الحدائق الناضرة - ج ١١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٠

الأخبار المشار إليها.

وبالجملة فإن ما ذكره (قدس‌سره) هنا جيد. واما ما ذكره بعد تسليم وجوب الإتمام ومنع اقتضاء ذلك لعدم انقطاع نية الإقامة بالرجوع عنها في هذه الحالة ـ من أن استلزام ذلك لوقوع الصوم الواجب سفرا لا محذور فيه لوقوع بعضه حال الإقامة ـ فالظاهر أنه لا يخلو من خدش وان تبعه عليه في الذخيرة ، فإن الأخبار الدالة على تحريم الصوم في السفر شاملة بإطلاقها وعمومها لما وقع بعضه في حال الإقامة أم لم يقع ، فقوله «انه لا دليل على امتناع ذلك» ممنوع فإن الأخبار عامة شاملة لما ذكره ودلالتها على ذلك بعمومها وإطلاقها واضحة فلا معنى لمنعه الدليل على امتناع ذلك ، ويخرج ما ذكره ـ من عكس النقيض في قوله عليه‌السلام : «إذا قصرت أفطرت» بمعنى ان عدم جواز الإفطار يقتضي عدم جواز التقصير ـ شاهدا. وما تكلفه من الجواب عنه لا يخلو من غموض كما لا يخفى على من راجع كلام صاحب الذخيرة في هذا المقام.

الرابع ـ المفهوم من الخبر المتقدم ان وجوب الإتمام واستصحابه معلق بعد نية الإقامة على أمور ثلاثة :

أحدها ـ الصلاة فلو لم يكن صلى ثم رجع عن نية الإقامة عاد الى التقصير سواء كان قد دخل وقت الصلاة أم لم يدخل خرج وقتها ولم يصل عمدا أو سهوا أم لا ، لان مناط الحكم الصلاة تماما ولم يحصل ، ونقل عن العلامة في التذكرة انه قطع بكون الترك كالصلاة نظرا الى استقرارها في الذمة وتبعه المحقق الشيخ على واستشكل العلامة في النهاية الحكم وكذا الشهيد في الذكرى. ولو كان ترك الصلاة لعذر مسقط للقضاء كالجنون والإغماء فلا إشكال ولا خلاف في كونه كمن لم يصل.

وثانيها ـ كون الصلاة فريضة فلو رجع عن نية الإقامة بعد صلاة نافلة فإن كانت من النوافل المشروعة في السفر كنافلة المغرب فلا خلاف في عدم تأثيرها وإلا فقولان أظهرهما عدم التأثير أيضا لما عرفت من تعليق الحكم على الفريضة ، وهو

٤٢١

مختار جماعة من الأصحاب ومنهم الشهيد في الذكرى ، ونقل عن العلامة في النهاية انه ذهب الى الاجتزاء بها ، واليه يميل كلام الشهيد الثاني في الروض حيث قال بعد نقل القول الأول عن الذكرى : ويحتمل قويا الاجتزاء بها لأنها من آثار الإقامة ، وما تقدم من الدليل على الاكتفاء بالصوم آت هنا وهو مختار المصنف في النهاية. انتهى. وفيه ما عرفت في إلحاقه الصوم وهو قياس على قياس غير خال من ظلمة الالتباس.

وثالثها ـ كون الصلاة تماما فلا تأثير الصلاة لقصر ، وهل يشترط كون التمام بنية الإقامة أم يكفي مطلق التمام ولو سهوا؟ فيه وجهان ، يحتمل الأول لأن ذلك هو أكثر أفراد الإقامة بل هو مقتضى ظاهر الرواية لأن السؤال فيها وقع عن من نوى الإقامة عشرا ، ويحتمل الثاني عملا بإطلاق التمام. والأقرب الأول.

قالوا : وتظهر الفائدة في مواضع : منها ـ ما لو صلى فرضا تماما ناسيا قبل نية الإقامة سواء خرج الوقت أم لا.

أقول : الظاهر ان الصلاة على هذه الكيفية لا تأثير لها إذا المفهوم من النص المتقدم هو نية الإقامة أو لا ثم الصلاة تماما بعد النية كما يشير اليه قوله عليه‌السلام (١) : «ان شئت فانو المقام عشرا وأتم وان لم تنو المقام عشرا فقصر». حيث رتب الصلاة على النية أولا.

قالوا : ومنها ـ ما لو صلى تماما في أماكن التخيير بعد النية لشرف البقعة ، اما لو نوى التمام لأجل الإقامة فلا إشكال في التأثير ، ولو ذهل عن الوجه ففي اعتبارها وجهان ، من إطلاق الرواية حيث علق الحكم فيها على صلاة الفريضة تماما مع ان الإقامة كانت بالمدينة فقد حصل الشرط. ومن ان التمام كان سائغا له بحكم البقعة فلم يؤثر.

أقول : لا يخفى ان النص كما عرفت قد دل على نية الإقامة عشرا ثم الصلاة

__________________

(١) في صحيح ابى ولاد المتقدم ص ٤١٥.

٤٢٢

تماما بتلك النية وهو أعم من أن يكون في مواضع التخيير أو غيرها ، وحينئذ فلا يجزئ مجرد الإتمام لشرف البقعة ، وكون الخبر هنا مورده المدينة وهي من المواضع المذكورة لا وجه له ، إذ الظاهر ان كلامه عليه‌السلام بمنزلة القاعدة الكلية في هذا المقام لا اختصاص له ببلد دون بلد وهو قد علق الحكم فيه على نية الإقامة ورتب الصلاة عليها. وبذلك يظهر انه لو أتم جاهلا الوجه فإنه لا عبرة بإتمامه ما لم تحصل نية الإقامة وقصدها ثم الصلاة بتلك النية والقصد كما هو مؤدى الخبر وكلام الأصحاب في الباب.

قالوا : ومنها ـ ما لو نوى الإقامة عشرا في أثناء الصلاة قصرا فأتمها ثم رجع عن الإقامة بعد الفراغ فإنه يحتمل حينئذ الاجتزاء بهذه الصلاة لصدق التمام بعد النية ، ولأن الزيادة إنما حصلت بسببها فكانت من آثارها كما مر ، وعدمه لان ظاهر الرواية كون جميع الصلاة تماما بعد النية وقبل الرجوع عنها ولم يحصل.

أقول : ظاهر جمع من الأصحاب هنا : منهم ـ الشيخ الشهيد في الذكرى وشيخنا الشهيد الثاني في الروض وشيخنا المجلسي في البحار هو اختيار الوجه الأول ، وهو الأقرب لصدق الصلاة تماما والمؤثر في الحقيقة ليس إلا العدد الزائد عن الركعتين وقد حصل هنا.

وأما ما تعلقوا به للوجه الآخر ـ من ان ظاهر الرواية كون جميع الصلاة تماما بعد النية ـ ففيه انه وان كان كذلك بالنسبة الى هذه الرواية إلا انه قد ورد ايضا ما يدل على وجوب الإتمام بالنية في أثناء الصلاة :

كما في صحيحة على بن يقطين عن ابى الحسن عليه‌السلام (١) قال : «سألته عن الرجل يخرج في السفر ثم يبدو له في الإقامة وهو في الصلاة؟ قال يتم إذا بدت له الإقامة».

ورواية محمد بن سهل عن أبيه (٢) قال «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٢٠ من صلاة المسافر.

٤٢٣

يخرج في سفر ثم تبدو له الإقامة وهو في صلاته أيتم أم يقصر؟ قال يتم إذا بدت له الإقامة».

وحينئذ فلا فرق في استصحاب التمام ووجوب البقاء عليه بعد النية والصلاة تماما بين أن تكون النية متقدمة على الصلاة أو في أثنائها كما دل عليه الخبران المذكوران

الخامس ـ المفهوم من الخبر المذكوران المعتبر في قطع السفر واستصحاب التمام إتمام الصلاة بعد نية الإقامة ، فلو شرع في الصلاة بنية الإقامة ثم رجع عن الإقامة في أثنائها لم يكف ذلك في قطع السفر والخروج عن ما هو عليه وان كان بعد ركوع الثالثة.

وبه صرح في المنتهى حيث قال : لو نوى المقام ثم قام فصلى ثم تغيرت نيته الى السفر في الأثناء قيل يتم والوجه عندي انه يقصر لان الشرط وهو الصلاة على التمام لم يحصل. وقال الشيخ في المبسوط لو نوى المقام عشرا ودخل في الصلاة بنية التمام ثم عن له الخروج لم يجز له القصر الى ان يخرج مسافرا ، ونحوه ابن الجنيد حيث قال : لو كان مسافرا قد دخل في الصلاة بنية القصر ثم نوى الإقامة أتم على ما كان صلاه ، وان كان مقيما فدخل في صلاته بنية الإتمام ثم نوى السفر قبل الفراغ منها لم يكن له القصر. وقال ابن البراج : لو بدا له في المقام وقد صلى منها ركعة أو ركعتين وجب التمام لانه دخلها بنية مقيم. وصريح كلام هؤلاء هو وجوب الإتمام وان لم يتم الصلاة بل وان لم يتجاوز فرض القصر.

وفصل العلامة في التذكرة والمختلف بأنه ان كان قد تجاوز في صلاته فرض القصر بان صلى ثلاث ركعات تعين الإتمام وإلا جاز له القصر ، قال في الذكرى : وفصل الفاضل بتجاوز محل القصر فلا يرجع وبعدم تجاوزه فيرجع ، لانه مع التجاوز يلزم من الرجوع إبطال العمل المنهي عنه ومع عدم التجاوز صدق انه لم يصل بتمام. انتهى.

٤٢٤

وتردد المحقق في المسألة نظرا الى افتتاح الصلاة وقد ورد في الخبر (١) انها على ما افتتحت عليه ، والى عدم الإتيان بالشرط حقيقة.

وقال في الذخيرة : وحكى عن المصنف وغيره الاكتفاء بها إذا كان الرجوع بعد ركوع الثالثة وانهم اختلفوا إذا كان الرجوع بعد القيام إلى الثالثة. انتهى.

أقول : الظاهر من كلام من ذهب الى التفصيل ان الحد الذي به يتجاوز محل التقصير هو ركوع الثالثة كما قدمنا نقله عن العلامة في المختلف والتذكرة ، وذلك لان ما قبل الركوع من الواجبات لا يكون موجبا للتجاوز لإمكان جعله من قبيل زيادة الواجب سهوا وانما الاعتبار بالركن المبطل فعله عمدا وسهوا ، فما ذكره في الذخيرة من الحكاية المذكورة لم أقف عليه ولا أعرف له وجها.

ثم أقول وبالله التوفيق : انه لا يخفى أن مقتضى الخبر المذكور كما اعترفوا به ان الشرط في وجوب الإتمام والاستمرار عليه هو الإتيان بعد نية الإقامة بالصلاة التامة كاملة وأن تكون نية الإقامة مستمرة الى أن يفرغ منها ، فلو رجع عن نية الإقامة في أثنائها في أي جزء منها تجاوز محل القصر أو لم يتجاوز فالواجب عليه بمقتضى اختلاف الشرط المذكور هو التقصير. والاعتماد في وجوب الإتمام بمجرد الدخول في الصلاة على خبر «الصلاة على ما افتتحت عليه» لا يخلو من مجازفة لعدم ثبوت الخبر من طريقنا ، ومع تسليمه فتناوله لموضع النزاع وعمومه له ممنوع لدلالة الصحيحة المذكورة على وجوب التقصير في الصورة المذكورة ، إذ مقتضاها ذلك حيث دلت على ان الشرط في وجوب التمام واستصحابه حصول صلاة كاملة بالتمام ولم تحصل وبفوات الشرط يفوت المشروط فيتعين القصر ، وحينئذ فمع

__________________

(١) يمكن أن يريد به حديث معاوية بن عمار الوارد في من قام للفريضة فظن أنها نافلة سهوا وبالعكس المروي في الوسائل في الباب ٢ من النية من كتاب الصلاة وقد تقدم في ج ٢ ص ٢١٧ وبمضمونه حديثان آخران ، وبه يظهر ما في قوله «قدس‌سره» في ما سيأتي «لعدم ثبوت الخبر من طريقنا» وقد تعرض المسألة بمناسبة العدول في ج ٢ ص ٢٠٩.

٤٢٥

ثبوت الخبر المذكور يجب تخصيصه بما ذكرنا وتستثنى هذه الصورة من عمومه بذلك كما خرجوا عن عمومه في مواضع لا تحصى من الأحكام.

بقي الكلام في ما إذا حصل الرجوع بعد تجاوز محل القصر بان صلى ثلاث ركعات ، والظاهر هنا الإعادة لوقوع الزيادة المبطلة.

وأما ما احتج به القائل بالتفصيل كما ذكره في الذكرى من لزوم إبطال العمل المنهي عنه فعليل ، لعدم دليل لهم على هذه الدعوى سوى ما ذكروه من ظاهر الآية (١) الذي قد قدح فيه غير واحد منهم. ومع تسليمه فانا نقول ان مقتضى ما قررنا من الدليل هو الحكم بالإبطال ، لأن الواجب في حال الرجوع عن نية الإقامة قبل الإتمام بمقتضى الخبر المذكور هو البقاء على التقصير لعدم حصول شرط الإتمام وحينئذ فلا يكون من قبيل ما ذكروه ، فان المتبادر من النهى عن إبطال العمل إنما هو إبطاله من غير سبب شرعي يقتضي الابطال ، وما نحن فيه ليس كذلك كما عرفت حيث ان مقتضى الدليل هنا إبطاله لا ان المكلف يبطله من غير سبب يقتضي الإبطال كما هو ظاهر دليلهم. والله العالم.

المسألة الثانية ـ لو أتم مع استكمال الشروط المتقدمة فلا يخلو إما أن يكون عامدا أو جاهلا أو ناسيا ، وكذا لو كان فرضه التمام فقصر.

فههنا مقامات أربعة الأول ـ أن يتم عالما عامدا ولا خلاف في وجوب الإعادة عليه وقتا وخارجا.

وعليه تدل صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم المتقدمة في صدر المقصد (٢) لقوله عليه‌السلام فيها بعد ان سأله الراويان المذكوران فقالا «قلنا فمن صلى في السفر أربعا أيعيد أم لا؟ قال ان كان قد قرئت عليه آية التقصير وفسرت له فصلى أربعا أعاد وان لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا اعادة عليه».

__________________

(١) «وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» سورة محمد الآية ٣٣.

(٢) ص ٢٩٦.

٤٢٦

ويعضدها صحيحة ليث المرادي عن الصادق عليه‌السلام (١) قال : «إذا سافر الرجل في شهر رمضان أفطر وان صامه بجهالة لم يقضه».

واستدل عليه في المدارك ايضا بما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي (٢) قال «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام صليت الظهر أربع ركعات وأنا في سفر؟ قال أعد».

وعندي في الاستدلال على هذا الحكم بهذه الرواية إشكال فإن صدور الإتمام عالما عامدا من مثل الحلبي الذي هو من الثقات الأجلاء المشهورين غير متصور ولا جائز ، ثم مع فرض ذلك عنه عمدا كيف يسأل عنه؟ وقرينة السؤال مؤذنة بكون الترك إنما كان نسيانا أو جهلا والثاني أيضا بعيد بالنسبة اليه ، وبه يظهر ان الأظهر حمل الخبر على النسيان وإلا فمتى كان عالما بالوجوب وتعمد الإخلال بذلك فأي معنى لهذا السؤال؟ وبالجملة فإن قدر الرجل المذكور أجل من أن يترك الواجب عليه عامدا عالما وإلا لأخل بعدالته واحتاج الى معلومية توبته فكيف يعدون حديثه في الصحيح من غير خلاف؟ فالأظهر كما عرفت حمل الرواية وان كانت مجملة على كون الإتمام وقع منه نسيانا.

بقي الكلام في دلالة الخبر على الإعادة مطلقا على هذا التقدير وهو مذهب الشيخ كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى في المسألة ويأتي الكلام ان شاء الله تعالى في الجميع بين أخبارها.

قال شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) في الروض ـ بعد الاستدلال على بطلان الصلاة مع العمد بصحيحة زرارة ومحمد بن مسلم ـ ما صورته : ويعلم من هذا ان الخروج من الصلاة عند من لا يوجب التسليم لا يتحقق بمجرد الفراغ من التشهد بل لا بد معه من نية الخروج أو فعل ما به يحصل كالتسليم وإلا لصحت الصلاة هنا عند من لا يوجب التسليم لوقوع الزيادة خارج الصلاة ، وقد تقدم في باب التسليم

__________________

(١) الوسائل الباب ٢ ممن يصح منه الصوم.

(٢) الوسائل الباب ١٧ من صلاة المسافر.

٤٢٧

الإشارة الى ذلك. انتهى.

أقول : الظاهر من هذا الكلام ان الغرض منه الجواب عن اشكال يرد في هذا المقام على القول بندب التسليم وهو ان الرواية الصحيحة (١) قد دلت على بطلان صلاة من حكمه الركعتان قصرا لو صلاها أربعا متعمدا ، وهذا على تقدير القول بوجوب التسليم ظاهر لانه قد زاد في الصلاة ركعتين حيث انه انما يخرج من الصلاة بالتسليم ، وأما على القول بكونه مندوبا أو واجبا خارجا كما هو أحد الأقوال في المسألة أيضا فإن اللازم هنا صحة الصلاة لأن الصلاة قد تمت بالتشهد على الركعتين فهاتان الركعتان الأخيرتان وقعتا خارج الصلاة والصلاة صحيحة مع ان النص واتفاق الأصحاب على البطلان.

وحاصل جواب شيخنا المشار اليه ان القائل بندب التسليم إنما تتم الصلاة عنده بنية الخروج أو بالتسليم وان كان مستحبا أو بفعل المنافي ، وعلى هذا فتكون الركعتان الواقعتان بقصد التمام قد وقعتا قبل تمام الصلاة فتبطل الصلاة حينئذ لذلك.

وفيه انه وان ذكروا ذلك تفصيا عن هذا الإشكال إلا ان ما ذكروه لا دليل عليه. وأيضا فإنه لا يحسم مادة الإشكال بالنسبة إلى القول بكونه واجبا خارجا وان كان لم يتعرض اليه.

وأجيب أيضا عن الإشكال المذكور بان المبطل هنا قصد عدم الخروج فلا يلزم وجوب قصد الخروج أو الإتيان بالمخرج.

والتحقيق في الجواب انما هو التفصيل في المقام بأنه ان كانت صلاة الأربع الركعات هنا وقعت بقصد ارادة التمام من أول الأمر فالصلاة باطلة ، وهذا هو الذي دلت عليه الرواية ووقع الاتفاق عليه لحصول المخالفة ، لأن الشارع انما أوجب عليه ركعتين وهو قد قصد الى مخالفته بقصده الأربع من أول الأمر ، وان كان انما قصد الصلاة ركعتين كما هو المأمور به شرعا لكن حصلت الزيادة بعد الفراغ من الصلاة الواجبة فلا بطلان هنا إلا على تقدير القول بوجوب التسليم

__________________

(١) ص ٤٢٦.

٤٢٨

واما على تقدير القول باستحبابه أو كونه واجبا خارجا فلا ، ومدعى البطلان عليه الدليل وليس فليس.

المقام الثاني ـ أن يتم جاهلا والأشهر الأظهر الصحة كما دلت عليه صحيحة زرارة ومحمد ابن مسلم المتقدمة (١) لقوله عليه‌السلام «وان لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا اعادة عليه».

ونقل عن ابن الجنيد وابى الصلاح أنهما أوجبا الإعادة في الوقت ، وعن ظاهر ابن ابى عقيل الإعادة مطلقا ، وهما ضعيفان مردودان بالخبر المذكور.

وربما احتج للقول بالإعادة في الوقت بصحيحة العيص عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «سألته عن رجل صلى وهو مسافر فأتم الصلاة؟ قال ان كان في وقت فليعد وان كان الوقت قد مضى فلا».

وفيه انها محمولة على الناسي جمعا بين الأخبار ، فإنها وان دلت بإطلاقها على العامد والجاهل والناسي إلا انه قد قام الدليل في الأولين على خلاف ما دلت عليه فوجب تخصيصها بالناسي لعدم المعارض.

وحكى الشهيد في الذكرى ان السيد الرضي سأل أخاه المرتضى (رضى الله عنهما) عن هذه المسألة فقال : الإجماع منعقد على ان من صلى صلاة لا يعلم أحكامها فهي غير مجزئة والجهل بأعداد الركعات جهل بأحكامها فلا تكون مجزئة؟ وأجاب المرتضى (رضى الله عنه) بجواز تغير الحكم الشرعي بسبب الجهل وان كان الجاهل غير معذور.

أقول : قد اختلف كلام جملة من الأصحاب في توجيه كلام السيد (رضى الله عنه) فقال في الروض : وحاصل الجواب يرجع الى النص الدال على عذره والقول به متعين. انتهى.

وقيل ان الظاهر من كلام السيد (قدس‌سره) ان مراده ان الأحكام الشرعية تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فيجوز أن يكون حكم الجاهل

__________________

(١) ص ٢٩٦.

(٢) الوسائل الباب ١٧ من صلاة المسافر.

٤٢٩

بالقصر وجوب الإتمام عليه وان كان مقصرا غير معذور بترك التعلم ، وحينئذ فهو آت بالمأمور به في تلك الحال فيكون مجزئا.

وقيل انه يمكن أن يكون مقصوده (قدس‌سره) انه قد يختلف الحكم من الشارع بالنسبة إلى الجاهل المطلق والى الجاهل العالم في الجملة كمن عرف أن للصلاة أحكاما تجب معرفتها ولم يعرفها فتصح تلك الصلاة من الأول منهما دون الثاني وان دعوى الإجماع على الطلاق غير واضح.

وقال في المدارك : وكأن المراد انه يجوز اختلاف الحكم الشرعي بسبب الجهل فيكون الجاهل مكلفا بالتمام والعالم مكلفا بالقصر ، واختلاف الحكم هنا على هذا الوجه لا يقتضي عذر الجاهل. انتهى. والظاهر أنه يرجع الى القول الثاني من الأقوال المنقولة.

أقول : قد نقل العلامة في كتاب المختلف عن السيد (رضى الله عنه) في أجوبة المسائل الرسية الجواب عن هذه المسألة بوجه أوضح من ما أجاب به أخاه (قدس الله روحيهما) حيث قال له السائل : ما الوجه في ما تفتي به الطائفة من سقوط فرض القضاء عن من صلى من المقصرين صلاة متمم بعد خروج الوقت إذا كان جاهلا بالحكم في ذلك مع علمنا بان الجهل بأعداد الركعات لا يصح معه العلم بتفصيل أحكامها ووجوهها ، إذ من البعيد أن يعلم بالتفصيل من جهل الجملة التي هي الأصل ، وللإجماع على ان من صلى صلاة لا يعلم أحكامها فهي غير مجزئة وما لا يجزئ من الصلاة يجب قضاؤه ، فكيف تجوز الفتيا بسقوط القضاء عن من صلى صلاة لا تجزئه؟ فأجاب بأن الجهل وان لم يعذر صاحبه وهو مذموم جاز أن يتغير معه الحكم الشرعي ويكون حكم العالم بخلاف حكم الجاهل. انتهى.

وأنت خبير بان ما أوضحه هنا من الجواب وهو الذي عليه المعمول كاشف عن نقاب الإجمال في الجواب الأول ويرجع الى الاحتمال الثاني من الاحتمالات الثلاثة المتقدمة ، ومنه يظهر حينئذ ان مذهب السيد (قدس‌سره) ان تكليف

٤٣٠

الجاهل من حيث هو جاهل في جميع الموارد ليس كتكليف العالم وان الحكم مع الجهل ليس كالحكم مع العلم ، وفيه حينئذ رد للإجماع المدعى في المقام. وهو مطابق لما حققناه في المسألة كما تقدم في المقدمة الخامسة من مقدمات الكتاب. ولا خصوصية له بالصورة المذكورة كما فهمه شيخنا الشهيد الثاني في ما قدمنا نقله عنه من كلامه في الروض ليوافق ما ذهب اليه هو وغيره في المسألة من عدم معذورية الجاهل إلا في هذا الموضع ومسألة الجهر والإخفات.

ثم ان ما ذكره العلامة (قدس‌سره) في المختلف بعد ذكر ما قدمنا نقله عنه ـ من أن كلام السيد (رضى الله عنه) يدل بمفهومه على الإعادة في الوقت من حيث ان سؤال السائل تضمن تخصيص سقوط فرض القضاء بخروج الوقت ، وهو يدل بمفهومه على الإعادة في الوقت والسيد (قدس‌سره) لم ينكره ـ فظني انه بعيد إذ الظاهر ان مطمح نظر السيد (رحمه‌الله) انما هو الى الجواب عن أصل الإشكال من غير نظر الى الخصوصية المذكورة وصحة ما ذكره السائل أو بطلانه.

وقال في المدارك في هذا المقام : وهل المراد بالجاهل الجاهل بوجوب القصر من أصله أو مطلق الجاهل ليندرج فيه الجاهل ببعض أحكام السفر كمن لا يعلم انقطاع كثرة السفر بإقامة العشرة؟ فيه وجهان منشأهما اختصاص النص المتضمن لعدم الإعادة (١) بالأول ، والاشتراك في العذر المسوغ لذلك وهو الجهل. انتهى.

أقول : ظاهر كلامه (قدس‌سره) التوقف هنا ومثله نقل عن العلامة في النهاية. وأنت خبير بأنه لا يخفى ما فيه على الفطن النبيه ، وذلك لأن المشهور في كلام الأصحاب من غير أن يداخله الشك والارتياب هو أن الجاهل بالأحكام الشرعية عندهم غير معذور إلا في مسألتي الجهر والإخفات والجهل بوجوب القصر كما هو مورد الصحيحة المتقدمة فإنها هي مستندهم في الاستثناء من القاعدة المذكورة ، وأما ما عدا هذين الفردين من مطلق الجاهل بأحكام القصر فهو عندهم غير معذور لدخوله

__________________

(١) ص ٤٢٩.

٤٣١

في مطلق الجاهل الذي اتفقوا على عدم معذوريته. وتعليله ـ احتمال مطلق الجاهل بالقصر بالاشتراك في العذر المسوغ لذلك وهو الجهل ـ آت في الجهل بالأحكام الشرعية مطلقا من أحكام السفر وغيره صلاة كانت أو غيرها وهم لا يقولون به. وبالجملة فإن مرادهم بالجاهل هنا إنما هو الفرد الأول من غير اشكال ولا يصح ان يحمل كلامهم على الفرد الثاني.

وكأن منشأ هذا التردد هو ان المسألة التي استثنوها من قاعدة عدم معذورية الجاهل هل هي عبارة عن الجاهل بوجوب القصر من أصله أو مطلق الجاهل بالقصر في كل موضع يجب فيه القصر ككثير السفر متى أقام عشرة ونحوه؟

وفيه ان الظاهر من كلامهم إنما هو الأول الذي هو مورد النص كما لا يخفى ، وأما الجاهل في غير هذه الصورة من صور التمام فيرجع الى معذورية جاهل الحكم وعدمها والمشهور العدم ، وبالمعذورية هنا صرح المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) في شرح الإرشاد. والله العالم.

المقام الثالث ـ أن يتم ناسيا والمشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) وجوب الإعادة في الوقت خاصة ، ونقل عن الشيخ على بن بابويه والشيخ في المبسوط انه يعيد مطلقا ، وعن الصدوق في المقنع انه يعيد ان ذكر في يومه وان مضى اليوم فلا اعادة.

واستدل من قال بالقول المشهور برواية أبي بصير عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «سألته عن الرجل ينسى فيصلي في السفر اربع ركعات؟ قال ان ذكر في ذلك اليوم فليعد وان لم يذكر حتى يمضى ذلك اليوم فلا اعادة عليه».

واعترض في المدارك على الاستدلال بهذه الرواية بعد الطعن في السند بأنها مجملة المتن ، لان اليوم ان كان المراد به بياض النهار كان حكم العشاء غير مذكور في الرواية ، وان كان المراد به بياض النهار والليلة المستقبلة كان ما تضمنه مخالفا للمشهور

__________________

(١) الوسائل الباب ١٧ من صلاة المسافر.

٤٣٢

وأجاب في الذخيرة بأن المراد باليوم بياض النهار وان حكم العشاء غير مستفاد من الرواية ، إنما المستفاد منها حكم الظهرين وينسحب الحكم في العشاء بمعونة دعوى عدم القائل بالفصل ، لكن في إثباته إشكال. انتهى.

أقول : ويحتمل ان اليوم وان لم يدخل تحته إلا الظهر ان إلا انه خرج مخرج التمثيل وجعل كناية عن خروج الوقت. والأقرب عندي ان التعبير باليوم في الرواية المذكورة إنما خرج مخرج التجوز عبارة عن الوقت. فكأنه قال ان ذكر في ذلك الوقت فليعد وان لم يذكر حتى يمضى ذلك الوقت فلا اعادة. وبه تنطبق الرواية المذكورة على المدعى ، وشيوع التجوز في أمثال ذلك أظهر من أن ينكر. وبه يظهر ان ما ذكره في المقنع راجع الى ما ذكرناه ، وما أطالوا به من الاعتراضات في المقام لا طائل تحته بعد ما عرفت.

ويدل على القول المذكور أيضا صحيحة العيص المتقدمة (١) والتقريب فيها ما عرفت من انها وان كانت أعم من أن يكون الإتمام عمدا أو جهلا أو نسيانا إلا انك قد عرفت خروج العامد بوجوب الإعادة عليه مطلقا فلا يدخل تحت هذا التفصيل ، وخروج الجاهل بقيام الأدلة على عدم وجوب الإعادة عليه مطلقا ، فيتحتم حملها على الناسي البتة. ومع الإغماض عن ذلك يكفي في الاستدلال بها هنا مجرد دخول الناسي تحت العموم فتكون دالة عليه بطريق العموم ، وبالتقريب الأول تكون دلالتها بطريق الخصوص.

وقال عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (٢) «وان كنت صليت في السفر صلاة تامة فذكرتها وأنت في وقتها فعليك الإعادة ، وان ذكرتها بعد خروج الوقت فلا شي‌ء عليك ، وان أتممتها بجهالة فليس عليك في ما مضى شي‌ء ولا اعادة عليك إلا ان تكون قد سمعت بالحديث».

والتقريب في هذا الكلام هو ظهور تخصيص التفصيل ـ وان كانت العبارة

__________________

(١) ص ٤٢٩.

(٢) ص ١٦.

٤٣٣

مجملة ـ بصورة النسيان ، لأنه ذكر بعد ذلك حكم الجاهل والعامد وانه لا اعادة على الأول بل على الثاني.

وهذه الأخبار إذا ضمت بعضها الى بعض لا يبقى مجال للشك في الحكم المذكور.

وأما ما نقل عن الشيخ على بن بابويه والشيخ في المبسوط فلم نقف له على مستند ، قيل : ولعل مستندهما القطع بتحقق الزيادة مع قصور كل من روايتي العيص وابى بصير المذكورتين بالطعن الذي تقدم ذكره. وفيه ان هذا الطعن الذي قد عرفت الجواب عنه إنما يجرى على مذاق المتأخرين سيما صحيحة العيص ، فان دلالتها على حكم الناسي وانه كما تضمنته من ما لا إشكال فيه إنما الكلام في حملها عليه خاصة وعدم احتمال غيره كما وجهناه وبيناه وبه تكون مختصة به ، أو شمولها لغيره فعلى كل تقدير فهي دالة عليه.

قال في الذكرى : ويتخرج على القول بان من زاد خامسة في الصلاة وكان قد قعد مقدار التشهد تسلم له الصلاة صحة الصلاة هنا لأن التشهد حائل بين ذلك وبين الزيادة.

واستحسنه الشهيد الثاني في روض الجنان وقال : انه كان ينبغي لمثبت تلك المسألة القول بها هنا ولا يمكن التخلص من ذلك إلا بأحد أمور : إما إلغاء ذلك الحكم كما ذهب إليه أكثر الأصحاب ، أو القول باختصاصه بالزيادة على الرابعة كما هو مورد النص فلا يتعدى الى الثلاثية والثنائية فلا تتحقق المعارضة هنا ، أو اختصاصه بزيادة ركعة لا غير كما ورد به النص هناك ولا يتعدى الى الزائد كما عداه بعض الأصحاب ، أو القول بان ذلك في غير المسافر جمعا بين الأخبار لكن يبقى فيه سؤال الفرق مع اتحاد المحل. انتهى.

وقال في المدارك بعد نقل كلام جده المذكور : وأقول انه لا يخفى عليك بعد الإحاطة بما قررناه في تلك المسألة ضعف هذه الطرق كلها وانها غير مخلصة من هذا الإشكال ، والذي يقتضيه النظر ان النسيان والزيادة ان حصلا بعد الفراغ من

٤٣٤

التشهد كانت هذه المسألة جزئية من جزئيات من زاد في صلاته ركعة فصاعدا بعد التشهد نسيانا ، وقد بينا ان الأصح ان ذلك غير مبطل للصلاة مطلقا لاستحباب التسليم ، وان حصل النسيان قبل ذلك بحيث أوقع الصلاة أو بعضها على وجه التمام اتجه القول بالإعادة في الوقت دون خارجه كما اختاره الأكثر لما تقدم. انتهى.

أقول وبالله التوفيق : انه لا يخفى عليك ان مبنى هذه المسألة التي نحن فيها ـ وتقسيمها إلى الأقسام الثلاثة من كون الصلاة تماما التي أوقعها المسافر إما عن عمد فتبطل أو جهل فتصح أو نسيان فالتفصيل المتقدم ـ إنما هو على كون المصلى قد قصد من أول الدخول في الصلاة الى الإتمام ، ولهذا حكم بالإبطال مع العمد للوجه الذي بيناه سابقا وجعلناه وجه الفرق بينه وبين ما إذا قصد الزيادة بعد الدخول في الصلاة بنية القصر ثم زاد بعد تمام صلاته المقصورة فحكمنا بصحة الصلاة لذلك وحكم بالصحة مع الجهل للمعذورية ، وحينئذ فما ذكره الشهيد (قدس‌سره) من التخريج ـ ووافقه عليه في الروض وزعم انه لا مخرج منه إلا بإحدى تلك الوجوه ـ لا أعرف له وجها للفرق بين هذه المسألة التي نحن فيها وبين تلك المسألة ، فإن مبنى تلك المسألة على ان المصلى إنما دخل في الصلاة قاصدا إلى الإتيان بما هو المفروض عليه شرعا من الأربع كما هو مورد نص تلك المسألة أو أقل كما هو قول من ألحق بالرباعية غيرها ، غاية الأمر أنه بعد أن أكمل ما هو الواجب عليه عرض له السهو فزاد ركعة ، وقد عرفت الخلاف ثمة بأن هذه الزيادة بعد الجلوس بمقدار التشهد ولما يتشهد أو بعد التشهد بالفعل كما اخترناه وحققناه ثمة ، فالفرق بين المسألتين ظاهر بالنظر الى مبدإ الدخول في الصلاة كما عرفت ، والنسيان الذي بنى عليه التفصيل في هذه المسألة ووردت به الأخبار إنما هو من أول الدخول في الصلاة بأن نسي أن فرضه القصر وصلى تماما بزعم ان فرضه التمام نسيانا ، والنسيان الذي في تلك المسألة انما هو بعد الإتيان بما هو فرضه شرعا وأصل القصد انما توجه الى فرض مشروع إلا انه عرض له النسيان بعد تمامه فزاد تلك الركعة فالنسيان انما

٤٣٥

تعلق بتلك الركعة المزادة ، ووجه الفرق ظاهر بين بحمد الله سبحانه ، فيتعين الوقوف في كل مسألة منهما على ما حكم به فيها وعدم تداخل المسألتين ولا إلحاق إحداهما بالأخرى ، فتخريج هذه المسألة على تلك وإلحاقها بها ـ حتى انه يتجه على من قال بالصحة في تلك المسألة القول بها هنا كما يشير اليه كلام الشهيدين (روح الله روحيهما) هنا ـ لا وجه له كما عرفت. هذا هو التحقيق عندي في المقام والله سبحانه وأولياؤه العالمون بحقائق الأحكام.

المقام الرابع ـ لو قصر من فرضه التمام فان كان عالما عامدا فلا ريب في وجوب الإعادة ، ولو كان جاهلا فالمشهور وجوب الإعادة لعدم تحقق الامتثال وعدم معذورية الجاهل عندهم إلا في الموضعين المشهورين.

وقد وقع الخلاف في صورة ما لو قصر بعد نية الإقامة الموجبة للتمام جاهلا فظاهر المشهور وجوب الإعادة كما هو في غير هذه الصورة من صور الجهل ، ونقل عن الشيخ نجيب الدين في الجامع العدم.

ويدل عليه ما رواه الشيخ في الصحيح عن منصور بن حازم عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «إذا أتيت بلدة فأزمعت المقام عشرة أيام فأتم الصلاة فإن تركه رجل جاهل فليس عليه اعادة».

والقول بها متجه لعدم المعارض بل وجود المؤيد لها من الأخبار الدالة على معذورية الجاهل في مواضع عديدة تقدم تفصيلها في مقدمات الكتاب.

بل يمكن القول بمعذورية الجاهل في هذا المقام مطلقا كما اختاره بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين حيث قال في شرح له على كتاب المفاتيح : ثم ان الظاهر من الأخبار كون الجاهل معذورا في هذا المقام مطلقا أعني في جميع ما يتعلق بالقصر والإتمام في السفر حتى القصر في مواضع التمام والتمام في بعض مواضع القصر وان كان عالما بأصل القصر كما هو مفاد ظاهر عبارة المصنف وفتوى نجيب الدين

__________________

(١) الوسائل الباب ١٧ من صلاة المسافر.

٤٣٦

في جامعه ، خلافا للمشهور فإنهم خصوا الحكم بالجاهل بوجوب التقصير من أصله. ثم أطال الكلام في ذلك الى أن قال : فمن الأخبار ما رواه الشيخ بسند صحيح والصدوق في الفقيه بأسانيد صحاح كلها عن محمد بن إسحاق الثقة عن ابى الحسن عليه‌السلام (١) قال : «سألته عن امرأة كانت معنا في السفر وكانت تصلى المغرب ركعتين ذاهبة وجائية؟ قال ليس عليها قضاء. أو ليس عليها اعادة». على اختلاف الروايات. ثم أورد رواية منصور بن حازم المنقولة ثم أيد ذلك بإطلاق صحيحتي عيص وليث المرادي عن الصادق عليه‌السلام (٢) قال : «إذا سافر الرجل في شهر رمضان أفطر وان صامه بجهالة لم يقضه». ثم قال : هذا مع عدم وجود المعارض الصريح من الأخبار بالكلية ، فلا حاجة الى ارتكاب تكلف حمل صحيحة محمد بن إسحاق على الشذوذ كما فعل الشيخ مع اعتماد الصدوق عليها ، وكذا ارتكاب حملها على الاستفهام الإنكاري أو على كون المراد نافلة المغرب وأمثال ذلك من الخيالات الضعيفة. انتهى. وهو جيد لكن الظاهر الرجوع الى التفصيل الذي قدمناه في المقدمة التي في معذورية الجاهل من مقدمات الكتاب.

وبالجملة فإن الجاهل في الصورة التي هي مورد صحيحة منصور المذكورة من ما لا شك في الحكم بمعذوريته للرواية المذكورة.

وأما الناسي للإقامة فقيل بإلحاقه بالجاهل لها وانه لا اعادة عليه وهو خروج عن موضع النص المذكور ، والظاهر هو وجوب الإعادة.

ويدل عليه ما ذكره الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (٣) حيث قال : «وان قصرت في قريتك ناسيا ثم ذكرت وأنت في وقتها أو غير وقتها فعليك قضاء ما فاتك منها».

__________________

(١) الوسائل الباب ١٧ من صلاة المسافر. والمسؤول في الاستبصار ج ١ ص ٢٢٠ «أبو عبد الله «ع» وفي الفقيه ج ١ ص ٢٨٧ «أبو الحسن الرضا «ع».

(٢) الوسائل الباب ٢ ممن يصح منه الصوم.

(٣) ص ١٦.

٤٣٧

وفيه دلالة على ان التقصير نسيانا في موضع يجب الإتمام فيه موجب للإعادة وقتا وخارجا كما هو ظاهر فتوى الأصحاب. والله العالم.

المسألة الثالثة ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في حكم صلاة المسافر في المواضع الأربعة المشهورة ، فالمشهور التخيير بين القصر والإتمام مع أفضلية الإتمام ، ولم ينقل الخلاف هنا إلا عن الصدوق والمرتضى وابن الجنيد ، اما الصدوق فإنه ذهب كما هو مذهب المخالفين إلى مساواة هذه المواضع الأربعة لغيرها من البلدان التي يتحقق السفر إليها في وجوب التقصير ما لم ينقطع سفره بأحد القواطع المتقدمة إلا انه جعل الأفضل له نية المقام فيها والصلاة تماما ، وسيأتي نقل كلامه في ذلك ان شاء الله تعالى. وأما المرتضى وابن الجنيد فظاهر كلاميهما المنع من التقصير في هذه المواضع الأربعة وألحقا بها في ذلك ايضا المشاهد المشرفة والضرائح المنورة. والظاهر عندي من الأقوال هو ما عليه الأكثر من علمائنا الإبدال كما استفاضت به اخبار الآل عليهم صلوات ذي الجلال.

وها أنا أذكر ما وصل الى من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة من ما في الكتب المشهورة وغيرها مذيلا لها بما يكشف عن معانيها نقاب الإبهام ويجلو عن مضامينها غشاوة الإبهام لما ذهب إليه أولئك الأعلام بتحقيق شاف لم يسبق اليه سابق وبيان وأف للنصوص المعصومية مطابق وموافق فأقول وبالله سبحانه التوفيق والإعانة لإدراك المأمول :

الأول ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن حماد بن عيسى (١) وكذا رواه الصدوق عنه في الخصال (٢) وابن قولويه في المزار بالإسناد المذكور (٣) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام من مخزون علم الله الإتمام في أربعة مواطن : حرم الله وحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحرم أمير المؤمنين عليه‌السلام وحرم الحسين بن على عليه‌السلام».

الثاني ـ ما رواه في الصحيح عن مسمع عن أبي إبراهيم عليه‌السلام (٤) قال : «كان

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٢٥ من صلاة المسافر.

٤٣٨

أبى يرى لهذين الحرمين ما لا يراه لغيرهما ويقول ان الإتمام فيهما من الأمر المذخور».

الثالث ـ عن معاوية بن عمار عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «ان من الأمر المذخور الإتمام في الحرمين».

الرابع ـ ما رواه في الفقيه عن الصادق عليه‌السلام مرسلا (٢) قال : «من الأمر المذخور إتمام الصلاة في أربعة مواطن : مكة والمدينة ومسجد الكوفة وحائر الحسين عليه‌السلام». وروى هذه الرواية ابن قولويه في كتاب كامل الزيارات بسند صحيح عن حماد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣).

أقول : أنت خبير بما في هذه الاخبار من وضوح الدلالة على القول المشهور وهو المؤيد المنصور ، والتقريب فيها أن كون الإتمام فيها من الأمر المذخور ومن مخزون علم الله إنما يتجه على القول المذكور من أفضلية التمام بمجرد الوصول إليها من غير توقف على نية الإقامة ، ولو خص ذلك بما كان عن نية الإقامة لم تتجه المزية لهذه المواضع على غيرها حتى يدعى انه من مخزون علم الله وانه من الأمر المذخور ، فان المسافر حيثما أقام وجب عليه التمام فالإتمام دائر مدار الإقامة في هذه أو غيرها ، ومن الظاهر ان هذه المزية إنما تتوجه على ترتب الإتمام على مجرد وصولها ودخولها لمزيد مشرفها.

وفي الأخبار المذكورة إشارة إلى حمل ما خالف هذه الأخبار على التقية أو الاتقاء ، وان الإتمام في هذه المواضع من الأسرار المختصة بأهل البيت (عليهم‌السلام) وشيعتهم التابعين لهم والناسجين على منوالهم ، وهو خاص بهم لم يوفق له سواهم من أعدائهم المخالفين ، وانه من ما ادخره الله تعالى لهم وصار مخزونا عن غيرهم حيث لم يوفقوا له ولم يطلعهم الله تعالى عليه كما ورد نظيره في الصلاة بعد العصر (٤).

وبالجملة فإنها في الدلالة على المراد من ما لا يعتريها وصمة الإيراد ، وبه يظهر

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ٢٥ من صلاة المسافر.

(٤) الوسائل الباب ٣٨ من مواقيت الصلاة.

٤٣٩

لك ما في كلام الصدوق في الفقيه ونحوه في كتاب الخصال من تقييد هذه الأخبار بالإقامة عشرة ، وكأنه زعم بذلك الجمع بين أخبار المسألة ، وسيأتي بعد تمام نقل الأخبار ان شاء الله تعالى التعرض لكلامه وبيان ما في نقضه وإبرامه.

الخامس ـ صحيحة على بن مهزيار (١) قال : «كتبت الى ابى جعفر الثاني عليه‌السلام ان الرواية قد اختلفت عن آبائك (عليهم‌السلام) في الإتمام والتقصير في الحرمين ، فمنها أن يتم الصلاة ولو صلاة واحدة ، ومنها أن يقصر ما لم ينو مقام عشرة أيام ، ولم أزل على الإتمام فيهما الى أن صدرنا في حجنا في عامنا هذا فان فقهاء أصحابنا أشاروا على بالتقصير إذا كنت لا انوى مقام عشرة أيام فصرت الى التقصير ، وقد ضقت بذلك حتى أعرف رأيك؟ فكتب الى بخطه عليه‌السلام : قد علمت يرحمك الله فضل الصلاة في الحرمين على غيرهما فأنا أحب لك إذا دخلتهما أن لا تقصير وتكثر فيهما الصلاة. فقلت له بعد ذلك بسنتين مشافهة : انى كتبت إليك بكذا وأجبتني بكذا؟ فقال نعم. فقلت فأي شي‌ء تعني بالحرمين؟ فقال مكة والمدينة».

السادس ـ رواية عثمان بن عيسى (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن إتمام الصلاة والصيام في الحرمين؟ فقال أتمها ولو صلاة واحدة».

السابع ـ صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن التمام بمكة والمدينة؟ قال أتم وان لم تصل فيهما إلا صلاة واحدة».

الثامن ـ رواية فائد الحناط المروية في كتاب كامل الزيارات لابن قولويه عن ابى الحسن الماضي عليه‌السلام (٤) قال : «سألته عن الصلاة في الحرمين؟ قال أتم ولو مررت به مارا».

أقول : وهذه الأخبار كما ترى ناصة على الإتمام في الحرمين من حيث خصوصية المكان ، ولا مجال فيها لاحتمال التقييد بنية الإقامة بوجه كما يدعيه الصدوق (قدس‌سره) ومن قال بمقالته.

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٢٥ من صلاة المسافر.

(٢) الوسائل الباب ٢٥ من صلاة المسافر. والمسؤول في الحديث أبو الحسن «ع».

٤٤٠