الحدائق الناضرة - ج ١١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٠

وعن ابن بكير (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يتصيد اليوم واليومين والثلاثة أيقصر الصلاة؟ قال لا إلا أن يشيع الرجل أخاه في الدين فان التصيد مسير باطل لا تقصر الصلاة فيه. وقال يقصر إذا شيع أخاه».

وعن عمران بن محمد بن عمران القمي في الصحيح عن بعض أصحابنا عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «قلت له الرجل يخرج الى الصيد مسيرة يوم أو يومين يقصر أو يتم؟ قال ان خرج لقوته وقوت عياله فليفطر ويقصر وان خرج لطلب الفضول فلا ولا كرامة».

وعن زرارة في الصحيح عن ابى جعفر عليه‌السلام (٣) قال : «سألته عن من يخرج من اهله بالصقور والبزاة والكلاب يتنزه الليلة والليلتين والثلاثة هل يقصر من صلاته أم لا يقصر؟ قال انما خرج في لهو لا يقصر. قلت : الرجل يشيع أخاه اليوم واليومين في شهر رمضان؟ قال يفطر ويقصر فان ذلك حق عليه».

وعن حماد بن عثمان عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٤) «في قول الله عزوجل (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) (٥) قال : الباغي باغي الصيد والعادي السارق ليس لهما ان يأكلا الميتة إذا اضطرا إليها هي حرام عليهما كما هي على المسلمين وليس لهما ان يقصرا في الصلاة».

هذا ما حضرني من الأخبار المتعلقة بالمسألة ، وتحقيق الكلام في المقام ان يقال : ظاهر الأصحاب ـ واليه يشير بعض الاخبار المذكورة كصحيحة عمار بن مروان وموثقة عبيد بن زرارة ـ ان السفر المحرم الموجب للإتمام أعم من ان يكون محرما في حد ذاته أو باعتبار غايته المترتبة عليه ، ومن الأول الفار من الزحف والهارب

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٩ من صلاة المسافر.

(٣) الوسائل الباب ٩ و ١٠ من صلاة المسافر.

(٤) الوسائل الباب ٨ من صلاة المسافر.

(٥) سورة البقرة الآية ١٦٨ والأنعام الآية ١٤٦.

٣٨١

من غريمه مع قدرته على الوفاء. وعدوا من ذلك تارك الجمعة بعد وجوبها عليه ، ومنه ايضا الآبق عن مولاه والمرأة الناشزة والسالك طريقا يغلب على ظنه فيه العطب وان كانت الغاية حسنة كأن يكون السفر للحج والزيارات مثلا ، وعد منه كل سفر استلزم ترك واجب وسيأتي ما فيه. ومن الثاني المسافر لقطع الطريق أو لقتل رجل مسلم أو لا ضرار بقوم مسلمين أو نحو ذلك ، وقد عد في المدارك ومثله صاحب الذخيرة الآبق والناشز في القسم الثاني.

قال في المدارك : وإطلاق النص وكلام الأصحاب يقتضي عدم الفرق في السفر المحرم بين من كان غاية سفره معصية كقاصد قطع الطريق بسفره وكالعبد والمرأة القاصدين بسفرهما النشوز والإباق أو كان نفس سفره معصية كالفار من الزحف والهارب من غريمه مع قدرته على وفاء الحق.

أقول : فيه انه لا يخفى ان معنى السفر الذي غايته معصية ان يكون هناك أمر ان ثابتان في الوجود الخارجي أحدهما مقدم على الآخر والآخر مترتب عليه ، فان الغاية متأخرة في الوجود عن ذي الغاية ، مثلا من سافر لقتل رجل في بلد فان السفر يحصل أو لا ثم تلك الغاية المترتبة عليه فالسفر من حيث هو لا يلحقه تحريم وإنما يلحقه التحريم باعتبار ترتب تلك الغاية عليه ، وبهذا يظهر ان سفر المرأة القاصدة به النشوز ليس كذلك لان سفرها بهذا العنوان محرم من أصله ، والنشوز لا يصلح هنا لان يكون من الغايات المترتبة على السفر بعد وقوعه كما في سائر الأسفار التي غايتها محرمة بل هو حاصل من أول خروجها عن طاعة الزوج ، غاية الأمر ان السفر لما كان من حيث هو أعم قيد بهذا القيد ، والمراد حينئذ ان من جملة السفر المحرم في حد ذاته سفر المرأة إذا كانت قاصدة به النشوز فان مجرد سفرها ليس بمحرم. وبذلك يظهر ان هذين الفردين انما هما من القسم الأول كما ذكرناه.

وقال شيخنا الشهيد الثاني في الروض : وإدخال هذه الأفراد يقتضي المنع

٣٨٢

من ترخص كل تارك للواجب بسفره لاشتراكهما في العلة الموجبة لعدم الترخص ، إذ الغاية مباحة فإنه المفروض وإنما عرض العصيان بسبب ترك الواجب ، فلا فرق حينئذ بين استلزام سفر التجارة ترك صلاة الجمعة ونحوها وبين استلزامه ترك غيرها كتعلم العلم الواجب عينا أو كفاية بل الأمر في هذا الوجوب أقوى ، وهذا يقتضي عدم الترخص الا لا وحدي الناس ، لكن الموجود من النصوص في ذلك لا يدل على إدخال هذا القسم ولا على مطلق العاصي وانما دل على السفر الذي غايته المعصية

وقال سبطه السيد السند بعد نقله : ويشكل بأن رواية عمار بن مروان التي هي الأصل في هذا الباب تتناول مطلق العاصي بسفره ، وكذا التعليل المستفاد من رواية عبيد بن زرارة ، والإجماع المنقول من جماعة. لكن لا يخفى ان تارك الواجب كالتعلم ونحوه انما يكون عاصيا بنفس الترك لا بالسفر إلا إذا كان مضادا للواجب وقلنا باقتضاء الأمر بالشي‌ء النهي عن ضده الخاص ، والظاهر عدم الاقتضاء كما هو اختياره (قدس‌سره) مع ان التضاد بين التعلم والسفر غير متحقق في أكثر الأوقات ، فما ذكره (قدس‌سره) حينئذ من ان إدخال هذا القسم يقتضي عدم الترخص إلا لا وحدي الناس غير جيد. انتهى.

أقول : التحقيق في هذا المقام ان يقال : لا يخفى ان المفهوم من الأخبار المتقدمة ـ وهو صريح روايتي أبي سعيد الخراساني وعمران بن محمد القمي ـ ان المدار في حرمة السفر وإباحته إنما هو على القصد والنية ، ويعضده الأخبار المستفيضة الدالة على ان الأعمال بالنيات (١). لا محض استلزام السفر لأمر محرم كترك واجب مثلا مطلقا وان لم يخطر بباله فضلا عن قصده. ومنه يظهر ان عدهم سفر تارك الجمعة من قبيل السفر المحرم ليس في محله بناء على ما ذكروه في تلك المسألة من حيث انه مستلزم لتفويت الواجب ، فإنه إنما يتم بناء على ثبوت تلك المقدمة الأصولية من ان الأمر بالشي‌ء يستلزم النهى عن ضده الخاص. نعم يأتي بناء على ما قدمناه من النصوص

__________________

(١) الوسائل الباب ٥ من مقدمة العبادات.

٣٨٣

في تلك المسألة صحة عده هنا حيث انها دالة على النهى عن السفر. وبالجملة فإن المفهوم من الأخبار المتقدمة كما عرفت هو دوران التحريم مدار النية والقصد بذلك السفر ، فان قصد به أمرا محرما كالفرار من الزحف والهرب من غريمه مع إمكان الوفاء أو النشوز والإباق أو قصد غاية محرمة مترتبة عليه كالأمثلة المتقدمة ثبت التحريم ووجب الإتمام ، وأما لو استلزم ترك واجب ولم يخطر بباله أو خطر بباله ولكن لم يتعلق به القصد فإنه لا يتعلق به التحريم ، نعم لو كان هو المقصود من السفر وتعلقت به النية وقد ثبت تحريمه في حد ذاته أو باعتبار غايته فلا إشكال في ما ذكروه من وجوب الإتمام. وبذلك يظهر ما في كلام شيخنا المتقدم ذكره من عدم ورود ما ذكره وانه لا حاجة في التفصي عنه الى ما ذكره سبطه السيد السند.

ويؤيد ما قلناه ما صرحوا به في هذا المقام من أن المعصية في السفر مانعة ابتداء واستدامة ، فلو قصد المعصية ابتداء أتم ولو رجع عنها في أثناء السفر اعتبرت المسافة حينئذ فإن بلغ الباقي مسافة قصر وإلا أتم.

وظاهرهم الاتفاق هنا على الحكم المذكور حيث ان ذلك ثابت في إنشاء كل سفر وهذا من جملة ذلك ، فإنه بعد الرجوع عن المعصية قاصد لإنشاء السفر فلا بد فيه من المسافة.

واما لو كان سفره مباحا ثم قصد المعصية في الأثناء انقطع ترخصه ووجب عليه التمام ما دام على ذلك القصد ، فلو رجع عن ذلك القصد الى قصده الأول أو غيره من القصود المباحة رجع الى التقصير.

وهل يعتبر هنا في رجوعه الى التقصير كون الباقي مسافة؟ قيل نعم وبه قطع العلامة في القواعد لبطلان المسافة الأولى بقصد المعصية فافتقر في رجوعه الى التقصير الى قصد مسافة جديدة. وقيل لا وهو ظاهر المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى وبه قطع في الذكرى ، واستدل عليه بان المانع من التقصير انما كان هي المعصية وقد زالت. قال في المدارك : وهو جيد وفي بعض الأخبار دلالة عليه.

٣٨٤

أقول : الظاهر انه أشار بالخبر المذكور الى ما رواه الشيخ عن بعض أهل العسكر (١) قال : «خرج عن ابى الحسن عليه‌السلام ان صاحب الصيد يقصر ما دام على الجادة فإذا عدل عن الجادة أتم فإذا رجع إليها قصر».

وقال في الفقيه : ولو ان مسافرا ممن يجب عليه التقصير مال عن طريقه الى صيد لوجب عليه التمام لطلب الصيد ، فان رجع من صيده الى الطريق فعليه في رجوعه التقصير.

والظاهر ان كلامه هذا وقع تفسيرا للخبر المذكور ، وظاهره حمل الجادة على المعنى المعروف ، وكأنه حمل صاحب الصيد في الخبر على من لم يرد الصيد ابتداء وإنما خرج مسافرا ثم بدا له التصيد فعدل عن طريقه واحتمل بعض الأفاضل حمل الجادة في الخبر على الحق بمعنى الجادة الشرعية والموافقة لأمر الشارع فإنه يقصر ما دام كذلك وان عدل عن ذلك أتم.

ووجه الاستدلال بالرواية المذكورة هو الأمر بالتقصير بعد الرجوع الى الجادة وهو أعم من أن يكون الباقي مسافة أو أقل بحيث يحصل منه ومن ما تقدم المسافة.

ويمكن الاستدلال ايضا على القول الثاني زيادة على الرواية المذكورة بصحيحة أبي ولاد المتقدمة في الشرط الثالث (٢) حيث انه عليه‌السلام أمره بالتقصير بعد رجوعه عن السفر متى كان سار في يومه ذلك بريدا نظرا الى ضم البريد الماضي الى البريد الحاصل في الرجوع وتلفيق المسافة منهما ، وبه يظهر قوة القول المشهور.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه بقي من اخبار المسألة خبر ان لا يخلو ظاهرهما من الإشكال : أحدهما ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يتصيد فقال ان كان يدور حوله فلا يقصر وان كان يجاوز الوقت فليقصر». ورواه في الفقيه عن العيص بن القاسم عنه عليه‌السلام مثله (٤).

__________________

(١ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٩ من صلاة المسافر.

(٢) ص ٣٣٣.

٣٨٥

وحمله الشيخ على ما إذا قصد بالصيد القوت. أقول : وينبغي حمل قوله : «ان كان يدور حوله» بناء على ما ذكره على انه يدور حول مكانه الذي هو فيه من بلد ونحوها بمعنى انه لا يبلغ محل الترخص فإنه لا يقصر وان تجاوز الوقت يعنى حد الترخص فليقصر. وهو ظاهر.

وثانيهما ـ ما رواه عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليه‌السلام ورواه في الفقيه عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «ليس على صاحب الصيد تقصير ثلاثة أيام وإذا جاوز الثلاثة لزمه».

والشيخ في التهذيب حمله على الصيد للقوت ايضا ، والصدوق حمله على صيد اللهو والفضول دون القوت.

ويمكن توجيه ما ذكره الشيخ بأنه في ضمن الثلاثة لا يبلغ مسافة التقصير لأنه يتأنى في طلب الصيد يمينا وشمالا لعدم الصيد وقصد تحصيله ، فإن المسافة وان حصلت بعد الثلاثة إلا انها غير مقصودة من أول الأمر فلا يجب عليه التقصير تلك المدة ، وبعد الثلاثة فالغالب انه يرجع الى بلده ، وحينئذ يكون قاصدا للمسافة فيجب عليه التقصير لذلك.

ويمكن توجيه ما ذكره الصدوق بأنه في ضمن الثلاثة كان صيده غير مشروع فلا يقصر ، وأما بعد الثلاثة فالغالب انه يرجع الى بلده كما ذكرنا أولا ويكون سفره مشروعا يجب فيه التقصير.

واحتمل في الوافي حمل هذا الخبر على التقية أيضا ولعله الأقرب.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه قد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في سفر صيد التجارة ، فالمشهور بين المتأخرين كونه سفرا شرعيا مباحا بل ربما يكون مستحبا فيجب فيه التقصير في الصلاة وإفطار الصوم كغيره من الأسفار المباحة ، والمشهور في كلام المتقدمين التفصيل بين الصوم فيقصر فيه والصلاة فيتم فيها.

__________________

(١) الوسائل الباب ٩ من صلاة المسافر.

٣٨٦

قال في المدارك بعد أن ذكر انه يجب التقصير إذا كان الصيد لقوته وقوت عياله : والأصح إلحاق صيد التجارة به كما اختاره المرتضى وجماعة للإباحة بل قد يكون راجحا ايضا. والقول بان من هذا شأنه يقصر صومه ويتم صلاته للشيخ في النهاية والمبسوط واتباعه ، قال في المعتبر : ونحن نطالبه بدلالة الفرق ونقول ان كان مباحا قصر فيهما وان لم يكن أتم فيهما. وهو جيد. ويدل على ما اخترناه من التسوية بين قصر الصوم والصلاة ما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن وهب عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «إذا قصرت أفطرت وإذا أفطرت قصرت». انتهى.

أقول : لا يخفى ان العلامة في المختلف قد نقل هذا القول عن جملة من أجلاء أصحابنا المتقدمين (رضوان الله عليهم) : منهم ـ الشيخ في النهاية والمبسوط والشيخ المفيد والشيخ على بن الحسين بن بابويه وابن البراج وابن حمزة وابن إدريس ، قال وقال ابن إدريس : روى أصحابنا بأجمعهم انه يتم الصلاة ويفطر الصوم ، وكل سفر أوجب التقصير في الصوم وجب تقصير الصلاة فيه إلا هذه المسألة فحسب للإجماع عليه. ونقل في المختلف عن المبسوط انه قال : وان كان للتجارة دون الحاجة فروى أصحابنا انه يتم الصلاة ويفطر الصوم. ثم نقل في المختلف عن السيد المرتضى قال وأوجب المرتضى وابن ابى عقيل وسلار التقصير على من كان سفره طاعة أو مباحا ولم يفصلوا بين الصيد وغيره. انتهى.

وظاهر كلام ابن إدريس ان القول بذلك كان مشهورا بين المتقدمين ان لم يكن مجمعا عليه كما ادعاه ، وان انفكاك حكم الصلاة هنا عن الصوم مستثنى من القاعدة المتفق عليها نصا وفتوى ، وهي ان من أفطر قصر ومن قصر أفطر.

وظاهر كلام المختلف ان السيد المرتضى وابن ابى عقيل وسلار لم يتعرضوا إلى مسألة الصيد للتجارة بخصوصها وإنما ذكروا وجوب التقصير على من كان سفره طاعة أو مباحا كما هو أصل المسألة التي هي من شروط التقصير.

__________________

(١) الوسائل الباب ١٥ من صلاة المسافر.

٣٨٧

وبذلك يظهر ان قول السيد السند (قدس‌سره) هنا ـ والأصح إلحاق الصيد للتجارة بالصيد لقوت عياله كما اختاره المرتضى وجماعة ـ ليس من ما ينبغي لأن ظاهر هذه العبارة يعطي أن المرتضى واتباعه نصوا على ان صيد التجارة كالصيد لقوت عياله وليس الأمر كذلك كما عرفت.

ثم انه لا يخفى ان ما ذكره أولئك الأجلاء من الخبر الدال على الفرق هنا بين الصوم والصلاة لم نقف عليه إلا في كتاب الفقه الرضوي ، حيث قال عليه‌السلام في باب صلاة السفر (١) : «وإذا كان صيده للتجارة فعليه التمام في الصلاة والتقصير في الصوم».

ويمكن أن يكون الجماعة قد تلقوا هذا الحكم من كلام الشيخ على بن الحسين ابن بابويه كما هي عادتهم في جملة من المواضع ، والشيخ المذكور كما عرفت من ما قدمناه في غير مقام انما أخذه من هذا الكتاب. واحتمال الوقوف على خبر بذلك غيره ايضا ممكن إلا انك قد عرفت في غير موضع اختصاص هذا الكتاب بجملة من مستندات الأحكام التي قال بها المتقدمون ولم تصل إلى المتأخرين ، والظاهر ان هذا منها.

إلا انه عليه‌السلام في كتاب الصوم من الكتاب المذكور (٢) قال ما هذه صورته : «وصاحب الصيد إذا كان صيده بطرا فعليه التمام في الصلاة والصوم ، وان كان صيده للتجارة فعليه التمام في الصلاة والصوم وروى ان عليه الإفطار في الصوم ، وان كان صيده من ما يعود على عياله فعليه التقصير في الصلاة والصوم. الى آخره».

وبه يعظم الإشكال ويصير من الداء العضال فإنه يؤذن بكون صيد التجارة غير مشروع ، وربما يشير الى ذلك قوله عليه‌السلام في مرسلة عمران بن محمد بن عمران القمي المتقدمة في روايات المقام الثاني من الشرط الرابع (٣) «ان خرج لقوت عياله فليفطر وليقصر وان خرج لطلب الفضول فلا ولا كرامة». فإن هذا الكلام يؤذن

__________________

(١) ص ١٦.

(٢) ص ٢٥.

(٣) ص ٣٨١.

٣٨٨

بكون صيد التجارة من الفضول وانه غير مشروع.

هذا. وفي كتاب زيد النرسي عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «سأله بعض أصحابنا عن طلب الصيد وقال له انى رجل ألهو بطلب الصيد وضرب الصوالج وألهو بلعب الشطرنج؟ قال فقال أبو عبد الله عليه‌السلام أما الصيد فإنه مبتغي باطل وإنما أحل الله الصيد لمن اضطر الى الصيد فليس المضطر الى طلبه سعيه فيه باطلا ، ويجب عليه التقصير في الصلاة والصوم جميعا إذا كان مضطرا إلى أكله ، فإن كان ممن يطلبه للتجارة وليست له حرفة إلا من طلب الصيد فإنه سعيه حق وعليه التمام في الصلاة والصيام لان ذلك تجارته ، فهو بمنزلة صاحب الدور الذي يدور في الأسواق في طلب التجارة أو كالمكاري والملاح».

ويمكن أن يستنبط من هذا الخبر أن الصيد للتجارة إذا لم يكن على هذا الوجه فهو سفر شرعي يوجب التقصير ، وذلك لانه عليه‌السلام انما أوجب التمام هنا من حيث كونه صار عملا له كالتاجر الذي يدور في الأسواق للتجارة والمكاري ونحوهما من الأسفار المباحة لا من حيث كون سفره معصية ، وحينئذ فمع انتفاء كونه عملا له يكون مشروعا موجبا للتقصير ، وعلى هذا ينبغي أن يحمل قوله في صدر الخبر «ان الصيد مبتغي باطل» على صيد اللهو الذي أخبر به السائل عن نفسه ، إلا ان قوله عليه‌السلام «إنما أحل الله الصيد لمن اضطر الى الصيد فليس المضطر الى طلبه سعيه فيه باطلا» لا يخلو من منافرة لما ذكره في صيد التجارة.

وبالجملة فالمسألة لما عرفت غير خالية من الإشكال والداء العضال ، وقوة القول المشهور بين المتأخرين ظاهرة فان سفر التجارة في صيد كان أو غيره من الأسفار المباحة الموجبة لوجوب التقصير والموجب للإتمام انما هو سفر المعصية. إلا ان ذهاب جملة من فضلاء الأصحاب الى هذا القول ـ مع نقلهم لورود الأخبار به مضافا الى ما سمعت من كلامه عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي في الموضعين المتقدمين ـ

__________________

(١) مستدرك الوسائل الباب ٧ من صلاة المسافر.

٣٨٩

من ما أوجب الإشكال ، والاحتياط من ما لا ينبغي تركه على كل حال. والله العالم

السادس من الشروط المتقدمة ان لا يكون السفر عمله فان من كان السفر عمله يتم في سفره وحضره بلا خلاف يعتد به كالمكاري والجمال والملاح والبريد والاشتقان والراعي والبدوي والتاجر الذي يدور في تجارته من سوق الى سوق كما تضمنته الأخبار الصحيحة ، وما وقع في أكثر عبائر الأصحاب ـ من التعبير هنا بكثير السفر أو من كان سفره أكثر من حضره سواء كان من هؤلاء المعدودين أو لا فجعلوا مناط الإتمام سفر الرجل من أهله مرتين أو ثلاثا على الخلاف في ما به تحصل الكثرة من غير إقامة عشرة ـ ليس من ما ينبغي ان يصغى اليه لعدم الدليل عليه ، بل الظاهر من الأخبار كما سنتلوها عليك ان شاء الله تعالى على وجه لا يعتريه الإنكار هو كون ذلك عملا له ، فلا بد من صدق الاسم بأحد العنوانات المتقدمة ونحوها.

ومن الأخبار المشار إليها ما تقدم من رواية إسماعيل بن ابى زياد في صدر الشرط الخامس.

ومنها ـ ما رواه ثقة الإسلام في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) قال : «ليس على الملاحين في سفينتهم تقصير ولا على المكاري والجمال».

وعن هشام بن الحكم بإسنادين أحدهما من الصحيح أو الحسن عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «المكاري والجمال الذي يختلف وليس له مقام يتم الصلاة ويصوم شهر رمضان».

وعن زرارة بأسانيد ثلاثة فيها الصحيح والحسن ، ورواه الشيخ والصدوق في الصحيح (٣) قال : «قال أبو جعفر عليه‌السلام أربعة قد يجب عليهم التمام في سفر كانوا أو حضر : المكاري والكرى والراعي والاشتقان لأنه عملهم».

قال في الوافي : الكرى كغني : الكثير المشي ، وكأنه أريد به الذي يكري نفسه للمشي ، وأما الاشتقان فقيل هو أمين البيادر ، وقال في الفقيه هو البريد.

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ١١ من صلاة المسافر.

٣٩٠

أقول : ما فسر به الكرى من أنه الكثير المشي لم نجده في شي‌ء من كتب اللغة المشهورة (١) والذي ذكره غيره من الأصحاب في معنى هذه اللفظة هو ان المراد بها المكترى ـ فعيل بمعنى مفتعل ـ نظرا الى ما يقتضيه ظاهر العطف من التغاير وأصالة عدم الترادف ، ولما نقل ايضا من استعماله في كلا المعنيين ، قال ابن إدريس في سرائره : الكرى من الأضداد ونقل عن ابن الأنباري في كتاب الأضداد انه يكون بمعنى المكاري ويكون بمعنى المكترى. انتهى.

ويستفاد من الخبر المذكور ان وجوب الإتمام على هؤلاء من حيث انه عملهم وفيه دلالة على ان كل من كان السفر عمله فإنه يجب عليه الإتمام.

وعن محمد بن جزك في الصحيح (٢) قال : «كتبت الى ابى الحسن الثالث عليه‌السلام ان لي جمالا ولي قواما عليها ولست أخرج فيها إلا في طريق مكة لرغبتي في الحج أو في الندرة الى بعض المواضع فما يجب على إذا أنا خرجت معهم ان أعمل أيجب على التقصير في الصلاة والصيام في السفر أو التمام؟ فوقع عليه‌السلام : إذا كنت لا تلزمها ولا تخرج معها في كل سفر إلا الى مكة فعليك تقصير وإفطار».

وعن إسحاق بن عمار (٣) قال : «سألته عن الملاحين والأعراب هل عليهم تقصير؟ قال لا بيوتهم معهم».

وما رواه في الكافي في الصحيح عن سليمان بن جعفر الجعفري عن من ذكره عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : «الاعراب لا يقصرون وذلك ان منازلهم معهم».

وما رواه في التهذيب عن على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عن ابى عبد الله (عليهما‌السلام) (٥) قال : «أصحاب السفن يتمون الصلاة في سفنهم».

__________________

(١) ذكر في القاموس في مادة (كرى) ان أحد معاني هذه المادة العدو الشديد وذكر ورودها بهذا المعنى على هيئة فعيل وعليه يتم ما في الوافي نعم لم يذكر صاحب المصباح ولا صاحب المجمع هذا المعنى.

(٢) الوسائل الباب ١٢ من صلاة المسافر.

(٣ و ٤ و ٥) الوسائل الباب ١١ من صلاة المسافر.

٣٩١

وما رواه في الخصال في الصحيح عن ابن ابى عمير يرفعه الى ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «خمسة يتمون في سفر كانوا أو في حضر : المكاري والكرى والاشتقان وهو البريد والراعي والملاح لانه عملهم».

والظاهر ان هذا الخبر مستند الصدوق في ما فسر به الاشتقان من انه البريد كما تقدم نقله عنه ، والمذكور في اللغة وكلام الأصحاب إنما هو أمين البيادر يذهب من بيدر الى آخر ولا يقيم في مكان ، وقالوا وهو معرب دشتبان أى أمين البيادر.

وأما ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٢) ـ قال : «المكاري والجمال إذا جد بهما السير فليقصرا».

وعن الفضل بن عبد الملك في الصحيح (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المكارين الذين يختلفون فقال إذا جدوا السير فليقصروا» ـ.

فقد اختلف كلام الأصحاب في المعنى المراد منهما ، فقال الشيخ في التهذيب : الوجه في هذين الخبرين ما ذكره محمد بن يعقوب الكليني قال هذا محمول على من يجعل المنزلين منزلا فيقصر في الطريق ويتم في المنزل ، والذي يكشف عن ذلك ما رواه سعد بن عبد الله عن أحمد عن عمران بن محمد عن بعض أصحابنا يرفعه الى ابى عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : «المكاري والجمال إذا جد بهما السير فليقصرا في ما بين المنزلين ويتما في المنزل».

قال في المدارك : وهذه الرواية مع ضعف سندها غير دالة على ما اعتبراه. وهو جيد لكن لا من حيث ضعف السند بل من حيث انهما فسرا جد السير بان يجعلا المنزلين منزلا والرواية لا دلالة لها على ذلك بل هي مجملة مثل الروايتين المتقدمتين ، نعم قد دلت بالنسبة الى من جد به السير على حكم آخر غير الروايتين المتقدمتين ، إذ مقتضى الروايتين الأولتين ان حكمه التقصير مطلقا ومقتضى هذه

__________________

(١) الوسائل الباب ١١ من صلاة المسافر.

(٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ١٣ من صلاة المسافر.

٣٩٢

الرواية التقصير في الطريق والإتمام في المنزل.

ومثل الروايتين الأولتين ما رواه على بن جعفر في كتابه عن أخيه عليه‌السلام (١) قال : «سألته عن المكارين الذين يختلفون الى النيل هل عليهم إتمام الصلاة؟ قال إذا كان مختلفهم فليصوموا وليتموا الصلاة إلا ان يجد بهم السير فليقصروا وليفطروا».

ولا يحضرني وجه جمع بين هذه الأخبار الثلاثة ومرسلة عمران المذكورة.

وقال الشهيد في الذكرى في معنى الخبرين الأولين ـ ومثلهما كما عرفت رواية على بن جعفر ـ ان المراد ما إذا أنشأ المكاري والجمال سفرا غير صنعتهما أى يكون سيرهما متصلا كالحج والأسفار التي لا يصدق عليها صنعته. واستقر به السيد السند (قدس‌سره) في المدارك ، وقال لا يبعد استفادته من تعليل الإتمام الذي مر في صحيحة زرارة من قوله عليه‌السلام (٢) «لأنه عملهم» واحتمل في الذكرى أن يكون المراد ان المكارين يتمون ما داموا يترددون في أقل من المسافة أو في مسافة غير مقصودة وأما إذا قصدوا مسافة قصروا. قال : ولكن هذا لا يختص المكاري والجمال به بل كل مسافر. وأنت خبير بما فيه من البعد.

وقال العلامة في المختلف : الأقرب عندي حمل الحديثين على انهما إذا أقاما عشرة أيام قصرا. قال في المدارك : ولا يخفى بعد ما قربه. وهو كذلك.

وحملهما شيخنا الشهيد الثاني في الروض على ما إذا قصد المكاري والجمال المسافة قبل تحقق الكثرة. وهو في البعد كسابقيه بل أبعد.

والأقرب عندي ما ذكره جملة من أفاضل متأخري المتأخرين ـ أولهم على الظاهر السيد السند في المدارك والمحقق الشيخ حسن في المنتقى والمحدث الكاشاني وغيرهم ـ من ان المراد به ما إذا زاد السير على ما هو المتعارف بحيث يشتمل على مشقة شديدة والقول بوجوب التقصير عليه لهذه المشقة الشديدة. قال في المنتقى : والمتجه هو الوقوف مع ظاهر اللفظ وهو زيادة السير عن القدر المعتاد في أسفارهما

__________________

(١) الوسائل الباب ١٣ من صلاة المسافر.

(٢) ص ٢٩٠.

٣٩٣

غالبا والحكمة في هذا التخفيف واضحة. وعلى هذا فيجب تخصيص اخبار المكارين ونحوهم الدالة على ان فرضهم الإتمام بهذه الأخبار لما ذكر من العلة المذكورة.

وأما ما رواه الشيخ عن إسحاق بن عمار في الموثق على المشهور والصحيح على الأظهر عندي عن أبي إبراهيم عليه‌السلام (١) ـ قال : «سألته عن المكارين الذين يكرون الدواب وقلت يختلفون كل أيام كلما جاءهم شي‌ء اختلفوا ، فقال عليهم التقصير إذا سافروا».

وما رواه أيضا في الموثق أو الصحيح على الأظهر عن إسحاق بن عمار (٢) قال : «سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن الذين يكرون الدواب يختلفون كل الأيام أعليهم التقصير إذا كانوا في سفر؟ قال نعم» ـ.

فهو محمول على من أنشأ سفرا غير السفر الذي هو عادته وهو ما يختلفون كل الأيام ، كالمكاري مثلا لو سافر للحج أو الى أحد البلدان في أمر غير ما هو الذي يتكرر فيه دائما. وقد حملهما الشيخ على محمل بعيد سحيق غير جدير بالذكر ولا حقيق وكيف كان فتحقيق الكلام في المقام يقع في مواضع

الأول ـ المستفاد من ما قدمناه من الأخبار هو ان المدار في الإتمام على صدق أحد تلك الأمور المعدودة أو صدق كون السفر عادته.

قالوا : والمرجع في ذلك الى العرف لأنه المحكم في مثله. وبه قطع العلامة في جملة من كتبه والشهيد في الذكرى ، إلا انه قال ان ذلك انما يحصل غالبا بالسفرة الثالثة التي لم يتخلل قبلها اقامة تلك العشرة. واعتبر ابن إدريس في تحقق الكثرة ثلاث دفعات ، ثم قال ان صاحب الصنعة من المكارين والملاحين يجب عليهم الإتمام بنفس خروجهم الى السفر لان صنعتهم تقوم مقام تكرر من لا صنعة له ممن سفره أكثر من حضره. واستقرب العلامة في المختلف الإتمام في ذي الصنعة وغيره ممن جعل السفر عادته بالدفعة الثانية.

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١٢ من صلاة المسافر.

٣٩٤

ولم نقف لهذه الأقوال على مستند أزيد من ادعاء كل منهم العرف على ما ذكره والواجب بالنظر الى الأخبار مراعاة صدق الاسم وكون السفر عمله ، فإنه هو المستفاد منها ولا دلالة لها على ما ذكروه من اعتبار الكثرة فضلا عن صدقها بالمرتين أو الثلاث. والله العالم.

الثاني ـ اعلم ان المفهوم من كلام جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان الضابط في حصول الكثرة التي يترتب عليها وجوب الإتمام هو أن يسافر ثلاث مرات بحيث ينقطع سفره بعد الأولى والثانية إما بالوصول الى بلده أو الى موضع يعزم فيه الإقامة ثم يتجدد له بعد الصلاة تماما عزم السفر ، ولا يفصل بين هذه الدفعات الثلاث بإقامة عشرة في بلده مطلقا وفي غير بلده مع نية الإقامة ، فإنه يجب عليه التمام في الدفعة الثالثة ويبقى الحكم مستمرا الى أن يقيم عشرة على أحد الوجهين المتقدمين.

والذي نص عليه الشيخ وجملة ممن تبعه في قطع التمام في الأثناء أو بعد تمام الثلاث انما هو إقامة العشرة في بلده ، وألحق المحقق في النافع والعلامة ومن تبعهما إقامة العشرة المنوية في غير بلده فلو أقام في غير بلده عشرة ثم أنشأ سفرا قصر فيه ، قال في المدارك ان ظاهر الأصحاب الاتفاق على ان اقامة العشرة الأيام في البلد قاطعة لكثرة السفر وموجبة للقصر. وألحق المحقق في النافع والعلامة ومن تأخر عنهما بإقامة العشرة في بلده نية إقامتها في غير بلده ايضا ، فلو نواها في غير بلده وأتم فريضة ثم سافر قصر أيضا وان لم يتم الإقامة. كذا يفهم من صاحب المدارك ومن تأخر عنه ، إلا ان الظاهر من عبارات غيره ممن تقدمه انما هو أن يقيم عشرة كاملة بالنية لا مجرد النية والصلاة تماما وان لم يتم الإقامة كما هو ظاهر كلام من تأخر عنه ، والظاهر ان هذا هو الذي يستفاد من الرواية الآتية أيضا.

وألحق الشهيد في الدروس ومن تبعه العشرة الحاصلة بعد التردد ثلاثين يوما أى مضى أربعين يوما في غير بلده مترددا أو عازما على السفر ، لتصريحهم بكون

٣٩٥

ما بعد الثلاثين المذكورة في حكم إقامة العشرة المنوية في وجوب الإتمام وانقطاع السفر ، وعلى هذا فإذا بطل إتمام كثير السفر بها يتوجه القول بلزوم البطلان بهذا أيضا ، حتى ان بعضهم قال بكون محض مضى الثلاثين مترددا كذلك بناء على كون نفس هذا المضي بمنزلة نية إقامة العشرة. إلا ان الظاهر من الرواية إنما هو الأول.

ثم ان الشيخ واتباعه صرحوا أيضا بأنه لو أقام خمسة في بلده قصر نهارا صلاته دون صومه وأتم ليلا.

وتوقف في هذا الحكم من أصله جملة من أفاضل متأخري المتأخرين : أو لهم في ما أعلم السيد السند في المدارك وتبعه الفاضل الخراساني والمحدث الكاشاني.

واستند الأصحاب في ما ذكروه من أصل الحكم وهو انقطاع إتمام كثير السفر بإقامة عشرة في بلده بما رواه الشيخ عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «المكاري ان لم يستقر في منزله إلا خمسة أيام أو أقل قصر في سفره بالنهار وأتم بالليل وعليه صوم شهر رمضان ، وان كان له مقام في البلد الذي يذهب إليه عشرة أيام وأكثر قصر في سفره وأفطر».

وأنت خبير بان هذه الرواية مع ضعف سندها ـ المانع من قيامها بمعارضة الأخبار المتكاثرة الصحيحة الصريحة في وجوب الإتمام ، واشتمالها على ما لا يقول به أحد من الأصحاب من وجوب التقصير بإقامة أقل من خمسة الصادق على اليوم أو اليومين ـ فهي غير دالة على ما يدعونه (أما أو لا) ـ

فلان موردها المكاري ولهذا احتمل المحقق في المعتبر اختصاص الحكم بالمكاري ، ونقله في الشرائع قولا وهو مجهول القائل ، وقال بعض شراح النافع اعتذارا عن ما ذكره في الشرائع حيث لم ينقله غيره : ولعل المصنف سمعه من معاصر له في غير كتاب مصنف.

__________________

(١) الوسائل الباب ١٢ من صلاة المسافر.

٣٩٦

و (أما ثانيا) ـ فإنها إنما تضمنت إقامة العشرة في البلد الذي يذهب اليه والمدعى إقامة العشرة في بلده.

و (أما ثالثا) ـ فان ظاهر الخبر المذكورة انه إذا كان له إرادة الإقامة في البلد الذي يذهب اليه قصر في سفره اليه ، واللازم من ذلك التقصير قبل الإقامة بل بمجرد العزم عليها ، وجميع ذلك خارج عن ما يقولون به.

والصدوق في الفقيه (١) روى هذه الرواية في الصحيح بنحو آخر قال : «المكاري إذا لم يستقر في منزله إلا خمسة أيام أو أقل قصر في سفره بالنهار وأتم صلاة الليل وعليه صوم شهر رمضان ، فان كان له مقام في البلد الذي يذهب إليه عشرة أيام أو أكثر وينصرف إلى منزله ويكون له مقام عشرة أيام أو أكثر قصر في سفره وأفطر».

ومقتضى هذه الرواية زيادة على ما تقدم اعتبار إقامة العشرة في منزله مضافة إلى العشرة التي في بلد الإقامة. والظاهر الخبر ترتب القصر على الإقامتين ولا قائل به بل هو أشد إشكالا.

ومن ما ورد في المسألة أيضا رواية يونس عن بعض رجاله عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «سألته عن حد المكاري الذي يصوم ويتم قال أيما مكار أقام في منزله أو في البلد الذي يدخله أقل من عشرة أيام وجب عليه الصيام والتمام ابدا وان كان مقامه في منزله أو في البلد الذي يدخله أكثر من عشرة أيام فعليه التقصير والإفطار».

وهذه الرواية مع ضعف سندها وان كانت عارية عن الإشكالات المتقدمة إلا انها تضمنت الرجوع الى التقصير بالإقامة في غير بلده ايضا ، وقد عرفت من كلامهم ـ كما هو المشهور بين المتقدمين ـ التخصيص ببلده.

وبالجملة فإن الأخبار الصحاح قد استفاضت بوجوب الإتمام على المكاري

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١٢ من صلاة المسافر.

٣٩٧

ونحوه من تلك الأفراد المعدودة في الأخبار ، ومقتضاها ثبوت الحكم واستمراره ما دام الاسم باقيا والعادة جارية ، والخروج عنها بهذين الخبرين مع ما عرفت من الإشكالات المتقدمة فيهما مشكل ، وبمجرد دعوى اتفاق الأصحاب مع خلوه من الدليل أشكل. نعم لو كان هذان الخبران موافقين لكلام الأصحاب ومعتضدين باتفاقهم ومجتمعين على أمر واحد لقوي الاعتماد عليهما في تخصيص تلك الأخبار المشار إليها إلا ان الأمر كما عرفت ليس كذلك.

وأما ما ذكره في الذخيرة ـ من ان العمل بصحيحة ابن سنان على رواية الصدوق غير بعيد ، قال : واستوجه ذلك بعض أفاضل المتأخرين ولم يعتبر مخالفة المشهور وقال ان اعتبار مثل هذه الشهرة لا وجه له. انتهى ـ

فظني بعده ولكن قاعدة أصحاب هذا الاصطلاح المحدث هو التهافت على صحة السند وان كان متن الرواية مخالفا لمقتضى القواعد الشرعية والأصول المرعية وهو لا يخلو من المجازفة ، وكيف يمكن العمل بالخبر المذكور وقد تضمن زيادة على ما قدمناه انه متى أقام خمسة أو أقل قصر في سفره بالنهار وصام شهر رمضان مع ان مقتضى الأخبار المعتمدة ان التقصير ملازم للإفطار متى قصر أفطر ومتى أفطر قصر (١) وأشكل من ذلك لزوم هذا الحكم في من أقام أقل من خمسة كما هو صريح الرواية الصادق على اقامة يوم وانه يقصر في سفره ويصوم ، وهل يلتزم عارف بالقواعد الشرعية والضوابط المرعية ذلك؟ فكيف يمكن العمل بالخبر بمجرد صحة سنده مع اشتماله على هذه الأحكام الخارجة عن مقتضى الأصول والقواعد.

وأما ما ذكره الفاضل المتقدم ـ من ان إيراد الصدوق لها في كتابه مع قرب العهد بما قرره في أوله يقتضي عمله بها وكونها من الأخبار المعمول عليها بين القدماء ـ فهو مجرد تطويل لا يرجع الى طائل ، فإن من تتبع اخبار الفقيه حق التتبع ورأى ما فيه من الأخبار الشاذة النادرة المخالفة لما عليه الأصحاب قديما وحديثا لا يخفى عليه ضعف قوله : ان مجرد نقل الخبر في الكتاب المذكور يقتضي كونه

__________________

(١) ص ٣٨٧.

٣٩٨

معمولا عليه بين القدماء.

نعم ربما يمكن التمسك برواية يونس لسلامتها من هذه الإشكالات إلا ان تخصيص تلك الأخبار الصحيحة الصريحة المستفيضة والخروج عن مقتضاها بهذه الرواية الضعيفة مشكل.

ومن ما يؤيد الإشكال أيضا عدم دلالة شي‌ء من الروايات المذكورة على تعيين وقت الرجوع الى التمام بعد التقصير بالإقامة ، واختلاف الأصحاب في كونه بعد الثانية أو الثالثة.

ومن ما ذكرنا يظهر لك انه لا دليل على ما ذهب اليه الشهيد في الدروس ومن تبعه من إلحاق العشرة الحاصلة بعد التردد ثلاثين يوما ، فإنه لا إشارة إليها في ما ذكرنا من نصوص المسألة فضلا عن التصريح بها.

الثالث ـ ما تقدم نقله عن الشيخ واتباعه ـ من أن من أقام في بلده خمسة أيام قصر نهارا صلاته دون صومه وأتم ليلا ـ فقد استندوا فيه الى ما تقدم من رواية عبد الله بن سنان ، والمشهور بين الأصحاب سيما المتأخرين وجوب الإتمام في الصورة المذكورة ، وصرح به ابن إدريس ومن تأخر عنه تمسكا بإطلاق الروايات المتضمنة لأن كثير السفر يجب عليه الإتمام ، قالوا خرج عنه من أقام عشرة بالنص والإجماع فبقي الباقي. وفيه ان هذا الكلام يرجع في الحقيقة إلى الاعتماد هنا على دعوى الإجماع خاصة وانه هو السبب في الاستثناء ، لان النص الذي ادعوه ليس إلا هذه الرواية فإن صلحت للاستثناء ففي الموضعين وإلا فلا فيهما ، فلا وجه للاستناد إليها في أحدهما دون الآخر. وكيف كان فقد عرفت معارضة هذه الرواية في هذا الحكم بالأخبار الصحيحة الصريحة في ملازمة التقصير للإفطار (١) مضافا الى ما اشتملت عليه من التقصير في أقل من الخمسة أيضا ، وبه يظهر ضعف القول المذكور.

وكيف كان فملخص الكلام في المسألة ان ما عدا المكاري يجب عليه البقاء على

__________________

(١) ص ٣٨٧.

٣٩٩

التمام كما اقتضته الروايات المستفيضة المتقدمة ، ولا معارض لها إذ مورد هذه الأخبار إنما هو المكاري ، واما المكاري الذي هو محل الإشكال واختلاف الروايات في هذا المجال فان الواجب عليه الاحتياط بعد إقامة العشرة في منزله أو بلد الإقامة بالجمع بين القصر والإتمام إلى ثلاث سفرات. والله العالم.

الرابع ـ انه بعد وصول القلم في الجري في هذا الميدان الى هذا المكان وقفت على كلام لبعض مشايخنا الأعيان يتضمن الانتصار للقول المشهور بين الأصحاب في شرح له على المفاتيح قد ارتكب فيه من التكلفات البعيدة والتعسفات الغير السديدة ما لا يخفى على الناطر الماهر والخبير الباهر ، ولا بأس بإيراد ملخص كلامه وما اشتمل عليه من نقضه وإبرامه ليظهر لك صحة ما ذكرناه وقوة ما ادعيناه :

قال (قدس‌سره) ـ بعد ذكر كلام المصنف والبحث في المسألة على ما ذكره المصنف ـ ما ملخصه : إذا تبين هذا فاعلم ان أكثر كلام المصنف ههنا مبنى على متابعة صاحب المدارك ، فإنه ذكر ما ذكر ههنا واستشكل في المسألة وصار هذا سبب توقف غير واحد ممن تأخر عنه مع نقلهم جميعا كون المسألة مقطوعا بها عند الأصحاب ، والحق بحسب نظري القاصر ان هؤلاء لم يتفطنوا لما فهمه الأصحاب وان ما فهمه الأصحاب هو الصواب ، فاستمع لما نتلو عليك ثم تدبر : اعلم ان الصدوق في الفقيه روى بسند صحيح. ثم نقل صحيحة عبد الله بن سنان المتقدم نقلها عن الفقيه (١) ثم قال : ورواه الشيخ مرة من كتاب سعد بن عبد الله عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام مثله إلا انه أسقط قوله : «وينصرف إلى منزله ويكون له مقام عشرة أيام أو أكثر» ومرة أخرى من كتاب محمد بن احمد بن يحيى بالسند بعينه لكن برواية يونس عن بعض رجاله عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) هكذا. ثم ساق مرسلة يونس كما قدمناه (٣) ثم قال : ولا يخفى ان بعد ملاحظة هذه الثلاثة سندا ومتنا لا يبقى شك في أنها مضمون حديث واحد وقع فيه بعض اختلاف في العبارة كما

__________________

(١ و ٣) ص ٣٩٧.

(٢) الوسائل الباب ١٢ من صلاة المسافر.

٤٠٠