الحدائق الناضرة - ج ١١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٠

والمفهوم من صحيحة على بن مهزيار المذكورة ان الخلاف في هذه المسألة كان في ذلك الوقت ايضا ، بل ظاهرها ان التقصير ربما كان أشهر يومئذ حيث نقل عن فقهاء أصحابنا يومئذ انهم أمروه بالتقصير ما لم ينو مقام عشرة أيام.

ويؤيده ما رواه جعفر بن محمد بن قولويه في كتاب كامل الزيارات (١) عن أبيه عن سعد بن عبد الله قال : «سألت أيوب بن نوح عن تقصير الصلاة في هذه المشاهد : مكة والمدينة والكوفة وقبر الحسين عليه‌السلام الأربعة والذي روى فيها؟ فقال انا اقصر وكان صفوان يقصر وابن ابى عمير وجميع أصحابنا يقصرون».

وأجاب شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) في كتاب البحار عن خبر أيوب ابن نوح المذكور بأنه لا ينافي التخيير فإنهم اختاروا هذا الفرد. وعندي في هذا الجواب نظر لانه وان سلم انه لا ينافي التخيير كما ذكره لكنه ينافي أفضلية الإتمام التي دلت عليها أخبار التمام ورغبت فيها وحثت عليها وصرحت بأنه من المذخور والمخزون في علم الله سبحانه ، ومن البعيد كل البعيد أن يرغب عنه هؤلاء الأفاضل مع ثبوت هذه الفضيلة بل جميع أصحابنا كما نقله أيوب بن نوح.

والذي يظهر لي ان هذا الخبر ونحوه من الأخبار الآتية الدالة على التقصير في هذه الأماكن إنما خرجت ناصة على تحتم التقصير وتعينه مع عدم نية الإقامة وانه لا يسوغ الإتمام إلا بنية الإقامة ، فما أجاب به أصحاب القول المشهور عن اخبار القصر ـ من انها لا تنافي بينها وبين أخبار التمام بحملها على اختيار أحد الفردين كما ذكره شيخنا المشار اليه هنا ـ ليس في محله.

ويرشدك الى ذلك حكاية على بن مهزيار فإنها تعطى ان الاختلاف واقع في تلك الأيام وان اختلاف الرواية عنهم (عليهم‌السلام) إنما هو في تعين القصر وتحتمه في هذه المواضع كغيرها من سائر البلدان ، إذ لو كان التخيير ثابتا يومئذ مع أرجحية التمام كما هو القول المشهور لما أشار عليه فقهاء أصحابنا يومئذ بالتقصير مع عدم نية الإقامة بل لا أقل ان يقولوا له أنت مخير ولما ضاق ذرعا بذلك

__________________

(١) مستدرك الوسائل الباب ١٨ من صلاة المسافر.

٤٤١

لأنه إذا كان الحكم بالتخيير متفقا عليه عندهم ومعلوما لديهم والأخبار عندهم مجتمعة عليه وان لم تثبت أفضلية التمام فما وجه ضيقه بذلك وكتابته اليه عليه‌السلام؟ بل الحق الصريح الذي لا يحتاج الى تكلف ولا تصحيح هو ما ذكرناه من أن روايات التقصير انما خرجت ناصة على تعين القصر إلا مع نية الإقامة وهو الذي فهمه منها أصحابنا في ذلك الوقت ولذا عكفوا على التقصير ، وهو السبب الذي ضاق به على بن مهزيار حيث أنه قد روى له سابقا قبل حجته المشار إليها من الأخبار ما يدل على أفضلية التمام وقد كان يتم لذلك حتى صدر في حجه ذلك ، فأشار عليه الأصحاب بالتقصير الموجب لبطلان ما عمل عليه سابقا فضاق بذلك صدرا من حيث رغبته في الإتمام لتحصيل تلك الفضيلة التي وردت في أخبار الإتمام وهؤلاء منعوه من ذلك وافهموه انه غير مشروع إلا مع نية الإقامة فكتب لهذه الحيرة الى الامام عليه‌السلام.

وحينئذ فمع تعارض الأخبار على هذا الوجه وعدم إمكان ما ذكروه من الجمع في المقام فلا بد من النظر في ما يترجح به أخبار الطرفين ليصير العمل عليه في البين ، وحينئذ فلقائل أن يقول ان صحيحة على بن مهزيار المذكورة قد اشتملت على سؤاله عليه‌السلام عن ذينك القولين وعرض اخبار الطرفين وهو عليه‌السلام قد أمر مع ذلك بالتمام فلا مندوحة عن الحكم بمقتضاها والعمل بفتواها. نعم يبقى الكلام في وجه تحمل عليه أخبار القصر وأظهر الوجوه فيها الحمل على التقية كما تقدمت الإشارة إليه ذيل الأخبار الأربعة المتقدمة في صدر البحث لاختصاص الإتمام في هذه البقاع بمذهب الإمامية ، وسيأتي مزيد بسط الكلام في المقام بعد ذكر الأخبار المشار إليها ان شاء الله تعالى.

التاسع ـ صحيحة مسمع عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال قال لي : «إذا دخلت مكة فأتم يوم تدخل».

العاشر ـ رواية عمر بن رياح (٢) قال : «قلت لأبي الحسن عليه‌السلام أقدم مكة

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٢٥ من صلاة المسافر.

٤٤٢

أتم أو أقصر؟ قال أتم. قلت وأمر على المدينة فأتم الصلاة أو أقصر؟ قال أتم».

أقول : وهذان الخبران ظاهر الدلالة على الإتمام أيضا بمجرد الوصول كما يشير اليه قوله في الرواية الأولى «إذا دخلت مكة فأتم» ومن الظاهر ان الدخول للحج وهو أعم من أن يكون يوم الخروج منها للحج أو قبله بما لا يسع مقام عشرة أو يسع ، ويشير إليه في الرواية الثانية «أمر على المدينة» بل ربما يدعى كونه كالصريح في عدم الإقامة ، إذ المراد بالمرور هو اتخاذها طريقا من غير توقف ولا اقامة فيها ونحوها في ذلك رواية فائد الحناط المتقدمة.

الحادي عشر ـ صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (١) قال : «قلت لأبي الحسن عليه‌السلام ان هشاما روى عنك انك أمرته بالتمام في الحرمين وذلك من أجل الناس؟ قال لا كنت أنا ومن مضى من آبائي إذا وردنا مكة أتممنا الصلاة واستترنا من الناس».

أقول : هذا الخبر لا يخلو من الإجمال الموجب لتعدد الاحتمال ، وأظهر ما ينبغي أن يحمل عليه هو أنه لما كان مذهب أهل البيت (عليهم‌السلام) واتباعهم من تحتم القصر في السفر ما لم ينو مقام عشرة أيام معلوما عند عامة أهل زمانهم فكانوا إذا رأوا أحدا منهم يتم في الحرمين بدون الإقامة سيما مكة التي إنما يحصل القدوم فيها قبل التروية بقليل كانوا إذا أرادوا التمام لتحصيل شرف البقعة استتروا خوفا من التشنيع عليهم بالإتمام الذي هو خلاف مذهبهم لعدم علمهم بأفضلية الإتمام لشرف هذه البقاع ، حيث انهم حجب عنهم كما تقدمت الإشارة إليه في الأخبار الأربعة الأولة ، فلا جل دفع هذه المفسدة كانوا يستترون بذلك.

الثاني عشر ـ رواية إبراهيم بن شيبة (٢) قال : «كتبت الى ابى جعفر عليه‌السلام اسأله عن إتمام الصلاة في الحرمين فكتب الى كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحب إكثار الصلاة في الحرمين فأكثر فيهما وأتم».

الثالث عشر ـ رواية على بن يقطين (٣) قال : «سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن التقصير بمكة فقال أتم وليس بواجب إلا انى أحب لك مثل الذي أحب لنفسي».

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ٢٥ من صلاة المسافر.

٤٤٣

الرابع عشر ـ رواية سماعة بن مهران رواها شيخنا المجلسي في كتاب البحار (١) نقلا من كتاب عبد الله بن يحيى الكاهلي عن العبد الصالح عليه‌السلام قال قال لي «أتم الصلاة في الحرمين مكة والمدينة».

الخامس عشر ـ رواية عمرو بن مرزوق (٢) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الصلاة في الحرمين وعند قبر الحسين عليه‌السلام قال أتم الصلاة فيها».

أقول : التقريب في هذه الروايات وأمثالها انه من الظاهر البين الظهور ان وجوب القصر على المسافر مع عدم نية الإقامة ووجوب الإتمام عليه مع نيتها كان أمرا معلوما عند أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) في تلك الأزمان ، بل ربما يدعى انه من ضروريات الدين بين أولئك الأعيان ، وان ذلك حكم عام في جميع البلدان لا اختصاص له بمكان دون مكان ، وهو صريح الأدلة الواردة بذلك كما لا يخفى على ذوي الأفهام والأذهان ، وحينئذ فلو كان الإتمام في هذه الاخبار مقيدا بإقامة العشرة كما يدعيه الصدوق ومن قال بمقالته لكان لا وجه لتكرار هذه الأسئلة في هذه الأخبار العديدة عن الإتمام أو التقصير في هذه المواضع المخصوصة ولا سيما الحرمين لزيادة التردد لهما على غيرهما لوضوح أمر المسألة كما ذكرنا ، فالحق ان هذه الأسئلة ما خرجت من هؤلاء السائلين في خصوصية هذه المواضع إلا من حيث انهم سمعوا ان لها خصوصية زائدة على غيرها وحكما مختصا بها دون ما سواها وهو رجحان الإتمام فيها وان لم يكن بنية الإقامة خلاف ما يعهدونه من مسألة القصر ، والأئمة (صلوات الله عليهم) قد أجابوا عن هذه الأسئلة تارة بالأمر بالإتمام وتارة بالتخيير وتارة بالتقصير ، وبذلك ارداد الإشكال الموجب لكثرة السؤال والسعى في تحقيق الحال وكشف ذلك الداء العضال ، وينبهك على ذلك صحيحة على بن مهزيار المتقدمة ورواية على بن حديد الآتية (٣) ان شاء الله تعالى.

__________________

(١) ج ١٨ الصلاة ص ٦٩٥.

(٢) الوسائل الباب ٢٥ من صلاة المسافر.

(٣) ص ٤٤٨.

٤٤٤

السادس عشر ـ رواية عمران بن حمران (١) قال : «قلت لأبي الحسن عليه‌السلام أقصر في المسجد الحرام أو أتم؟ قال ان قصرت فذاك وان أتممت فهو خير وزيادة الخير خير».

السابع عشر ـ رواية الحسين بن المختار عن أبي إبراهيم عليه‌السلام (٢) قال : «قلت له انا إذا دخلنا مكة والمدينة نتم أو نقصر؟ قال ان قصرت فذاك وان أتممت فهو خير تزداد».

الثامن عشر ـ صحيحة على بن يقطين عن ابى الحسن عليه‌السلام (٣) «في الصلاة بمكة؟ قال من شاء أتم ومن شاء قصر».

والتقريب في هذه الأخبار ما تقدم في سابقها إلا انه قد وقع الجواب هنا بالتخيير مع أفضلية الإتمام كما عليه جل علمائنا الاعلام ، وهذه الأخبار هي مستندهم في ذلك.

فان قيل : ان هذه الأخبار انما دلت على التخيير في الحرمين وأما حرم الحسين عليه‌السلام والكوفة فلا دلالة فيها عليهما.

قلنا : لا ريب في صحة ما ذكرت إلا ان الظاهر ان مستند التخيير في هذين الموضعين انما هو الجمع بين ما دل على الإتمام وبين ما دل على التقصير من الأخبار الآتية ان شاء الله تعالى في الملحقات ، لان اخبار التمام ظاهرها تعين الإتمام ووجوبه وتلك الاخبار صريحة في جواز التقصير فلا بد في الجمع بينها من حمل اخبار التمام على التخيير مع أفضليته جمعا بين الجميع.

التاسع عشر ـ رواية أبي بصير عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : «سمعته يقول تتم الصلاة في أربعة مواطن : في المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومسجد الكوفة وحرم الحسين عليه‌السلام».

العشرون ـ رواية عبد الحميد خادم إسماعيل بن جعفر عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٥) قال :

«تتم الصلاة في أربعة مواطن : المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومسجد

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل الباب ٢٥ من صلاة المسافر.

٤٤٥

الكوفة وحرم الحسين عليه‌السلام.

الحادي والعشرون ـ رواية إبراهيم بن ابى البلاد عن رجل من أصحابنا يقال له حسين عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «تتم الصلاة في ثلاثة مواطن : في المسجد الحرام ومسجد الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعند قبر الحسين عليه‌السلام».

الثاني والعشرون ـ رواية زياد القندي (٢) قال «قال أبو الحسن عليه‌السلام يا زياد أحب لك ما أحب لنفسي واكره لك ما أكره لنفسي أتم الصلاة في الحرمين وبالكوفة وعند قبر الحسين عليه‌السلام». والتقريب في هذه الأخبار ما تقدم.

الثالث والعشرون ـ رواية أبي شبل (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أزور قبر الحسين عليه‌السلام؟ قال نعم زر الطيب وأتم الصلاة فيه. قلت فان بعض أصحابنا يرون التقصير فيه؟ قال انما يفعل ذلك الضعفة».

أقول : قال شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) في كتاب البحار : اما قوله «انما يفعل ذلك الضعفة» فيحتمل ان يكون المراد به الضعفة في الدين الجاهلين بالأحكام أو من له ضعف لا يمكنه الإتمام أو يشق عليه فيختار الأسهل وان كان مرجوحا ، والوجه الأخير يؤيد ما اخترناه وهو أظهر ، والأول لا ينافيه إذ يمكن ان يكون الضعف في الدين باعتبار اختيار المرجوح. انتهى.

أقول : وعلى كل من هذه الاحتمالات لا سيما الأول فهو مناف لما تقدم نقله من كتاب كامل الزيارات عن أيوب بن نوح من اختياره مع من نقل عنه ثمة التقصير ، وكذا ما تضمنته صحيحة على بن مهزيار من أمر فقهاء أصحابنا يومئذ على بن مهزيار بذلك ، وكأن شيخنا المشار اليه غفل عن ذلك وما في توجيهه المذكور لهذا الخبر من الإشكال في المقام بمخالفة أولئك الأعلام الذين لا يمكن نسبة هذه الوجوه إليهم كما لا يخفى على ذوي الأفهام ، اللهم إلا ان يحمل الخبر المذكور على من علم بالحكم في هذه المسألة وان الأفضل التمام ثم مع هذا يصلى قصرا فإنه

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ٢٥ من صلاة المسافر.

٤٤٦

لا يكون إلا عن أحد الوجهين المذكورين ، واما أولئك الأجلاء فإنه بسبب ورود اخبار التقصير عليهم وترجحها لديهم لم يحصل لهم العلم بالحكم المذكور ، ومن ثم ذهب الصدوق (قدس‌سره) في المسألة إلى وجوب التقصير ايضا.

الرابع والعشرون ـ صحيحة معاوية بن وهب (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن التقصير في الحرمين والتمام؟ قال لا تتم حتى تجمع على مقام عشرة أيام. فقلت ان أصحابنا رووا عنك انك أمرتهم بالتمام؟ فقال ان أصحابك كانوا يدخلون المسجد فيصلون ويأخذون نعالهم ويخرجون والناس يستقبلونهم يدخلون المسجد للصلاة فأمرتهم بالتمام».

الخامس والعشرون ـ رواية محمد بن إبراهيم الحضيني (٢) قال : «استأمرت أبا جعفر عليه‌السلام في الإتمام والتقصير قال إذا دخلت الحرمين فانو عشرة أيام وأتم الصلاة. فقلت له انى أقدم مكة قبل التروية بيوم أو يومين أو ثلاثة؟ قال انو مقام عشرة أيام وأتم الصلاة».

أقول : لا يخلو ظاهر هذا الخبر من الإشكال حيث ان ظاهره الإتمام بمجرد نية العشرة وان علم انه لا يقيم العشرة.

وأجيب عنه بالتزام ذلك وانه من خصائص هذا المكان كما ذكره الشيخ ومن تبعه. وبعده ظاهر.

والأظهر عندي في الجواب هو انه لما كان الاختلاف في التقصير في هذا المكان يومئذ موجودا كما حققناه آنفا استأمره السائل في ذلك وسأله عن الحكم المذكور فأمره بالإتمام بعد نية الإقامة فرجع السائل وأخبره وانه ربما قدم في مدة لا يمكن فيها الإقامة لضيق الوقت عن الحج ، ويظهر من مراجعته ان مراده ان يرخص له في التمام من غير نية إقامة كما وقع في حديث على بن حديد الآتي (٣) من قوله «وكان محبتي أن يأمرني بالإتمام». فأجابه عليه‌السلام بأن الإتمام لا يكون إلا بعد نية الإقامة

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٢٥ من صلاة المسافر.

(٣) ص ٤٤٨.

٤٤٧

وحاصله بيان تعليق الإتمام على نية الإقامة لا ان مراده عليه‌السلام الأمر بالإقامة والإتمام على تلك الحال كما فهموه. وبالجملة فهذه العبارة مثل قوله عليه‌السلام في حديث على بن حديد «لا يكون الإتمام إلا أن تجمع على إقامة عشرة أيام» إلا ان هذه مجملة في ذلك وحملها على ما ذكرناه لا بعد فيه.

السادس والعشرون ـ صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع (١) قال : «سألت الرضا عليه‌السلام عن الصلاة بمكة والمدينة بتقصير أو إتمام؟ فقال قصر ما لم تعزم على مقام عشرة».

السابع والعشرون ـ رواية على بن حديد (٢) قال : «سألت الرضا عليه‌السلام فقلت ان أصحابنا اختلفوا في الحرمين فبعضهم يقصر وبعضهم يتم وانا ممن يتم ، على رواية قد رواها أصحابنا في التمام؟ وذكرت عبد الله بن جندب وانه كان يتم قال رحم الله ابن جندب. ثم قال لي لا يكون الإتمام إلا ان تجمع على إقامة عشرة أيام وصل النوافل ما شئت. قال ابن حديد وكان محبتي أن يأمرني بالإتمام».

الثامن والعشرون ـ صحيحة معاوية بن عمار (٣) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل قدم مكة فأقام على إحرامه؟ قال فليقصر الصلاة ما دام محرما».

التاسع والعشرون ـ صحيحة معاوية بن وهب المروية في كتاب العلل (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام مكة والمدينة كسائر البلدان؟ قال نعم. قلت روى عنك بعض أصحابنا انك قلت لهم أتموا بالمدينة لخمس؟ فقال ان أصحابكم هؤلاء كانوا يقدمون فيخرجون من المسجد عند الصلاة فكرهت ذلك لهم فلهذا قلته».

الثلاثون ـ رواية عمار بن موسى المروية في كتاب كامل الزيارات لابن قولويه (٥) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة في الحائر قال ليس الصلاة إلا الفرض بالتقصير ولا تصل النوافل».

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٢٥ من صلاة المسافر.

(٥) الوسائل الباب ٢٦ من صلاة المسافر.

٤٤٨

أقول : هذا ما وقفت عليه من اخبار المسألة ، وأنت خبير بان هذه الأخبار السبعة الأخيرة من الأدلة الدالة على ما ذهب اليه الصدوق ومن قال بمقالته.

قال (قدس‌سره) في كتاب الفقيه بعد ذكر الرواية الرابعة ما هذا لفظه : قال مصنف هذا الكتاب (رحمه‌الله) يعنى بذلك أن يعزم على مقام عشرة أيام في هذه المواطن حتى يتم ، وتصديق ذلك ما رواه محمد بن إسماعيل بن بزيع. ثم ساق الرواية وهي الخامسة والعشرون (١).

وقال في كتاب الخصال بعد نقل صحيحة حماد بن عيسى وهي الأولى ما لفظه : يعنى أن ينوي الإنسان في حرمهم (عليهم‌السلام) مقام عشرة أيام ويتم ولا ينوي دون مقام عشرة أيام فيقصر ، وليس ما يقوله غير أهل الاستبصار بشي‌ء انه يتم في هذه المواضع على كل حال. انتهى.

أقول : قد عرفت من ما حققناه سابقا ان اخبار التقصير انما خرجت ناصة على التقصير كما ذهب اليه (قدس‌سره) وتأويل الأصحاب لها بما قدمنا نقله عنهم بعيد غاية البعد عن مضامين أكثرها وقرائن أحوالها بل غير مستقيم كما لا يخفى على من أعطى التأمل حقه في ما قدمناه.

وانما يبقى الكلام معه في تأويل اخبار التمام بما ذكره ، وفيه أولا ـ انه لا يخفى ان الأخبار التي استند إليها في وجوب التقصير موردها انما هو الحرمان خاصة فالمعارضة إنما وقعت في اخبار الحرمين ومدعاه وجوب التقصير في المواضع الأربعة مع ان اخبار التمام التي وردت في الحرمين الآخرين لا معارض لها ، ولم نقف في الأخبار على خبر ناص على التقصير فيهما إلا على خبر عمار وهو الثلاثون من الأخبار المتقدمة بالنسبة إلى الحائر الحسيني ، وهو ـ مع انحصار دلالته في الحائر مع بقاء اخبار الكوفة بلا معارض بالكلية ، واشتماله على خلاف ما صرح به الأصحاب واستفاضت به الأخبار كما سيأتي ان شاء الله تعالى من المنع من صلاة

__________________

(١) بل هي السادسة والعشرون.

٤٤٩

النوافل ـ مردود بضعفه وندوره وعدم قيامه بمعارضة تلك الأخبار الصحيحة الصريحة في الإتمام في الحائر الشريف ، مضافا الى ما عرفته في روايات عمار من تفرده بالغرائب في اخباره والشواذ كما طعن عليه في الوافي في غير موضع بذلك.

وكيف كان فالكوفة كما عرفت لا معارض لاخبار التمام فيها بالكلية فبأي جهة يخرج عن أخبار التمام فيها ، فان استند الى اخبار القصر المطلقة فهو مردود بان مقتضى القاعدة تقييد إطلاقها بهذه الأخبار فلا يتم الاستناد إليها كما لا يخفى على ذوي الأفكار.

وثانيا ـ ان تأويله هذا وان أمكن في بعض الأخبار المجملة كالخبرين المذكورين في كلامه إلا انه لا يتم في جملة منها كاخبار «يتم ولو صلاة واحدة» (١) وقوله في آخر «ولو مررت به مارا» (٢) ونحوهما من ما قدمنا بيانه وشددنا أركانه. وحينئذ فما ذكره (قدس‌سره) لا يصلح لأن يكون حاسما لمادة الإشكال في جميع أخبار المسألة.

وثالثا ـ ما تقدم من التقريب ذيل الرواية الثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة.

وبالجملة فان الحق الذي لا شك فيه ولا مرية تعتريه ان هذه الأخبار الواردة في هذه المسألة متصادمة لا يمكن حمل بعضها على بعض لا بما ذكره (قدس‌سره) من تأويل روايات التمام بنية إقامة العشرة ولا ما ذكره الأصحاب من تأويل روايات القصر بكونه أحد فردي المخير.

وتوضيحه زيادة على ما تقدم ان المفهوم من صحيحة على بن مهزيار ورواية على بن حديد ان المراد من القصر في ما ورد به من الأخبار انما هو ما كان عزيمة كسائر المواضع إلا مع نية الإقامة ، وان المراد من الإتمام في ما ورد به من الاخبار انما هو ما لم يكن عن نية إقامة ، إذ لو كان المراد من اخبار القصر انما هو ما تأولوها به من الحمل على اختيار أحد فردي الواجب المخير ـ وان التخيير حكم مشهور في تلك

__________________

(١ و ٢) ص ٤٤٠.

٤٥٠

المواضع كما يقولون به ومن اخبار التمام التقييد بنية الإقامة كما يقول الصدوق مع ان ذلك حكم عام في جميع الأماكن ـ لكان لا معنى للخلاف بين أصحابنا الذين في وقتهم (عليهم‌السلام) حتى ان بعضهم يختار القصر وينهى عن التمام وبعضها بالعكس ، ولما ضاق على بن مهزيار بذلك ولما قال على بن حديد «وكان محبتي أن يأمرني بالإتمام» أما على الأول فلأنه مخير واختيار أحد فردي الواجب المخير لا يوجب اختلافا ولا ينسب صاحبه إلى المخالفة ، مع ان الإتمام أفضل وأرجح فكيف يعدل عنه الى المفضول والمرجوح؟ وأما على الثاني فلان الإتمام بنية الإقامة لا ينافي القصر مع عدم النية المذكورة حتى ينسب من يختار أحدهما الى مخالفة من يختار الآخر ، ولكان لا معنى لقول على بن حديد «وكان محبتي أن يأمرني بالإتمام» كما لا يخفى على ذوي البصائر والافهام.

وحينئذ فلا بد من النظر في المرجحات لأخبار أحد الطرفين ليكون العمل عليه في البين ، والظاهر ان الترجيح في أخبار الإتمام لوجوده :

الأول ـ صحيحة على بن مهزيار بالتقريب الذي تقدم في ذيلها وهو عرض الاختلاف يومئذ على الامام عليه‌السلام وامره بالإتمام.

فإن قيل : ان رواية على بن حديد قد تضمنت ايضا عرض القولين على الرضا عليه‌السلام ومع ذلك منع من الإتمام إلا مع إقامة عشرة أيام.

قلت : يمكن الجواب عن ذلك بعد الإغماض عن عدم معارضة رواية على بن حديد لصحيحة على بن مهزيار من حيث السند بان يقال انه قد ورد عنهم (عليهم‌السلام) انه إذا أتى حديث عن أولهم وحديث عن آخرهم أو عن واحد منهم ثم اتى عنه بعد ذلك ما ينافيه انه يؤخذ بالأخير في الموضعين :

روى ذلك ثقة الإسلام في الكافي عن المعلى بن خنيس (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما تأخذ؟ فقال

__________________

(١) الوسائل الباب ٩ من صفات القاضي وما يجوز أن يقضى به.

٤٥١

خذوا به حتى يبلغكم عن الحي فإن بلغكم عن الحي فخذوا بقوله».

وروى في حديث آخر عنه عليه‌السلام (١) «انه قال لبعض أصحابه : أرأيتك لو حدثتك بحديث العام ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه بأيهما كنت تأخذ؟ قال قلت كنت آخذ بالأخير. فقال لي رحمك الله».

ويؤيد ذلك ترحم الرضا عليه‌السلام على عبد الله بن جندب في رواية على بن حديد بعد أن نقل عنه انه يتم ، وفيه أشعار بكونه على الحق في ذلك وان الأمر بالتقصير هنا انما هو المصلحة.

الثاني ـ ان اخبار القصر في هذه المواضع أقرب الى موافقة العامة واخبار التخيير لا توافقهم ، وذلك لان التخيير هنا من خواص مذهب الشيعة إذ العامة بين معين للقصر مطلقا وبين مخير مطلقا مع أفضلية التقصير (٢) مع كون المعلوم عندهم من مذهب الشيعة هو وجوب القصر عزيمة على المسافر ، وحينئذ فكل ما ورد من ما يدل على تحتم القصر وعدم جواز التخيير في هذه الأماكن يتعين حمله على التقية لما تقرر عنهم عليهم‌السلام من القواعد التي من جملتها عرض الأخبار في مقام الاختلاف على مذهب العامة والأخذ بخلافه (٣) وروايات التمام في هذه المواضع مخالفة لمذهب العامة فيتحتم الأخذ بها.

الثالث ـ انه مع العمل باخبار التمام كما اخترناه واختاره جمهور أصحابنا يمكن حمل أخبار التقصير على التقية كما ذكرنا ، ولو عملنا على أخبار القصر لزم طرح أخبار التمام رأسا مع استفاضتها وكثرتها وصحة أكثرها وصراحتها وذلك لعدم قبولها لما ذكره الصدوق من الحمل المتقدم نقله كما أوضحناه ، وفي طرحها ـ مع ما عرفت مضافا الى قول الطائفة بها سلفا وخلفا إلا الشاذ النادر ـ من الشناعة ما لا يخفى.

__________________

(١ و ٣) الوسائل الباب ٩ من صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به.

(٢) المغني ج ٢ ص ٢٦٧ الى ٢٧٠ والام ج ١ ص ١٥٩ والمهذب ج ١ ص ١٠١ وبدائع الصنائع ج ١ ص ٩١ وبداية المجتهد ج ١ ص ١٥٢.

٤٥٢

فان قيل : انه يمكن حمل أخبار الإتمام على التقية لقول العامة بالإتمام كما تقدم قلنا : فيه انه وان قال العامة بالإتمام في مطلق السفر في الجملة وان كان مرجوحا إلا انه لا يتمشى في أخبار هذه الأماكن :

أما أولا ـ فلتصريح جملة منها بأن العلة في الإتمام إنما هو تحصيل الثواب بكثرة الصلاة في هذه الأماكن وانه من المخزون والمذخور ونحو ذلك من ما يدل على ان العلة في الإتمام إنما هو شرف هذه البقاع ، ولو كانت العلة في الإتمام إنما هي التقية لما كان لخروج هذا الكلام وجه بالكلية.

وأما ثانيا ـ فلما عرفت آنفا من أن كثرة الأسئلة عن هذه البقاع بأنه هل يصلى فيها تماما أو قصرا ـ مع معلومية وجوب القصر على المسافر ووجوب التمام على ناوي الإقامة ووجوب العمل بالتقية كيف اقتضته ، بل ربما صارت هذه المسائل من ضروريات مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ـ من ما لا وجه له ، وأى وجه اشكال وخفاء فيه حتى تكثر فيه السؤالات عنه؟ وأي خصوصية لتعلق هذه الأسئلة بهذه الأماكن وهي كغيرها من ما يجب على المسافر فيه التقصير والإتمام على ناوي الإقامة والعمل بما اقتضته التقية. وبذلك يظهر ان الأمر بالتمام إنما وقع من حيث شرف هذه البقاع.

وأما ثالثا ـ فلما عرفت في صحيحة على بن مهزيار من عمله على التمام مدة مديدة لما روى له فيه ثم عدوله الى التقصير لما أفتوه به ووقوعه بسبب ذلك في الضيق والحيرة حتى كتب الى الامام عليه‌السلام ، وأي حيرة وضيق في الإتمام إذا نوى الإقامة أو اقتضته التقية؟ بل صريح اشارة الفقهاء عليه بالتقصير يومئذ ان إتمامه لم يكن عن نية إقامة ولا تقية كما لا يخفى على أدنى ذي فهم. ونحو ذلك ما تضمنته رواية على بن حديد.

وبالجملة فالحاذق البصير بل من له أدنى روية وفكر يسير لا يخفى عليه ان العلة في الإتمام في هذه الأخبار إنما هو شرف البقعة والوصول الى محل الزلفى والرفعة.

فإن قيل : المفهوم من صحيحة معاوية بن وهب وهي الرابعة والعشرون ان

٤٥٣

الأمر بالإتمام إنما وقع تقية وكذلك صحيحته الأخيرة وهي التاسعة والعشرون.

قلت : لا يخفى ان هاتين الروايتين من جملة الروايات الدالة على وجوب التقصير حتما كما في سائر المواضع ، وقد تقدم البحث فيهما في المقام الأول من الشرط الرابع من شروط التقصير (١).

وبيانه زيادة على ما تقدم انه لما أجابه الامام عليه‌السلام في الصحيحة الأولى بأنه لا يتم في الحرمين حتى يجمع على مقام عشرة أيام اعترضه السائل بأن أصحابنا قد رووا عنك انك أمرتهم بالتمام في ذينك الموضعين وان لم يقيموا عشرة أجاب عليه‌السلام بأني لم آمرهم بالتمام في هذه الصورة من حيث شرف البقعة الموجب للتمام في جملة الأيام وانما أمرتهم بذلك لمصلحة أخرى وهو دفع الضرر عنهم بما كانوا يفعلونه يومئذ ، حيث انهم مع عدم إقامة العشرة كانوا يقصرون فيخرجون من المسجد والناس يستقبلونهم داخلين للصلاة وهذا من ما يوجب الضرر عليهم فأمرتهم بالإتمام وان لم يقيموا عشرة لدفع ذلك عنهم. ومنه يعلم ان الإتمام هنا غير الإتمام المدعى في أصل المسألة لأن هذا خاص بهؤلاء المذكورين لهذه العلة وذلك الإتمام الذي في أصل المسألة عام.

قال الشيخ (رحمه‌الله) بعد نقل الخبر الأول من هذين الخبرين وكلام في البين ما لفظه : ويكون قوله عليه‌السلام لمن كان يخرج عند الصلاة من المسجد ولا يصلى مع الناس أمرا على الوجوب ولا يجوز تركه لمن كان هذا سبيله لان فيه دفعا للتقية وإغراء بالنفس وتشنيعا على المذهب. انتهى. ومرجعه الى ان الإتمام المأمور به في أصل المسألة تخييري وانه أفضل الفردين وهذا الإتمام المذكور في هذين الخبرين حتمي لا يجوز تركه لما ذكره (قدس‌سره).

فان قلت : ان حمل الإتمام على التقية في هذين الخبرين ينافي ما ذكرتم من حمل التقصير على التقية ومن جملة ما دل على ذلك صدر الخبرين المذكورين.

__________________

(١) ص ٣٥٠.

٤٥٤

قلت : لا مانع من أن تكون العلة في التقصير في هذه المواضع هو التقية وانه قد يتبدل الحكم بوجود عارض وأمر آخر كما في هاتين الروايتين من الخروج من المسجد على هذه الحال ، وحينئذ فيكون الإتمام هنا مخصوصا بهؤلاء الذين كانوا يفعلون ذلك ، ومن الظاهر ان التقية هنا أشد لان خروجهم عند دخول المخالفين ربما كان موجبا لهم الخروج عن الدين في اعتقاد أولئك المعاندين فلذا أمرهم عليه‌السلام بالإتمام الذي هو أقل مفسدة ، ولا يخفى ان اجوبتهم عليهم‌السلام تدور مدار المصالح التي تقتضيها الحال ، فلا إشكال في هذا المجال كما لا يخفى على ذوي الكمال.

ثم ان من جملة من رجح ما رجحناه واختار ما اخترناه من حمل اخبار القصر في هذه المسألة على التقية جملة من مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين : منهم ـ شيخنا المجلسي في البحار ونقله فيه ايضا عن الفاضل العلامة المحقق المولى عبد الله الشوشتري ، واختاره ايضا المحدث الكاشاني في الوافي والشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي في الوسائل ، ولكن أحدا منهم لم يعط المسألة حقها من التحقيق كما أوضحناه بحمد الله سبحانه مانح التوفيق ، ولا تجد لأمثال هذه التحقيقات ذكرا في غير كتبنا وزبرنا ، ولله سبحانه الحمد والمنة بذلك. والله العالم بحقائق أحكامه ونوابه القائمون بمعالم حلاله وحرامه.

تنبيهات

الأول ـ في تحقيق المكان الذي يستحب فيه الإتمام من هذه المواضع الأربعة والكلام هنا يقع في مواضع ثلاثة :

الأول ـ في الحرمين الشريفين ، وقد اختلف كلام الأصحاب هنا في انه البلد في كل منهما أو المسجد كذلك أو الحرم؟ المشهور الأول ، وذهب ابن إدريس الى الثاني فحص الحكم بالمسجدين وهو مختار العلامة في المختلف والشهيدين في اللمعة وشرحها والروض ، وظاهر كلام الشيخ في التهذيب الثالث حيث قال : ويستحب إتمام الصلاة في الحرمين فان فيه فضلا كثيرا. ثم قال ومن حصل بعرفات فلا يجوز

٤٥٥

له الإتمام على حال. انتهى. وبه يظهر ما في كلام بعض مشايخنا المعاصرين من إنكار القول بذلك حيث قال : ولم نظفر على قائل مصرح بالشمول لجميع حرم الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله فضلا عن غيرهما. والظاهر انه نشأ من غفلة عن ملاحظة العبارة المذكورة.

ومن الظاهر ان الأصل في الخلاف المذكور اختلاف الأخبار الواردة في المقام ، فإن جملة من الأخبار المتقدمة منها ما تضمن التعبير عن ذلك بالحرمين كالرواية الأولى والثانية والثالثة والخامسة والسادسة والثامنة والحادية عشرة والثانية عشرة والرابعة عشرة (١) والثانية والعشرين والصحيح منها أربع روايات ، ومنها ما تضمن التعبير بمكة والمدينة كالرواية الرابعة والسابعة والتاسعة والعاشرة والثالثة عشرة والسابعة عشرة (٢) والصحيح منها ثلاث روايات ، ومنها ما تضمن التعبير بالمسجدين كالرواية السادسة عشرة والتاسعة عشرة والعشرين (٣) وكلها ضعيفة السند وحينئذ فإن عملنا باخبار الحرمين ـ وهي أكثر الأخبار كما عرفت وهو ظاهر التهذيب في ما قدمنا من عبارته ـ كان محل الإتمام فيهما أعم من البلدين.

وظاهر الأصحاب انهم حملوا الحرمين في تلك الأخبار على البلدين وهو غير بعيد ، ويؤيده ما ورد عن الصادق عليه‌السلام (٤) انه قال : «مكة حرم الله وحرم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحرم أمير المؤمنين على بن ابى طالب عليه‌السلام والمدينة حرم الله وحرم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحرم على بن ابى طالب عليه‌السلام والكوفة حرم الله وحرم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحرم على بن ابى طالب عليه‌السلام.

وما رواه الشيخ في الأمالي بسند موثق عن عاصم بن عبد الواحد وهو مهمل (٥) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : مكة حرم الله والمدينة حرم محمد

__________________

(١) والخامسة عشرة.

(٢) والثامنة عشرة وهي الصحيحة الثالثة.

(٣) والحادية والعشرين.

(٤) الوسائل الباب ٤٤ من أحكام المساجد.

(٥) البحار ج ٢١ ص ٣٠.

٤٥٦

صلى‌الله‌عليه‌وآله والكوفة حرم على بن ابى طالب عليه‌السلام ان عليا حرم من الكوفة ما حرم إبراهيم من مكة وما حرم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة».

ويعضد ذلك ايضا قوله في آخر صحيحة على بن مهزيار وهي الرواية الخامسة «أي شي‌ء تعني بالحرمين؟ فقال مكة والمدينة».

وقد أفصح عليه‌السلام هنا بذلك ، وبه يظهر قوة القول المشهور وانه المؤيد المنصور وقوفا في ما خالف أخبار القصر العامة على القدر المتيقن من هذه الأخبار.

وأما القول بالاقتصار على المسجدين كما ذهب اليه جمع ممن قدمنا ذكره وغيرهم فعللوه بكون الحكم على خلاف الأصل والخروج عن العهدة بالقصر حاصل إجماعا ، إذ غاية الحكم بالإتمام التخيير فالقصر في البلدين مجزئ إجماعا على التقديرين بخلاف الإتمام.

قال العلامة في المختلف بعد اختيار قول ابن إدريس : لنا ـ ان الأصل وجوب القصر فيصار الى خلافه في موضع الوفاق.

أقول : فيه مع الإغماض عن المناقشة في بعض هذه المقدمات انه ان كان التخصيص بالمسجدين على جهة الأولوية والاحتياط فلا بأس ، وان كان على جهة الترجيح والاختيار والحكم بعدم اجزاء ما خرج عنهما كما هو صريح كلام ابن إدريس فإن اللازم اطراح تلك الأخبار الجمعة المتكاثرة مع كثرتها وصحة جملة منها وصراحتها والاعتماد عليها في أصل المسألة وضعف سند ما دل على اعتبار المسجدين باصطلاحهم كما قدمنا ذكره ، مع ان قاعدتهم سيما شيخنا الشهيد الثاني ومن يحذو حذوه رد الأخبار الموثقة فضلا عن الضعيفة.

وأما ما أجاب به العلامة في المختلف ـ حيث قال بعد ذكر ما قدمنا نقله عنه : احتجوا بما تقدم من الروايات الدالة على الإتمام في الحرمين ، والجواب بالحمل على نفس المسجدين جمعا بين الأدلة ـ

ففيه أولا ـ مع الإغماض عن المناقشة بعد هذا الإطلاق ان المخالفة غير

٤٥٧

منحصرة في أخبار الحرمين بل مثلها في أخبار البلدين بلفظ مكة والمدينة ، وإطلاق هذين اللفظين على المسجدين أبعد.

وثانيا ـ ان صحيحة على بن مهزيار تضمنت سؤال الإمام عليه‌السلام عن الحرمين الذين أمر بالإتمام فيهما فأجاب بمكة والمدينة ولو كان ما يدعونه حقا لأجاب عليه‌السلام بالمسجدين دون البلدين.

وبالجملة فالظاهر ان التخصيص بالمسجدين في تلك الروايات انما خرجت لمزيد الشرف وان الغالب والمتعارف هو الصلاة في المسجد.

ومن ما يؤيد الحمل على البلد زيادة على ما تقدم لكن بالنسبة إلى مكة ما ورد في بعض الأخبار الاعتكاف من أن البلد كلها في حكم المسجد :

مثل ما في صحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام (١) قال : «المعتكف بمكة يصلى في أي بيوتها شاء سواء عليه في المسجد صلى أو في بيوتها».

وفي بعضها (٢) «ولا يصلى المعتكف في بيت غير المسجد الذي اعتكف فيه إلا بمكة فإنه يعتكف بمكة حيث شاء لأنها كلها حرم الله».

ثم انه على تقدير قصر الحكم على المسجد فهل المعتبر في المسجد الحرام المسجد القديم الذي كان في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو هذا المسجد الموجود الآن؟ اشكال قد تقدم بيانه في مسألة كراهة النوم في المسجد في المقدمة السادسة في المكان (٣).

وأما مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فالظاهر اختصاص الحكم بما كان في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله دون ما زيد فيه لأن الحكم بالتمام هنا وقع على خلاف الأصل فيقتصر فيه على القدر المتيقن.

ويعضد ذلك إضافته إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله في الاخبار فيخص بما كان في زمانه إذ

__________________

(١) الوسائل الباب ٨ من الاعتكاف.

(٢) الوسائل الباب ٨ من الاعتكاف ، وهو حديث عبد الله بطريق الشيخ.

(٣) ج ٧ ص ٢٩٥.

٤٥٨

لا يضاف اليه ما فعله غيره بعده خصوصا ما أحدثه الثاني من غصب بعض الدور وجعلها في المسجد كما صرحت به الأخبار (١).

وقد ورد في تحديده من الأخبار صحيحة محمد بن مسلم (٢) قال : «سألته عن حد مسجد الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال الأسطوانة التي عند رأس القبر إلى الأسطوانتين من وراء المنبر عن يمين القبلة ، وكان من وراء المنبر طريق تمر فيه الشاة ويمر فيه الرجل منحرفا ، وكان ساحة المسجد من البلاط الى الصحن». ونحوها صحيحة أبي بصير المرادي (٣).

وثانيها ـ في الكوفة وقد اختلف أيضا في محل الإتمام هنا هل هو مختص بالمسجد أو يعم البلد؟ فنقل جمع من متأخري أصحابنا (رضوان الله عليهم) عن الشيخ (قدس‌سره) انه قال : إذا ثبت الحكم في الحرمين من غير اختصاص بالمسجد يكون الحكم كذلك في الكوفة لعدم القائل بالفصل. ونقل الشهيد في الدروس عن المحقق انه حكم في كتاب له في السفر بالتخيير في البلدان الأربعة حتى الحائر ، ورجح المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد عموم الإتمام في الكوفة ، وصرح جمع من المتأخرين باختصاص الحكم بالمسجد ، قال في المعتبر : ينبغي تنزيل حرم أمير المؤمنين عليه‌السلام على مسجد الكوفة خاصة أخذا بالمتيقن. انتهى.

وظاهر الشيخ في المبسوط تعدية الحكم إلى الغري أيضا حيث قال : ويستحب الإتمام في أربعة مواطن في السفر : بمكة والمدينة ومسجد الكوفة والحائر على ساكنه أفضل التحية والسلام وقد روى الإتمام في حرم الله وحرم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وحرم أمير المؤمنين وحرم الحسين عليهما‌السلام (٤) فعلى هذه الرواية يجوز

__________________

(١) وفاء الوفاء للسمهودى ج ١ ص ٣٤٢ إلا انه لم يذكر الغصب بل انه كان بنحو الاشتراء والاسترضاء.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٥٨ من أحكام المساجد.

(٤) في حديث حماد ص ٤٣٨.

٤٥٩

الإتمام خارج مسجد الكوفة وبالنجف. انتهى.

وقال شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) بعد نقل ذلك عنه : وكأنه نظر الى ان حرم أمير المؤمنين عليه‌السلام ما صار محترما بسببه واحترام الغري به أكثر من غيره. ولا يخلو من وجه ويومئ اليه بعض الأخبار ، ثم قال (قدس‌سره) والأحوط في غير المسجد القصر. انتهى.

فاما الأخبار الواردة هنا فان بعضها تضمن التعبير بحرم أمير المؤمنين عليه‌السلام وهي الرواية الأولى وبعضا تضمن التعبير بالكوفة وهي الرواية الثانية والعشرون وبعضا بالمسجد وهي الرواية الرابعة والتاسعة عشرة والعشرون.

وقد طعن بعض المتأخرين في الرواية الواردة بحرم أمير المؤمنين عليه‌السلام بان فيها إجمالا لعدم معلومية الحرم ثمة ، ثم نقل عن المعتبر كما أسلفنا تنزيله على المسجد.

وأنت خبير من ما أسلفنا من الروايتين الدالتين على أن الكوفة حرم أمير المؤمنين عليه‌السلام ونحوهما غيرهما انه لا مجال للطعن بهذا الإجمال لتفسير الحرم في تلك الأخبار بالكوفة.

وحينئذ فيمكن القول بان موضع الإتمام هو البلد وتحمل رواية الحرم على ذلك ، وتحمل رواية المسجد على ما ذكرنا سابقا من حيث مزيد الشرف واعتياد العبادة فيه. ويحتمل التخصيص بالمسجد لكثرة الروايات الواردة به وتخصيص الحرم به كما ذكره في المعتبر. ولعل الأول أقرب وان كان الثاني أحوط.

ثم انه على تقدير الصلاة في المسجد خصوصا أو احتياطا فهل يختص الحكم بالموجود الآن أو المسجد القديم لما دلت عليه جملة من الأخبار من حصول التغيير فيه عن ما كان عليه سابقا؟ اشكال.

ومن الأخبار الدالة على ما قلناه من نقصان هذا المسجد عن المسجد القديم ما رواه العياشي في تفسيره عن المفضل بن عمر (١) قال «كنت مع ابى عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) مستدرك الوسائل الباب ٣٥ من أحكام المساجد.

٤٦٠