الحدائق الناضرة - ج ١١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٠

الرجل يكون له الضياع بعضها قريب من بعض يخرج فيقيم فيها يتم أو يقصر؟ قال يتم».

أقول : هكذا لفظ الخبر في الكافي (١) وأما في الفقيه والتهذيب (٢) فإنه قال : «يطوف» بدل «يقيم» وهو أوضح ، وعلى تقدير نسخة «يقيم» يحتمل اقامة اليوم واليومين والثلاثة كما في الخبر السابق ويحتمل إقامة العشرة لكن في مجموع الضياع حتى ينطبق على السؤال ، وبه يرجع الى الأخبار المتقدمة.

الرابع ـ موثقة عمار بن موسى عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) «في الرجل يخرج في سفر فيمر بقرية له أو دار فينزل فيها؟ قال يتم الصلاة ولو لم يكن له إلا نخلة واحدة ولا يقصر وليصم إذا حضره الصوم وهو فيها». وهو ظاهر الدلالة في المعنى المتقدم.

الخامس ـ صحيحة عمران بن محمد (٤) قال : «قلت لأبي جعفر الثاني عليه‌السلام جعلت فداك ان لي ضيعة على خمسة عشر ميلا خمسة فراسخ ربما خرجت إليها فأقيم فيها ثلاثة أيام أو خمسة أيام أو سبعة أيام فأتم الصلاة أم أقصر؟ فقال قصر في الطريق وأتم في الضيعة».

أقول : لا يخفى ان هذه الأخبار كلها قد اشتركت في الاكتفاء في الإتمام بمجرد الملك ولا سيما موثقة عمار.

والعجب هنا من صاحب المدارك (قدس‌سره) وما وقع له من المجازفة في هذا المقام كما هي عادته في كثير من الأحكام ، حيث قال ـ بعد قول المصنف : والوطن الذي يتم فيه هو كل موضع له فيه ملك قد استوطنه ستة أشهر ـ ما لفظه : إطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق في الملك بين المنزل وغيره ، وبهذا التعميم جزم العلامة ومن تأخر عنه حتى صرحوا بالاكتفاء في ذلك بالشجرة الواحدة ، واستدلوا عليه بما رواه الشيخ في الموثق عن عمار. ثم ساق الرواية المذكورة. ثم قال : وهذه الرواية ضعيفة السند باشتمالها على جماعة من الفطحية ، والأصح اعتبار المنزل خاصة كما هو ظاهر اختيار الشيخ في النهاية. الى آخره.

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ١٤ من صلاة المسافر.

٣٦١

فان فيه من المجازفة في المقام التي لا تليق من مثله من الاعلام ما لا يخفى على ذوي الأفهام ، وذلك فان الناظر في كلامه القاصر عن تتبع الأخبار لحسن الظن به يظن انه لا مستند لهذا القول إلا هذه الرواية مع ان الروايات كما رأيت به متكاثرة والأخبار به متظافرة فيها الصحيح باصطلاحه وغيره ، ولا ريب ان الواجب في مقام التحقيق هو استقصاء أدلة القول والجواب عنها متى اختار خلافه ولكن هذه عادته (قدس‌سره) في غير موضع كما تقدمت الإشارة إليه.

ثم انه لا يخفى ان هذه الأخبار قد اشتركت في كون التمام بمجرد الوصول إلى الأملاك المذكورة من غير تقييد بشي‌ء من نية إقامة أو استيطان ستة أشهر سابقا كما هو ظاهر سياقها. نعم في حديث عمران بن محمد اشكال من وجه آخر حيث ان ظاهره وجوب التقصير في خمسة فراسخ مع العلم بانقطاع السفر على رأسها ، فإن السفر قد انقطع بالوصول إلى الضيعة التي قصدها لإيجابه عليه‌السلام الإتمام فيها ، وربما كان فيه دلالة على مذهب من قال بالتخيير في أربعة فراسخ. إلا انك قد عرفت انه قول مرغوب عنه لدلالة الروايات الصحيحة الصريحة على ضعفه ، والخبر المذكور مشكل لا يحضرني الآن وجه الجواب عنه.

وأما ما ذكره المحدث الكاشاني في الوافي من حمله على غير التخيير ـ حيث انه حمل الأخبار الدالة على الإتمام بمجرد وصول الملك على التخيير وجعل هذا جوابا عن الإشكال المذكور ـ فلا يخفى ما فيه ، لان التخيير الذي احتمله في تلك الأخبار انما هو في الملك بعد تحقق السفر سابقا ، لأن الأخبار اختلفت في حكم الوصول الى الملك بعد تحقق السفر وانه هل يكون قاطعا للسفر أم لا؟ والإشكال هنا انما هو في حكمه عليه‌السلام بالتقصير في الطريق مع انقطاع السفر بالوصول الى الملك ، وهو هنا ليس بمسافر السفر الموجب للتقصير إلا على قول من يقول بالتخيير في مجرد قصد الأربعة وهو لا يقول به ، وحمله على ما لا يقول به غير جيد كما هو ظاهر. وبالجملة

٣٦٢

فإن كلامه هنا لا يخلو عن نوع غفلة.

السادس ـ رواية موسى بن حمزة بن بزيع (١) قال : «قلت لأبي الحسن عليه‌السلام جعلت فداك ان لي ضيعة دون بغداد فاخرج من الكوفة أريد بغداد فأقيم في تلك الضيعة أقصر أم أتم؟ قال ان لم تنو المقام عشرا فقصر».

السابع ـ رواية عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «من اتى ضيعته ثم لم يرد المقام عشرة أيام قصر وان أراد المقام عشرة أيام أتم الصلاة».

أقول : وهاتان الروايتان كما ترى صريحتان في انه لا يجوز الإتمام في الضيعة والملك بمجرد الوصول بل لا بد من قصد إقامة عشرة أيام وبدون ذلك فان الواجب التقصير.

الثامن ـ صحيحة على بن يقطين (٣) قال : «قلت لأبي الحسن الأول عليه‌السلام الرجل يتخذ المنزل فيمر به أيتم أم يقصر؟ فقال كل منزل لا تستوطنه فليس لك بمنزل وليس لك أن تتم فيه».

التاسع ـ صحيحة الحلبي عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٤) «في الرجل يسافر فيمر بالمنزل له في الطريق يتم الصلاة أم يقصر؟ قال يقصر انما هو المنزل الذي توطنه».

العاشر ـ صحيحة سعد بن ابى خلف (٥) قال : «سأل على بن يقطين أبا الحسن الأول عليه‌السلام عن الدار تكون للرجل بمصر أو الضيعة فيمر بها؟ قال ان كان من ما قد سكنه أتم فيه الصلاة وان كان من ما لم يسكنه فليقصر».

الحادي عشر ـ صحيحة على بن يقطين (٦) قال : «قلت لأبي الحسن الأول عليه‌السلام ان لي ضياعا ومنازل بين القرية والقرية الفرسخان والثلاثة؟ فقال كل منزل من منازلك لا تستوطنه فعليك فيه التقصير».

أقول : قد اتفقت هذه الأخبار الأربعة على ان مجرد وجود المنزل غير

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١٥ من صلاة المسافر.

(٣ و ٤ و ٥ و ٦) الوسائل الباب ١٤ من صلاة المسافر. وراوي الحديث «٤» عنه «ع» فيه «حماد» كما في الاستبصار ج ١ ص ٢٣٠.

٣٦٣

كاف في الإتمام عند المرور به ما لم يستوطنه ، وإطلاقها شامل لما لو كان الاستيطان ستة أشهر أو أقل أو أزيد.

الثاني عشر ـ صحيحة أخرى لعلي بن يقطين ايضا (١) قال : «سألت أبا الحسن الأول عليه‌السلام عن رجل يمر ببعض الأمصار وله بالمصر دار وليس المصر وطنه أيتم صلاته أم يقصر؟ قال يقصر الصلاة ، والضياع مثل ذلك إذا مر بها».

أقول : ينبغي حمل الدار هنا على ما لم يحصل فيه الاستيطان. وفي الخبر أيضا دلالة على ان مجرد المرور بالضياع لا يوجب التمام ولا يقطع السفر ، وهو خلاف ما دلت عليه الأخبار الأولة. ويمكن جعله من قبيل الخبرين المتقدمين الدالين على انه لا يقصر في الملك إلا بنية الإقامة عشرا فيه وإلا فالحكم التقصير ، وبعين ما يقال فيهما يقال فيه.

الثالث عشر ـ صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع عن ابى الحسن الرضا عليه‌السلام (٢) قال : «سألته عن الرجل يقصر في ضيعته؟ قال لا بأس ما لم ينو مقام عشرة أيام إلا أن يكون له فيها منزل يستوطنه. فقلت ما الاستيطان؟ فقال ان يكون له فيها منزل يقيم فيه ستة أشهر فإذا كان كذلك يتم فيها ميت دخلها».

وصدر هذه الصحيحة موافق لما دلت عليه الرواية السادسة والسابعة من وجوب التقصير في الضيعة ما لم ينو مقام عشرة أيام ، وعليه يحمل إطلاق صحيحة على بن يقطين الأخيرة كما أشرنا إليه ذيلها. والجميع كما ترى ظاهر المنافاة لما دلت عليه الأخبار الأولة من وجوب الإتمام بمجرد وصول الملك ، ودلت هذه الصحيحة ايضا على انه لا بد في المنزل القاطع للسفر من الاستيطان كما دلت عليه الرواية الثامنة والتاسعة والعاشرة والحادية عشرة ، إلا ان تلك الروايات مطلقة في الاستيطان وهذه قد عينته وقيدته بستة أشهر فصاعدا فلا يكفى ما دونها ، وبها قيد الأصحاب إطلاق الروايات المشار إليها.

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٢٣ من صلاة المسافر.

٣٦٤

إذا عرفت ذلك فاعلم ان ظاهر الأصحاب (رضوان الله عليهم هو تقييد أخبار الملك واخبار المنزل بالاستيطان ستة أشهر في وجوب الإتمام بالوصول إليهما وانقطاع السفر بهما ، والذي ظهر لي من الأخبار بعد التأمل فيها بعين الفكر والاعتبار هو اختصاص الاستيطان بالمنزل دون مجرد الملك ، وذلك فإن أخبار الضياع والاملاك إنما اختلفت في أنه هل يجب الإتمام بمجرد الوصول إليها كما دل عليه الخبر الأول والثاني والثالث والرابع والخامس لو أنه لا بد من مقام عشرة فيها وبدونه يجب التقصير كما دل عليه الخبر السادس والسابع وصدر الخبر الثالث عشر؟ وأما الاستيطان فإنما ورد في أخبار المنازل خاصة كما عرفت من روايات على بن يقطين وصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع ، وليس فيها ما ربما يوهم انسحابه الى الملك إلا الرواية العاشرة ، حيث اشتمل السؤال فيها على الدار والضيعة وأجيب بأنه ان كان من ما قد سكنه أتم فيه الصلاة. ويمكن الجواب بصرف ذلك الى الدار بخصوصها كما هو منطوق ما ذكرناه من أخبار المنزل ولا سيما الرواية الثالثة عشرة فإنها كالصريحة في ما ذكرناه من التفصيل ، إذ ظاهرها كما ترى بالنسبة إلى الضياع انه يقصر فيها ما لم يقم عشرة أيام وبالنسبة إلى المنازل انه يقصر فيها ايضا ما لم يستوطنها على الوجه المذكور فيها ، ولو كان قيد الاستيطان معتبرا في الضياع كما يدعونه لعطفه على إقامة العشرة ولم يخصه بالمنازل. ويؤيده ان المقام مقام البيان فلو كان الحكم كذلك لأشار إليه في الخبر أو غيره. ويؤيده ان المقام مقام البيان فلو كان الحكم كذلك لا شار إليه في الخبر أو غيره. ويؤكده أيضا النظر الى العرف فان الاستيطان مثل المدة المذكورة انما يكون في المنازل والدور. وأما ما ذكره الأصحاب من الاكتفاء بالاستيطان في بلد الملك وان كان في غير منزله فهو كالأصل الذي فرعوه عليه حيث عرفت انه لا مستند له فكذا ما يرجع اليه. وبالجملة فصحيحة ابن بزيع المذكورة ظاهرة الدلالة في ما ذكرناه حيث خص الضياع بوجوب التقصير ما لم ينو مقام عشرة أيام والمنزل بوجوب التقصير ما لم يحصل الاستيطان.

وظاهر شيخنا الصدوق (عطر الله مرقده) في الفقيه الإفتاء بالصحيحة

٣٦٥

المذكورة حيث قال بعد ذكر صحيحة إسماعيل بن الفضل وهي الأولى من الأخبار المتقدمة : يعني بذلك إذا أراد المقام في قراه وأرضه عشرة أيام ومن لم يرد المقام بها عشرة أيام قصر إلا أن يكون له بها منزل يكون فيه في السنة ستة أشهر فإن كان كذلك أتم متى دخلها ، وتصديق ذلك ما رواه محمد بن إسماعيل بن بزيع. وساق الخبر.

وأنت خبير بان ما ذكره من تقييد الخبر المذكور بما دل عليه صدر صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع ونحوها روايتا موسى وعبد الله بن سنان وان أمكن في هذا الخبر الذي نقله ونحوه من الأخبار المطلقة إلا انه لا يمكن في مثل الخبر الثاني الدال على الإقامة اليوم واليومين والثلاثة والخبر الخامس الدال على الإقامة ثلاثة أو خمسة أو سبعة وظاهر الخبر الثالث بالتقريب الذي ذكرناه في ذيله ، والتقييد بالمنزل ايضا لا تقبله تلك الأخبار سيما مع اعتبار الاستيطان المدة المذكورة وخصوصا موثقة عمار الدالة على الاكتفاء بالنخلة ، واللازم من تقييد تلك الأخبار المطلقة بما ذكره من الصحيحة المذكورة ونحوها وان بعد هو طرح تلك الأخبار المشتملة على الأيام المعدودة فيها لعدم قبولها التقييد ، وحينئذ فما ذكره غير حاسم لمادة الإشكال ولا ساد لباب المقال.

وجملة من متأخري المتأخرين كالمحدث الكاشاني في الوافي جمعوا بهذه الصحيحة أعني صحيحة ابن بزيع بين الأخبار بحمل مطلقها على مقيدها بأحد القيدين أعني إقامة العشرة أو الاستيطان ، ونقله في الوافي عن الشيخ في التهذيبين والصدوق في الفقيه.

وفيه ان القيدين اللذين اشتملت عليهما الصحيحة المذكورة انما هما إقامة العشرة أو المنزل الذي يستوطنه بمعنى انه لا يتم في الملك إلا بعد نية إقامة عشرة أو يكون له ثمة منزل يستوطنه لا مجرد الاستيطان وان كان من غير منزل ، وهذا هو المعنى الذي صرح به في الفقيه كما سمعت من عبارته. وبالجملة فإن قيد إقامة العشرة وان أمكن

٣٦٦

في بعض الأخبار إلا انه لا يمكن في بعض آخر كما عرفت ، وقيد الاستيطان مورده في الأخبار انما هو المنزل كما عرفت ايضا.

فما ذكره كل منهم (رضوان الله عليهم زاعما انه وجه جمع بين الأخبار ناقص العيار بين الانكسار ، والصحيحة المذكورة لا تنطبق على هذا الوجه ولا تساعده كما عرفت لأنها صريحة في كون الإتمام في الملك والضيعة لا يكون إلا بإقامة عشرة أيام أو وجود المنزل المستوطن تلك المدة ، وظاهرها ان وجود الملك وعدمه على حد سواء لان هذين القاطعين حيثما حصلا انقطع بهما السفر.

واحتمل المحدث المذكور في الوافي وغيره في غيره حمل ما دل على الإتمام في غير صورتي الإقامة والاستيطان على التخيير.

وفيه ما لا يخفى فإن الأخبار المذكورة ظاهرة بل صريحة في وجوب الإتمام وجوبا حتميا متعينا ولا قرينة في شي‌ء منها تؤنس بهذا الحمل بالكلية ، ووجود المناقض والمعارض لا يستدعي ذلك ولا يكون قرينة على ارتكاب التجوز في تلك الألفاظ بإخراجها عن ظواهرها وحقائقها ، إذ يمكن أن يكون التأويل في جانب المعارض لها أو حملها على محمل آخر.

وعندي ان أحد طرفي هذه الأخبار المتعارضة في المقام انما خرج مخرج التقية التي هي الأصل في اختلاف الأخبار في كل حكم وقضية ولكن أشكل تميزها ومعرفتها في أي طرف فحصل الالتباس ، وقد دلت الأخبار على انهم عليهم‌السلام كانوا يلقون الاختلاف في الأحكام تقية وان لم يكن ثمة قائل بها من أولئك الأنعام كما تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب (١).

وبالجملة فالمسألة في غاية الإشكال وللتوقف فيها مجال واى مجال فالواجب الاحتياط في ما عدا المنزل المستوطن المدة المذكورة اما بإقامة العشرة أو الجمع بين الفرضين.

__________________

(١) ج ١ ص ٤ المقدمة الاولى.

٣٦٧

ثم انه بعد وصول الكلام الى هذا المقام وفق الله للوقوف على كلام بعض مشايخنا الكرام من متأخري المتأخرين الاعلام يؤذن بحمل الأخبار المطلقة في وجوب الإتمام بمجرد وصول الملك على التقية ، قال لأن عامة العامة على ما نقل عنهم ذهبوا الى ان المسافر إذا ورد في أثناء سفره منزلا له أتم فيه سواء استوطنه أم لا حتى قال بعضهم بالإتمام في منازل أهله وعشيرته ولم يظهر من أحد منهم القول باشتراط دوام الاستيطان (١).

أقول : ومن الأخبار التي يجب حملها على التقية بناء على ما ذكره شيخنا المشار إليه صحيحة البقباق (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المسافر ينزل على بعض أهله يوما أو ليلة أو ثلاثا قال ما أحب ان يقصر الصلاة».

وقد حملها الشيخ على الاستحباب الذي مرجعه الى التخيير بين القصر والإتمام وحملها بعض على الاستيطان بشرائطه أو على انه يستحب أن يقيم عشرا. والظاهر بعد الجميع بل الأظهر هو الحمل على التقية لما عرفت ، وعلى ذلك تحمل جملة تلك الأخبار المتقدمة الدالة على وجوب الإتمام بمجرد وصول الملك ، وتعضده الأخبار الدالة على انه لا يجوز الإتمام فيها إلا مع نية إقامة العشرة وإلا فالواجب التقصير ، لأنك قد عرفت ان تقييدها بهذه الأخبار كما ذكره الصدوق وان أمكن في بعض إلا انه لا يمكن في بعض آخر كالأخبار الدالة على وجوب الإتمام مع الجلوس فيها يوما أو يومين أو ثلاثة ، وحينئذ فلم يبق إلا حملها جميعا على التقية التي هي في اختلاف الأخبار أصل كل بلية ، وهو محمل جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه

__________________

(١) في المغني ج ٢ ص ٢٩٠ : إذا مر في طريقه على بلد فيه أهل أو مال قال أحمد في موضع يتم وقال في موضع يتم إلا أن يكون مارا وهو قول ابن عباس ، وقال الزهري إذا مر بمزرعة له أتم ، وقال إذا مر بقرية له فيها أهله أو ماله أتم إذا أراد ان يقيم بها يوما وليلة ، وقال الشافعي وابن المنذر يقصر ما لم يجمع على إقامة أربعة لأنه مسافر لم يجمع على أربع.

(٢) الوسائل الباب ١٩ من صلاة المسافر.

٣٦٨

ربه يزول الاختلاف بين هذه الأخبار.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه قال في المدارك في هذا المقام ـ بعد أن نقل عن الأصحاب الاستدلال على قطع السفر بالملك بموثقة عمار ثم ردها بضعف السند كما قدمنا نقله عنه ـ ما صورته : والأصح اعتبار المنزل خاصة لإناطة الحكم به في الاخبار الصحيحة ، ويدل عليه صريحا ما رواه الشيخ وابن بابويه في الصحيح عن محمد بن إسماعيل بن بزيع. ثم ساق الرواية الثالثة عشرة من الأخبار المتقدمة ، ثم قال وبهذه الرواية احتج الأصحاب على انه يعتبر في الملك أن يكون قد استوطنه ستة أشهر فصاعدا ، وهي غير دالة على ما ذكروه بل المتبادر منها اعتبار إقامة ستة أشهر في كل سنة. وبهذا المعنى صرح ابن بابويه في من لا يحضره الفقيه فقال بعد أن أورد قوله عليه‌السلام في صحيحة إسماعيل بن الفضل. الى آخر ما قدمنا نقله عن ابن بابويه. ثم قال : والمسألة قوية الاشكال ، وكيف كان فالظاهر اعتبار دوام الاستيطان كما يعتبر دوام الملك لقوله عليه‌السلام في صحيحة على بن يقطين «كل منزل من منازلك لا تستوطنه. الى آخره» انتهى ملخصا.

أقول : فيه أولا ـ زيادة على ما قدمنا من اقتصاره في نقل دليل القول المشهور على موثقة عمار مع وجود الروايات الصحيحة الصريحة غيرها كما عرفت ـ ان وجه الإشكال في قوله : «والمسألة قوية الإشكال» إنما هو من حيث استدلال الأصحاب بهذه الرواية على الاستيطان ستة أشهر في الجملة والرواية تدل على دوام الاستيطان في كل سنة ، فالإشكال حينئذ عنده من حيث ان القول بما عليه الأصحاب خروج عن ما دل عليه النص والقول بما دل عليه النص خروج عن ما عليه الأصحاب. وأنت خبير بان هذا الإشكال سخيف ضعيف والإشكال الحقيقي انما هو من حيث ان الاستيطان في الرواية انما وقع قيدا للمنزل كما عرفت ، غاية الأمر انه متى كان المنزل المستوطن في الضيعة وجب الإتمام من حيث المنزل ، وقد عرفت من روايات على بن يقطين المتعددة تقييد المنزل بالاستيطان في وجوب الإتمام وان

٣٦٩

كان وحده ، والقيد المعتبر في الملك بناء على الروايات الثلاث الأخيرة إنما هو نية الإقامة ، فاستدلالهم بالرواية المذكورة ليس في محله. وأيضا فإنه صرح في صدر كلامه بأن الأصح اعتبار المنزل خاصة دون مجرد الملك واستدل عليه بهذه الرواية ، وحينئذ فاعتبار الاستيطان إنما هو في المنزل الذي اختاره كما هو ظاهر الرواية ، وحق العبارة بناء على ما ذكرناه انه لما نقل عن الأصحاب انهم احتجوا بهذه الرواية على انه يعتبر في الملك الاستيطان ستة أشهر ان يرده بان اعتبار الاستيطان في الرواية انما هو بالنسبة إلى المنزل خاصة لا الملك ، مع ان المتبادر منها اعتبار الاستيطان ستة أشهر في كل سنة وهم قد اكتفوا بالستة ولو في سنة واحدة. هكذا كان حق العبارة بمقتضى ما اختاره في المقام.

وثانيا ـ ان قوله : «وكيف كان فالظاهر اعتبار دوام الاستيطان. الى آخره» بعد قوله : «والمسألة قوية الإشكال» من ما لا يخلو من التدافع ، لأن قوة الإشكال عنده كما عرفت من حيث الاختلاف بين كلام الأصحاب في ما اكتفوا به من الاستيطان ستة أشهر ولو في سنة وبين الرواية في ما دلت عليه من دوام الاستيطان ، وهو مؤذن بتوقفه في المسألة من حيث عدم إمكان مخالفة الأصحاب وعدم إمكان مخالفة الرواية فوقع في الاشكال لذلك ، ومقتضى قوله : «وكيف كان. الى آخره» ترجيح العمل بما دلت عليه الرواية من دوام الاستيطان كما أيده بذكر صحيحة على بن يقطين وكلام الشيخ وابن البراج.

وبالجملة فإن الظاهر من كلامه في هذا المقام ان الخلاف هنا بين الأصحاب وقع في موضعين : (أحدهما) ان ـ الوطن الذي ينقطع به السفر هل هو مجرد الملك الذي استوطنه كما هو المشهور أو خصوص المنزل المستوطن؟ وهو في هذا الموضع قد حكم بأن الأصح هو القول الثاني مستندا إلى الصحيحة المذكورة. و (ثانيهما) ـ انه هل يكفي اقامة الستة ولو مرة واحدة في سنة كما هو المشهور أم لا بد من تجدد الإقامة في كل سنة كما هو ظاهر الصدوق والشيخ في النهاية وابن البراج؟ وهو قد

٣٧٠

اختار هنا القول الثاني لقوله «والظاهر اعتبار دوام الاستيطان».

وحينئذ فقد تلخص ان مذهبه في المسألة هو القول بخصوص المنزل مع اعتبار دوام الاستيطان كل سنة ، وعلى هذا فأي إشكال هنا عنده وما وجه هذا الاشكال فضلا عن قوته حتى انه يقول «والمسألة قوية الإشكال» وبالجملة فالظاهر ان كلامه هنا لا يخلو من مسامحة ناشئة عن الاستعجال. والله العالم.

تنبيه

قد ذكر الأصحاب (رضوان الله عليهم في هذا المقام جملة من الفروع والأحكام من ما يتم بها الكلام لا بد من نقلها وذكرها لما فيها من الإيضاح للمسألة ورفع غشاوة الإبهام :

فمنها ـ ان المستفاد من كلام الأكثر هو الاكتفاء بمقام الستة الأشهر ولو دفعة في سنة واحدة فيتم متى وصل بعدها ولو فريضة واحدة ، وظاهر الصدوق ـ واليه مال في المدارك كما تقدم ذكره ـ اعتبار الستة في كل سنة ، والمفهوم من كلام الفاضل الخراساني وبعض من تأخر عنه اناطة حصول الاستيطان بالعرف من غير تقييد بمدة :

قال في الذخيرة : والظاهر ان الوصول الى بلد له فيه منزل استوطنه بحيث يصدق الاستيطان عرفا كاف في الإتمام. انتهى. ونحوه في الكفاية.

وقال بعض من تأخر عنه من مشايخنا المحققين بعد نقل صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع : وخلاصة معناه ان الإتمام بالضياع وما بحكمها إنما هو في ما يكون محلا لسكناه بحيث يعد عرفا من أوطانه ويصدق عليه عادة انه موضع استيطانه من غير أن يعرضه الترك لذلك في ما بعد بمرتبة تخرجه عن عداد الأوطان وصدق الاستيطان أى بحيث لا يقال انه كان وطنه سابقا فتركه ، فإن هذا الاستيطان يتحقق بان يكون له فيه محل نزول وان لم يكن ملكا له يسكنه دائما ستة أشهر مهما ارتحل منتقلا اليه. انتهى.

٣٧١

أقول : قد عرفت أنه لا يخفى ما في احالة الأحكام الشرعية على العرف من الإشكال ، فإنا لا نجد لهذا العرف معنى إلا باعتبار ما يتصوره مدعيه في كل مقام ويزعم أن كافة الناس على ما ارتسم في خاطره فيحمل عليه الأحكام ، وإلا فتتبع الأقطار والأمصار ومعرفة ما عليه عرف الناس وعادتهم في تلك الأمور التي علقوها على العرف أمر متعذر البتة ، هذا مع ما علم يقينا من اختلاف العادات والعرف باختلاف الأقاليم والبلدان. وبالجملة فإناطة الأحكام الشرعية بالعرف مع ما عرفت من كونه لا دليل عليه لا يخلو من الإشكال ، والمفهوم من أخبارهم (عليهم‌السلام) انه مع ورود لفظ مجمل في أخبارهم فإنه يجب الفحص عن معناه المراد به عنهم ومع تعذر الوقوف على ذلك فالواجب الأخذ بالاحتياط والوقوف على سواء ذلك الصراط.

ويمكن هنا أن يقال ان لفظ الاستيطان وان كان مجملا في أكثر الأخبار إلا ان صحيحة ابن بزيع قد صرحت بان المراد به إقامة ستة أشهر ، والمجمل يحمل على المفصل والمطلق على المقيد فلا اشكال.

وأما ما يفهم من كلام الصدوق ومن تبعه في هذا المقام ـ من وجوب الستة في كل سنة استنادا إلى إفادة المضارع التجدد ـ ففيه ان الظاهر بمعونة الأخبار الكثيرة الدالة على مطلق الاستيطان انما هو أن المراد بذلك انه لا يكفي في صدق الاستيطان المرة والمرتان بل لا بد من تجدده واستمراره على وجه لا يتركه تركا يخرج به عن الاسم المذكور ، وأقل ما يحصل به ذلك من المراتب اقامة الستة مرة واحدة حيث انه لم يعين في تلك الأخبار الكثيرة مدة للتحديد بل جعل المناط هو التحديد الذي يكون سببا لعدم زوال اسم الاستيطان ، وفي الصحيحة المذكورة أوضحه وعينه بكون أقل ذلك مدة الستة الأشهر. وبذلك يظهر أنه لا دلالة في الرواية على ما توهموه من اعتبار إقامة الستة في كل سنة. والله العالم.

ومنها ـ انه لا يشترط في الستة الأشهر التوالي بل يكفى ولو كانت متفرقة. وهو جيد ، وذلك فان الحكم بالتمام في الأخبار المتقدمة علق على مطلق الاستيطان

٣٧٢

المدة المذكورة وهو أعم من أن يكون مع التوالي أو التفريق.

ومنها ـ انه يشترط أن تكون الصلاة في الستة المذكورة بنية الإقامة لأنه المتبادر من قوله عليه‌السلام في صحيحة ابن بزيع «منزل يقيم فيه ستة أشهر» وكذا من لفظ الاستيطان والسكنى كما في الأخبار الأخر ، وحينئذ فلا يكفي الإتمام المترتب على كثرة السفر ولا على المعصية بالسفر ولا بعد التردد ثلاثين يوما ولا لشرف البقعة. نعم لا تضر مجامعتها له وان تعددت الأسباب.

ومنها ـ اشتراط الملك في المنزل وغيره كما هو ظاهر كلامهم وبه صرح الشهيدان قال في الذكرى : ويشترط ملك الرقبة فلا تكفي الإجارة والتملك بالوصية. ونحوه في الروض ايضا.

وظاهر بعض متأخري المتأخرين المناقشة في الشرط المذكور ، قال في الذخيرة : واشترط الشهيد ملك الرقبة فلا تجزئ الإجارة. وفيه تأمل.

أقول : لا يخفى ان المفهوم من الاخبار المتقدمة بالنسبة إلى الضياع والقرى ونحوها هو اشتراط الملك بغير اشكال وانما محل الإشكال في المنزل ، والمفهوم لغة وعرفا انه عبارة عن موضع النزول ، قال في القاموس : النزول الحلول ونزل به حل فيه والمنزل موضع النزول. ومثله في كتاب المصباح المنير. ولا ريب ان ذلك أعم من أن يكون ملكا أو مستأجرا أو معارا أو نحو ذلك ، والاستناد الى اللام في المقام باعتبار حملها على التملك لا وجه له لاحتمال حملها على الاختصاص ، بل صرح في الروض في مسألة اتخاذ البلد دار اقامة على الدوام بان اللام كما تدل على الملك تدل على الاختصاص بل هي فيه أظهر ، وقال بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين : الحق ان الأصل في اللام الاختصاص ومجيئها للتمليك انما هو لأجل كونه من افراد الاختصاص. وبالجملة فإن ما ذكروه في المقام لا يخلو من الاشكال لعدم الدليل الواضح عليه بل ظاهر كلام أهل اللغة كما عرفت خلافه.

ومنها ـ كون الاستيطان بعد تحقق الملك بناء على القول المشهور من اشتراط

٣٧٣

ملك الرقبة أو بعد تحقق أحد الأسباب المبيحة للنزول بناء على القول الآخر ، فلو تقدم الاستيطان أو بعضه على ذلك لم يعتد به ، والوجه في ما ذكرنا ان الحكم في الأخبار ترتب على الاستيطان في المنزل الذي له ملكا كان أو عارية أو نحو ذلك وهو ظاهر في أن الاستيطان قبل وجود المنزل المتصف بأحد الوجوه المذكورة من الملكية ونحوها لا يدخل تحت مضمون هذه العبارة.

ومنها ـ دوام الملك فلو خرج عنه لم يترتب عليه الحكم المذكور ، قال في الذكرى : ويشترط ايضا دوام الملك فلو خرج عن ملكه زال الحكم ، لأن الصحابة لما دخلوا مكة قصروا فيها لخروج أملاكهم (١).

أقول : هذا الشرط جيد بالنسبة إلى الملك بناء على ما قدمنا نقله عنهم من اشتراط ملك الرقبة ، واما بناء على القول الآخر فإنه لا بد ايضا من دوام نسبة المنزل إليه بأحد الأسباب المتقدمة ، فلو استأجره أو استعاره مدة ثم انقضت المدة وخرج عن النسبة اليه والتعلق به فالظاهر ايضا زوال الحكم المترتب على وجود المنزل الداخل تحت تصرفه ، فان ظاهر الأخبار اعتبار دوام السبب المذكور في دوام ما يترتب عليه

ومنها ـ انه لا يشترط السكنى في الملك بل يكفى السكنى في البلد أو القرية حيث كان ولا يشترط كونه له صلاحية السكنى.

قال في الروض : ولا يشترط كون السكنى في الملك ولا كونه له صلاحية السكنى لحديث النخلة (٢) فيكفي سكنى بلد لا يخرج عن حدوده الشرعية وهي حد الخفاء. انتهى.

أقول : أما عدم اشتراط كون السكنى في الملك فإن أريد به بالنسبة إلى مثل الضياع والنخيل فهو من ما لا ريب في صحته ، لان هذه الأشياء ليست محلا للسكنى عرفا فيكفي الجلوس في البلد. إلا انك قد عرفت سابقا انه لا دليل على ما اعتبروه من اشتراط مجرد الملك بالسكنى بل السكنى في الأخبار انما ترتب على

__________________

(١) بدائع الصنائع ج ١ ص ١٠٣.

(٢) وهو الحديث الرابع ص ٣٦١.

٣٧٤

المنزل ، وان أريد به بالنسبة إلى المنازل فهو محل إشكال ، لأن الروايات دلت على انه إذا كان له منزل يستوطنه وهي ظاهرة بل صريحة في كون الاستيطان في نفس المنزل ، والحمل على تقدير مضاف أى يستوطن بلده بعيد غاية البعد ، فما ذكروه (عطر الله مراقدهم) هنا لا يخلو من وصمة الإشكال.

ومنها ـ انه قد صرح غير واحد منهم (رضوان الله عليهم) بأنه لو اتخذ بلدا دار اقامة على الدوام فان حكمه حكم الملك :

قال في المدارك : والحق العلامة ومن تأخر عنه بالملك اتخاذ البلد دار اقامة على الدوام ولا بأس به الخروج المسافر بالوصول إليها عن كونه مسافرا عرفا. قال في الذكرى : وهل يشترط هنا الاستيطان الستة الأشهر؟ الأقرب ذلك ليتحقق الاستيطان الشرعي مضافا الى العرف. وهو غير بعيد لأن الاستيطان على هذا الوجه إذا كان معتبرا مع وجود الملك فمع عدمه أولى. انتهى.

أقول : لا يخفى ما وقع للأصحاب (رضوان الله عليهم) قديما وحديثا من الغفلة في هذه المسألة ، وذلك فان ظاهرهم الاتفاق على انحصار قواطع السفر في ثلاثة : (أحدها) إقامة العشرة. و (ثانيها) مضى ثلاثين يوما مترددا. و (ثالثها) وصول بلد له فيها ملك أو منزل قد استوطنه على الخلاف المتقدم ، وظاهرهم دخول بلدته التي تولد فيها ونشأ من زمن أبيه وأجداده في القاطع الثالث ، والحق العلامة ومن تبعه بالملك كما هو القول المشهور اتخاذ البلد دار اقامه على الدوام ، ورجحه السيد السند كما ذكره. ثم ان من تأخر عن العلامة اختلفوا في انه هل يشترط اعتبار الستة الأشهر المعتبر في الملك في هذا البلد؟ ظاهر الذكرى ذلك ورجحه السيد المذكور لما ذكره ، وبمثل ذلك صرح جده في الروض وغيره ، وظاهر الشهيد في البيان التوقف في ذلك حيث قال : والمقيم ببلدة اتخذها وطنا على الدوام يلحق بالملك على الظاهر وفي اشتراط الإقامة ستة أشهر أو العشرة الأيام إشكال. انتهى. وبالجملة فالمشهور هو الأول.

٣٧٥

وأنت خبير بأنه لا يخفى على من لاحظ الأخبار بعين التأمل والتدبر والاعتبار ان المفهوم منها على وجه لا يعتريه الشك ولا الإنكار ان القواطع الثلاثة التي أحدها بلد الملك أو المنزل المشترط فيه الاستيطان انما هي في ما إذا خرج الإنسان من بلده مسافرا سفرا يجب فيه التقصير فإنه يستصحب التقصير في سفره الى أن ينقطع إما بإقامة عشرة أيام في بعض المواضع أو مضى ثلاثين يوما مترددا أو يمر في سفره ذلك على ملك له من ضياع أو منزل على الوجه المتقدم في المسألة فإنه ينقطع سفره بأي هذه حصل ويرجع الى التمام ، ثم بعد المفارقة يرجع الى التقصير في سفره كما كان أو لا حتى يرجع الى بلده التي خرج منها فيجب عليه الإتمام بالوصول إليها ، إلا ان الاخبار هنا قد اختلفت في انه هل يتم إذا رجع الى بلده بعد تجاوزه محل الترخص داخلا أو لا يتم حتى يدخل منزله وأهله؟ وحينئذ فتلك القواطع الثلاثة إنما هي خارج البلد المذكور ، وانقطاع السفر بالرجوع الى بلده التي خرج منها ليس له مدخل في تلك القواطع بوجه ، وقد تقدمت لك الأخبار المتعلقة بهذا القاطع الثالث الذي هو الملك أو المنزل صريحة في ما قلناه وواضحة في ما ادعيناه فإنها تضمنت انه يمر به في سفره ، ومنه يعلم ان ذلك انما هو في مدة السفر وضمنه كما ذكرناه ، وعباراتها في هذا المعنى صريح وظاهر مثل قولهم «سافر من أرض إلى أرض وإنما ينزل قراه وضيعته» وقولهم «يتخذ المنزل فيمر به» ونحو ذلك من ما تقدم ، وكله صريح أو ظاهر في كون تلك الاملاك والضياع والمنازل إنما هي في الطريق والسفر ، وأما بلد الإقامة فلا مدخل لها في هذه الأخبار بوجه وإنما لها أخبار على حدة ، ومحل الخلاف الذي وقع بينهم من الاكتفاء بالملك مطلقا أو لا بد من المنزل واعتبار الاستيطان مطلقا أو مقيدا ونحو ذلك كله إنما نشأ من هذه الأخبار التي ذكرناها المتضمنة لكون ذلك في السفر.

واما أخبار بلد الاستيطان الدالة على انقطاع السفر بالوصول إليها فهي هذه التي نتلوها عليك : فمنها موثقة إسحاق بن عمار عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال :

__________________

(١) الوسائل الباب ٧ من صلاة المسافر ، والرواية عن أبي إبراهيم «ع».

٣٧٦

«سألته عن الرجل يكون مسافرا ثم يقدم فيدخل بيوت الكوفة أيتم الصلاة أم يكون مقصرا حتى يدخل أهله؟ قال بل يكون مقصرا حتى يدخل أهله».

وصحيحة العيص بن القاسم عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «لا يزال المسافر مقصرا حتى يدخل بيته».

وروى الصدوق في الفقيه مرسلا (٢) قال : وروى عن ابى عبد الله عليه‌السلام انه قال «إذا خرجت من منزلك فقصر الى أن تعود اليه».

وموثقة ابن بكير (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون بالبصرة وهو من أهل الكوفة له بها دار ومنزل فيمر بالكوفة وانما هو مجتاز لا يريد المقام إلا بقدر ما يتجهز يوما أو يومين؟ قال يقيم في جانب المصر ويقصر. قلت : فان دخل اهله؟ قال عليه التمام».

وروى هذه الرواية الحميري في كتاب قرب الاسناد عن احمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن محبوب عن على بن رئاب (٤) «أنه سمع بعض الواردين يسأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون بالبصرة وهو من أهل الكوفة وله بالكوفة دار وعيال فيخرج فيمر بالكوفة ويريد مكة ليتجهز منها وليس من رأيه أن يقيم أكثر من يوم أو يومين؟ قال يقيم في جانب الكوفة ويقصر حتى يفرغ من جهازه وان هو دخل منزله فليتم الصلاة».

وأنت خبير بان سند الرواية المذكورة صحيح فبملاحظة موافقتها مع الموثقة المذكورة يجعلها في حكم الصحيح ايضا.

وصحيحة معاوية بن عمار عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٥) قال : «ان أهل مكة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم أتموا وإذا لم يدخلوا منازلهم قصروا».

وصحيحة الحلبي عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٦) قال : «ان أهل مكة إذا خرجوا

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٧ من صلاة المسافر.

(٥ و ٦) الوسائل الباب ٣ من صلاة المسافر.

٣٧٧

حجاجا قصروا وإذا زاروا ورجعوا الى منازلهم أتموا».

وصحيحة عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «سألته عن التقصير قال : إذا كنت في الموضع الذي تسمع فيه الأذان فأتم وإذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصر ، وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك». وليس في بعض نسخ الحديث أول الحديث الى قوله «فأتم».

هذه جملة ما حضرني من أخبار المسافر إذا رجع الى بلده ، وقد دلت كلها ما عدا الأخير على ان سفره انما ينقطع بدخول بيته كما هو أحد القولين في المسألة وأظهرهما ، وصحيحة ابن سنان قد دلت على الانقطاع بتجاوز محل الترخص داخلا كما هو أشهرهما ، ولا تعرض في شي‌ء منها بوجه من الوجوه لشي‌ء من تلك الشروط التي وقع فيها الخلاف ولا دلالة فيها على اشتراط منزل ولا ملك ، والإضافة في. هذه الأخبار في قوله «بيته أو منزله» أعم من التمليك والاختصاص ، ولا تعرض فيها لاستيطان ستة أشهر ولا عدمه ، وهؤلاء الذين اشتملت هذه الأخبار على السؤال عن أحكامهم وبيان تقصيرهم وإتمامهم لا تخصيص في أحد منهم بكونه ممن قد اتخذها وطنا من زمن آبائه وأجداده أو توطنها أخيرا ، نعم لا بد من صدق كونها بلده عرفا كما تشير اليه اخبار أهل مكة ، ومن ذلك يظهر أن قواطع السفر أربعة بزيادة ما ذكرناه على الثلاثة المتقدمة.

هذا. وأما ما ذكروه من حكم من اتخذ بلدا دار اقامة على الدوام فالأظهر عندي التفصيل فيه بأنه ان كان قد صدق عليه عرفا كونه من أهل البلد المذكور فحكمه ما ذكرناه ودلت عليه هذه الأخبار كأهل البلد القاطنين بها ، وان كان قبل ذلك كأن يكون ذلك في أول أمره بأن نوى الجلوس فيها على الدوام ولكنه بعد لم يدخل تحت اسم أهلها ولم يصدق عليه انه منها فالأظهر فيه الرجوع الى قواعد السفر المنصوصة عن أهل البيت (عليهم‌السلام) من بقاء حكم السفر عليه حتى ينقطع

__________________

(١) الوسائل الباب ٦ من صلاة المسافر.

٣٧٨

سفره بأحد القواطع الشرعية. وما ذكروه من التخريجات المتقدم ذكرها لا أعرف عليها دليلا ولا إليها سبيلا. وقوله في المدارك : «الخروج المسافر بالوصول إليها عن كونه مسافرا عرفا» ليس بشي‌ء في مقابلة النصوص الصحيحة الصريحة الدالة على وجوب التقصير على المسافر إلا أن ينقطع سفره بأحد القواطع الشرعية ، وحيث لم يحصل هنا شي‌ء منها فالواجب بمقتضى تلك النصوص استصحاب التقصير كما صرحوا به في من أقام مدة في رستاق ، ومجرد نية الإقامة دواما في البلد لا دليل على تأثيرها في قطع حكم السفر ، والإلحاق بالملك مجرد قياس لا يوافق أصول المذهب. وبالجملة فإن التحقيق عندي في المسألة ما ذكرته. والله العالم بحقائق أحكامه ونوابه القائمون بمعالم حلاله وحرامه.

المقام الثالث ـ في مضى ثلاثين يوما مترددا ولا خلاف بينهم في وجوب الإتمام عليه بعد المدة المذكورة ، وقد مضت الأخبار الدالة عليه في صدر المقام الأول ، إلا ان في بعضها التحديد بثلاثين يوما وفي بعضها بالشهر ، ويظهر الفرق في ما إذا كان مبدأ التردد أول الشهر الهلالي فإنه يكتفى به وان ظهر نقصانه عن الثلاثين بناء على رواية الشهر ، والظاهر انه كذلك ايضا بمقتضى كلام الأصحاب ويشكل حينئذ باعتبار رواية الثلاثين إلا ان تحمل على غير الصورة المذكورة من حصول التردد في أثناء الشهر كما هو الأغلب.

ونقل عن العلامة في التذكرة انه اعتبر الثلاثين ولم يعتبر الشهر الهلالي ، قال : لان لفظ الشهر كالمجمل ولفظ الثلاثين كالمبين. قال في المدارك : ولا بأس به. وقال في الذخيرة : وفي كونهما كالمجمل والمبين تأمل بل الظاهر كون الشهر حقيقة في المعنى المشترك بين المعنيين ، وحينئذ فالمتجه أن يقال يحمل على الثلاثين كما يحمل المطلق على المقيد والعام على الخاص. انتهى.

أقول : لا يخفى ان مرجع الكلامين الى البناء على الثلاثين وتقييد الشهر بذلك وهو الأظهر وان كان ما ذكرناه أو لا في الجمع بين الأخبار لا يخلو من قرب. والله العالم

٣٧٩

الخامس من الشروط المتقدمة ان يكون السفر سائغا واجبا كان كالحج أو مستحبا كالزيارة أو مباحا كالتجارة فلا يترخص العاصي بسفره ، وهذا الشرط مجمع عليه بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) كما نقله المحقق في المعتبر والعلامة في جملة من كتبه.

ويدل عليه جملة من الأخبار : منها ـ ما رواه الصدوق في الصحيح عن عمار بن مروان عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «سمعته يقول من سافر قصر وأفطر إلا ان يكون رجلا سفره الى صيد أو في معصية الله تعالى أو رسولا لمن يعصى الله عزوجل أو في طلب شحناء أو سعاية ضرر على قوم مسلمين».

وما رواه الشيخ عن عبيد بن زرارة في الموثق (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يخرج الى الصيد أيقصر أو يتم؟ قال يتم لانه ليس بمسير حق».

وعن ابى سعيد الخراساني (٣) قال : «دخل رجلان على ابى الحسن الرضا عليه‌السلام فسألاه عن التقصير فقال لأحدهما : وجب عليك التقصير لأنك قصدتني. وقال للآخر : وجب عليك التمام لأنك قصدت السلطان».

وعن إسماعيل بن ابى زياد عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) (٤) قال : «سبعة لا يقصرون الصلاة : الجابي الذي يدور في جبايته والأمير الذي يدور في امارته والتاجر الذي يدور في تجارته من سوق الى سوق والراعي والبدوي الذي يطلب مواضع القطر ومنبت الشجر والرجل الذي يطلب الصيد يريد به لهو الدنيا والمحارب الذي يقطع السبيل».

وإتمام الأخيرين لعدم اباحة السفر وأما ما عداهما فيمكن أن يكون لكون السفر عملهم ، ويحتمل في الأولين أن يكونا من قبيل الأخيرين أيضا.

__________________

(١ و ٣) الوسائل الباب ٨ من صلاة المسافر.

(٢) الوسائل الباب ٩ من صلاة المسافر.

(٤) الوسائل الباب ١١ من صلاة المسافر.

٣٨٠