الحدائق الناضرة - ج ١٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٤

وليعلم أن الموثقة التي رواها الشيخ هنا قد رواها الكليني في الصحيح عندنا والحسن على المشهور في جملة حديث طويل مشتمل على جمل من الإشكال وأنا أذكر الرواية من أولها إلى آخرها وأبين منها ما وصل إليه فهمي القاصر وذهني الفاتر

وهي ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن حريز بن عبد الله عن زرارة (١) قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام رجل كان عنده مائتا درهم غير درهم أحد عشر شهرا ثم أصاب درهما بعد ذلك في الشهر الثاني عشر فكملت عنده مائتا درهم أعليه زكاتها؟ قال لا حتى يحول عليه الحول وهي مائتا درهم ، فإن كانت مائة وخمسين درهما فأصاب خمسين بعد أن يمضي شهر فلا زكاة عليه حتى يحول على المائتين الحول. قلت له فإن كانت عنده مائتا درهم غير درهم فمضى عليه أيام قبل أن ينقضي الشهر ثم أصاب درهما فأتى على الدراهم مع الدرهم حول أعليه زكاة؟ فقال نعم وإن لم يمض عليها جميعا الحول فلا شي‌ء عليه فيها. قال وقال زرارة ومحمد بن مسلم قال أبو عبد الله عليه‌السلام أيما رجل كان له مال وحال عليه الحول فإنه يزكيه. قلت فإن وهبه قبل حله بشهر أو بيوم؟ قال ليس عليه شي‌ء أبدا. قال وقال زرارة عنه عليه‌السلام إنه قال إنما هذا بمنزلة رجل أفطر في شهر رمضان يوما في إقامته ثم خرج في آخر النهار في سفر فأراد بسفره ذلك إبطال الكفارة التي وجبت عليه. وقال إنه حين رأى الهلال الثاني عشر وجبت عليه الزكاة ولكنه لو كان وهبها قبل ذلك لجاز ولم يكن عليه شي‌ء بمنزلة من خرج ثم أفطر ، إنما لا يمنع ما حال عليه فأما ما لم يحل فله منعه ولا يحل له منع مال غيره في ما قد حل عليه. قال زرارة قلت له رجل كانت له مائتا درهم فوهبها لبعض إخوانه أو ولده أو أهله فرارا بها من الزكاة فعل ذلك قبل حلها بشهر؟ فقال إذا حل الشهر الثاني عشر فقد حال عليها الحول ووجبت عليه فيها الزكاة. قلت فإن أحدث فيها قبل الحول؟ قال جائز ذلك له. قلت إنه فر بها من الزكاة؟ قال ما أدخل على نفسه أعظم من ما منع من زكاتها. فقلت له إنه يقدر عليها؟ فقال وما

__________________

(١) الوسائل الباب ٦ و ١٢ و ١١ من زكاة الذهب والفضة.

١٠١

علمه أنه يقدر عليها وقد خرجت من ملكه؟ قلت فإنه دفعها إليه على شرط؟ فقال إنه إذا سماها هبة جازت الهبة وسقط الشرط وضمن الزكاة. قلت وكيف يسقط الشرط وتمضي الهبة ويضمن الزكاة؟ فقال هذا شرط فاسد والهبة المضمونة ماضية والزكاة لازمة له عقوبة. ثم قال إنما ذلك له إذا اشترى بها دارا أو أرضا أو متاعا. قال قلت له إن أباك قال لي من فر بها من الزكاة فعليه أن يؤديها؟ فقال صدق أبي عليه أن يؤدي ما وجب عليه وما لم يجب فلا شي‌ء عليه فيه. ثم قال أرأيت لو أن رجلا أغمي عليه يوما ثم مات فذهبت صلاته أكان عليه وقد مات أن يؤديها؟ قلت لا إلا أن يكون أفاق من يومه. ثم قال لو أن رجلا مرض في شهر رمضان ثم مات فيه أكان يصام عنه؟ قلت لا. قال فكذلك الرجل لا يؤدي عن ماله إلا ما حال عليه الحول».

أقول : قوله عليه‌السلام «نعم» ـ في جواب السؤال عن من كانت عنده مائتا درهم غير درهم فمضى عليه أيام ثم أصاب درهما فأتى على الدراهم مع الدرهم حول فعليه الزكاة ـ من ما يدل بظاهره على أن المعتبر في الحول مرور الأحد عشر شهرا من غير اعتبار الأيام ، فمتى اجتمع النصاب وحصل في أثناء الشهر وإن كان في أيام متفرقة عد ذلك شهرا أولا من غير اعتبار الأيام وملاحظتها في النقصان والتمام. والظاهر إنه كذلك عند الأصحاب وإن لم أقف لهم على كلام في هذا الباب إلا أنه لم يتعرض أحد منهم للقول بالتلفيق من الشهر الأخير.

قوله عليه‌السلام : «أيما رجل كان له مال وحال عليه الحول فإنه يزكيه» الظاهر كما استظهره في الوافي أيضا أنه سقط من هذه العبارة «ثم وهبه» قبل قوله «فإنه يزكيه» كما يشير إليه قول الراوي بعد هذا الكلام «فإن وهبه قبل حله» ولعله ترك لقرينة دلالة المقام من دلالة ما بعده على ذلك ، وكيف كان فلا بد من تقدير.

قوله عليه‌السلام «إنما هذا بمنزلة رجل. إلى آخره» اسم الإشارة هنا يرجع إلى قوله «أيما رجل ...» وحاصله تشبيه الفار من الزكاة بعد أن حال عليه الحول بمن

١٠٢

أفطر في شهر رمضان متعمدا ووجبت عليه الكفارة ثم سافر في نهاره ذلك لإسقاط الكفارة بعد ما تحقق وجوبها فإنه غير نافع في سقوطها ، والحال كذلك في من حال على ماله الحول ووجبت فيه الزكاة ثم وهبه فرارا من الزكاة فإن ذلك لا يسقط الزكاة بعد وجوبها ، وكما أن هذه الحيلة في الصيام لا تفيد نفعا في سقوط الكفارة كذلك في الزكاة ، بخلاف من وهب ماله قبل الحول فإن حيلته تفيد سقوط الزكاة ، كمن سافر في شهر رمضان قاصدا بسفره التوصل إلى الإفطار فإنه يجوز له الإفطار ولا كفارة.

قوله عليه‌السلام : «إنما لا يمنع ما حال عليه ...» الظاهر أن معناه أن المال الذي لا يمنع الفرار من إخراج الزكاة منه هو المال الذي حال عليه الحول بل تجب عليه الزكاة البتة إذ لا يحل له منع مال غيره وهو حصة أرباب الزكاة بخلاف ما لم يحل عليه الحول.

قوله : «قال زرارة قلت له رجل كانت له مائتا درهم فوهبها لبعض إخوانه» هذا هو مستند الأصحاب (رضوان الله عليهم) في جعل الحول الشرعي أحد عشر شهرا. ومثله قوله سابقا : «وقال إنه حين رأى الهلال الثاني عشر وجبت عليه الزكاة» وقد عرفت سابقا ما فيه ولا سيما معارضة صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة (١) لذلك.

قوله : «قلت إنه فر بها من الزكاة؟ قال ما أدخل على نفسه أعظم من ما منع» صريح الدلالة في ما ذهب إليه من جوز الفرار قبل الحول وأنه غير موجب للزكاة كما يدعيه أهل القول الآخر ، فهو من جملة أدلة القول المشار إليه.

قوله : «قلت له إنه دفعها إليه على شرط» لا يخفى ما فيه من الغموض والإشكال الذي تحيرت فيه فحول الرجال ، وذلك فإن هذا الشرط المذكور غير معلوم بأيّ معنى هو ، وما ذكر أيضا من ضمان الزكاة على تقدير الهبة ـ والحال أن الهبة إنما

__________________

(١) ص ٧٥.

١٠٣

وقعت قبل الحول كما هو مقتضى سياق الكلام ـ مناف لما تقدم من أنه لا يلزمه زكاة في هذه الحال ، ووجه لزوم الزكاة هنا عقوبة إن أريد به من حيث قصد الفرار فهو مناف لما تقدم من الجواز وعدم الزكاة وإلا فلا يعلم لهذه العقوبة سبب. والفرق في ذلك ـ بين الهبة وشراء الدار والأرض والمتاع مع قصد الفرار في الجميع ـ غير ظاهر.

وأما حمل الكلام على ما إذا كانت الهبة بعد الحول كما صار إليه بعض محققي متأخري المتأخرين فهو بعيد عن سياق الكلام ، ولا يلائمه أيضا كون الزكاة عقوبة لأنها حينئذ واجبة بأصل الشرع ، ولا يلائمه أيضا الفرق بين الهبة وشراء الدار ونحوها.

ويمكن أن يقال ـ والله سبحانه وقائله أعلم بحقيقة الحال ـ إن المعنى إنه لما أخبر عليه‌السلام بأنه متى وهبها قبل الحول فرارا من الزكاة فلا شي‌ء عليه قال له الراوي إنه يقدر على أخذها بعد حول الحول ، أجابه عليه‌السلام بأنه كيف يقدر عليها وقد خرجت من ملكه بالهبة؟ قال له الراوي إنه وهبها بشرط يقتضي رجوعه فيها متى أراد ، فأجابه عليه‌السلام متى كان كذلك فالهبة صحيحة وهذا الشرط فاسد لمنافاته الهبة وتجب عليه الزكاة حينئذ عقوبة لهذا الشرط.

ثم إنه فرق بين الهبة على هذه الكيفية وبين شراء الدار ونحوها باعتبار أنه في الهبة شرط رجوعها فهذا الشرط أوجب عليه العقوبة بوجوب الزكاة وأما الشراء ونحوه فإنه من الأمور السائغة الجائزة والحال أن الشراء وقع قبل الحول كما هو المفروض.

قوله : «قال زرارة قلت له إن أباك ...» الظاهر أنه رجوع إلى الكلام الأول ولا تعلق له بهذه الجملة المتوسطة التي هي محل الإشكال ، حيث إن مقتضى الكلام الأول أن الفرار قبل الحول غير موجب للزكاة ، ومراده أن ما ذكرته من عدم الزكاة على من قصد الفرار قبل الحول مناف لما قال أبوك من أن من فر بها من

١٠٤

الزكاة فعليه أن يؤديها ، أجابه عليه‌السلام بأن كلام أبي ليس صريحا في ما تدعيه وإنما مراده من قصد الفرار بعد الحول والوجوب فعليه أن يؤدي ما وجب عليه.

وجملة من المتأخرين حملوا تلك الروايات الأخيرة الدالة على وجوب الزكاة متى قصد الفرار على هذه الرواية بمعنى الوجوب بعد الحول.

وفيه ما عرفت آنفا من ظهور تلك الروايات في المعنى الذي ذهب إليه من استدل بها وأنها ظاهرة في كون قصد الفرار قبل الحول ، وهو الذي فهمه جملة القائلين بمضمونها ، وكذا القائلين بحملها على الاستحباب فإنه لو لا ظهورها في ذلك لما كان لهذا الاستحباب معنى.

وبالجملة فالمسألة لا تخلو من الإشكال لظهور أخبار الطرفين في كل من القولين والظاهر أن أخبار أحد الطرفين إنما خرجت مخرج التقية وإن كان العامة في ذلك على قولين أيضا ، فذهب مالك وأحمد إلى الوجوب والشافعي وأبو حنيفة إلى عدم الوجوب (١) إلا أنه غير معلوم عندي كون التقية في أي الطرفين.

والسيد المرتضى (قدس‌سره) في الانتصار لما اختار القول بالوجوب كما تقدم في مسألة معاوضة بعض الأنعام ببعض حمل أخبار عدم الوجوب على التقية إلا أن للخصم أيضا أن يحمل أخبار الوجوب على ذلك أيضا.

ويمكن ترجيح ما ذكره (قدس‌سره) بأن مذهب أبي حنيفة في زمانه كان مشهورا معمولا عليه بين خلفاء الجور وقضاة ذلك الوقت ، وتلامذته المروجون لمذهبه مثل أبي يوسف ونحوه مشهورون أيضا ، وأما أحمد ومالك فإنهما في ذلك الوقت ليسا إلا كسائر العلماء ليس لهما مذهب مشهور ولا قول مذكور وإنما وقع الاصطلاح على مذهبهما مع ذينك الآخرين في الأعصار الأخيرة في ما يقرب من السنة الستمائة كما ذكره علماء الفريقين وبيناه في كتاب سلاسل الحديد. وبذلك يظهر

__________________

(١) في المغني ج ٣ ص ١١ «ما اتخذ حلية فرارا من الزكاة لا يسقط عنه» وفي المهذب للشيرازي الشافعي ج ١ ص ٣٥٥ ما يظهر منه عدم الوجوب وكذا في البدائع للكاساني الحنفي ج ٢ ص ١٥.

١٠٥

قوة القول بالوجوب ، ويعضده الاحتياط أيضا. والله العالم.

المطلب الثالث في زكاة الغلات ، والكلام في هذا المطلب يقع في مقامات :

المقام الأول ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب الزكاة في الغلات الأربع المشهورة وهي التمر والزبيب والحنطة والشعير ، إنما الخلاف في ما زاد على هذه الأربع من ما دخله الكيل والوزن كالأرز والدخن والسمسم ونحوها ، فالأشهر الأظهر إنه لا زكاة فيها ، ونقل عن ابن الجنيد القول بالوجوب فيها ، وحكاه الكليني والشيخ عن يونس بن عبد الرحمن من قدماء أصحابنا.

ومن ما يدل على المشهور صحيحة الفضلاء الحسنة على المشهور عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما‌السلام) (١) قالا : «فرض الله الزكاة مع الصلاة في الأموال وسنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في تسعة أشياء وعفا عن ما سواهن : في الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والحنطة والشعير والتمر والزبيب ، وعفا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ما سوى ذلك».

وفي الموثق عن زرارة (٢) قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن صدقات الأموال فقال في تسعة أشياء ليس في غيرها شي‌ء : في الذهب والفضة والحنطة والشعير والتمر والزبيب والإبل والبقر والغنم السائمة وهي الراعية. الحديث».

وفي الموثق عن زرارة وبكير ابني أعين عن أبي جعفر عليه‌السلام (٣) قال : «ليس في شي‌ء أنبتت الأرض من الأرز والذرة والحمص والعدس وسائر الحبوب والفواكه غير هذه الأربعة الأصناف وإن كثر ثمنه زكاة إلا أن يصير مالا يباع بذهب أو فضة تكنزه ثم يحول عليه الحول وقد صار ذهبا أو فضة فتؤدى عنه من كل مائتي درهم خمسة دراهم ومن كل عشرين دينارا نصف دينار».

وفي الموثق عن عبد الله بن بكير عن محمد بن الطيار (٤) قال : «سألت

__________________

(١ و ٢ و ٤) الوسائل الباب ٨ من ما تجب فيه الزكاة.

(٣) الوسائل الباب ٩ من ما تجب فيه الزكاة.

١٠٦

أبا عبد الله عليه‌السلام عن ما تجب فيه الزكاة فقال في تسعة أشياء : الذهب والفضة والحنطة والشعير والتمر والزبيب والإبل والبقر والغنم ، وعفا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ما سوى ذلك. فقلت أصلحك الله فإن عندنا حبا كثيرا؟ قال فقال وما هو؟ قلت الأرز قال نعم ما أكثره. فقلت أفيه الزكاة؟ قال فزبرني ، قال ثم قال أقول لك إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عفا عن ما سوى ذلك وتقول لي إن عندنا حبا كثيرا أفيه الزكاة؟». إلى غير ذلك من الأخبار التي يضيق بنقلها المقام.

وأما ما يدل على القول الثاني فأخبار عديدة : منها ـ صحيحة علي بن مهزيار (١) قال «قرأت في كتاب عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عليه‌السلام جعلت فداك روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الزكاة على تسعة أشياء : الحنطة والشعير والتمر والزبيب والذهب والفضة والغنم والبقر والإبل وعفا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ما سوى ذلك. فقال له القائل عندنا شي‌ء كثير يكون أضعاف ذلك؟ فقال وما هو؟ فقال له الأرز. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام أقول لك إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وضع الزكاة على تسعة أشياء وعفا عن ما سوى ذلك وتقول عندنا أرز وعندنا ذرة وقد كانت الذرة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فوقع عليه‌السلام كذلك هو والزكاة على كل ما كيل بالصاع».

وكتب عبد الله وروى غير هذا الرجل عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٢) «أنه سأله عن الحبوب فقال وما هي؟ فقال السمسم والأرز والدخن ، وكل هذا غلة كالحنطة والشعير. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام في الحبوب كلها زكاة».

وروي أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) أنه قال : «كل ما دخل القفيز فهو يجري مجرى الحنطة والشعير والتمر والزبيب. قال فأخبرني جعلت فداك هل على هذا الأرز وما أشبهه من الحبوب والحمص والعدس زكاة؟ فوقع عليه‌السلام صدقوا الزكاة في كل شي‌ء كيل».

__________________

(١) الوسائل الباب ٨ من ما تجب فيه الزكاة.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٩ من ما تجب فيه الزكاة.

١٠٧

وما رواه في الكافي عن أبي مريم عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «سألته عن الحرث ما يزكى منه؟ فقال البر والشعير والذرة والأرز والسلت والعدس كل هذا من ما يزكى. وقال كل ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق فعليه الزكاة».

وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن بإبراهيم بن هاشم عن محمد بن مسلم (٢) قال : «سألته عن الحبوب ما يزكى منها؟ فقال البر والشعير والذرة والدخن والأرز والسلت والعدس والسمسم كل هذا يزكى وأشباهه». ورواه في الكافي والتهذيب عن حريز عن زرارة مثله (٣) وقال : كل ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق فعليه الزكاة. قال : وجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الصدقة في كل شي‌ء أنبتته الأرض إلا الخضر والبقول وكل شي‌ء يفسد من يومه.

وما رواه في التهذيب في الموثق عن أبي بصير (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام هل في الأرز شي‌ء؟ فقال نعم ، ثم قال إن المدينة لم تكن يومئذ أرض أرز فيقال فيه ولكنه قد حصل فيه ، كيف لا يكون فيه وعامة خراج العراق منه؟». إلى غير ذلك من الأخبار إلا أنها أقل عددا من الأولى.

والأصحاب قد جمعوا بين الأخبار بحمل هذه الأخبار الأخيرة على الاستحباب كما هي قاعدتهم وعادتهم في جميع الأبواب ، وقد عرفت ما فيه في غير مقام.

والأظهر عندي حمل هذه الأخبار الأخيرة على التقية التي هي في اختلاف الأحكام الشرعية أصل كل بلية ، فإن القول بوجوب الزكاة في هذه الأشياء مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك وأبي يوسف ومحمد (٥) كما نقله في المنتهى.

ويدل على ذلك ما رواه الصدوق (عطر الله مرقده) في كتاب معاني الأخبار بإسناده عن أبي سعيد القماط عن من ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٦) : «أنه سئل عن

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٩ من ما تجب فيه الزكاة.

(٥) الأم ج ٢ ص ٢٩ وبدائع الصنائع ج ٢ ص ٥٩ والمدونة ج ١ ص ٢٨٨.

(٦) الوسائل الباب ٨ من ما تجب فيه الزكاة.

١٠٨

الزكاة فقال وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الزكاة على تسعة وعفا عن ما سوى ذلك : الحنطة والشعير والتمر والزبيب والذهب والفضة والبقر والغنم والإبل. فقال السائل : والذرة؟ فغضب عليه‌السلام ثم قال كان والله على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله السماسم والذرة والدخن وجميع ذلك. فقال إنهم يقولون إنه لم يكن ذلك على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنما وضع على تسعة لما لم يكن بحضرته غير ذلك؟ فغضب وقال كذبوا فهل يكون العفو إلا عن شي‌ء قد كان ، فلا والله لا أعرف شيئا عليه الزكاة غير هذا فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». وهو كما ترى صريح الدلالة في قول المخالفين يومئذ بوجوب الزكاة في هذه الأشياء فيجب حمل ما دل على ذلك في ما عدا التسعة على التقية.

ومن ما يستأنس به لذلك صحيحة علي بن مهزيار المتقدمة حيث إنه أقر السائل على ما نقله عن أبي عبد الله عليه‌السلام في صدر الخبر من تخصيص الوجوب بالتسعة المذكورة والعفو عن ما سواها وإنكاره على السائل لما راجعه في الأرز ومع هذا قال له «الزكاة في كل ما كيل بالصاع» فلو لم يحمل كلامه (عليه‌السلام) على التقية للزم التناقض بين الكلامين وهو من ما يجل عنه ، وهذا بحمد الله ظاهر لكل ناظر

ولو كان ما يدعونه حقا من أن أخبار الوجوب إنما خرجت عنهم (عليهم‌السلام) مرادا بها الاستحباب وأنه لا تناقض ولا تدافع بين الأخبار في هذا الباب لما خفي هذا المعنى على أصحاب الأئمّة المعاصرين لهم (عليهم‌السلام) ولما احتاجوا إلى عرض هذه الأخبار المنقولة عن المتقدمين على المتأخرين منهم (عليهم‌السلام) ومع تسليم خفاء ذلك عليهم فالأظهر في الجواب هنا لما عرض السائل عليه اختلاف الأخبار أن يقال إن هذه الأخبار ليست مختلفة كما توهمت بل المراد بما ظاهره الوجوب في ما عدا التسعة إنما هو الاستحباب لا أنه (عليه‌السلام) يقر السائل على الحصر في التسعة كما عرفت ومع هذا يوجب عليه إخراج الزكاة في ما زاد على التسعة ويقرره على ما نقله من الأخبار الدالة على الوجوب بقوله «صدقوا الزكاة في كل شي‌ء كيل» وجميع هذا بحمد الله سبحانه ظاهر لمن نظر بعين الإنصاف

١٠٩

وجانب التعصب والاعتساف (١).

وأما ما نقل عن يونس بن عبد الرحمن في الجمع بين الأخبار من حمل أخبار التسعة على صدر الإسلام وحمل ما زاد عليها على ما بعد ذلك ففيه ما ذكره الشيخ (قدس‌سره) حيث قال بعد حمل الأخبار على الاستحباب : ولا يمكن حمل هذه الأخبار يعني ما دل على التسعة على ما ذهب إليه يونس بن عبد الرحمن من أن هذه التسعة كانت الزكاة عليها في أول الإسلام ثم أوجب الله تعالى بعد ذلك في غيرها من الأجناس ، لأن الأمر لو كان كما ذكره لما قال الصادق (عليه‌السلام) عفا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ما سوى ذلك لأنه إذا أوجب في ما عدا هذه التسعة أشياء بعد إيجابه في التسعة لم يبق شي‌ء معفو عنه ، فهذا القول واضح البطلان. انتهى وهو جيد. وبالجملة فالحمل على التقية في هذا المقام من ما لا يعتريه نقض ولا إبرام.

المقام الثاني ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في اشتراط النصاب في زكاة الغلات وأنه خمسة أوسق والوسق ستون صاعا.

ويدل عليه روايات عديدة : منها ـ صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام (٢) قال : «ما أنبتت الأرض من الحنطة والشعير والتمر والزبيب ما بلغ خمسة أوساق ـ والوسق ستون صاعا فذلك ثلاثمائة صاع ـ ففيه العشر ، وما كان منه يسقى بالرشاء والدوالي والنواضح ففيه نصف العشر ، وما سقت السماء أو السيح أو كان بعلا ففيه العشر تاما ، وليس في ما دون الثلاثمائة صاع شي‌ء ، وليس في ما أنبتت الأرض شي‌ء إلا في هذه الأربعة أشياء».

وصحيحة سعد بن سعد (٣) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن أقل ما يجب

__________________

(١) قوله «ولو كان ما يدعونه حقا. إلى هنا» أخذناه من النسخة الخطية وليس في المطبوعة نعم فيها علامة على قوله «وهذا بحمد الله ظاهر لكل ناظر» ربما تشير إلى نقص في العبارة.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ١ من زكاة الغلات.

١١٠

فيه الزكاة من البر والشعير والتمر والزبيب؟ فقال خمسة أوساق بوسق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت كم الوسق؟ فقال ستون صاعا. فقلت وهل على العنب زكاة أو إنما تجب عليه إذا صيره زبيبا؟ قال نعم إذا خرصه أخرج زكاته».

وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «ليس في ما دون خمسة أوساق شي‌ء والوسق ستون صاعا». إلى غير ذلك من الأخبار المستفيضة.

ولا نصاب آخر بعد هذا إجماعا بل كل ما زاد على هذا النصاب قليلا كان أو كثيرا فإنه يجب أن يزكى.

وربما استدل على ذلك بموثقة إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم عليه‌السلام (٢) قال : «سألته عن الحنطة والتمر عن زكاتهما فقال العشر ونصف العشر : العشر من ما سقت السماء ونصف العشر من ما سقي بالسواني. فقلت ليس عن هذا أسألك إنما أسألك عن ما خرج منه قليلا كان أو كثيرا أله حد يزكى ما خرج منه؟ فقال يزكى ما خرج منه قليلا كان أو كثيرا من كل عشرة واحد ومن كل عشرة نصف واحد. قلت فالحنطة والتمر سواء؟ قال نعم». بحمل الخبر المذكور على أن المراد بالقليل والكثير يعني ما بعد الخمسة أوساق ، ولا بأس به.

وأما ما ورد في شواذ الأخبار من أن النصاب وسق كما في بعض أو وسقان كما في آخر (٣) فقد حمله الشيخ ومن تأخر عنه على الاستحباب ، والأظهر الحمل على التقية وإن لم يكن بذلك مصرح من العامة مع أن أبا حنيفة لا يعتبر النصاب بل يوجب الزكاة في كل ما خرج قليلا كان أو كثيرا (٤) ومنه يعلم أيضا قرب حمل موثقة إسحاق ابن عمار المتقدمة على التقية وإن كان الشيخ وأتباعه حملوها على ما قدمناه. واحتملوا

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من زكاة الغلات.

(٢) التهذيب ج ١ ص ٣٥٢ وفي الوسائل ٤ و ٣ من زكاة الغلات.

(٣) الوسائل الباب ٣ من زكاة الغلات.

(٤) بدائع الصنائع ج ٢ ص ٥٩.

١١١

أيضا حملها على الاستحباب.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أن الصاع أربعة أمداد وعليه تدل جملة من الأخبار : منها ـ صحيحة عبد الله بن سنان الواردة في الفطرة (١) حيث قال فيها «صاع من تمر أو صاع من شعير والصاع أربعة أمداد». ونحوها صحيحة الحلبي (٢).

وصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام (٣) قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضأ بمد ويغتسل بصاع ، والمد رطل ونصف والصاع ستة أرطال». ومقتضاها أن الصاع أربعة أمداد.

وقد ذكروا أيضا تقدير الصاع بالأرطال وأنه ستة أرطال بالمدني وتسعة بالعراقي ، وتدل عليه رواية جعفر بن إبراهيم بن محمد الهمداني الواردة في زكاة الفطرة عن أبي الحسن عليه‌السلام (٤) وفيها «الصاع ستة أرطال بالمدني وتسعة أرطال بالعراقي وأخبرني أنه يكون بالوزن ألفا ومائة وسبعين وزنة».

ورواية علي بن بلال (٥) قال «كتبت إلى الرجل عليه‌السلام أسأله عن الفطرة وكم تدفع؟ قال فكتب ستة أرطال من تمر بالمدني وذلك تسعة أرطال بالبغدادي».

ومن ذلك علم المد وأنه رطلان وربع بالعراقي ورطل ونصف رطل بالمدني ، وقدر أيضا بالدراهم وهو ألف ومائة وسبعون درهما كما تضمنته رواية الهمداني المتقدمة أيضا وإن عبر عن الدرهم بالوزنة ، وقد روى هذا الخبر في كتاب عيون الأخبار (٦) وذكر الدرهم عوض الوزنة.

وأما الرطل فالمدني منه ما كان وزنه مائة وخمسة وتسعين درهما ، وأما العراقي

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ١ ص ٣٧١ وفي الوسائل الباب ٦ من زكاة الفطرة.

(٣) الوسائل الباب ٥٠ من الوضوء.

(٤ و ٥) الوسائل الباب ٧ من زكاة الفطرة.

(٦) ص ١٧٢ وفي الوسائل الباب ٧ من زكاة الفطرة.

١١٢

فالمشهور أن وزنه مائة وثلاثون درهما ، وذكر العلامة في التحرير وموضع من المنتهى أن وزنه مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم. والظاهر أنه سهو من قلمه (رحمة الله عليه) وأنه تبع فيه بعض العامة (١) كما احتمله بعض أصحابنا ويدل على المشهور

رواية إبراهيم بن محمد الهمداني (٢) قال : «اختلفت الروايات في الفطرة فكتبت إلى أبي الحسن صاحب العسكر عليه‌السلام أسأله عن ذلك فكتب عليه‌السلام أن الفطرة صاع من قوت بلدك. إلى أن قال تدفعه وزنا ستة أرطال برطل المدينة ، والرطل مائة وخمسة وتسعون درهما ، تكون الفطرة ألفا ومائة وسبعين درهما». والتقريب أن الرطل العراقي ثلثا الرطل المدني.

ونحوها رواية جعفر بن إبراهيم المتقدمة الدالة مثل هذه على أن الصاع ألف ومائة وسبعون درهما ، وهذا إنما يتم على ما ذكرناه من القول المشهور دون ما ذهب إليه العلامة.

بقي الكلام في أنه قد روى الشيخ في التهذيب عن سليمان بن حفص المروزي (٣) قال : قال أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه‌السلام) ورواه في الفقيه مرسلا (٤) قال : «قال أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه‌السلام) الغسل بصاع من ماء والوضوء بمد من ماء وصاع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خمسة أمداد والمد وزن مائتين وثمانين درهما والدرهم وزن ستة دوانيق والدانق وزن ست حبات والحبة وزن حبتي شعير من أوساط الحب لا من صغاره ولا من كباره».

وهذا الخبر من مشكلات الأخبار ومعضلات الآثار لاشتماله على مخالفات عديدة لما عليه علماء الأمصار وما وردت به الأخبار عن الأئمّة الأطهار (عليهم‌السلام) :

__________________

(١) المغني ج ٢ ص ٧٠٠ ، وفي المجموع شرح المهذب ج ٦ ص ١٦ بعد تقديره بذلك قال وقيل مائة وثلاثون درهما وبه قطع الغزالي والرافعي.

(٢) الوسائل الباب ٨ و ٧ من زكاة الفطرة.

(٣ و ٤) الوسائل الباب ٥٠ من الوضوء.

١١٣

ومنها ـ بيان قدر الصاع فإنه كما عرفت من الأخبار وبه صرح جملة العلماء أربعة أمداد وهذا الخبر دل على أنه خمسة أمداد ، ومثله في هذه المخالفة موثقة سماعة (١) قال : «سألته عن الذي يجزئ من الماء للغسل؟ فقال اغتسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بصاع وتوضأ بمد ، وكان الصاع على عهده خمسة أمداد وكان المد قدر رطل وثلاث أواق». وفي هذه الرواية أيضا مخالفة أخرى في المد حيث إنه كما عرفت رطلان وربع بالعراقي ورطل ونصف بالمدني.

ومنها ـ في المد فإن المشهور أنه مائتا درهم واثنان وتسعون درهما ونصف درهم لأنك قد عرفت من الأخبار المتقدمة أن الصاع ألف درهم ومائة وسبعون درهما والصاع أربعة أمداد فيكون المد بقدر ربع هذا المذكور وهو ما ذكرناه ، وعلى تقدير ما ذكره من أن الصاع خمسة أمداد فالمد خمس هذا المذكور وهو مائتان وأربعة وثلاثون درهما ، وهو لا ينطبق على ما ذكروه أيضا.

ومنها ـ في الدانق وقد عرفت من ما مضى في نصاب النقدين أن الدانق ثمان حبات من أوساط حب الشعير ونقل على ذلك اتفاق الخاصة والعامة (٢) وعلى تقديره فالدرهم ثمان وأربعون شعيرة ، وهذه الرواية قد تضمنت أنه اثنتا عشرة حبة من أوساط حب الشعير وعليه فيكون الدرهم اثنين وسبعين حبة من الشعير.

وبالجملة فظاهر الأصحاب الاتفاق على طرح هذا الخبر وكذا خبر سماعة لما عرفت من المخالفة للأخبار وكلام علماء الطرفين وكذا كلام أهل اللغة.

والشيخ في الإستبصار قد أجاب عنهما بالنسبة إلى الصاع وتفسيره بخمسة أمداد بأجوبة أقربها وإن كان لا يخلو من بعد أيضا حمل الخمسة الأمداد فيهما على ما إذا شارك صلى‌الله‌عليه‌وآله بعض أزواجه في الغسل ، ثم استدل بالأخبار الدالة على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله اغتسل مع زوجته بخمسة أمداد من إناء واحد.

__________________

(١) الوسائل الباب ٥٠ من الوضوء.

(٢) ارجع إلى التعليقة ١ ص ٩١.

١١٤

والأظهر في الجواب وإن لم يهتد إليه سوى شيخنا الصدوق من الأصحاب هو ما يظهر منه (قدس‌سره) في كتاب معاني الأخبار (١) من الفرق بين صاع الغسل وصاع الفطرة ، حيث قال (باب معنى الصاع والمد والفرق بين صاع الماء ومده وبين صاع الطعام ومده) ثم ذكر رواية المروزي ورواية الهمداني المتقدمة وهي الأولى الدالة على أن الصاع ستة أرطال بالمدني وتسعة بالعراقي المشعرة من حيث ذلك بكون الصاع أربعة أمداد لأن المد رطل ونصف بالمدني ورطلان وربع بالعراقي ، وظاهره حمل رواية المروزي على صاع الماء ورواية الهمداني على صاع الطعام وبذلك يندفع عنه ما أورد عليه في كتاب من لا يحضره الفقيه (٢) من إيراده رواية المروزي في باب الغسل الدالة على أن الصاع خمسة أمداد وإيراده في زكاة الفطرة من الكتاب (٣) رواية الهمداني المتقدمة الدالة على أن الصاع أربعة أمداد مع ما يظهر من كلامه في أول كتابه من الإفتاء بما يرويه فيه.

وتوضيح الفرق المذكور على ما ذكره بعض مشايخنا (رضوان الله عليهم) أن المد والرطل والصاع كانت يومئذ مكاييل معينة فقدرت بوزن الدراهم ونحوها صونا عن تطرق التغيير الذي كثيرا ما يتطرق إلى المكاييل ، ومن الظاهر أن الأجسام المختلفة يختلف قدرها بالنسبة إلى مكيال معين فلا يمكن أن يكون الصاع من الماء موافقا للصاع من الحنطة والشعير وشبههما ، فلذا كان الصاع المعتبر في وزن الماء لأجل الوضوء والغسل وأمثالهما أثقل من ما ورد في الفطرة ونصاب الزكاة ونحوهما لكون الماء أثقل من الحبوب مع تساوي الحجم كما هو معلوم. فظهر أن هذا الوجه أوجه الوجوه في الجمع بين الأخبار.

أقول : ما ذكرناه من الجواب عن هذا الإشكال من ما تنبه له شيخنا المجلسي (قدس‌سره) في كتاب البحار حيث قال ـ بعد ذكر الخبر المذكور وما خالفه من الأخبار الدالة على أن الصاع أربعة أمداد ـ ما صورته : ويمكن الجمع بينها بوجوه :

__________________

(١) ص ٢٤٩.

(٢) ج ١ ص ٢٣.

(٣) ج ٢ ص ١١٥.

١١٥

الأول ما اختاره الصدوق (قدس‌سره) كما يظهر من الفقيه بحمل خبر المروزي على صاع الغسل وخبر الهمداني على صاع الفطرة حيث ذكر الأول في باب الغسل والثاني في باب الفطرة ، وقد غفل الأصحاب عن هذا ولم ينسبوا هذا القول إليه مع أنه قد صرح بذلك في كتاب معاني الأخبار. ثم ذكر نحوا من ما قدمنا ذكره وأوضحه ووجهه بما قدمنا نقله عنه. وهو جيد بالنسبة إلى المخالفة الحاصلة من روايتي المروزي وسماعة إلا أنه لا يتمشى له في مثل صحيحة زرارة المتقدمة في المقام (١) الدالة على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتوضأ بمد ويغتسل بصاع ثم فسر عليه‌السلام المد برطل ونصف والصاع بستة أرطال ، فإنها ظاهرة في كون الصاع فيها إنما هو صاع الماء مع أنه فسره بما يرجع إلى الأربعة الأمداد ، لأن الأرطال فيه محمولة على الأرطال المدنية والصاع بستة أرطال فيها والمد برطل ونصف وهو ظاهر في الأربعة الأمداد لا الخمسة. ونحو هذه الصحيحة غيرها أيضا. وحينئذ فلا يتم ما ذكره الصدوق من حمل صاع الماء على ما يسع خمسة أمداد ولا ما ذكره من التوجيه لكلامه لانتقاضه بالصحيحة المذكورة ونحوها.

هذا. وأما باقي الإشكالات في الخبر فلا أعرف للجواب عنها وجها ولم أقف على من تعرض للجواب عنها بل قل من تعرض لذكرها وهي مرجوعة إلى قائلها ، والله العالم.

المقام الثالث ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في الوقت الذي تتعلق به الزكاة في الغلات مع الاتفاق على أن وجوب الإخراج إنما هو بعد التصفية فالمشهور كما ذكره العلامة في المختلف وغيره هو بدو الصلاح في النخل بالاحمرار والاصفرار واشتداد الحب في غيره ، وقيل إنه عبارة عن ما يصدق عليه التسمية بكونه تمرا أو زبيبا أو حنطة أو شعيرا ، وهو منقول عن ابن الجنيد واختاره المحقق في كتبه الثلاثة وحكاه العلامة في المنتهى عن أبيه أنه كان يذهب إليه ، وإليه يميل

__________________

(١) ص ١١٣.

١١٦

كلام صاحب المدارك وصاحب الذخيرة.

قالوا : وتظهر الفائدة في ما لو تصرف المالك بعد بدو الصلاح وانعقاد الحب وقبل البلوغ إلى حد التسمية بتلك الأسماء المذكورة ، فإنه على المشهور لا يجوز إلا بعد الخرص وضمان الزكاة لتحقق الوجوب يومئذ ، وعلى القول الآخر يجوز التصرف ما لم تبلغ الحد المذكور. وكذا تظهر الفائدة في ما لو نقلها إلى غيره في تلك الحال أيضا ، فعلى المشهور تجب الزكاة على الناقل لتحقق الوجوب في ملكه ، وعلى القول الآخر إنما تتعلق بمن بلغت ذلك الحد في ملكه.

وظواهر الأخبار المتقدمة في قصر ما تجب فيه الزكاة في الأصناف التسعة التي من جملتها الحنطة والشعير والتمر والزبيب من ما يؤيد القول الثاني إذ من الظاهر أنه لا يصدق شي‌ء من هذه الأسماء بمجرد الاحمرار والاصفرار ولا بمجرد انعقاد الحب.

واستدل بعض الأصحاب لهذا القول أيضا بصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام (١) : «أنه سأله عن البستان لا تباع غلته ولو بيعت بلغت غلته مالا فهل تجب فيه صدقة؟ فقال لا إذا كانت تؤكل». وأيده أيضا بحسنة محمد بن مسلم (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن التمر والزبيب ما أقل ما تجب فيه الزكاة؟ قال خمسة أوساق ويترك معا فارة وأم جعرور ولا يزكيان وإن كثرا».

قال : والمستفاد منها أن الزكاة لا تجب في هذين النوعين ، وقد يقال الوجه فيه تعارف أكل هذين النوعين قبل صيرورتهما تمرا فيكون مضمونه موافقا لما رواه الشيخ عن علي بن جعفر في الصحيح. وأورد الرواية المتقدمة ثم قال : ويصلحان حجة لمن يعتبر في ثبوت الزكاة صدق اسم التمر. انتهى.

أقول : فيه أن الظاهر من صحيحة علي بن جعفر المذكورة أن المراد من

__________________

(١) الوسائل الباب ٨ من زكاة الغلات.

(٢) الوسائل الباب ١ من زكاة الغلات.

١١٧

غلة البستان إنما هو ما عدا الأجناس الزكوية من الفواكه من ما يؤكل عادة ويفسد بعد نضجه وبلوغه لو لم يؤكل عاجلا ، وإليه الإشارة بقوله عليه‌السلام «لا إذا كان يؤكل» أي لا تجب فيه الزكاة إذا كان من ما يعتاد أكله بعد نضجه والبلوغ إلى حده ، ومثلها في ذلك حسنة محمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما‌السلام) (١) «في البستان تكون فيه الثمار ما لو بيع كان بمال هل فيه الصدقة؟ قال لا». فإن المراد به ما ذكرناه قطعا من تلك الفواكه التي لا تتعلق بها الزكاة ، وإن لم يكن ما ذكرناه متعينا بقرينة الرواية الأخرى فلا أقل أن يكون مساويا لما ذكره وبه لا يتم الاستدلال. وأما حمل حسنة محمد بن مسلم التي ذكرها على ما ذكره من أن عدم وجوب الزكاة فيها لتعارف أكلها قبل بلوغها الحد المذكور فالظاهر أنه ليس كذلك بل الظاهر من جملة من الأخبار إنما هو لأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدم خرصها ، فمعنى تركها في الخبر إنما هو عدم خرصها على أرباب النخيل ، وستأتي الأخبار الصريحة الدالة على ما قلناه إن شاء الله تعالى في بعض المقامات الآتية.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنا لم نقف على حجة للقول المشهور يعتد بها وغاية ما استدل به العلامة في المنتهى دعوى تسمية الحب إذا اشتد حنطة وشعيرا وتسمية البسر تمرا وأن أهل اللغة نصوا على أن البسر نوع من التمر والرطب نوع من التمر.

ولم نقف على ما يدعيه من كلام أهل اللغة إلا على ما ذكره في القاموس في مادة (بسر) حيث قال : والتمر قبل إرطابه والواحدة بسرة. ولكن كلام أكثر أهل اللغة على خلافه واحتمال التجوز في كلامه قائم كما لا يخفى على من تأمل كتابه قال في الصحاح في ثمر النخل : أوله طلع ثم خلال ثم بلح ثم بسر ثم رطب ثم تمر. وقال في المغرب : البسر غوره خرما. وقال في كتاب مجمع البحرين : قد تكرر في الحديث ذكر التمر هو بالفتح فالسكون اليابس من ثمر النخل. وقال الفيومي في كتاب

__________________

(١) الوسائل الباب ٨ من زكاة الغلات.

١١٨

المصباح المنير : التمر من ثمر النخل كالزبيب من العنب وهو اليابس بإجماع أهل اللغة لأنه يترك على النخل بعد إرطابه حتى يجف أو يقارب ثم يقطع ويترك في الشمس حتى ييبس ، قال أبو حاتم ربما جذت النخلة وهي باسرة بعد ما أحلت ليخفف عنها أو لخوف السرقة فيترك حتى يكون تمرا. انتهى.

والجميع كما ترى صريح في أن التمر عبارة عن اليابس بعد الرطب ، وظاهر عبارة صاحب المصباح دعوى الإجماع من اللغويين على ذلك ، وبذلك يعلم ما في كلام العلامة (قدس‌سره) من عدم تمامية دليله وأنه يجب حمل عبارة صاحب القاموس على ما ذكرناه.

نعم هنا روايتان في المقام ربما يصلحان للدلالة على القول المشهور إحداهما صحيحة سعد بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام (١) في حديث قال : «سألته عن الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب متى تجب على صاحبها؟ قال إذا صرم وإذا خرص». وصحيحته الأخرى وقد تقدمت في المقام الثاني (٢) وفيها «فقلت وهل على العنب زكاة أو إنما تجب عليه إذا صيره زبيبا؟ قال نعم إذا خرصه أخرج زكاته».

والتقريب فيهما أن وجوب الزكاة بالخرص الذي إنما يكون في حال كون الثمرة بسرا أو عنبا مثلا يعطي تعلق الوجوب بذلك الوقت قبل أن تصير تمرا أو زبيبا ، إذ الظاهر من الخرص كما ذكره الأصحاب إنما هو لجواز تصرف المالك مع ضمان حصة أرباب الزكاة وهو لا يتجه إلا على القول المشهور إلا أن هؤلاء المصرحين هم أرباب القول المشهور ، وأما على القول الآخر فإنه يجوز للمالك التصرف بكل وجه ما لم يبلغ الحد المتقدم ذكره ، وعلى هذا لا يظهر للخرص علة وهكذا القول في الحنطة والشعير على تقدير جواز خرصهما.

إلا أنه يمكن المناقشة في الرواية الأولى بأنه متى خص الخرص بالوقت

__________________

(١) الوسائل الباب ١٢ من زكاة الغلات.

(٢) ص ١١٠.

١١٩

المذكور وأنه وقت الوجوب فلا معنى لقوله في الخبر «إذا صرم» لأنه لا يخفى ما بين وقتي الصرام والخرص بالمعنى المذكور من المدة ، إذ الخرص كما هو المفروض في حال البسرية والعنبية والصرام إنما يكون بعد صيرورته تمرا فكيف يستقيم تعليق الوجوب بكل منهما؟ بل إنما يستقيم ذلك بحمل الخرص في الخبر على وقت كونه تمرا وزبيبا وحنطة وشعيرا ، فإنه في ذلك الوقت يتعلق به الوجوب سواء صرمه أو خرصه على رءوس الأشجار والنخل والزرع.

وأما الرواية الثانية فهي مع الإغماض عن المناقشة في دلالتها أخص من المدعى فيثبت بها الحكم في العنب خاصة فتتعلق به الزكاة من وقت العنبية ، وأما غيره من الأفراد المذكورة فيحتاج إلى دليل ، وإلى هذا يميل كلام السيد السند في المدارك.

نعم يبقى الكلام في الروايات الآتية الدالة على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يأمر بالخرص على أرباب النخيل ، فإن حمله على ما بعد يبس الثمرة بعيد وبذلك تكون المسألة محل إشكال. وكيف كان فالاحتياط في العمل بالقول المشهور من ما لا ينبغي تركه.

المقام الرابع ـ لا خلاف في أنه يشترط بلوغ كل صنف من أصناف الغلات المذكورة نصابا ، فلا يضم بعضها إلى بعض ليكمل النصاب من صنفين أو أصناف بل الحكم هنا كما تقدم أيضا في النقدين من عدم ضم أحدهما إلى الآخر والأنعام من عدم ضم صنف إلى آخر ، وهو من ما لا إشكال فيه.

وعليه تدل الأخبار ومنها صحيحة سليمان ـ وهو ابن خالد ـ عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «ليس في النخل صدقة حتى يبلغ خمسة أوساق ، والعنب مثل ذلك حتى يكون خمسة أوساق».

وفي صحيحة زرارة وبكير عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٢) قال : فيها : «وليس في شي‌ء من هذه الأربعة الأشياء شي‌ء حتى يبلغ خمسة أوساق. إلى أن قال : فإن كان

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١ من زكاة الغلات.

١٢٠