الحدائق الناضرة - ج ١١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٠

سيظهر لك ان شاء الله تعالى ، إلا انه لما كان من جملة القواطع في الجملة ولو بخصوص ما ذكرناه حسن عده في هذا المكان كما ذكره أيضا في المفاتيح.

وكيف كان فالكلام هنا يقع في مقامات ثلاثة الأول ـ في نية الإقامة عشرا وانقطاع السفر بها ، إلا ان انقطاع السفر بها يكون على وجهين (أحدهما) ـ ان يقصد المسافة ويسافر ثم تعرض له نية الإقامة عشرة فإنه يجب عليه التمام ، وعلى هذا يكون الشرط المذكور شرطا في استمرار القصد بمعنى انه يشترط في استمرار قصد المسافة ان لا يقطعه بنية إقامة عشرة. وهذا هو مدلول الأخبار الآتية. و (ثانيهما) ـ أن ينوي مسافة لا يعزم على إقامة العشرة في أثنائها فلو نوى مسافة ثمانية فراسخ مثلا لكن في عزمه إقامة عشرة في أثنائها فإن هذا لا يجوز له التقصير بل فرضه التمام من وقت خروجه لانه بنية إقامة العشرة في الأثناء لم يحصل له قصد المسافة ، وعلى هذا فالشرط المذكور شرط في وجوب التقصير ، والحجة في وجوب الإتمام هنا عدم تحقق قصد المسافة كما عرفت ، واما في الأول فالأخبار. وقد صرح غير واحد من الأصحاب بأنه لا فرق في نية المقام الموجبة لقطع السفر بين كون ذلك في بلد أو قرية أو بادية ولا بين العازم على استمرار السفر بعد المقام وغيره.

ومن أخبار المسألة المشار إليها ما رواه في الكافي والتهذيب عن زرارة في الصحيح عن ابى جعفر عليه‌السلام (١) قال : «قلت له أرأيت من قدم بلدة الى متى ينبغي له أن يكون مقصرا ومتى ينبغي له أن يتم؟ قال إذا دخلت أرضا فأيقنت ان لك بها مقاما عشرة أيام فأتم الصلاة ، فان لم تدر ما مقامك بها تقول غدا أخرج أو بعد غد فقصر ما بينك وبين أن يمضي شهر فإذا تم لك شهر فأتم الصلاة وان أردت أن تخرج من ساعتك».

وعن أبي أيوب الخزاز في الصحيح أو الحسن (٢) قال : «سأل محمد بن مسلم

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١٥ من صلاة المسافر.

٣٤١

أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا أسمع عن المسافر ان حدث نفسه بإقامة عشرة أيام؟ قال فليتم الصلاة ، وان لم يدر ما يقيم يوما أو أكثر فليعد ثلاثين يوما ثم ليتم وان كان أقام يوما أو صلاة واحدة. فقال له محمد بلغني انك قلت خمسا؟ قال قد قلت ذاك. قال الخزاز فقلت انا : جعلت فداك يكون أقل من خمس؟ قال لا».

وعن منصور بن حازم في الصحيح عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «سمعته يقول إذا أتيت بلدة فأزمعت المقام عشرة أيام فأتم الصلاة ، فإن تركه رجل جاهلا فليس عليه اعادة».

وما رواه في الفقيه في الصحيح عن معاوية بن وهب عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) انه قال : «إذا دخلت بلدا وأنت تريد المقام عشرة أيام فأتم الصلاة حين تقدم وان أردت المقام دون العشرة فقصر ، وان أقمت تقول غدا أخرج وبعد غد ولم تجمع على عشرة فقصر ما بينك وبين شهر فإذا تم الشهر فأتم الصلاة. قال قلت ان دخلت بلدا أول يوم من شهر رمضان ولست أريد أن أقيم عشرا؟ قال : قصر وأفطر. قلت : فان مكثت كذلك أقول غدا أو بعد غد فأفطر الشهر كله واقصر؟ قال نعم هذا واحد إذا قصرت أفطرت وإذا أفطرت قصرت».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (٣) قال : «سألته عن المسافر يقدم الأرض فقال ان حدثته نفسه أن يقيم عشرا فليتم وان قال اليوم أخرج أو غدا أخرج ولا يدرى فليقصر بينه وبين شهر فان مضى شهر فليتم ، ولا يتم في أقل من عشرة إلا بمكة والمدينة ، وان أقام بمكة والمدينة خمسا فليتم».

وما رواه في الفقيه في الصحيح عن ابى ولاد الحناط (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام انى كنت نويت حين دخلت المدينة أن أقيم بها عشرة أيام فأتم الصلاة ثم بدا لي بعد أن لا أقيم بها فما ترى لي أتم أم أقصر؟ فقال ان كنت دخلت

__________________

(١) الوسائل الباب ١٧ من صلاة المسافر ، والرواية للشيخ فقط.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ١٥ من صلاة المسافر.

(٤) الوسائل الباب ١٨ من صلاة المسافر.

٣٤٢

المدينة وصليت بها صلاة فريضة واحدة بتمام فليس لك أن تقصر حتى تخرج منها ، وان كنت حين دخلتها على نيتك المقام ولم تصل فيها صلاة فريضة واحدة بتمام حتى بدا لك أن لا تقيم فأنت في تلك الحال بالخيار ان شئت فانو المقام عشرا وأتم وان لم تنو المقام عشرا فقصر ما بينك وبين شهر فإذا مضى لك شهر فأتم الصلاة».

وما رواه في الكافي في الصحيح عن على بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام (١) قال : «سألته عن الرجل يدركه شهر رمضان في السفر فيقيم الأيام في المكان عليه صوم؟ قال لا حتى يجمع على مقام عشرة أيام وإذا أجمع على مقام عشرة أيام صام وأتم الصلاة. قال : وسألته عن الرجل يكون عليه أيام من شهر رمضان وهو مسافر يقضي إذا أقام الأيام في المكان؟ قال لا حتى يجمع على مقام عشرة أيام».

وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن على بن يقطين عن ابى الحسن عليه‌السلام (٢) قال : «سألته عن الرجل يخرج في السفر ثم يبدو له في الإقامة وهو في الصلاة قال يتم إذا بدت له الإقامة».

وروى الشيخ في التهذيب عن محمد بن سهل عن أبيه (٣) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يخرج في سفر ثم تبدو له الإقامة وهو في صلاته أيتم أم يقصر؟ قال يتم إذا بدت له الإقامة».

إذا عرفت ذلك فالكلام يقع هنا في مواضع الأول ـ المشهور في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) اشتراط التوالي في هذه العشرة بمعنى انه لا يخرج من ذلك المحل الى محل الترخص ، واما الخروج الى ما دون ذلك فالظاهر انه لا خلاف ولا إشكال في جوازه ، فان المستفاد من الأخبار وكلام علمائنا الأبرار على وجه لا يدخله الشك والإنكار إلا ممن لم يعض على المسألة بضرس قاطع ولم يعط التأمل حقه في هذه المواضع ان الحدود الشرعية لكل بلد عبارة عن منتهى

__________________

(١) الوسائل الباب ١٥ من صلاة المسافر.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٢٠ من صلاة المسافر.

٣٤٣

سماع أذانها ورؤية من وراء جدرانها وهو الذي يحصل به الترخص من جميع أطرافها. وما اشتهر في هذه الأوقات المتأخرة والأزمنة المتغيرة ـ من أن من أقام في بلد أو قرية مثلا فلا يجوز له الخروج من سورها المحيط بها أو عن حدود بنيانها ودورها ـ فهو ناشى‌ء عن الغفلة وعدم إعطاء النظر حقه من التأمل في الأخبار وكلام الأصحاب كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى من ما نذكره في الباب.

ثم ان الأصحاب (رضوان الله عليهم) استدلوا على اشتراط التوالي في العشرة بان ذلك هو المتبادر من الأخبار :

قال السيد السند (طيب الله مرقده) في المدارك : وهل يشترط في العشرة التوالي بحيث لا يخرج بينها الى محل الترخص أم لا؟ الأظهر اشتراطه لانه المتبادر من النص وبه قطع الشهيد في البيان وجدي (قدس‌سره) في جملة من كتبه ، وقال في بعض فوائده بعد أن صرح باعتبار ذلك : وما يوجد في بعض القيود ـ من ان الخروج الى خارج الحدود مع العود الى موضع الإقامة ليومه أو لليلته لا يؤثر في نية الإقامة وان لم ينو إقامة عشرة أيام مستأنفة ـ لا حقيقة له ولم نقف عليه مسندا الى أحد من المعتبرين الذين تعتبر فتواهم ، فيجب الحكم بإطراحه حتى لو كان ذلك في نيته من أول الإقامة بحيث صاحبت هذه النية نية إقامة العشرة لم يعتد بنية الإقامة وكان باقيا على القصر لعدم الجزم بإقامة العشرة المتوالية فإن الخروج الى ما يوجب الخفاء يقطعها ونيته في ابتدائها يبطلها. انتهى كلامه (قدس‌سره) وهو جيد. لكن ينبغي الرجوع في صدق الإقامة إلى العرف فلا يقدح فيها الخروج الى بعض البساتين أو المزارع المتصلة بالبلد مع صدق الإقامة فيها عرفا. انتهى كلام السيد المشار إليه

أقول : ما نقله عنه من هذا الكلام الذي نسبه الى فوائده قد صرح به في رسالته التي في هذه المسألة المسمى بنتائج الأفكار ، وهو ظاهر في بطلان ما توهمه من قدمنا النقل عنه من القول ببطلان الإقامة بالخروج الى خارج سور البلد ونحوه.

وقال المحقق الأردبيلي (نور الله مرقده) في شرح الإرشاد : وهل يشترط

٣٤٤

في نية الإقامة في بلد ان يكون بحيث لا يخرج الى محل الترخص أو يكفي عدم السفر إلى مسافة أو يحال الى العرف بحيث يقال انه مقيم في هذا البلد فلا يضره السير في البساتين والأسواق البعيدة عن منزله وغير ذلك؟ قد صرح الشهيد في البيان بالأول. الى ان قال : الظاهر من الأخبار هو الإطلاق من غير قيد ، ولو كان مثل ذلك شرطا لكان الأولى بيانه في الأخبار وإلا يلزم التأخير والإغراء بالجهل ، فيمكن تنزيله على العرف بمعنى انه جعل نفسه في هذه العشرة من المقيمين في البلد بمعنى ان هذا موضعه ومكانه ومحله مثل أهله فلا يضره السير في الجملة إلى البساتين والتردد في البلد وحواليه ما لم يصل الى موضع بعيد بحيث يقال انه ليس من المقيمين في البلد ، وكذا لو تردد كثيرا أو دائما في المواضع البعيدة في الجملة. ولا يبعد عدم ضرر الخروج الى محل الترخص أحيانا لغرض من الأغراض مع كون المسكن والمنزل في موضع معين لصدق إقامة العشرة عرفا المذكورة في الروايات. انتهى. وهو جيد.

وظاهر كلامه كما ترى ينجر الى جواز الخروج الى موضع الترخص أحيانا لعدم منافاته لصدق الإقامة عرفا ، واليه يرجع ما قدمنا نقله عن السيد السند من قوله بعد نقل كلام جده «لكن ينبغي الرجوع. الى آخره».

وقال شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) بعد نقل كلام شيخنا الشهيد الثاني المتقدم : والظاهر ان عدم التوالي في أكثر الأحيان يقدح في صدق المعنى المذكور عرفا ولا يقدح فيه أحيانا ، كما إذا خرج يوما أو بعض يوم الى بعض البساتين والمزارع المتقاربة وان كان في حد الخفاء ولا بأس به. والمسألة مشكلة وهي من مواضع الاحتياط. انتهى.

واما القول الذي أشار إليه المحقق المذكور ـ بقوله «أو يكفي عدم السفر إلى مسافة ، وهو الذي أشار إليه شيخنا الشهيد الثاني في ما قدمنا من نقل سبطه عنه بقوله «وما يوجد في بعض القيود من أن الخروج الى خارج الحدود مع العود. الى آخره» ـ فهو منقول عن فخر المحققين ابن شيخنا العلامة ، قال في رسالته

٣٤٥

نتائج الأفكار : وفي بعض الحواشي المنسوبة الى الامام فخر الدين بن المطهر (قدس‌سره) عدم قطع نية الخروج الى القرى المتقاربة والمزارع الخارجة عن الحدود لنية الإقامة بل يبقى على التمام سواء قارنت النية الأولى أم تأخرت وسواء نوى بعد الخروج إقامة عشرة مستأنفة أم لا. انتهى.

أقول : وبذلك ظهر ان في المسألة أقوالا ثلاثة (أحدها) ـ وهو الذي صرح به الشهيدان والظاهر انه المشهور ـ جواز التردد في حدود البلد وأطرافها ما لم يصل الى محل الترخص.

و (ثانيها) ـ الرجوع في ذلك الى العرف كما سمعت من كلام المولى الأردبيلي وتلميذه السيد السند وشيخنا المجلسي (قدس الله أسرارهم) والظاهر انه الأقرب.

و (ثالثها) ـ القول بالبقاء على التمام ما لم يقصد المسافة وان تردد حيث شاء وأراد كما هو المنقول عن فخر المحققين.

وربما كان مستنده صحيحة أبي ولاد المتقدمة الدالة على انه متى نوى الإقامة فصلى فريضة بالتمام وجب عليه التمام الى أن يقصد المسافة.

إلا ان فيه ان الأمر وان كان كذلك لكن الكلام في بقاء الإقامة ، فإن مقتضى الخبر المذكور ترتب استصحاب التمام الى أن يقصد المسافة على الإقامة مع صلاة فريضة فلا بد من ثبوت الإقامة وبقائها ليجب استصحاب التمام ، والخصم يدعى ان الإقامة في صورة التردد على ما زاد على محل الترخص قد زالت ، فان مقتضى الأخبار الدالة على ترتب التمام على نية الإقامة في البلد هو انه لا يخرج من حدودها لما أشرنا إليه في أول الكلام من أن حدود البلد مواضع الترخص من جميع نواحيها فمعنى الإقامة بها يعنى عدم الخروج من حدودها ، فوجوب التمام عليه مترتب على عدم خروجه فمتى خرج زالت الإقامة وزال ما يترتب عليها من وجوب الإتمام ، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه.

بقي الكلام في تحديد الخروج الموجب لزوال الإقامة هل هو كما ذكره الشهيدان

٣٤٦

ومن تبعهما أو ما ذكره المحقق الأردبيلي ومن تبعه؟ وهذا بحث آخر خارج عن ما نحن فيه مع انا قد أشرنا الى أن الأقرب هو ما ذكره المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) ومن اقتفاه. والله العالم.

الثاني ـ لا خلاف ولا إشكال في أن بعض اليوم لا يحسب بيوم كامل ولو كان النقصان يسيرا ، إنما الإشكال والخلاف في أنه هل يضم بعض يوم الدخول الى ما يتمه من آخر العدد فيحصل التلفيق في اليوم العاشر كأن ينوي الإقامة وقت الزوال فيشترط الى ما ينتهى إلى زوال اليوم الحادي عشر أم لا بد من عشرة كاملة غير يومي الدخول والخروج في الصورة المفروضة؟ وجهان بل قولان صرح بأولهما الشهيد في الذكرى ، قال : الأقرب انه لا يشترط عشرة أيام غير يوم الدخول والخروج لصدق العدد حينئذ. وبذلك صرح الشهيد الثاني في الروض واستظهره شيخنا المجلسي في البحار. وبالثاني صرح السيد السند في المدارك ، قال : وفي الاجتزاء باليوم الملفق من يومي الدخول والخروج وجهان أظهرهما العدم لأن نصفي اليومين لا يسمى يوما فلا يتحقق إقامة العشرة التامة بذلك ، وقد اعترف الأصحاب بعدم الاكتفاء بالتلفيق في أيام الاعتكاف وأيام العدة والحكم في الجميع واحد. انتهى. واستشكل العلامة في النهاية والتذكرة احتسابهما من العدد من حيث انهما من نهاية السفر وبدايته لاشتغاله في الأول بأسباب الإقامة وفي الأخير بالسفر ومن صدق الإقامة في اليومين. ثم احتمل التلفيق.

أقول : والمسألة لعدم النص القاطع لمادة القيل والقال وتطرق الاحتمال لا تخلو من الإشكال.

وقال بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين : ثم هل يعد من العشرة يوما الدخول والخروج؟ وهل يعتبر تلفيق بعض يوم ببعض من يوم آخر أم لا؟ والذي يظهر من إطلاق الأخبار ـ وعدم ورود تحديد في هذا الأمر مع عموم بلواه وكثرة وروده في الروايات ـ ان المرجع في ذلك الى العرف كما انه كذلك في سائر

٣٤٧

الأمور الغير المحدودة في الشرع ، ومن المعلوم ان في العرف لا ينظر الى نقص بعض شي‌ء من الليل أو النهار كساعة وساعتين مثلا في احتسابه من التمام فلا يلزم القول بالتلفيق (١) وإخراج يومي الدخول والخروج من العدد كلية. نعم لو فرض دخوله عند الزوال مثلا وكذا الخروج بعده بقليل فظاهر العرف عدم عده تاما. ومن ما يؤيد جميع ما ذكرناه قوله عليه‌السلام في ما مر من صحيحة زرارة «من قدم قبل التروية بعشرة أيام وجب عليه إتمام الصلاة». لظهور ان الحاج يخرج في ذلك اليوم من الزوال. انتهى.

أقول : قد عرفت في ما قدمنا في غير موضع من الكتاب ما في حوالة الأحكام الشرعية على العرف ، على ان ما ذكره هنا من نسبة هذه الأمور إلى العرف انما هو باعتبار ما تخلية وإلا فمن أين له الوقوف على استعلام عرف عامة الأقطار والأمصار واستعلام ما ذكره من هذه الخيالات؟ وبدون ذلك لا يجدى الاستناد الى العرف ، على ان قصارى كلامه بالنسبة إلى اليوم الناقص هل يحسب من العدد أم لا؟ فإنه فصل فيه بين النقصان اليسير والكثير ، وأما التلفيق الذي هو محل البحث مع انه قد صرح به في صدر عبارته فلا دلالة لكلامه عليه. وأما الرواية التي أوردها فهي بالدلالة على خلاف ما يدعيه أظهر ، فإن الظاهر منها ان العشرة قد حصلت وكملت قبل يوم التروية فوجوب إتمام الصلاة عليه لحصول العشرة الكاملة ويوم التروية خارج عنها ، فاستناده الى أن الحاج يخرج في ذلك اليوم من الزوال لا يجدى نفعا في المقام لظهور أنه زائد على العشرة وليس بداخل فيها ، فان قوله عليه‌السلام «من قدم قبل التروية بعشرة أيام» أظهر ظاهر في خروجه عن العشرة كما لا يخفى.

وبالجملة فالمسألة لما كانت عارية من النص كثرت فيها الخيالات وتطرقت إليها الاحتمالات كغيرها من المسائل العارية عن النصوص والاحتياط فيها من ما لا ينبغي تركه. والله العالم.

__________________

(١) في النسخة الخطية «ولا إخراج».

٣٤٨

الثالث ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه لا ينقطع السفر بنية أقل من عشرة بل الواجب هو التقصير ، وظاهر المنتهى دعوى الإجماع عليه حيث قال انه قول علمائنا. ويدل عليه صريحا ما تقدم (١) في صحيحة معاوية بن وهب من قوله عليه‌السلام : «وان أردت المقام دون العشرة فقصر ما بينك وبين شهر. الحديث».

ونقل عن ابن الجنيد انه اكتفى بإقامة خمسة. أقول : ظاهر عبارته المنقولة في المقام انحصار ذلك في الخمسة ، حيث قال في كتاب المختصر الأحمدي : لو نوى المسافر عند دخوله البلد أو بعده مقام خمسة أيام فصاعدا أتم. ولم يتعرض لذكر العشرة بوجه.

قال شيخنا الشهيد في الذكرى : اجتزأ ابن الجنيد وحده في إتمام المسافر بنية مقام خمسة أيام وهو مروي في الحسن عن الصادق عليه‌السلام (٢) بطريق أبي أيوب وسؤال محمد بن مسلم ، وحمله الشيخ على الإقامة بأحد الحرمين أو على استحباب الإتمام. وفيهما نظر لان الحرمين عنده لا يشترط فيهما خمسة ولا غيرها ان كان أقل من خمس فلا إتمام ، واما الاستحباب فالقصر عنده عزيمة فكيف يصير رخصة هنا. انتهى.

واعترضه المحقق الشيخ حسن (قدس‌سره) في المنتقى فقال : وغير خاف ان مرجع الاستحباب في مثله الى التخيير مع رجحان الفرد المحكوم باستحبابه ، فمناقشة الشهيد في الذكرى للشيخ في هذا الحمل ـ بان القصر عنده عزيمة فكيف يصير رخصة هنا ـ ليس لها محصل وفيها سد لباب التخيير بين الإتمام والقصر ، والأدلة قائمة على ثبوته في مواضع فلا وجه لافراد هذا الموضع منها بالمناقشة ، ولو لا قصور الخبر من جهة السند عن مقاومة ما دل على اعتبار إقامة العشرة لما كان عن القول بالتخيير في الخمسة معدل وان كان خلاف المعروف بين المتأخرين. انتهى.

__________________

(١) ص ٣٤٢.

(٢) الوسائل الباب ١٥ من صلاة المسافر.

٣٤٩

وقال السيد السند (طاب ثراه) في المدارك ـ بعد نقل قول ابن الجنيد والاستدلال له بحسنة أبي أيوب المتقدمة التي أشار إليها في الذكرى ـ ما لفظه : وهي غير دالة على الاكتفاء بنية إقامة الخمسة صريحا لاحتمال عود الإشارة إلى الكلام السابق وهو الإتمام مع إقامة العشرة. وأجاب عنها الشيخ في التهذيب بالحمل على من كان بمكة أو المدينة وهو حمل بعيد. وكيف كان فهذه الرواية لا تبلغ حجة في معارضة الإجماع والأخبار الكثيرة. انتهى.

أقول وبالله التوفيق لإدراك المأمول : ان ما ذكروه من استبعاد حمل الشيخ حسنة أبي أيوب على مكة والمدينة غير موجه ، فان الشيخ قد استدل على ذلك بصحيحة محمد بن مسلم المتقدمة في عداد الروايات المذكورة في صدر المقام ، وأنت خبير بأنه بعد ورود الخبر الصحيح كما ترى بذلك فحمل إطلاق الخبر المذكور عليه غير بعيد ولا مستنكر من قواعدهم في حمل المطلق على المقيد ، فاستبعادهم ذلك ليس في محله.

نعم يبقى الكلام في تخصيص هذا الحكم بهذين البلدين وهو كلام آخر. مع ان الوجه فيه ما رواه الصدوق (عطر الله مرقده) في كتاب العلل في الصحيح عن معاوية بن وهب (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام مكة والمدينة كسائر البلدان؟ قال نعم. قلت روى عنك بعض أصحابنا انك قلت لهم أتموا بالمدينة لخمس؟ فقال ان أصحابكم هؤلاء كانوا يقدمون فيخرجون من المسجد عند الصلاة فكرهت ذلك لهم فلذا قلته». ومن ذلك يظهر لك ان الأمر بالإتمام بإقامة الخمسة في هذه الأخبار انما خرج مخرج التقية ويخص ذلك بالبلدين المذكورين لما ذكره من العلة فتكون إقامة الخمسة انما هي لذلك لا مطلقا بحيث تشمل جميع البلدان وجميع الأحوال ، وعلى هذا فلا منافاة في هذه الأخبار لما اتفقت عليه الأخبار وكلمة الأصحاب عدا ابن الجنيد من تخصيص الإتمام بإقامة العشرة في جميع البلدان وجملة الأحوال.

واما ما ذكره شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) ـ من حمل حسنة أبي أيوب

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٥ من صلاة المسافر.

٣٥٠

على التقية بغير المعنى الذي ذكرناه ، قال لأن الشافعي وجماعة منهم قائلون بإقامة الأربعة ولا يحسبون يوم الدخول ويوم الخروج فتحصل خمسة ملفقة (١) وسياق الخبر ايضا يدل عليه كما لا يخفى على الخبير. انتهى ـ

فظني بعده لأن الأخبار المتعلقة بهذا الحكم متى ضم بعضها الى بعض فإنها واضحة الدلالة طافحة المقالة في ما ذكرناه من اختصاص الحكم بالبلدين المذكورين ، وان الوجه في التقية هو ما علل به في صحيحة معاوية بن وهب المذكورة ، على ان ما ذكره متوقف على ثبوت التلفيق وقد عرفت من ما تقدم انه محل اشكال.

وأما ما ذكره الشيخ ايضا ـ من الحمل على الاستحباب وان جنح إليه جملة ممن تأخر عنه من الأصحاب ـ فقد عرفت من ما قدمناه في غير موضع انه مع كونه لا مستند له من سنة ولا كتاب مدفوع بان الاستحباب حكم شرعي كالوجوب والتحريم يتوقف على الدليل الواضح ، ومجرد اختلاف الأخبار لا يستلزم ذلك لجواز أن يكون لذلك وجه آخر من تقية ونحوها.

وممن ناقش الشيخ في هذا الحمل زيادة على ما ذكره في الذكرى العلامة في المختلف حيث قال ـ بعد أن نقل عن الشيخ حمل حسنة أبي أيوب على الاستحباب أو لا ثم على مكة والمدينة ثانيا ـ ما صورته : والحمل الأول ليس بجيد لأن فرضه التقصير.

وأما ما اعترض به في المنتقى على الشهيد ـ كما قدمنا نقله من المناقشة وقوله : «ان في ذلك سدا لباب التخيير. الى آخره» فالظاهر انه ليس في محله ، وذلك فان الظاهر ان مراد الشهيد وكذا العلامة كما سمعت من كلامه في المختلف انما هو ان الشارع قد أوجب على المسافر المستكمل للشروط المعتبرة القصر عزيمة ، وهذا المسافر الناوي خمسة من جملة ذلك فيكون القصر عليه عزيمة ، واستثناؤه من الضابط المذكور يحتاج الى دليل واضح ، ومجرد دلالة هذا الخبر على انقطاع السفر بإقامة خمسة

__________________

(١) المهذب ج ١ ص ١٠٣ وبدائع الصنائع ج. ص ٩٧.

٣٥١

لا يصلح لان يكون مستندا للاستحباب الموجب للتخيير كما يدعيه المحقق المذكور ، لعدم انحصار الحمل في ذلك بل يجوز أن يحمل على وجوه أخر من تقية والحمل على خصوص مكة والمدينة كما هو أحد احتمالي الشيخ ايضا ، وحينئذ فكيف يجوز الخروج عن ما هو واجب عزيمة بالأخبار الصحيحة الصريحة المتفق على العمل بها بما هذا سبيله؟ ولا ريب ان الاستدلال على هذا الوجه الذي ذكرناه من ما لا تعتريه شائبة الاختلال ولا يدخله الإشكال. وبه يظهر لك ضعف ما أورده المحقق المذكور على شيخنا الشهيد (عطر الله مرقديهما) وما فيه من القصور.

ثم ان قوله في المنتهى في آخر عبارته «وان كان خلاف المعروف بين المتأخرين» لا يخلو من نظر لإيذانه بان المتقدمين أو أكثرهم على القول بالتخيير مع انه ليس كذلك لما تقدم من كلام المنتهى المؤذن بالإجماع على وجوب التقصير متى قصرت المدة عن عشرة أيام ، ولم يذهب الى اعتبار الخمسة أحد من المتقدمين غير ابن الجنيد حيث أنه جعلها موجبة للإتمام ، والأصحاب سلفا وخلفا على التخصيص بالعشرة ولم ينقل عن أحد اعتبار الخمسة تعيينا أو تخييرا ، غاية الأمر ان الشيخ في مقام الجميع بين الأخبار في كتابه جمع هنا بهذا الجمع في أحد احتماليه ، وهو لا يستلزم أن يكون مذهبا له سيما مع ذكره على جهة الاحتمال وذكر غيره معه ، على انه لو اعتبرت وجوه الجمع التي يذكرها في كتابيه مذاهب له لم تنحصر مذاهبه في عد ولم تقف على حد.

واما ما ذكره في المدارك من احتمال عود الإشارة إلى الكلام السابق فبعيد جدا كما ينادى به آخر الرواية وهو قوله : «فقلت انا : جعلت فداك يكون أقل من خمسة. الى آخره ، فإنه لولا معلومية حكم الإتمام بالخمسة عند السامع لما حسن هذا السؤال والمراجعة. وأما استبعاده لحمل الشيخ على مكة والمدينة فهو ناشى‌ء عن غفلته عن الرواية الواردة بذلك كما ذكرناه ، وأكثر القصور في كلامهم ناشى‌ء عن عدم إعطاء الفحص حقه في تتبع الأدلة والاطلاع عليها فهو معذور من جهة وغير

٣٥٢

معذور من اخرى سامحنا الله وإياهم بلطفه وكرمه.

ثم ان ما ذكره في المدارك وكذا في المنتقى ـ من قصور الرواية من حيث السند مع ان حسنها انما هو بإبراهيم بن هاشم الذي قد عد حديثه في الصحيح جملة من أصحاب هذا الاصطلاح وتلقاه بالقبول جملة علمائنا الفحول ، وبذلك صرح هذان الفاضلان أيضا في غير مقام ـ من ما لا يخفى ما فيه من المجازفة. والله العالم.

الرابع ـ قال في المدارك : إذا سبقت نية المقام ببلد عشرة أيام على الوصول إليه ففي انقطاع السفر بما ينقطع بالوصول الى بلده من مشاهدة الجدران وسماع الأذان وجهان ، أظهرهما البقاء على التقصير الى ان يصل البلد وينوي المقام فيها ، لأنه الآن مسافر فيتعلق به حكمه الى أن يحصل ما يقتضي الإتمام. ولو خرج من موضع الإقامة إلى مسافة ففي ترخصه بمجرد الخروج أو بخفاء الجدران أو الأذان الوجهان ، والمتجه هنا اعتبار الوصول الى محل الترخص ، لان محمد بن مسلم سأل الصادق عليه‌السلام (١) فقال له : «رجل يريد السفر فيخرج متى يقصر؟ فقال إذا توارى من البيوت». وهو يتناول من خرج من موضع الإقامة كما يتناول من خرج من بلده. انتهى.

أقول : لا يخفى ان المفهوم من أخبار تحديد محل الترخص بسماع الأذان وعدمه والخفاء عن من وراء البيوت وعدمه ـ وكذا ما صرح به الأصحاب كما تقدم من أن ناوي الإقامة في بلد لا يضره التردد في نواحيها ما لم يبلغ محل الترخص ـ هو أن حدود البلد شرعا من جميع نواحيها هي هذه المواضع المذكورة ، وان المتوطن في البلد لو أراد السفر منها وجب عليه الإتمام إلى الحد المذكور الذي هو عبارة عن الخفاء في الأمرين المذكورين ، وكذا لو رجع من سفره فإنه يجب عليه التقصير الى الحد المذكور الذي هو عبارة عن سماع الأذان ورؤية من خلف الجدران ، وما ذاك جميعه إلا من حيث انتهاء حدود البلد شرعا الى ذلك الموضع كما عرفت ،

__________________

(١) الوسائل الباب ٦ من صلاة المسافر.

٣٥٣

وقضية ذلك ان المقيم بها كالمتوطن فيها. إلا انهم اختلفوا هنا في الداخل إليها من غير أهلها لو قصد نية الإقامة بها قبل الوصول إليها فهل يصير حكمه حكم صاحب البلد فيتم متى سمع الأذان أو رأى من عند جدران البلد أو لا حتى يدخل البلد وينوي الإقامة بها؟ ظاهر جماعة : منهم ـ السيد السند وقبله جده في الروض الثاني ، وبالأول صرح المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ، وهو الأظهر لما قدمناه في صدر الكلام.

واما ما ذكره السيد هنا من الاحتجاج على ما ذهب اليه فيمكن تطرق الاعتراض عليه (اما أولا) ـ فلان ما علل به أظهرية ما اختاره من قوله «انه الآن مسافر» ممنوع فان الخصم يدعى انه حيث دخل في حدود البلد مع نية الإقامة التي حصلت منه قبل الدخول حاضر ، ولا خلاف عندهم في اعتبار هذه الحدود في حال الخروج فكذا في حال الدخول ، فاستدلاله بما ذكره لا يخرج عن المصادرة.

واما ما ذكره جده (قدس‌سره) في الروض ـ من أنه من ما يضعف كونها بحكم بلده من كل وجه انه لو رجع فيها عن نية الإقامة قبل الصلاة تماما أو ما في حكمها يرجع الى التقصير وان أقام فيها أياما وساوت غيرها من مواضع القرية ـ ففيه ما ذكره المحقق الأردبيلي عطر الله مرقده) حيث قال : ان حكم موضع الإقامة حكم البلد وينتهى السفر هنا كما ينتهي في البلد بالوصول الى محل الترخص ويحصل بالخروج عنه من غير فرق وهو ظاهر ، وعدم كون حكمه حكم البلد باعتبار أنه لو رجع عن نية الإقامة قبل الصلاة تماما يرجع الى القصر ليس من ما يضعف ذلك كما قاله الشارح ، لأن المماثلة إنما حصلت بالنية فمعنى كون حكمه حكم البلد باعتبار انه لو رجع كان حكمه حكم البلد (١) ما دام متصفا بذلك الوصف وهو ظاهر. انتهى. وهو جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه.

و (اما ثانيا) ـ فان ما حكم به ـ من اتجاه اعتبار الوصول الى محل الترخص في ترخصه للخروج دون مجرد الخروج من البلد لرواية محمد بن مسلم باعتبار شمولها

__________________

(١) في شرح الإرشاد والنسخ الخطية هكذا «فمعنى كون حكمها حكم البلد ما دام.».

٣٥٤

للمقيم كصاحب البلد ـ فهو آت في ما نحن فيه وجار في ما ندعيه ، فإن صحيحة عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) ـ قال : «إذا كنت في الموضع الذي تسمع فيه الأذان فأتم وإذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصر ، وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك». ـ شاملة بإطلاقها لهذين الفردين في حالتي كل من الدخول والخروج ، فان قوله عليه‌السلام : «وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك» شامل لمن قدم بنية الإقامة وانه متى سمع الأذان وجب عليه التمام.

وتوضيحه ان السيد قد صرح في رواية محمد بن مسلم بشمولها للقاطن والغريب المقيم بالنسبة إلى خفاء الجدران لو أراد الخروج ، ويلزمه مثل ذلك في صدر صحيحة عبد الله بن سنان بالنسبة إلى الأذان البتة ، والمخاطب في عجزها هو المخاطب في صدرها فإذا فرض الحكم في صدرها بشمول الفردين فيجب ان يكون في عجزها كذلك. ولا يتوهم من قوله «وإذا قدمت من سفرك» الاختصاص بكون القادم من أهل البلد دون القادم الغريب الذي يريد الإقامة فيها ، لأن إطلاق القدوم بالنسبة إلى الغريب القادم أراد الإقامة أم لا ليس بممتنع لغة ولا عرفا ، بل قد ورد هذا اللفظ كذلك في صحيحة زرارة عن ابى جعفر عليه‌السلام من قوله : «أرأيت من قدم بلدة الى متى ينبغي له أن يكون مقصرا؟. الحديث». وحينئذ فكما ان رواية محمد بن مسلم التي أوردها دلت على مشاركة المقيم لصاحب البلد في وجوب الإتمام الى حال الخروج الى الحد المذكور ثم التقصير ، كذلك صحيحة عبد الله بن سنان دلت على اشتراكهما في الحالين بالتقريب المتقدم. ومثل ذلك صحيحة حماد بن عثمان المروية في كتاب المحاسن عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «إذا سمع الأذان أتم المسافر». فإنها شاملة بإطلاقها لكل قادم من سفره الى بلد سواء كانت بلده أو بلدا عزم الإقامة فيها قبل وصولها.

ولو قيل : ان وجه الفرق بين حالة الدخول والخروج ظاهر من حيث صدق

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٦ من صلاة المسافر.

٣٥٥

الإقامة عليه في الثاني دون الأول ، فإنه في حال الدخول مسافر الى ان يدخل البلد كما ذكر سابقا.

قلنا : قد تقدم في أول البحث ان حدود البلد من محل الترخص كما أوضحناه من الأخبار وكلام الأصحاب ولا يختص بالوصول الى البيوت. وايضا فمتى سلم صدق صدر صحيحة ابن سنان الواردة في الأذان على الفردين باعتبار الخروج حسبما اعترف به في رواية محمد بن مسلم بالنسبة إلى الجدران لزم ذلك في عجزها ، لقوله عليه‌السلام : «وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك» وحاصل معنى الخبر حينئذ انه عليه‌السلام قال : إذا كنت في الموضع الذي تسمع الأذان في خروجك من البلد مقيما كنت فيها أو من أهل البلد فأتم وإذا كنت لا تسمع فقصر ، وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك من أهل البلد كنت أو ناويا الإقامة بها. فكأنه قال هذا الحكم لا فرق فيه بين الدخول والخروج للداخل والخارج. نعم يخرج منه الداخل الغير القاصد للإقامة بالبلد حال دخوله لأنه مسافر وان تجدد له القصد بعد دخوله ويبقى ما عداه داخلا تحت إطلاق الخبر. والله العالم.

الخامس ـ قال في المنتهى : لو عزم على إقامة طويلة في رستاق ينتقل فيه من قرية إلى قرية ولم يعزم على الإقامة في واحدة منها المدة التي يبطل حكم السفر فيها لم يبطل حكم سفره ، لانه لم ينو الإقامة في بلد بعينه فكان كالمنتقل في سفره من منزل الى منزل. قال في المدارك بعد نقل ذلك : وهو حسن.

أقول : ظاهره انه ما لم يقصد نية الإقامة في موضع من تلك القرى فإنه يبقى على القصر وان زاد مقامه في قرية منها على ثلاثين يوما ، لانه رتب البقاء على السفر واستصحابه على عدم نية الإقامة ، مع انه قد تقدم تصريح جملة من الأصحاب ـ منهم الشيخ في ما قدمنا من عبارته في النهاية في فروع الشرط الثالث ـ بأنه بمضي ثلاثين يوما على المسافر إذا توقف في الطريق بعد قطع أربعة فراسخ ينتقل حكمه الى التمام ، ومقتضى ذلك انه هنا كذلك. إلا انا قد قدمنا ان ظاهر الأخبار وكلام

٣٥٦

جملة من الأصحاب كما نبهنا عليه في الشرط الرابع هو اختصاص ذلك بالإقامة في البلد ، بمعنى انه إذا دخل بلدا ولم ينو الإقامة بها بل قال اليوم أخرج أو غدا ونحو ذلك فان الواجب عليه استصحاب التقصير الى مضى ثلاثين يوما ، وهذا هو الذي دلت عليه الأخبار المتقدمة ثمة. وأما إثبات هذا الحكم في مجرد السفر كما تقدم فرضه في كلام الشيخ فلا أعرف له دليلا واضحا.

فان قيل : ان هذا منقوض عليكم بنية الإقامة عشرة أيام التي هي أحد القواطع في سفر كان أو بلد ، كما تقدم تصريح الأصحاب بأنه لا فرق في قطعها السفر بين كونها في بلد أو فلاة من الأرض أو نحو ذلك ، مع ان الأخبار التي استندتم إليها في تخصيص الثلاثين بالبلد هي بعينها اخبار الإقامة عشرا وقد اشتملت على الحكمين فيلزم بمقتضى ما ذكرتم انه لا ينقطع سفره بإقامة العشرة إلا في البلد دون الطريق.

قلنا : ليس الأمر كما ظننت فان من جملة الأخبار المتقدمة في الشرط الرابع ما هو ظاهر في قطع نية الإقامة للسفر ولو كان في الطريق مثل صحيحة على بن جعفر وصحيحة على بن يقطين ورواية محمد بن سهل عن أبيه (١) فإن إطلاقها شامل للبلد والطريق ، بل الظاهر منها سيما صحيحة على بن يقطين ورواية محمد بن سهل عن أبيه إنما هو الإقامة في السفر ، حيث قال في صحيحة على بن يقطين «سألته عن الرجل يخرج في السفر ثم يبدو له في الإقامة وهو في الصلاة أيتم أو يقصر؟ قال يتم» (٢) ونحوها الرواية المذكورة ، فإن المتبادر منها كون ذلك في الطريق حيث انه لا اشعار فيهما بالبلد بوجه وان صدق عنوان السفر على من كان في البلد ولم ينو الإقامة.

ثم انه لو فرض قصد الإقامة في إحدى قرى هذا الرستاق ترتب عليه في خروجه ما تقدم في الموضع الأول من الخلاف في الخروج الى محل الترخص وما دونه وما زاد عليه.

السادس ـ قال في المدارك : قد عرفت ان نية الإقامة تقطع السفر المتقدم

__________________

(١) ص ٣٤٣.

(٢) فيه خلط بين الروايتين راجع ص ٣٤٣.

٣٥٧

وعلى هذا فيفتقر المكلف في عوده الى التقصير بعد الصلاة على التمام الى قصد مسافة جديدة يشرع فيها القصر ، ولو رجع الى موضع الإقامة بعد إنشاء السفر والوصول الى محل الترخص لطلب حاجة أو أخذ شي‌ء لم يتم فيه مع عدم عدوله عن السفر بخلاف ما لو رجع الى بلده لذلك ، ولو بدا له العدول عن السفر أتم في الموضعين. انتهى. وهو جيد.

إلا انه بقي هنا شي‌ء لم ينبهوا عليه ولم يتنبهوا اليه وهو غير خال من الإشكال ، وذلك فإنهم قد ذكروا كما نبه عليه هنا انه بنية الإقامة والصلاة تماما فإنه ينقطع السفر ويجب البقاء على التمام حتى يعزم المسافة ، وظاهرهم الاتفاق عليه وعليه دلت صحيحة أبي ولاد الآتية ان شاء الله تعالى قريبا (١) مع انهم قد صرحوا كما تقدم في كلام السيد السند نقلا عن جده (قدس الله روحيهما) باشتراط التوالي في العشرة بمعنى انه لو خرج في ضمنها الى ما دون المسافة ولو الى محل الترخص قطع إقامته ، ومقتضى بطلان الإقامة بطلان الصلاة تماما والرجوع الى التقصير وان كان قد صلى تماما بتلك النية أولا ، مع ان صحيحة أبي ولاد المعتضدة باتفاق الأصحاب دلت على وجوب البقاء على التمام بعد نية الإقامة والصلاة تماما الى أن يقصد المسافة والمدافعة بين الحكمين ظاهرة ، لأن مقتضى الحكم الأول هو وجوب الإتمام بعد النية والصلاة تماما الى أن يقصد المسافة وهو أعم من أن يخرج في ضمن العشرة أو لا يخرج ، ومقتضى الحكم الثاني الحكم ببطلان الإقامة بالخروج صلى أو لم يصل

ويمكن أن يقال في الجواب بتقييد الإطلاق الأول بالحكم الثاني بمعنى انه يشترط في وجوب الإتمام ودوامه شروط ثلاثة : نية الإقامة والصلاة تماما وعدم الخروج من موضع الإقامة على الوجه المذكور في كلامهم. ويحتمل ايضا أن يسند وجوب الاستمرار على التمام إلى الصلاة لا إلى النية ، بمعنى أن يقال ان نية الإقامة قد انتقضت وبطلت في الصورة المذكورة بالخروج عن موضع الإقامة ، ووجوب البقاء على التمام انما هو بسبب الصلاة تماما بعد تلك النية ، فعلى هذا تصير الصلاة بعد تلك

__________________

(١) تقدمت ص ٣٤٢.

٣٥٨

النية شرطا في دوام التمام. وهذا الوجه الثاني رأيته في كلام والدي (قدس‌سره) مجيبا به عن الإشكال المذكور حيث انه (طاب ثراه) تنبه له وأورد هذا الكلام جوابا عنه وهو جيد. إلا ان الذي يظهر من الخلاف في المسألة ـ وان من جملة الأقوال فيها هو البقاء على التمام حتى يقصد المسافة ، وهو الذي رده شيخنا الشهيد الثاني في ما تقدم من كلامه وأنكر نسبته الى أحد المحققين المعتمدين ـ هو أن مراد القائل بانقطاع نية الإقامة إنما هو وجوب الرجوع الى التقصير ، وإلا لما كان هذا القول مغايرا لما ذكره شيخنا المشار اليه ولما بالغ في رده هذه المبالغة المذكورة كما لا يخفى. والله العالم.

المقام الثاني ـ في الملك أو المنزل الذي ينقطع به السفر ، وقد وقع الخلاف هنا في ما ينقطع به السفر من مجرد الملك أو خصوص المنزل ، فالمشهور بين المتأخرين الاكتفاء بمجرد الملك ولو نخلة واحدة بشرط الاستيطان في تلك البلدة ستة أشهر ، وذهب آخرون الى اشتراط المنزل.

قال الشيخ في النهاية : ومن خرج الى ضيعة وكان له فيها موضع ينزله ويستوطنه وجب عليه التمام وان لم يكن له فيها مسكن فإنه يجب عليه التقصير. وهو ظاهر في اعتبار المنزل ، وأما بالنسبة إلى الاستيطان فهو مطلق.

وقال ابن البراج في كتاب الكامل : من كانت له قرية فيها موضع يستوطنه وينزل فيه وخرج إليها وكانت عدة فراسخ سفره على ما قدمناه فعليه التمام ، وان لم يكن له فيها مسكن ينزل به ولا يستوطنه كان له التقصير. وهي كعبارة النهاية.

وقال أبو الصلاح : وان دخل مصرا له فيه وطن فنزل فيه فعليه التمام ولو صلاة واحدة.

وهذه العبارات كلها مشتركة في التقييد بالمنزل خاصة وعدم تقييد الاستيطان بالستة الأشهر بل هي مطلقة في ذلك.

وقال الشيخ في المبسوط : إذا سافر فمر في طريقه بضيعة أو على مال له أو كانت

٣٥٩

له أصهار أو زوجة فنزل عليهم ولم ينو المقام عشرة أيام قصر ، وقد روى ان عليه التمام ، وقد بينا الجمع بينهما وهو ان ما روى انه ان كان منزله أو ضيعته من ما قد استوطنه ستة أشهر فصاعدا أتم وان لم يكن استوطن ذلك قصر.

هذه جملة من عبائر المتقدمين وأما كلام العلامة والمحقق ومن تأخر عنهما فهو على ما حكيناه من الاكتفاء بمجرد الملك بشرط الاستيطان ستة أشهر.

ومنشأ هذا الاختلاف اختلاف الأخبار الواردة في المسألة فالواجب أولا ذكر الاخبار مذيلة بما يظهر منها ثم عطف الكلام على كلام الأصحاب في المقام :

فأقول وبالله سبحانه الثقة لبلوغ المأمول : الأول ـ من الأخبار المذكورة صحيحة إسماعيل بن الفضل (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل سافر من أرض إلى أرض وانما ينزل قراه وضيعته قال إذا نزلت قراك وضيعتك فأتم الصلاة وإذا كنت في غير أرضك فقصر».

أقول : ظاهر الخبر كما ترى انه يتم بمجرد الوصول إلى الأملاك المذكورة سواء كان له فيها منزل أو لم يكن استوطنها سابقا أم لم يستوطن قصد الإقامة أم لم يقصد.

الثاني ـ رواية البزنطي (٢) قال : «سألت الرضا عليه‌السلام عن الرجل يخرج الى ضيعته ويقيم اليوم واليومين والثلاثة أيقصر أو يتم؟ قال يتم الصلاة كلما اتى ضيعة من ضياعه». والتقريب فيها ما تقدم وهي أظهر في عدم اعتبار نية الإقامة.

وروى هذه الرواية في كتاب قرب الاسناد عن احمد بن محمد بن عيسى عن احمد ابن محمد بن ابى نصر (٣) قال : «سألت الرضا عليه‌السلام عن الرجل يخرج إلى الضيعة فيقيم اليوم واليومين والثلاثة يتم أم يقصر؟ قال يتم فيها». وهي صحيحة السند كما ترى.

الثالث ـ صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ١٤ من صلاة المسافر.

٣٦٠