمرتين».

ورواه ابن إدريس في آخر كتاب السرائر نقلا من كتاب المشيخة للحسن ابن محبوب عن صالح بن رزين عن شهاب عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) مثله.

وروى العياشي في تفسيره عن رفاعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٢) «في قول الله عزوجل (إِلّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) (٣) فقال إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث عبد الله بن رواحة فقال لا تخرصوا أم جعرور ولا المعى‌فأرة وكان أناس يجيئون بتمر سوء فأنزل الله «وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ» وذكر أن عبد الله بن رواحة خرص عليهم تمر سوء فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا عبد الله لا تخرصوا جعرورا ولا المعى‌فأرة».

وعن إسحاق بن عمار عن جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) (٤) قال : «كان أهل المدينة يأتون بصدقة الفطر إلى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيه عذق يسمى الجعرور وعذق يسمى المعى‌فأرة كان عظيم نواهما رقيق لحاؤهما في طعمهما مرارة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للخارص لا تخرص عليهم هذين اللونين لعلهم يستحيون لا يأتون بهما فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ ... إلى قوله تُنْفِقُونَ)» (٥).

وهذه الروايات هي التي أشرنا إليها سابقا بأنها دالة على الخرص.

المقام الحادي عشر ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) الاجتزاء بالقيمة في الغلات والأنعام والنقدين ، وهو بالنسبة إلى الأنعام لا يخلو من إشكال لما قدمنا سابقا في المسألة السادسة من المسائل الملحقة بالمقام الثالث في زكاة

__________________

(١ و ٢ و ٤) الوسائل الباب ١٩ من زكاة الغلات.

(٣) سورة البقرة الآية ٢٧١.

(٥) سورة البقرة الآية ٢٧٠.

١٣٦

الغنم من أن الدليل إنما دل على ذلك في الغلات والنقدين خاصة وأما الأنعام فلم يقم على إجزاء القيمة فيها دليل ، وقد تقدم أن ذلك مذهب الشيخ المفيد وإليه يميل كلام المحقق في المعتبر. والعجب من الشيخ الحر في الوسائل أنه ترجم الباب (١) هكذا «باب جواز إخراج القيمة عن زكاة الدنانير والدراهم وغيرهما» ولم يورد من الأخبار الدالة على ذلك إلا صحيحتي علي بن جعفر والبرقي المتقدمتين (٢) المشتملة إحداهما على الغلات والثانية على النقدين ، وهذا من بعض غفلاته.

ولا ريب أن ما ذهب إليه الشيخ المفيد (قدس‌سره) هنا بمحل من القوة فإن مقتضى الأدلة وجوب إخراج الفرائض المخصوصة فلا يجوز العدول عنها إلا بدليل ، ويؤيده أيضا ظواهر جملة من الأخبار مثل خبر محمد بن مقرن وصحيحة زرارة المتقدمتين في المقام الأول من المطلب الأول (٣) في زكاة الإبل حيث دلا على أن من ليس عنده السن المفروض أعطى سنا أدنى منه وجبره بعشرين درهما أو أعلى منه بسن أعطاه واسترجع من المصدق عشرين درهما ، ولو كانت القيمة جائزة بالمعنى الذي ذكروه لأمر به عليه‌السلام عملا بسعة الشريعة المحمدية وجريا على سهولة التكليف المبني عليه قواعد تلك الملة المصطفوية. وبالجملة فالقول به يحتاج إلى الدليل وليس فليس ، وبه يظهر قوة قول الشيخ المفيد (قدس‌سره) فموافقة الشيخ المشار إليه مع كونه أخباريا للقول المشهور هنا مع ما هو عليه من القصور لا يخلو من غفلة فإنه من أرباب النصوص الذين يحومون حولها على العموم أو الخصوص

وغاية ما استدل به العلامة هنا للقول المشهور في مطولاته أن المقصود بالزكاة دفع الخلة ورفع الحاجة وهو يحصل بالقيمة كما يحصل بالعين ، فإن الزكاة إنما شرعت جبرا للفقراء ومعونة لهم وربما كانت القيمة أنفع في بعض الأوقات فاقتضت الحكمة التسويغ. ولا يخفى ما في أمثال هذه التعليلات من الضعف وعدم الصلاحية

__________________

(١) الوسائل الباب ١٤ من زكاة الذهب والفضة.

(٢) ص ٧٢.

(٣) ص ٥٢ و ٥٣.

١٣٧

لتأسيس الأحكام الشرعية عليها. نعم تصلح لأن تكون توجيها للنص وبيانا للحكمة فيه إذا ثبت.

بقي الكلام في أن ظاهر كلام الأصحاب تصريحا في مواضع وتلويحا في أخرى أن المراد بالقيمة هنا ما هو أعمّ من الدراهم والدنانير من أي جنس إذا أخرجه بحساب الدراهم والدنانير ، قال الشيخ في الخلاف : يجوز إخراج القيمة في الزكاة كلها أي شي‌ء كانت القيمة ، وتكون القيمة على وجه البدل لا على أنها أصل. انتهى

والذي تضمنه الخبران المشار إليهما آنفا اللذان هما المستند في المسألة ظاهرهما خصوص النقدين ، ففي صحيحة علي بن جعفر (١) قال : «سألته عن الرجل يعطي عن زكاته عن الدراهم دنانير وعن الدنانير دراهم؟ قال لا بأس».

وصحيحة البرقي (٢) قال : «كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه‌السلام هل يجوز أن يخرج عن ما يجب في الحرث من الحنطة والشعير وما يجب على الذهب دراهم بقيمة ما يسوى أم لا يجوز إلا أن يخرج من كل شي‌ء ما فيه؟ فأجاب عليه‌السلام أيما تيسر يخرج». والظاهر أن المراد من قوله : «أيما تيسر» يعني الأمرين المذكورين.

ويؤيده أيضا ما رواه في الكافي عن سعيد بن عمرو عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «قلت يشتري الرجل من الزكاة الثياب والسويق والدقيق والبطيخ والعنب فيقسمه؟ قال : لا يعطيهم إلا الدراهم كما أمر الله».

قال المحدث الكاشاني في كتاب الوافي ـ بعد نقل هذا الخبر على أثر الخبرين الأولين ـ ما صورته : هذا الحديث لا ينافي ما قبله لأن التبديل إنما يجوز بالدراهم والدنانير دون غيرهما. انتهى.

إلا أنه نقل المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي في كتاب الوسائل (٤)

__________________

(١) الوسائل الباب ١٤ من زكاة الذهب والفضة ، واللفظ بعد قوله «دراهم» هكذا «بالقيمة أيحل ذلك؟».

(٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ١٤ من زكاة الذهب والفضة.

١٣٨

عن كتاب قرب الإسناد لعبد الله بن جعفر الحميري أنه روى فيه عن محمد بن الوليد عن يونس بن يعقوب قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام عيال المسلمين أعطيهم من الزكاة فأشتري لهم منها ثيابا وطعاما وأرى أن ذلك خير لهم؟ قال فقال لا بأس».

وقد جمع بين هذا الخبر وما قبله بحمل الأول على استحباب الإخراج من العين وإن جاز بالقيمة كما دل عليه هذا الخبر. وفيه بعد فإن الزكاة في الخبر لا يتعين كونها من الدراهم بخصوصها حتى يصير الأمر بالدراهم من العين بل ظاهرها العموم وأن المخرج إذا أعطى على جهة القيمة فالواجب أن يكون دراهم ، وذكر الدراهم هنا خرج مخرج التمثيل فلا ينافي إعطاء الدنانير.

وبالجملة فالرواية ظاهرة في أنه لا يجوز إلا النقدان أصالة أو قيمة ، والمسألة لا تخلو من إشكال والاحتياط في الوقوف على ظواهر تلك الأخبار ويؤيده أيضا ما يأتي إن شاء الله تعالى في مسألة أقل ما يعطى الفقير من الزكاة.

ثم لا يخفى أنه على تقدير القول بالقيمة كائنا ما كان فهل يكون الاعتبار بوقت الإخراج مطلقا لأنه وقت الانتقال إليها أو يقيد ذلك بما إذا لم يقوم الزكاة على نفسه فلو قومها على نفسه وضمن القيمة فالواجب هنا ما ضمنه زاد السوق قبل الإخراج أو انخفض؟ وجهان محتملان اختار أولهما السيد السند في المدارك والفاضل الخراساني في الذخيرة وثانيهما العلامة في التذكرة ، والمسألة لا تخلو من توقف وإن كان ما ذكره العلامة أقرب لأنه متى كان التقويم جائزا والضمان صحيحا فإن المستقر في الذمة هو القيمة. وقول السيد (قدس‌سره) إن وقت الإخراج هو وقت الانتقال إلى القيمة ممنوع في هذه الصورة بل الانتقال من حين التقويم والضمان.

المقام الثاني عشر ـ لا ريب أن ما زاد من هذه الغلات على مئونة السنة فإنه يجب فيه الخمس كما صرح به جملة من الأصحاب كما سيجي‌ء تحقيقه إن شاء الله في كتاب الخمس ، ويدل على ذلك هنا ما قدمناه من رواية محمد بن علي بن شجاع المتقدمة في

١٣٩

المقام السابع من مقامات هذا المطلب (١).

بقي هنا شي‌ء وهو أن المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر في كتاب الوسائل (٢) قال : «باب استحباب إخراج الخمس من الغلات على وجه الزكاة ووجوب إخراج خمسها إن فضلت عن مئونة السنة» ثم أورد دليلا على الحكم الثاني رواية ابن شجاع المشار إليها ، وأورد على الحكم الأول ما رواه في الكافي في الموثق عن سماعة (٣) قال : «سألته عن الزكاة في الزبيب والتمر فقال في كل خمسة أوساق وسق ، والوسق ستون صاعا ، والزكاة فيهما سواء ، فأما الطعام فالعشر في ما سقت السماء وأما ما سقي بالغرب والدوالي فإنما عليه نصف العشر». وقد تبع في ذلك الشيخ (قدس‌سره) فإنه بعد أن نقل هذه الرواية عن الكافي بالإضمار وعن التهذيب بالإسناد إلى أبي عبد الله عليه‌السلام طعن فيها بالاضطراب من حيث الإضمار تارة والإظهار أخرى ثم حمله على الاستحباب تارة وعلى الخمس أخرى بإطلاق الزكاة عليه مجازا.

والأظهر في معنى الخبر المذكور ما ذكره المحدث الكاشاني في الوافي حيث قال ـ بعد رد طعن الشيخ بالاضطراب بالمنع وإن ذلك لا يوجب اضطرابا ـ ما صورته : ويحتمل أن تكون لفظة «وسق» بعد خمسة أوساق من مزيدات النساخ ولهذا ربما لا توجد في بعض نسخ الكافي. وقوله : «في كل خمسة أوساق» يعني في كل من الزبيب والتمر خمسة أوساق ، وليس الطعام بمعنى الحنطة بل ما يطعم يعني فأما الطعمة منها لأهلها أو هو مصدر فإنه جاء بمعنى الإطعام أيضا يعني فأما إطعام المستحق منها فالعشر ونصف العشر ، وعلى التقديرين فهو بيان لمقدار ما يخرج من الزبيب والتمر من غير تعرض للحنطة والشعير بوجه كما لا تعرض لهما في السؤال ، وعلى هذا فلا إشكال. انتهى. وهو وإن كان لا يخلو من بعد إلا أنه جيد في مقام التأويل.

المقام الثالث عشر ـ قد صرح جملة من الأصحاب من غير خلاف يعرف

__________________

(١) ص ١٢٤.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٥ من زكاة الغلات.

١٤٠