الحدائق الناضرة - ج ١١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٠

هو دأب الرواة في نقل الروايات ، ومروي بسندين أحدهما ما لا كلام في صحته وهو ما في الفقيه. ثم أطال في الاعتذار عن ضعف طريق رواية الشيخ عن عبد الله بن سنان وضعف مرسلة يونس ، الى أن قال : فظهر ان تضعيف السند في غاية الضعف ، ثم انه ظاهر أيضا ان اختلاف بعض العبارات بل عدم استقامة مضمون بعضها ظاهرا غير موجب للطرح رأسا ، بل مهما أمكن التوجيه لا بد منه وإلا يؤخذ بما هو المشترك بين الجميع والمضبوط المتضح ، ولا يخفى ان مضمون الأخير لا عيب فيه ولا شبهة تعتريه سوى عدم التصريح بلزوم كون إقامة العشرة في غير منزله مع النية وظاهر ان مبنى هذا على اشتهاره وظهوره ، نعم لما كان الواجب تحقق الإقامة عشرا بالتمام كما هو المشهور عبر هنا بالعبارة التي تدل عليه كما هو ظاهر. ثم ان الحق ان هذا المضمون هو المشترك بين الجميع أيضا ، إلا ان الظاهر من عبارة الفقيه ان الواو في قوله : «وينصرف» بمعنى «أو» بل لا بد أن تحمل كذلك ، أو نقول بسقوط الألف من قلم النساخ والمراد «أو ينصرف» حتى يستقيم المعنى ويوافق كل مع الآخر ، وأما إسقاط قوله : «وينصرف» في الوسطاني فربما يكون ممن لم يتفطن لحقيقة الحال فظن أنه زائد ، مع انه على تقدير فرض عدم كونه من أصل الحديث غير مضر ضرورة إمكان استنباط ما هو مضمونه من قوله عليه‌السلام : «وان كان له مقام. الى آخره» بل من حكم الخمسة أيضا فافهم. واما الإشكال بما اشتمل عليه الأولان من حكم الخمسة فمع عدم وجوده في الأخير وعدم تنافي تركه العمل بما سواه يمكن توجيهه بان المراد بالتقصير في النهار ترك النوافل أي إذا لم يقم العشرة تماما فمن حيث نفيه من وجوب الإتمام عليه ليس يلزم عليه نوافل النهار بل يكتفى حينئذ بنوافل الليل كما يشعر به التعبير في الفقيه بلفظ صلاة الليل ، فلا ينافي الحكم بإتمام الفريضة كما يؤيده الأمر بالصوم ايضا وما في ابتداء الخبر الأخير ، ويحتمل حمل الخمسة على التقية ايضا (١) على انه قد مر انه عمل به بعض الأصحاب أيضا ، وبالجملة بعد تبيان ما ذكرناه من حال السند اى مانع من

__________________

(١) التعليقة ١ ص ٣٥١.

٤٠١

العمل بمضمون الخبر الأخير لا سيما مع اعتضاده بعمل الأصحاب لما مر من كون الحكم مقطوعا به عندهم ، بل مع وجود شواهد متينة ومؤيدات قوية كصحيحة هشام التي مرت في الشرط الرابع من مفتاح شروط القصر (١) وكرواية السندي (٢) التي مثلها وحديث إسحاق بن عمار (٣) وغيرهما من ما فيه الأشعار ولو على سبيل الإجمال بأن المقام للمكاري يقطع حكم الإقامة وان الإتمام على هؤلاء ليس على سبيل الإطلاق ، فقد ظهر من هذا كله سقوط ما مر من دعوى المصنف متروكية مضمون صحيحة الفقيه ومن ادعائه معارضة الصحاح الواردة في إتمام المكاري من حيث كونها دالة على الإتمام على سبيل الإطلاق من غير ذكر ما يدل على الاشتراط المذكور ، مع عدم قابلية مستند الاشتراط للمعارضة بزعمه ووجه السقوط واضح من ما بيناه.

انتهى كلامه (زيد مقامه) وفيه أولا ـ ان ما ادعاه ـ من كون رواية يونس مع روايتي الصدوق والشيخ رواية واحدة وحديثا واحدا وقع فيه بعض اختلاف في العبارة ـ بعيد غاية البعد كما لا يخفى على الناقد البصير ولا ينبئك مثل خبير ، إذ لا يخفى المغايرة سندا ومتنا وبه يثبت التغاير بين الأخبار المذكورة والتعدد وان حصل الاشتراك في مادة من حيث المعنى ، والموجب للاتحاد هو الاتفاق سندا ومتنا في اللفظ كما لا يخفى ، وغرضه من هذه الدعوى سريان الصحة الى ما تضمنته رواية يونس من حيث صحة سند رواية الفقيه كما يشير اليه قوله أخيرا «وبالجملة بعد تبيان ما ذكرناه من حال السند أى مانع من العمل بمضمون الخبر الأخير» وأشار بالخبر الأخير إلى رواية يونس وببيان حال السند الى ما قدمه من صحة سند رواية الفقيه ، وهو من التعسف والتكلف بمكان غير خفي على المتأمل.

وثانيا ـ ان ما ذكره ـ من حمل الواو في صحيحة الفقيه في قوله «وينصرف» على انها بمعنى «أو» أو سقوط الألف من قلم النساخ ـ وان سقط به مع بعده وتكلفه

__________________

(١ و ٣) ص ٢٩٠ و ٢٩١.

(٢) الوسائل الباب ١١ من صلاة المسافر.

٤٠٢

الاشكال الناشئ من ترتب القصر على الإقامتين كما تقدم إلا ان الاشكال الثالث من الإشكالات الموردة على رواية الشيخ باق بحاله ، فإن ظاهر العبارة المذكورة ومقتضاها هو ترتب القصر على ارادة المقام في البلد الذي يذهب اليه أو إرادة الإقامة في منزله لا على حصول المقام وتمامه بالفعل والمراد بالاستدلال انما هو الثاني لا الأول ، فما تدل عليه الرواية غير مراد بالاتفاق وما هو المراد لا دلالة لها عليه ولكن هذا من ما لم يتفطن (قدس‌سره) اليه.

وثالثا ـ ان ما ذكره ـ في الاعتذار عن سقوط قوله «وينصرف. الى آخره» الذي في صحيحة الفقيه من رواية الشيخ حيث انه موضع الاستدلال وبتركه حصل الاختلال ـ فهو ايضا من التكلفات البعيدة والتمحلات الشديدة ، ولو قامت هذه التكلفات في الروايات انسدت أبواب الاستدلالات ، إذ للخصم أن يقدر ما يريد وما يوافق غرضه ويدعى أمثال هذه الدعاوي في دليل خصمه فيقلب عليه دليله فيدعى نقصان ما يحتاج اليه وزيادة ما يضره ويرد عليه ونحو ذلك كما لا يخفى على المصنف ، ومن ذلك ايضا قوله : «ضرورة إمكان استنباط ما هو مضمونه من قوله وان كان له مقام. الى آخره» مشيرا به كما ذكره في حاشية الكتاب الى ان قوله في الخبر «وان كان له مقام في البلد الذي يذهب إليه عشرة أيام» شامل بإطلاقه للبلد الذي هو وطنه وغيره ، فان فيه انه لا يخفى على العارف بأساليب الكلام ان المتبادر من هذه العبارة والمنساق منها إنما هو بلد الإقامة الخارجة عن وطنه والعبارة المطابقة إذا أريد ذلك انما يقال «يرجع اليه» لا «يذهب» وهذا ظاهر لمن نظر بعين الإنصاف وجانب التعصب والاعتساف.

ورابعا ـ ان ما ذكره ـ من الجواب عن الإشكال بما اشتمل عليه الخبران من حكم الخمسة من توجيهه بان المراد بالتقصير في النهار يعنى ترك النوافل النهارية وان كان يتم الفريضة ـ فهو مثل تأويلاته المتقدمة التي قد عرفت بما ذكرنا انها متزعزعة منهدمة ، ومن الذي يعجزه مثل هذه التأويلات الغثة الباردة والتحملات

٤٠٣

السخيفة الشارة التي قد عرفت انه لو انفتح في أمثالها الباب لانسد باب الاستدلال وعلا الباطل الصواب.

وبالجملة فإن ما أطال به هذا الفاضل (قدس‌سره) حجة للقول المشهور ظاهر القصور واضح الفطور وان كان بزعمه انه كالنور على الطور في الظهور ، نعم ربما لاح من صحيحة هشام المشار إليها في كلامه (١) وقوله عليه‌السلام فيها «المكاري والجمال الذي يختلف وليس له مقام يتم الصلاة ويصوم شهر رمضان». ما ذكره إلا انها ليست ظاهرة في ذلك بل ربما كان الظاهر منها انما هو بيان ان هؤلاء الذين عادتهم الاختلاف كلما عرض لهم من يكتري دوابهم ليس لهم تأخر عن ذلك ولا توقف عنه ـ كما يشير اليه قوله في رواية إسحاق بن عمار المتقدمة «كلما جاءهم شي‌ء اختلفوا» ـ يجب عليهم إتمام الصلاة والصوم وان أقاموا عشرة أو أزيد مع عدم وجود من يكتري دوابهم. ولا يخفى على الناظر في ما هو العادة الجارية الآن ان المكاري كثيرا ما يتوقف في وطنه أو البلد الذي يذهب إليه عشرة ، وبذلك صرح شيخنا المجلسي في البحار ايضا فقال : وقل مكار لا يقيم في بلده أو البلد الذي يذهب إليه عشرة أيام. انتهى. وهو جيد وبه يعظم الاشكال. وكيف كان فالاحتياط في أمثال هذه المواضع طريق السلامة. والله العالم.

السابع ـ من الشروط المتقدمة ان يتوارى عن البيوت ـ بمعنى انه لا يراه أحد ممن كان عند البيوت التي هي آخر خطة البلد ـ أو يخفى عليه أذان البلد ، والمراد كفاية أحدهما في ترخص القصر والانتقال من الإتمام إلى التقصير.

والأصل في هذين الشرطين ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) في الصحيح عن محمد بن مسلم (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجل يريد السفر متى يقصر؟ قال إذا توارى من البيوت».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان عنه عليه‌السلام (٣) قال : «سألته

__________________

(١) ص ٣٩٠.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٦ من صلاة المسافر.

٤٠٤

عن التقصير قال إذا كنت في الموضع الذي تسمع فيه الأذان فأتم وإذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصر ، وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك».

وما رواه البرقي في المحاسن في الصحيح عن حماد بن عثمان عن رجل عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «إذا سمع الأذان أتم المسافر».

وقال في كتاب الفقه الرضوي (٢) «وان كان أكثر من بريد فالتقصير واجب إذا غاب عنك أذان مصرك ، وان كنت في شهر رمضان فخرجت من منزلك قبل طلوع الفجر الى السفر أفطرت إذا غاب عنك أذان مصرك».

وقد تقدم (٣) في رواية إسحاق بن عمار المنقولة من كتاب العلل في المقام الثاني في بيان ما هو المختار من الأقوال في مسافة الأربعة الفراسخ قوله فيها «أليس قد بلغوا الموضع الذي لا يسمعون فيه أذان مصرهم الذي خرجوا منه. الى آخره» من ما يؤذن بكون خفاء الأذان موجبا للترخص.

وما ذكرناه من التخيير في الترخص بين الأمرين المذكورين هو أحد الأقوال في المسألة جمعا بين اخبارها المذكورة ، وهو المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) سيما المتقدمين إلا انهم عبروا هنا بخفاء جدران البلد بمعنى انه لا يجب عليه التقصير حتى يتوارى عنه جدران البلد الذي خرج منه أو يخفى عليه أذانها. وقيل بخفائهما معا ونقل عن المرتضى والشيخ في الخلاف ونسبه شيخنا الشهيد الثاني إلى المشهور بين المتأخرين. وقال على بن بابويه : إذا خرجت من منزلك فقصر الى أن تعود اليه. واعتبر الشيخ المفيد وسلار الأذان خاصة. وقال ابن إدريس الاعتماد عندي على الأذان المتوسط دون الجدران. وعن الصدوق في المقنع انه اعتبر خفاء الحيطان.

أقول : لا يخفى ان الظاهر من صحيحة محمد بن مسلم المذكورة وقوله فيها : «إذا توارى من البيوت» انما هو بمعنى إذا بعد المسافر بالضرب في الأرض على وجه

__________________

(١) الوسائل الباب ٦ من صلاة المسافر.

(٢) ص ١٦.

(٣) ص ٣٢٦.

٤٠٥

لا يراه أهل البيوت ، والمراد بالتواري عن البيوت أى من أهل البيوت بتقدير مضاف كما في قوله عزوجل «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ..(١) أى أهل القرية. هذا هو ظاهر اللفظ بغير اشكال وبه يقرب مقتضى هذا الخبر ونحوه من خبر خفاء الأذان فإن توارى المسافر عن أهل البلد وخفاء الأذان متقاربان ولا يضر التفاوت اليسر ، فان مدار أمثال هذه الأمور في الشرع على التقريب كما هو كذلك عرفا وتبادرا. وأما ما ذكره الأصحاب ـ من حمل الخبر على خفاء البيوت عن المسافر حملا لقوله «إذا توارى من البيوت» على معنى توارى البيوت عنه ـ فمع كونه خلاف ظاهر اللفظ المذكور لا يخفى ما فيه من التفاوت الفاحش بين العلامتين المذكورتين ، فإنه بعد أن يخفى عليه سماع الأذان لا يخفى عليه جدران البلد إلا بعد مسافة زائدة كما هو ظاهر لمن تأمل.

والسبب في اختلاف الأقوال هنا هو اختلاف الأفهام في الجمع بين أخبار المسألة ، فبعضهم جمع بالتخيير كما ذكرناه إلا انه بناء على القول المشهور لا يخلو من اشكال كما عرفت ، وبعض كالمرتضى والشيخ في الخلاف ومن تبعهما جمعوا بين الخبرين بتقييد كل منهما بالآخر ، فيلزم ارتكاب التخصيص في كل منهما ، وهو بعيد جدا بقرينة الاكتفاء بأحدهما في كل من الخبرين فهو في قوة تأخير البيان عن وقت الحاجة.

وأما من ذهب الى الاعتماد على الأذان المتوسط دون التواري فلعله لتعدد رواياته وكونه أضبط لاعتباره الأذان المتوسط مع اختلاف البيوت والجدران في سرعة الخفاء وعدمها بحيث يرى بعضها من أزيد من فرسخ ، وللتفاوت الفاحش بين خفاء الأذان والجدران كما أشرنا إليه آنفا. والحق هو ما ذكرناه من التخيير بناء على المعنى الذي فهمناه من الخبر.

وأما ما نقل عن الشيخ على بن بابويه فقيل ان وجهه الاعتماد على ما رواه

__________________

(١) سورة يوسف الآية ٨٢.

٤٠٦

ابنه الصدوق في الفقيه مرسلا (١) حيث قال : وقد روى عن الصادق عليه‌السلام انه قال : «إذا خرجت من منزلك فقصر الى ان تعود اليه». قال في الذخيرة : ولو صحت كان الجمع بالتخيير قبل الوصول الى حد الخفاء متجها لكن صحتها غير معلوم. انتهى.

أقول : ومثل هذه الرواية ما رواه الشيخ في الموثق عن على بن يقطين عن ابى الحسن عليه‌السلام (٢) «في الرجل يسافر في شهر رمضان أيفطر في منزله؟ قال إذا حدث نفسه في الليل بالسفر أفطر إذا خرج من منزله. الخبر».

ويمكن أن يكون مثلهما ايضا ما رواه في المحاسن في الصحيح عن حماد بن عثمان عن رجل عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) «في الرجل يخرج مسافرا؟ قال يقصر إذا خرج من البيوت». بحمل البيوت على بيت المسافر ، مع إمكان حملها على بيوت البلد ، والمراد من الخروج منها التواري المعتبر في الترخص جمعا بينها وبين روايات المسألة ولعله الأقرب.

هذا. ولا يخفى عليك ان ما صرح به الشيخ المشار اليه هنا عن ما ذكره في كتاب الفقه الرضوي حيث قال عليه‌السلام (٤) : «وان خرجت من منزلك فقصر الى أن تعود اليه». ومنه يعلم ان مستنده إنما هو الكتاب المذكور على الطريقة التي عرفتها في غير مقام من ما تقدم وسيأتي ان شاء الله تعالى.

وبذلك يظهر لك قوة ما ذهب اليه الشيخ المذكور لدلالة هذه الروايات المذكورة عليه ، ولا وجه للجمع بينها وبين ما دل من الأخبار المتقدمة على اناطة التقصير بمحل الترخص إلا ما ذكره في الذخيرة من التخيير قبل وصول حد الخفاء إلا انه يخدشه لفظ الضرب في آية السفر لترتب التقصير فيها على الضرب في

__________________

(١) الوسائل الباب ٧ من صلاة المسافر.

(٢) الوسائل الباب ٥ ممن يصح منه الصوم.

(٣) الوسائل الباب ٦ من صلاة المسافر.

(٤) ص ١٦.

٤٠٧

الأرض الذي هو عبارة عن السير فيها ، وحينئذ فيكون ما دلت عليه هذه الأخبار مخالفا لظاهر الآية ، واخبار الترخص بوصول حد الخفاء منطبقة عليها وموافقة لها فترجح بذلك على هذه الأخبار ، ولا يبعد حمل هذه الأخبار على التقية كما احتمله بعض أصحابنا أيضا ولعله الأرجح وان لم يعلم القائل منهم بذلك (١) وكيف كان فالقول المعتمد في المسألة ما قدمنا ذكره أولا. والله العالم.

تنبيهات

الأول ـ قال في المدارك : وذكر الشارح ان المعتبر في رؤية الجدار صورته لا شبحه ومقتضى الرواية اعتبار التواري من البيوت ، والظاهر ان معناه وجود الحائل بينه وبينها وان كان قليلا وانه لا يضر رؤيتها بعد ذلك لصدق التواري أولا وذكر الشهيدان ان البلد لو كانت في علو مفرط أو وهدة اعتبر فيها الاستواء تقديرا ويحتمل قويا الاكتفاء بالتواري في المنخفض كيف كان لا طلاق الخبر. انتهى. هكذا في بعض نسخ الكتاب وفي بعضها : ومقتضى الرواية التواري من البيوت والظاهر ان معناه استتاره عنها بحيث لا يرى لمن كان في البلد وذكر الشهيدان. الى آخر ما تقدم.

والظاهر ان النسخة الأولى هي القديمة التي خرجت عنه أولا والثانية تضمنت العدول عن ما ذكره أولا ، وقد وقع له مثل ذلك في مواضع من شرحه هذا كما في مسألة القراءة في صلاة الجمعة ، إلا ان قوله بعد ذكر ما نقله عن الشهيدين في العلو

__________________

(١) في المغني ج ٢ ص ٢٥٩ عن سليمان بن موسى وعطاء انهما باحا القصر في البلد لمن نوى السفر ، وعن الحارث بن أبي ربيعة انه أراد سفرا فصلى في منزله ركعتين وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب عبد الله ، ورى عبيد بن جبير قال : كنت مع ابى بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في شهر رمضان فدفع ثم قرب غداءه فلم يجاوز حتى دعا بالسفرة ثم قال اقترب. قلت ألست ترى البيوت؟ قال أبو بصرة أترغب عن سنة رسول الله «ص» فأكل رواه أبو داود.

٤٠٨

المفرط والوهدة : «ويحتمل قويا الاكتفاء بالتواري في المنخفض» انما ينطبق على النسخة الأولى التي عدل عنها وهو قد أصلح هذا الموضع وغفل عن ذلك ، وبيان ذلك ان الظاهر ان ما اشتملت عليه هذه النسخة الأخيرة يرجع الى ما اخترناه في معنى الرواية وان المراد منها خفاء المسافر عن أهل البلد لا خفاء البلد عن المسافر ، وحينئذ فقوله بعد نقله عن الشهيدين اعتبار الاستواء في البلد بان لا تكون في علو مفرط ولا وهدة : «ويحتمل قويا. الى آخره» إنما يتجه على النسخة القديمة ، اللهم إلا أن يريد بعبارته الأخيرة وقوله : «استتاره عنها بحيث لا يرى لمن كان في البلد» هو الاستتار كيف اتفق ولو بوجود الحائل ، إلا انه لا يظهر حينئذ لهذا العدول عن العبارة الأولى الى هذه العبارة وجه لرجوع هذه العبارة بهذا المعنى إلى العبارة الأولى كما لا يخفى.

وكيف كان فإنه ينبغي أن يعلم ان المراد من قوله عليه‌السلام : «إذا توارى» إنما هو التواري والخفاء بالضرب في الأرض والسير فيها والبعد عن البلد كما دلت عليه الآية الشريفة لا التواري كيف اتفق كما توهمه ، فان قوله عزوجل «وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ» الذي هو شرط التقصير إنما يتحقق بالسير فيها والبعد عن البلد ، وهي وان كانت مجملة في قدر البعد إلا ان النصوص الواردة في تحديد محل الترخص قد أوضحت إجمال الآية وان المراد الضرب الى هذا المقدار الذي دلت عليه النصوص المشار إليها ، وهذا هو المعنى الذي فهمه الأصحاب (رضوان الله عليهم) من الخبر المذكور ، ولم يذهب الى هذا الوهم الذي توهمه أحد سواه (قدس‌سره) ومن الظاهر انهم (عليهم‌السلام) أرادوا بهذه الأخبار وضع قاعدة كلية وبيان ضابطة جلية يترتب عليها حكم التقصير والتمام ذهابا وهو إما خفاء المسافر عن أهل البلد أو خفاء الأذان عليه ، وأما وجود الحائل الذي قد يكون وقد لا يكون وقد يبعد وقد يقرب مع عدم الدليل عليه فلا يصلح لأن يكون ضابطا كليا ولا قانونا جليا. وبالجملة فإن ما ذكره (قدس‌سره) لا يخلو من مجازفة أو غفلة. والله العالم.

٤٠٩

الثاني ـ قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لا عبرة بأعلام البلد كالمنارة والقلاع والقباب ، قالوا : ولا عبرة بسماع الأذان المفرط في العلو كما انه لا عبرة بخفاء الأذان المفرط في الانخفاض. أقول : والجميع من ما لا بأس به حملا للروايات المتقدمة على ما هو الغالب المعروف.

ثم انهم صرحوا أيضا بان ما دلت عليه الأخبار المتقدمة من خفاء البيوت وخفاء الأذان المراد به بيوت البلد وأذانه بالنسبة إلى القرية والبلد الصغيرة أو المتوسطة ، وأما لو كان البلد كبيرة متسعة ـ قالوا وهي التي اتسعت خطتها بحيث تخرج عن العادة ـ فإنهم جعلوا لكل محلة منها حكم نفسها بالنسبة إلى تقدير مسافة الترخص التي هي عبارة عن خفاء الأذان والجدران عند السفر منها ، فقالوا ان الاعتبار في خفاء الأذان والجدران الموجب للتقصير مبدأه من آخر خطة البلد إلا ان تكون متسعة على الوجه المذكور فالمعتبر جدران آخر المحلة ، وكذا أذان مسجد المحلة.

ولم نظفر لهم في هذا الفرق والتفصيل ولا في اعتبار المحلة بدليل يعتمد عليه ولم يصرح أحد منهم بالدليل على ذلك وكأنه أمر مسلم بينهم ، بل ربما دلت ظواهر الأخبار المتقدمة على رده نظرا إلى إطلاقها أو عمومها.

ويعضد ذلك أيضا موثقة غياث بن إبراهيم عن الصادق عن أبيه الباقر (عليهما‌السلام) (١) «انه كان يقصر الصلاة حين يخرج من الكوفة في أول صلاة تحضره».

والتقريب فيها انه لا ريب ان الكوفة كانت من البلدان العظام المتسعة والخبر دل على انه إنما يقصر الصلاة بعد الخروج منها ، والخروج منها وان كان بحسب ما يتراءى في بادئ النظر مجملا إلا أنك بمعونة ما عرفت سابقا من أن حدود البلد عبارة عن ما ينتهى إلى محل الترخص فالمراد بالخروج منها حينئذ هو الوصول الى ذلك المكان ، ولو كان الحكم كما ذكروه من الاعتبار بالمحلة في البلد المتسعة والحال ان هذه البلد كذلك

__________________

(١) الوسائل الباب ٦ من صلاة المسافر.

٤١٠

لما أخر التقصير الى الخروج منها ولما علق الحكم بها بل ينبغي ان يعلقه بالمحلة.

وروى البرقي في المحاسن في الصحيح عن حماد بن عثمان عن رجل عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «المسافر يقصر حتى يدخل المصر».

والتقريب فيه كما تقدم من أن المراد بدخول المصر الوصول إلى أول حدوده وهو تجاوز محل الترخص داخلا ، فإنه لما كانت حدود البلد منتهية إلى المكان المشار اليه فبدخولها يصدق دخول المصر كما هو ظاهر ، ومن الظاهر ان لفظ المصر انما يطلق على البلدان المتسعة دون القرى والبلدان الصغار ، ولذا قالوا للكوفة والبصرة المصرين كما وقع في الأخبار وكلام أهل اللغة ، وكثيرا ما تراهم في كلامهم سيما في باب صلاة الجمعة يقابلون بين الأمصار والقرى ، ولو كان الأمر كما يدعونه من الاعتبار بالمحلة في البلد المتسعة لم يجعل هنا غاية التقصير ما ذكرناه بل غايته باعتبار المحلة وسماع أذانها أو رؤية جدرانها.

على ان اللازم من ما ذكروه هنا انه لو عزم على الإقامة في البلد المتسعة فالواجب مراعاة المحلة ، بمعنى ان ما صرحوا به في حكم من أقام عشرة في بلد خاصة ـ من انه لا يجوز له تجاوز محل الترخص منها وانه متى نوى ذلك في أصل نية الإقامة بطلت نيته ـ يجري في المحلة ، فعلى هذا لا يجوز له الخروج إلى سائر المحاليل الخارجة عن هذا المقدار بالنسبة إلى محلته ، وهو مع كونه لم يصرحوا به في تلك المسألة موجب للحرج في منع المسافر المقيم من التردد في البلد لقضاء حوائجه ومطالبه كما هو الغالب الذي عليه كافة الناس ، مع انه لم يظهر له أثر ولا خبر في الأخبار سيما مع عموم البلوى به مضافا الى أصالة براءة الذمة منه.

وبالجملة فإن ما صرحوا به هنا من هذا التفصيل لا يخلو من الاشكال كما عرفت. والله العالم.

الثالث ـ قد عرفت الكلام في حد الترخص حال الذهاب وما فيه من الخلاف

__________________

(١) الوسائل الباب ٦ من صلاة المسافر.

٤١١

بين الأصحاب وما هو المختار في الباب ، وقد اختلفوا أيضا في حكم الإياب فظاهر القولين المشهورين المتقدمين ـ من اعتبار التخيير بين خفاء الأذان وخفاء الجدران كما هو المشهور بين المتقدمين أو اعتبارهما معا كما هو المشهور بين المتأخرين ـ هو كون ذلك في الذهاب والإياب ، إلا ان المرتضى الذي هو أحد القائلين بالقول المشهور بين المتأخرين ذهب هنا الى ما ذهب اليه الشيخ على بن بابويه وابن الجنيد من القول بالتقصير الى المنزل ، وقد عرفت الاختلاف في الذهاب بين مذهب المرتضى والشيخ المذكور.

وذهب المحقق في الشرائع إلى موافقة المتقدمين في الذهاب وهو الاكتفاء بأحد الأمرين وخالفهم في الإياب فذهب الى وجوب التقصير حتى يسمع الأذان واختاره في المدارك عملا بصحيحة ابن سنان (١).

قال في المدارك بعد نقل عبارة المحقق في ذلك : ما اختاره المصنف (قدس‌سره) في حكم العود أظهر الأقوال في المسألة لقوله عليه‌السلام في رواية ابن سنان المتقدمة (٢) «وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك». وانما لم يكتف المصنف هنا بأحد الأمرين كما اعتبره في الذهاب لانتفاء الدليل هنا على اعتبار رؤية الجدران.

والأظهر عندي بالنسبة إلى الذهاب ما تقدم من التخيير عملا بالروايتين المتقدمتين وجمعا بينهما بذلك ، وأما في الإياب فهو ما ذهب اليه الشيخ على بن بابويه ومن تبعه.

لنا على الأول ما عرفت وعلى الثاني الأخبار المتكاثرة التي قدمناها في التنبيه الذي في آخر المقام الثاني من مقامات الشرط الرابع (٣) فإنها صحيحة متكاثرة متعاضدة الدلالة على ما قلناه.

والأصحاب (رضوان الله عليهم) لم يذكروا ما قدمنا ذكره كملا وإنما أوردوا بعض ذلك وأجابوا عن ما نقلوه منها.

__________________

(١ و ٢) ص ٤٠٤ و ٤٠٥.

(٣) ص ٣٧٦.

٤١٢

فمن ذلك ما أجاب به في الروض حيث قال بعد تصريحه باختيار ما ذهب اليه المصنف من اعتبارهما معا ذهابا وإيابا كما قدمنا نقله عنهم : وخالف هنا جماعة حيث جعلوا نهاية التقصير دخول المنزل استنادا الى اخبار تدل على استمرار التقصير الى دخول المنزل ، ولا صراحة فيها بالمدعى فان ما دون الخفاء في حكم المنزل. انتهى.

وهو راجع الى ما أجاب به العلامة في المختلف ايضا حيث قال بعد أن أورد صحيحة العيص وموثقة إسحاق بن عمار : المراد بهما الوصول الى موضع يسمع الأذان ويرى الجدران فان من وصل الى هذا الموضع يخرج عن حكم المسافر فيكون بمنزلة من يصل الى منزله. انتهى.

وفيه ان جملة من اخبار المسألة التي قدمناها قد صرحت بوجوب التقصير بعد دخول البلد وقصرت الإتمام على المنزل :

مثل قوله عليه‌السلام في موثقة إسحاق بن عمار (١) التي ذكرها «الرجل يكون مسافرا ثم يقدم فيدخل بيوت الكوفة أيتم الصلاة أم يكون مقصرا حتى يدخل أهله؟ قال بل يكون مقصرا حتى يدخل أهله».

وفي صحيحة معاوية بن عمار (٢) قال عليه‌السلام «ان أهل مكة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم أتموا وإذا لم يدخلوا منازلهم قصروا». ونحوها صحيحة الحلبي (٣).

والجميع كما ترى صريح في وجوب التقصير في البلد ما لم يدخل منزله فكيف يتم ما ذكروه من التأويل المذكور.

وصاحب المدارك ومثله الفاضل الخراساني التجأوا في الجمع بين هذه الاخبار وبين عجز صحيحة ابن سنان الى القول بالتخيير بمعنى انه بعد وصوله الى محل الترخص من سماع الأذان الذي هو مورد الرواية المذكورة فإنه يتخير بين القصر

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٧ من صلاة المسافر.

(٣) الوسائل الباب ٣ من صلاة المسافر.

٤١٣

والإتمام الى أن يدخل منزله.

وفيه ان ظواهر الأخبار المذكورة ظاهرة بل صريحة في وجوب التقصير ما لم يدخل منزله ولا سيما موثقة ابن بكير المتقدمة ثمة ، والأظهر أن يقال ان غاية ما تدل عليه صحيحة ابن سنان المذكورة بمنطوقها هو وجوب التقصير في الرجوع الى أن يسمع الأذان ، ومفهومه انه متى سمع الأذان أتم ، والمعارضة إنما حصلت بهذا المفهوم ، ولا ريب في ضعف معارضة المفهوم للمنطوق سيما إذا تعدد هذا المنطوق في روايات عديدة صريحة صحيحة ، فيمكن اطراحها والقول بان الغرض من الرواية إنما تعلق بالمنطوق دون المفهوم وان المراد ان المسافر يقصر الى هذه الغاية وان قصر بعدها ايضا. هذا على تقدير رواية الصحيحة المذكورة بحذف صدرها كما تقدمت الإشارة اليه ، وأما مع ثبوته فإنها وان دلت على ما ذكروه لكن لا يبقى وثوق به بعد معارضة الصحاح المذكورة. وربما حمل عجزها المذكور على التقية لأن مذهب أكثر العامة كما ذهب إليه جملة من أصحابنا هو أن المسافر لا يزال مقصرا الى أن يصل الى الموضع الذي ابتدأ فيه بالقصر فيتم بعده (١) إلا ان بعضهم ايضا احتمل حمل هذه الأخبار على التقية كما يظهر من صاحب الوسائل ، والظاهر ان الأمر بالعكس انسب لما ذكرناه. وكيف كان فالأظهر

__________________

(١) في الفقه على المذاهب الأربعة ج ١ ص ٤٣٢ الى ٤٣٥ : عند الحنفية إذا عاد المسافر الى المكان الذي خرج منه بعد قطع مسافة القصر فإنه لا يتم إلا إذا عاد بالفعل فلا يبطل القصر بمجرد نية العود ولا بالشروع فيه. وعند المالكية إذا سافر من بلد قاصدا قطع مسافة القصر ثم رجع الى بلدته الأصلية فإنه يتم بمجرد دخولها ، وفي حال رجوعه وسيره ينظر فان كانت مسافة الرجوع مسافة قصر قصر وعند الشافعية إذا رجع الى وطنه بعد ان سافر منه انتهى سفره بمجرد وصوله اليه سواء رجع إليه لحاجة أو لا ويقصر في حال رجوعه حتى يصل. وعند الحنابلة إذا رجع الى وطنه الذي ابتدأ السفر منه أولا فإن كانت المسافة بين وطنه وبين المحل الذي نوى الرجوع اليه قدر مسافة القصر قصر في حال رجوعه.

٤١٤

عندي من الأخبار هو ما عرفت.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه قد ظهر من ذكر هذه الشروط السبعة المذكورة هنا ضابطتان كليتان ، وهو انه متى كملت هذه الشروط فلا يجوز الإتمام بحال إلا في مواضع قد دلت النصوص وكلام الأصحاب على استثنائها ، ومنها ـ جاهل الحكم مع استكماله الشرائط الموجبة للقصر على الأشهر الأظهر ، ومنها ـ الناسي وقد خرج الوقت. ومنها ـ من كان في أحد المواطن الأربعة. والضابطة الثانية ان كل من لم يستكمل هذه الشروط فالواجب عليه التمام إلا في مواضع مستثناة ايضا ، ومنها ـ من قصر جهلا مع فقد الشرائط على الأظهر ، ومنها ـ من جد به السير ومن أقام عشرة من المكارين ، فان مقتضى القاعدة المذكورة وجوب الإتمام عليهم لاختلال بعض الشروط وهو عدم كون السفر عمله إلا ان النصوص وردت بالتقصير لهم. وجميع هذه المسائل قد مضى بعضها وسيأتي ان شاء الله تعالى تحقيق القول في ما لم يتقدم له ذكر. والله العالم بحقائق أحكامه.

المطلب الثاني في الأحكام

والبحث يقع فيه في مسائل الأولى ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أنه لو نوى اقامة عشرة أيام فصاعدا في موضع ثم بدا له الرجوع عن الإقامة فإنه يقصر إلا أن يكون قد صلى فريضة بتمام فإنه يجب عليه الإتمام حينئذ حتى يخرج من موضع الإقامة ويقصد المسافة ، قال في المدارك : هذا الحكم ثابت بإجماعنا.

والأصل في الحكم المذكور ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابى ولاد الحناط (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام انى كنت نويت حين دخلت المدينة ان أقيم بها عشرة أيام فأتم الصلاة ثم بدا لي بعد أن لا أقيم بها فما ترى لي أتم أم قصر؟ فقال

__________________

(١) الوسائل الباب ١٨ من صلاة المسافر.

٤١٥

ان كنت دخلت المدينة وصليت بها صلاة فريضة واحدة بتمام فليس لك أن تقصر حتى تخرج منها ، وان كنت حين دخلتها على نيتك التمام ولم تصل فيها صلاة فريضة بتمام حتى بدا لك أن لا تقيم فأنت في تلك الحال بالخيار ان شئت فانو المقام عشرا وأتم وان لم تنو المقام عشرا فقصر ما بينك وبين شهر فإذا مضى لك شهر فأتم الصلاة.

ولا ينافي ذلك ما رواه الشيخ والصدوق عن حمزة بن عبد الله الجعفري (١) قال : «لما نفرت من منى نويت المقام بمكة فأتممت الصلاة حتى جاءني خبر من المنزل فلم أجد بدا من المصير الى المنزل ولم أدر أتم أم أقصر وأبو الحسن عليه‌السلام يومئذ بمكة فأتيته وقصصت عليه القصة فقال ارجع الى التقصير».

فان الوجه فيه ان المراد بالجواب انما هو الأمر بالتقصير بعد السفر والخروج فهو كناية عن الأمر له بالسفر بمعنى سافر وقصر ، إذ الظاهر ان مراد السائل انما هو الاستفهام عن من نوى الإقامة هل يجوز له ابطالها والخروج والقصر فيه أم لا بد من الإتمام ولو في الطريق الى أن يتم أيام الإقامة؟ كما يتوهمه كثير ممن لم يقف على حكم المسألة فأجابه عليه‌السلام بالأول وحينئذ فلا اشكال.

وتحقيق الكلام في المقام يتوقف على بسطه في مواضع : الأول ـ الظاهر من إطلاق قوله في صحيحة أبي ولاد المذكورة «حتى بدا لك أن لا تقيم» انه بمجرد العدول عن نية الإقامة قبل الصلاة على التمام سواء كان بقصد المسافة أو التردد في الإقامة وعدمها يلزم الرجوع الى التقصير ما لم ينو إقامة عشرة غير الأولى ، وهذا هو المعروف من مذهب الأصحاب لا نعلم فيه خلافا.

لكن يظهر من كلام الشهيد الثاني (قدس‌سره) وجود الخلاف في ذلك وان مجرد العدول عن النية السابقة قبل الصلاة لا يقتضي التقصير ما لم يقصد مسافة ، لأنه قال : ويحتمل اشتراط المسافة بعد ذلك لا طلاق النص والفتوى ان نية الإقامة تقطع السفر فيبطل حكم ما سبق كما لو وصل الى وطنه ، وبما قلناه

__________________

(١) الوسائل الباب ١٨ من صلاة المسافر.

٤١٦

افتى الشهيد في البيان. انتهى. وهو كما ترى صريح في ما قلناه.

ورواية أبي ولاد المذكورة مطلقة كما ترى في العدول عن نية الإقامة ، وحملها على قصد المسافة ـ بسبب احتمال ارادة الخروج إلى الكوفة لأن الراوي كوفي كما ذكره (قدس‌سره) في شرح الإرشاد ـ بعيد جدا فالمقام لا يخلو عن اشكال. كذا أفاده والدى (عطر الله مرقده) في حواشيه على كتاب الاستبصار وهو جيد وجيه.

والظاهر ان ما احتمله شيخنا الشهيد الثاني من اشتراط المسافة بعيد وفيه تقييد للنص المذكور من غير دليل ، وتخيل ان السائل كوفي فيحتمل حمل الخبر على إرادته الخروج إلى الكوفة خيال بعيد ، ولو بنيت الأحكام الشرعية على مثل هذه الخيالات البعيدة والاحتمالات السخيفة لا تسع المجال وكثر القيل والقال وبطل الاستدلال إذ لا قول إلا وهو قابل للاحتمال وان بعد كما لا يخفى على ذوي الكمال. والاحتجاج بإطلاق النص والفتوى بأن نية الإقامة تقطع السفر مسلم مع بقائها واستصحابها ، وهذا هو الذي دل عليه النص والفتوى وبه يبطل حكم ما سبق كما ذكره ، وأما مع العدول عن النية كما هو المفروض فان هذه الدعوى ممنوعة كما لا يخفى على المتأمل المنصف.

قال شيخنا المجلسي (قدس‌سره) في كتاب البحار بعد إيراد عبارة الفقه الرضوي التي هي في معنى الرواية المذكورة ما لفظه : وظاهر الأصحاب انه لا يشترط في الرجوع الى التقصير في صورة العدول عن نية الإقامة من غير صلاة كون الباقي مسافة ، وقواه الشهيد الثاني (قدس‌سره) واحتمل الاشتراط ، وإطلاق هذه الرواية وغيرها يؤيد المشهور. انتهى.

وبما ذكرناه في المقام يظهر ضعف ما جنح إليه في الذخيرة في هذه المسألة من الميل الى هذا الاحتمال.

الثاني ـ لا إشكال في الانقطاع بالصلاة المقصورة إذا صلاها تماما بعد نية الإقامة أما لو صلى غيرها من ما لم يكن مقصورا كالصبح والمغرب بعد النية فهل

٤١٧

يكفي في الانقطاع ووجوب استصحاب التمام الى أن يقصد المسافة؟ إشكال ولم أقف على مصرح بذلك من الأصحاب (رضوان الله عليهم) نفيا وإثباتا ، والرواية لا تخلو من الإجمال لأن قوله «بتمام» في الموضعين محتمل لان يكون المراد «صليت فريضة مقصورة بتمام» وحينئذ فلا يثبت الحكم بغير المقصورة إذا أتمها ، ويحتمل أن يكون المعنى صليت فريضة بعد قصد التمام في المقصورات ، والظاهر بعده إذ لو كان مجرد صلاة الفريضة مقصورة أو غير مقصورة كافيا بنية التمام لم يكن للإتيان بهذا القيد وجه يعتد به ، لأن نية الإقامة قد حصلت بالاستقلال ومن شأنها الانتقال من حكم المسافر الى حكم الحاضر بالنسبة إلى الصلاة والصوم والشرط معها صلاة فريضة ، فلو لم يعتبر في تلك الفريضة أن تكون من الفرائض المقصورات التي هي عبارة عن ركعتين بأن يأتي بها أربعا كما هو ظاهر العبارة بل يكفى مثل الصبح والمغرب لم يكن لضم هذا القيد في الكلام وجه بل يكفى أن يقول «صليت صلاة فريضة» بقول مطلق ، لا سيما مع الاتفاق على انه لا يشترط قصد القصر والإتمام ولا نيتهما في الإتيان بكل من المقصورة والتامة. ويعضد ما قلناه انه قد وقع ما يقرب من هذه العبارة مرادا بها ما قلناه في صحيحة أبي ولاد المتقدمة في الشرط الثالث من شروط التقصير حيث قال عليه‌السلام : «فان عليك أن تقضى كل صلاة صليتها في يومك ذلك بالتقصير بتمام. الخبر».

وبالجملة فالظاهر عندي قصر الحكم على الصلاة المقصورة وان يأتي بها تماما دون غيرها من ما لم يدخله التقصير. والله العالم.

الثالث ـ قد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في إلحاق الصوم الواجب بالصلاة الفريضة في هذا المقام ، فقيل بالإلحاق بمجرد الشروع في الصوم الواجب المشروط بالحضر. وهو اختيار العلامة في جملة من كتبه لوجود أثر النية.

وقيل بذلك ايضا لكن يجب تقييده بما إذا زالت الشمس قبل الرجوع عن نية الإقامة ، وهو اختيار شيخنا الشهيد الثاني في الروض.

٤١٨

وقيل بعدم الإلحاق وقصر الحكم على الصلاة ، وهو اختيار جمع من الأصحاب : منهم ـ الشهيد والمحقق الشيخ على والسيد السند في المدارك والفاضل الخراساني في الذخيرة.

وهو الظاهر لان الحكم في النص وقع معلقا على الصلاة وتعديته الى غيرها يحتاج الى دليل شرعي وإلا كان قياسا محضا وهو لا يوافق أصول المذهب. ومقتضى النص المذكور رجوع التقصير بعد العدول عن نية الإقامة التي لم يصل بها أعم من أن يكون صام بتلك النية أو لم يصم زالت الشمس أم لم تزل فيكون الحكم ثابتا في جميع الصور المذكورة.

احتج شيخنا الشهيد الثاني في الروض بأنه لو فرض ان هذا الصائم سافر بعد الزوال فلا يخلو إما ان يجب عليه الإفطار أو إتمام الصوم ، لا سبيل إلى الأول للأخبار الصحيحة الشاملة بإطلاقها أو عمومها لهذا الفرد الدالة على وجوب المضي على الصوم :

كصحيحة الحلبي عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) «انه سئل عن الرجل يخرج من بيته وهو يريد السفر وهو صائم؟ قال ان خرج قبل أن ينتصف النهار فليفطر وليقض ذلك اليوم وان خرج بعد الزوال فليتم يومه».

وصحيحة محمد بن مسلم عنه عليه‌السلام (٢) «إذا سافر الرجل في شهر رمضان فخرج بعد نصف النهار فعليه صيام ذلك اليوم». وغيرهما.

فيتعين الثاني وحينئذ فلا يخلو إما أن يحكم بانقطاع نية الإقامة بالرجوع عنها بعد الزوال وقبل الخروج أولا ، لا سبيل إلى الأول لاستلزامه وقوع الصوم الواجب سفرا بغير نية الإقامة وهو غير جائز إجماعا إلا ما استثنى من الصوم المنذور على وجه وما ماثله وليس هذا منه ، فيثبت الآخر وهو عدم انقطاع نية الإقامة بالرجوع عنها بعد الزوال سواء سافر حينئذ بالفعل أم لم يسافر ، إذ لا

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٥ ممن يصح منه الصوم.

٤١٩

مدخل للسفر في صحة الصوم وتحقق الإقامة بل حقه أن يحقق عدمها وقد عرفت عدم تأثيره فيها فإذا لم يسافر بقي على التمام الى أن يخرج إلى المسافة وهو المطلوب. انتهى ملخصا.

وفيه ما ذكره سبطه السيد السند (قدس‌سره) في المدارك حيث قال بعد نقل ذلك عنه : ولقائل أن يقول لا نسلم وجوب إتمام الصوم والحال هذه ، وما أشار إليه (قدس‌سره) من الروايات المتضمنة لوجوب المضي في الصوم غير صريحة في ذلك بل ولا ظاهرة ، إذ المتبادر منها تعلق الحكم بمن سافر من موضع يلزم فيه الإتمام وهو غير متحقق هنا فإنه نفس النزاع ، سلمنا وجوب الإتمام لكن لا نسلم اقتضاء ذلك لعدم انقطاع نية الإقامة بالرجوع عنها في هذه الحالة ، واستلزام ذلك لوقوع الصوم الواجب سفرا لا محذور فيه لوقوع بعضه في حال الإقامة ، ولأنه لا دليل على امتناع ذلك (فان قلت) انه يلزم من وجوب إتمام الصوم إتمام الصلاة لعكس نقيض قوله عليه‌السلام (١) : «إذا قصرت أفطرت». (قلت) هذا بعد تسليم عمومه مخصوص بمنطوق الرواية المتقدمة المتضمنة للعود الى القصر مع الرجوع عن نية الإقامة قبل إتمام الفريضة. انتهى.

أقول : الظاهر ان الجواب الحق هو ما ذكره أولا من منع وجوب إتمام الصوم والحال هذه لما ذكره ، حيث ان المتبادر من الأخبار المشار إليها الخروج من بلد يجب عليه الإتمام فيها وفرضه فيها التمام كبلد وطنه أو بلد إقامته ثم أنشأ سفرا منها ، لأن هذا هو الفرد الغالب المتكثر الذي ينصرف إليه الإطلاق ، وقد عرفت في غير موضع من ما تقدم ان إطلاق الأخبار إنما يحمل على الأفراد الشائعة المتكثرة الغالبة فإنها هي التي يتبادر إليها الإطلاق ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل فلا يدخل تحت الإطلاق ، مع انه محل البحث والنزاع وأول المسألة لأنه بنية الإقامة ورجوعه عنها قبل الصلاة تماما لا يمكن الجزم بكونه مقيما فيدخل تحت إطلاق الخبر ، وبمجرد سفره على هذه الحال لا يمكن الجزم بدخوله تحت إطلاق

__________________

(١) في صحيحة معاوية بن وهب المتقدمة ص ٣٤٢.

٤٢٠