الحدائق الناضرة - ج ١١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٠

زاروا عليهم إتمام الصلاة؟ قال نعم ، والمقيم بمكة إلى شهر بمنزلتهم». ولعل المراد بقوله عليه‌السلام : «والمقيم بمكة. الى آخره» يعنى المتردد فإنه بعد مضى الشهر يلزمه الإتمام.

ومنها أيضا صحيحة أبي ولاد الآتية ان شاء الله تعالى في الموضع الثاني (١).

أقول : هذا ما حضرني من اخبار المسألة المذكورة كملا ، وأصحابنا (رضوان الله عليهم) لما رأوا ما هي عليه من الاختلاف اختلفت كلمتهم في التفصي عن وجه الجمع بينها لتحصيل الاجتماع بينها والائتلاف.

فذهب البعض منهم ـ وهو المشهور بين المتأخرين منهم كما تقدمت الإشارة إليه بعد إبقاء أخبار الثمانية على إطلاقها وشمولها للذهاب فقط أو مع الإياب ـ إلى حمل أخبار الأربعة على ما إذا أراد المسافر الرجوع ليومه حملا لأخبار القسم الأول منها على أخبار القسم الثاني.

وهو جيد لكن لا دلالة في شي‌ء من اخبار القسم الثاني على التقييد بالرجوع ليومه ، فمن اين لهم دليل هذا التقييد؟ ومحل البحث معهم هنا ، وإلا فإنه لا ريب بمقتضى القاعدة المتفق عليها من حمل المطلق على المقيد في صحة ما ذكروه من تقييد إطلاق أخبار القسم الأول باخبار القسم الثاني ، إلا ان غاية ما تدل عليه الأخبار المذكورة هي اعتبار ضم الإياب إلى الذهاب مطلقا أعم من ان يكون في يوم أو أكثر ويدفع ما ذكروه من هذا التقييد صريحا أخبار القسم الثالث وهي اخبار أهل مكة المستفيضة الصحيحة الصريحة في تحتم القصر عليهم مع معلومية كون الرجوع ليس في يومه.

وغاية ما تعلق به بعضهم لإثبات هذه الدعوى هو قوله عليه‌السلام في موثقة محمد ابن مسلم المتقدمة في اخبار القسم الثاني من أخبار الأربعة «إذا ذهب بريدا ورجع بريدا فقد شغل يومه».

وفيه أولا ـ انه معارض بما هو أكثر عددا وأصح سندا وأصرح دلالة وهي

__________________

(١) بل في الشرط الثالث ص ٣٣٣.

٣٢١

اخبار القسم الثالث من أخبار الأربعة ، فإنها صريحة الدلالة ناطقة المقالة في تحتم التقصير ووجوبه بقصد الأربعة مع عدم الرجوع في يومه.

واما ثانيا ـ فلان هذه العبارة إنما خرجت مخرج التجوز في دفع الاستبعاد الذي توهمه السائل ، حيث انه لما كان المعهود عنده والشائع هو التقصير في مسيرة يوم بريدين تعجب من إفتاء الإمام عليه‌السلام بالبريد الواحد فأجاب عليه‌السلام بان هذا المسافر إلى مسافة البريد متى رجع حصل من ذهابه وإيابه قدر مسير يوم ، فلا دلالة على الرجوع من يومه حتى انه لا يتحتم القصر إلا بذلك ، والغرض انما هو بيان ان مسافة الأربعة إنما اعتبرت من حيث الذهاب والإياب فهي في حكم اليوم والثمانية الفراسخ والبريدين التي اتفقت الأخبار على وجوب التقصير فيها ، كما يشير اليه قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة وصحيحة معاوية بن وهب «بريد ذاهبا وبريد جائيا» وقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة حكاية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «وانما فعل ذلك لأنه إذا رجع كان سفره بريدين ثمانية فراسخ».

وبالجملة فإن الرواية المذكورة لا ظهور لها فضلا عن الصراحة في ما ادعوه ، ولا بد من حملها على ما ذكرناه لتنتظم به مع اخبار القسم الثالث التي قد عرفت أنها أرجح منها عددا وسندا ودلالة.

قال في المدارك : وأما رواية محمد بن مسلم فإنها وان كانت مشعرة بذلك إلا انها غير صريحة فيه ، بل ربما لاح منها ان التعليل ـ بكونه إذا ذهب بريدا ورجع بريدا شغل يومه ـ انما وقع على سبيل التقريب إلى الأفهام كما يشعر به إطلاق التقصير في البريد أولا. انتهى.

واما ما ذهب اليه الصدوقان والشيخ المفيد ومن تبعهم من القول الثاني من الأقوال المتقدمة فالكلام معهم بالنسبة الى ما ذهبوا اليه من تخصيص وجوب التقصير بالرجوع ليومه ، وقد عرفت من ما دفعنا به القول الأول انه لا دليل عليه بل الأدلة الصحيحة الصريحة ترده. وكذلك بالنسبة الى ما ذهبوا اليه من التخيير

٣٢٢

مع عدم الرجوع ليومه ، وكأنهم جعلوا ذلك وجه جمع بين أخبار الأربعة المقيدة كما تقدم واخبار عرفات حذرا من ما يلزم القول المشهور من طرحها رأسا.

وفيه انه لا إشعار في شي‌ء من اخبار عرفات بما ذهبوا اليه من التخيير بل هي في رده أظهر ظاهر كما لا يخفى على البصير الخبير. وتوجيه ذلك بحمل النهى على الكراهة أو عن الإتمام على وجه اللزوم ـ كما ذهب إليه في المدارك وقبله جده في كتاب روض الجنان مع بعده عن مضامينها كما عرفت ـ يتوقف على وجود المعارض المحوج الى هذه التكلفات البعيدة والتمحلات الشديدة الناشئة من عدم فهمهم المراد من هذه الأخبار.

وتقريب الاستدلال بالأخبار المشار إليها انه لا يخفى ان جملة منها قد تضمنت النهى عن الإتمام الذي هو حقيقة في التحريم ، وجملة تضمنت الأمر بالتقصير الذي هو حقيقة في الوجوب مؤكدا ذلك بقوله «واى سفر أشد منه» والدعاء ب «ويلهم أو ويحهم» والتوبيخ لهم بأنهم كأنهم لم يحجوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المشعر بكونه صلى‌الله‌عليه‌وآله مدة كونه في مكة متى حج فإنه يقصر الموجب لوجوب التأسي ، فأي دلالة أظهر من هذه الدلالات وأي مبالغة وتأكيد أبلغ من هذه التأكيدات ، مع انهم يكتفون في سائر الأحكام في الحكم بالوجوب والتحريم بمجرد خبر واحد يدل على ذلك ، فكيف بهذه الأخبار الصحيحة الصريحة العديدة المشتملة على ما ذكرنا من وجوه المبالغات والتأكيدات ، ويقابلونها بمجرد هذه التخريجات والتمحلات والتكلفات من غير معارض يقتضيه سوى عدم إعطائهم التأمل حقه في فهم المراد من الأخبار كما سنظهره لك ان شاء الله تعالى أي إظهار.

وبذلك يظهر لك ما في كلام الشيخ في أحد قوليه وصاحب المدارك ومن تبعهما من حمل أخبار الأربعة على الجواز مطلقا أو مع التقييد بعدم الرجوع ليومه كما هو القول الآخر للشيخ وهو الذي نقله عنه في الذكرى.

بقي هنا شي‌ء يجب التنبيه عليه وهو ان ظاهر كلام الأصحاب (رضوان الله

٣٢٣

عليهم ان الوجه في ما ذهب اليه الصدوقان من القول الثاني من الأقوال المتقدمة في صدر المسألة هو الجمع بين أخبار المسألة كالأقوال الباقية ، والظاهر ان الحال ليس كذلك فان هذا القول المذكور قد صرح به الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي ومن الظاهر بناء على ما عرفت في غير موضع من ما تقدم وسيأتي ان شاء الله تعالى أمثاله ان مستندهما في هذا القول انما هو الكتاب المذكور ، حيث قال عليه‌السلام في الكتاب المشار إليه (١) : فإن كان سفرك بريدا واحدا وأردت أن ترجع من يومك قصرت لان ذهابك ومجيئك بريدان. ثم قال بعد هذا الكلام بأسطر : وان سافرت الى موضع مقدار أربعة فراسخ ولم ترد الرجوع من يومك فأنت بالخيار فإن شئت أتممت وان شئت قصرت. انتهى. وهو صريح في القول المذكور إلا ان الظاهر انه لا يبلغ قوة في معارضة ما ذكرنا من الأخبار الصحيحة الصريحة المتعددة المذكورة في القسم الثالث وكذا الأخبار الآتية في المقام الثاني من ما تدل على القول المختار في المسألة ، فإن الجميع متى ضم بعضه الى بعض صريح الدلالة واضح المقالة في أن قاصد الأربعة مع ارادة الرجوع يجب عليه التقصير ما لم ينقطع سفره بأحد القواطع الثلاثة المعلومة ولا تخصيص للوجوب بالرجوع ليومه ولا مجال للتخيير بوجه ، فالواجب رد هذا الكلام إلى قائله حسبما أمروا به صلوات الله عليهم في أمثال هذا المقام.

واما ما تقدم نقله عن بعض الأصحاب ـ من الميل الى حمل أخبار الأربعة على أقل ما يجب فيه التقصير مدعيا انه مذهب الشيخ الكليني عطر الله مرقده) حيث انه اقتصر على نقل أخبار الأربعة خاصة ـ

ففيه أولا ـ انه لا يخفى ان ما استند اليه من الأخبار المطلقة انما يتم لو لم يكن في الباب إلا هي واما مع وجود الأخبار المقيدة كاخبار القسم الثاني من اخبار الأربعة فإن مقتضى القاعدة حمل المطلق من الأخبار على المقيد ، وبه يزول الاستناد إلى إطلاق الأخبار المذكورة ، فإنها متى قيدت بالذهاب والإياب رجعت

__________________

(١) ص ١٦.

٣٢٤

الى اخبار الثمانية كما تقدم توضيحه.

وثانيا ـ ما قدمنا الإشارة إليه من دلالة جملة من تلك الاخبار على ان مسافة الثمانية وبياض يوم أو بريدين أقل ما يجب فيه التقصير ، فمن ذلك ما تقدم في صدر المقام الأول من قوله عليه‌السلام في موثقة العيص بن القاسم أو حسنته «حده أربعة وعشرون ميلا». وقوله عليه‌السلام في رواية الفضل بن شاذان المتقدمة ثمة أيضا «إنما وجب القصر في ثمانية فراسخ لا أقل من ذلك ولا أكثر لأن ثمانية فراسخ مسيرة يوم. الحديث». ومن ذلك رواية عبد الرحمن بن الحجاج قال : «قلت له كم ادنى ما يقصر فيه الصلاة؟ قال جرت السنة ببياض يوم. الحديث». وقد تقدم في المورد الثاني من موارد المقام الأول ، وصحيحة معاوية بن وهب المتقدمة في القسم الثاني من أقسام أخبار الأربعة قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أدنى ما يقصر فيه المسافر؟ قال بريد ذاهبا وبريد جائيا». ونحو ذلك ما سيأتي ان شاء الله تعالى في رواية إسحاق بن عمار ، وهذه الأخبار كلها كما ترى صريحة في ان أقل مسافة التقصير ثمانية فراسخ وهو بياض يوم. وأما ما يدل على ذلك باعتبار الإشعار وظاهر السياق فكثير من اخبار المسألة.

وبالجملة فالظاهر ان هذا القول من هذا الفاضل المشار اليه انما وقع غفلة عن التدبر في الأخبار والوقوف على ظاهر تلك الأخبار. والله العالم.

الموضع الثاني ـ في بيان ما هو المختار من الأقوال المتقدمة وذكر الدليل عليه زيادة على ما ذكرنا من بطلان أدلة ما سواه ، وقد عرفت في ما أشرنا إليه سابقا في نقل الأقوال المتقدمة ان المفهوم من أخبارهم عليهم‌السلام ـ وهو الذي عليه تجتمع في هذا المقام من غير أن تعتريه شائبة النقض والإبرام ـ هو أن المسافة الشرعية الموجبة للقصر التي لا يجب في أقل منها هي ثمانية فراسخ إلا انها أعم من أن تكون في الذهاب خاصة أو ملفقة من الذهاب والإياب ، وعلى الأول دلت أخبار القسم الثاني من أقسام أخبار المسألة ، وعلى الثاني دلت أخبار القسم الثاني

٣٢٥

من أخبار الأربعة ، فإنها ظاهرة الدلالة في أن قاصد الأربعة مع إرادته الرجوع يجب عليه التقصير كقاصد الثمانية الممتدة في انه سفر شرعي لا ينقطع إلا بأحد القواطع الآتية ان شاء الله تعالى ، ويؤكدها أخبار القسم الثالث من أخبار الأربعة وهي أخبار عرفات.

ومن الأخبار الدالة على ذلك زيادة على ما عرفت مرسلة صفوان (١) قال : «سألت الرضا عليه‌السلام عن رجل خرج من بغداد يريد أن يلحق رجلا على رأس ميل فلم يزل يتبعه حتى بلغ النهروان وهي أربعة فراسخ من بغداد أيفطر إذا أراد الرجوع ويقصر؟ قال لا يقصر ولا يفطر لأنه خرج من منزله وليس يريد السفر ثمانية فراسخ انما خرج يريد أن يلحق صاحبه في بعض الطريق فتمادى به السير الى الموضع الذي بلغه ، ولو انه خرج من منزله يريد النهروان ذاهبا وجائيا لكان عليه ان ينوي من الليل سفرا والإفطار. الحديث».

وهو كما ترى ظاهر في أن قصد الأربعة على وجه الرجوع قصد للثمانية موجب للتقصير ، والرجوع فيه كما ترى مطلق كسائر أخبار القسم الثاني من أقسام أخبار الأربعة ، وهو ظاهر في وجوب التقصير عليه في الصورة المذكورة لا مجال لاحتمال التخيير فيه بوجه.

ومنها ـ ما رواه الصدوق (قدس‌سره) في كتاب العلل عن إسحاق بن عمار (٢) قال : «سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام عن قوم خرجوا في سفر لهم فلما انتهوا الى الموضع الذي يجب عليهم فيه التقصير قصروا فلما ان صاروا على رأس فرسخين أو ثلاثة أو أربعة فراسخ تخلف عنهم رجل لا يستقيم لهم السفر إلا بمجيئه إليهم فأقاموا على ذلك أياما لا يدرون هل يمضون في سفرهم أو ينصرفون هل ينبغي لهم ان يتموا الصلاة أو يقيموا على تقصيرهم؟ فقال ان كانوا بلغوا مسيرة أربعة فراسخ فليقيموا على تقصيرهم أقاموا أم انصرفوا ، وان كانوا ساروا أقل

__________________

(١) الوسائل الباب ٤ من صلاة المسافر.

(٢) الوسائل الباب ٣ من صلاة المسافر.

٣٢٦

من أربعة فراسخ فليتموا الصلاة ما أقاموا فإذا مضوا فليقصروا. ثم قال عليه‌السلام هل تدري كيف صار هكذا؟ قلت لا أدرى. قال لأن التقصير في بريدين ولا يكون التقصير في أقل من ذلك ، فلما كانوا قد ساروا بريدا وأرادوا أن ينصرفوا بريدا كانوا قد ساروا سفر التقصير ، وان كانوا قد ساروا أقل من ذلك لم يكن لهم إلا إتمام الصلاة. قلت أليس قد بلغوا الموضع الذي لا يسمعون فيه أذان مصرهم الذي خرجوا منه؟ قال بلى انما قصروا في ذلك الموضع لأنهم لم يشكوا في مسيرهم وان السير سيجد بهم في السفر فلما جاءت العلة في مقامهم دون البريد صاروا هكذا». ورواه البرقي في المحاسن مثله (١) ورواه في الكافي (٢) إلى قوله : «فإذا مضوا فليقصروا». وأما قوله عليه‌السلام «هل تدري. الى آخره» فلم ينقله.

أقول : والتقريب في هذا الخبر يتوقف على بيان مسألة أخرى وهي ان من شروط وجوب القصر كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى استمرار قصد المسافة وعدم العدول عنه الى ان تحصل المسافة ، فلو قصد المسافة وسافر ثم رجع عن عزمه أو تردد قبل بلوغ المسافة وجب عليه الإتمام لاختلال الشرط المذكور ، أما لو كان بعد بلوغ المسافة فإنه يستمر على التقصير حينئذ على كل حال بلا خلاف ولا اشكال ، وهذا الخبر من أدلة هذه المسألة ، وحيث كانت الأربعة مع ارادة الرجوع في حكم الثمانية الممتدة كما ذكرناه فرق عليه‌السلام بين ما إذا حصل التردد بعد بلوغ أربعة فراسخ وبين ما إذا حصل قبل ذلك ، فأوجب عليه البقاء على التقصير في الأول لأن المسافة قد حصلت ، ثم بين عليه‌السلام ذلك في التعليل بأنه بعد بلوغ الأربعة وان ترددوا إلا ان قصد المسافة وهو البريدان حاصل اما بالمضي على قصدهم الأول ان جاءت الرفقة أو بالرجوع الى البلد الذي هو بريد آخر فتصير المسافة بريدين ملفقة من الذهاب والإياب ، بخلاف ما إذا كانوا على أقل من أربعة فإنه على تقدير الرجوع لم تحصل مسافة التقصير وهي البريدان التي هي أقل ما يقصر فيه ، والخبر

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٢ من صلاة المسافر.

٣٢٧

كما ترى ظاهر الدلالة في المطلوب والمراد عار عن وصمة النقض والإيراد ، وهو ظاهر في رد القول المشهور أتم الظهور حيث ان الرجوع المعتبر انضمامه الى الذهاب غير حاصل في اليوم كما ادعوه ، وظاهر أيضا في رد قول من ادعى التخيير في مجرد قصد الأربعة ، حيث انه عليه‌السلام جعل التقصير في البريدين لا أقل من ذلك وان القصر متحتم على هؤلاء ولازم بعد قطع الأربعة من حيث حصول مسافة الثمانية بانضمام الرجوع لو لم يسافروا فأي مجال للتخيير في المقام.

ومنها ـ صحيحة أبي ولاد الآتية ان شاء الله تعالى قريبا في الشرط الثالث (١)

وبالجملة فالمسألة بما شرحناه وأوضحناه واضحة الظهور كالنور على الطور لا يعتريها فتور ولا قصور. ومنه يظهر ان خلاف من خالف في هذه المسألة انما نشأ من عدم إعطاء التأمل حقه في الأخبار والتتبع لها وإمعان النظر فيها بعين الاعتبار كما لا يخفى على من لاحظ أحوالهم (رضوان الله عليهم في كثير من المواضع ، ومنشأ جميع ذلك الاستعجال في التصنيف والاقتصار على ما حضر بين أيديهم من نقل من تقدم لمن تأخر في الكتب الاستدلالية. والله العالم.

الثاني ـ من الشروط المتقدمة قصد المسافة ، ويتفرع على ذلك سقوط القصر عنه مهما لم يقصد المسافة ولو تمادى به السير الى أن يحصل له مسافات عديدة فضلا عن مسافة واحدة ، وهو من ما لا خلاف فيه بينهم (رضوان الله عليهم كما نقله غير واحد : منهم ـ السيد السند في المدارك.

وتدل عليه رواية صفوان في المتقدمة قريبا. إلا انه قد وقع لصاحب المدارك في هذا المقام ما ان ينسب فيه الى سهو القلم أولى من أن ينسب إلى زلة القدم ، حيث قال في الاستدلال على هذا الشرط بعد الاستدلال بوجه اعتباري : وما رواه الشيخ عن صفوان (٢) قال : «سألت الرضا عليه‌السلام عن رجل خرج من بغداد يريد

__________________

(١) ص ٣٣٣.

(٢) ص ٣٢٦.

٣٢٨

أن يلحق رجلا على رأس ميل فلم يزل يتبعه حتى بلغ النهروان؟ فقال لا يقصر ولا يفطر لأنه خرج من منزله وليس يريد السفر ثمانية فراسخ إنما خرج يريد أن يلحق صاحبه في بعض الطريق فتمادى به السير الى الموضع الذي بلغه». هذه صورة الرواية التي نقلها.

وأنت خبير بأن الرواية كما قدمناها سابقا ظاهرة الدلالة في إبطال ما ذهب اليه من التخيير بقصد الأربعة أتم الظهور ، وهو هنا قد أسقط منها موضع الدلالة على ذلك فأسقط قوله بعد ذكر النهروان «وهي أربعة فراسخ من بغداد أيفطر إذا أراد الرجوع ويقصر؟» وهو عجيب من مثله (قدس‌سره) إلا أن يكون قدسها في نقل الرواية أو نقلها من نسخة غير معتمدة ، وإلا فإسقاط هذه العبارة من البين مع ذكره ما قبلها وما بعدها من ما يوجب سوء ظن به (قدس‌سره) والرواية بتمامها قد تقدمت.

وكيف كان فوجه ما قلناه ان كلامه المتقدم الذي قدمنا نقله عنه في جملة أقوال المسألة ظاهر في حمله أخبار الثمانية على الوجوب واخبار الأربعة على الجواز الذي هو عبارة عن التخيير بين القصر والإتمام رجع أم لم يرجع ، وهذا الخبر كما قدمنا لك نقله بتمامه صريح في كون المسافة المفروضة هنا أربعة فراسخ ، وقد صرح عليه‌السلام بأنه لو خرج من منزله يريد النهروان التي هي أربعة فراسخ ذاهبا وجائيا يعنى تعلق القصد بالذهاب والإياب لوجب عليه التقصير ، حيث انه قصد المسافة وهي ثمانية فراسخ وان كانت ملفقة ، ولا ريب ان الشرط المذكور شرط في وجوب التقصير وتحتمه ، فإذا كان الدليل على هذا الشرط انما هو هذه الرواية التي موردها قصد الأربعة خاصة فقد ثبت وجوب التقصير حتما بقصد الأربعة مع ارادة الرجوع وبطل ما اختاره من الجواز ، وكان الأليق بمذهبه ان يستدل برواية تدل على هذا الشرط في مسافة الثمانية الممتدة في الذهاب لينجو من هذا الإشكال وينقطع عنه لسان المقال وانى له به وليس في الأخبار إلا ما هو من قبيل هذه الرواية.

٣٢٩

ثم انه لا يخفى ان ما أوردناه على صاحب المدارك هنا لازم لكل من قال بالجواز في قصد الأربعة من الصدوق والشيخ وغيرهما كما لا يخفى ، وحينئذ فالمراد بالمسافة المشروطة بهذا الشرط هي مسافة الثمانية التي هي أعم من الممتدة ذهابا والملفقة من الذهاب والإياب. هذا على ما اخترناه واما على المشهور ففي مسافة الأربعة يجب التقييد بالرجوع ليومه ، وحينئذ فلو تمادى به السير الى أن حصل حد المسافة فإنه لا خلاف في وجوب التقصير عليه في الرجوع لحصول القصد إلى المسافة بنية الرجوع الى محله.

وهل يضم الى الرجوع ما بقي من الذهاب من ما هو أقل من المسافة لو كان أم لا؟ احتمالات ثلاثة : (أحدها) ـ عدم الضم فلا يقصر حينئذ إلا عند الشروع في الرجوع دون هذه البقية وان تمادى به السير في الذهاب لعدم ضم الذهاب إلى الإياب كما هو المشهور. و (ثانيها) ـ ضمه اليه بشرط أن يبلغ الإياب وحده حد المسافة ، كما إذا ذهب ثمانية فراسخ بغير قصد ثم عزم على ذهاب فرسخين آخرين مثلا والرجوع الى وطنه. و (ثالثها) ـ الضم ايضا مهما بلغ مجموع الذهاب المقصود والإياب مسافة وان لم يبلغ الإياب وحده مسافة ، كما إذا ذهب مثلا ستة فراسخ بغير قصد ثم قصد فرسخا والرجوع الى أهله.

والمعروف ممن ذكر هذه المسألة هو الأول ومستندهم ما أشرنا إليه أولا من ضم الذهاب إلى الإياب ، ولكن لم نعثر لهم على دليل عليه من النصوص ، وادعى بعضهم الإجماع عليه ولم اعرف لهم حجة سواء. واستثنوا من ذلك قصد الأربعة مع ارادة الرجوع ليومه حيث انه هو المشهور بينهم ، ولكن الروايات دالة على الضم وان لم يرجع ليومه ولا سيما اخبار عرفات.

قال بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين : وكأنه مأخوذ من كتب العامة غفلة عن تحقيق الحال ، فان جلهم يشترطون في مطلق القصر كون

٣٣٠

الذهاب وحده مسافة مقصودة وان الإياب لا يحتسب من الذهاب (١). ثم انه رجح (قدس‌سره) الاحتمال الثاني بل الثالث.

أقول : والذي وقفت عليه من الأخبار من ما يناسب هذا المقام ما تقدم في الشرط الأول من أخبار القسم الثاني والقسم الثالث من أقسام أخبار الأربعة ، فإنها صريحة في ضم الذهاب إلى الإياب.

وخصوص ما رواه عمار في الموثق عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «سألته عن الرجل يخرج في حاجة فيسير خمسة فراسخ أو ستة فراسخ فيأتي قرية فينزل فيها ثم يخرج منها فيسير خمسة فراسخ أخرى أو ستة لا يجوز ذلك ثم ينزل في ذلك المنزل؟ قال لا يكون مسافرا حتى يسير من منزله أو قريته ثمانية فراسخ فليتم الصلاة».

قال في الوافي : حمله في التهذيبين على من خرج من بيته من غير نية السفر فتمادى به السير الى أن صار مسافرا من غير نية ، وانما الاعتبار في التقصير بقصد المسافة لا بقطعها ، واستدل عليه بالخبر الآتي وأصاب ، وانما لا يكون مسافرا حتى يسير من منزله أو قريته ثمانية فراسخ لأنه في ذهابه أو لا ليس بمسافر لخلوه عن قصد المسافة المعتبرة وانما يصير مسافرا بنية الإياب إذا بلغ إيابه المسافة المعتبرة فإذا بلغها صار في ذهابه ايضا مسافرا لانضمام ما يقطعه حينئذ إلى مسافة الإياب المنوي المعتبرة. وأما قوله عليه‌السلام «فليتم الصلاة» يعني في مسيره الأول والثاني حتى يبلغ ثمانية فراسخ فإذا بلغها قصر ، والذي يبين ما قلناه ويوضحه خبر الفطحية الآتي. انتهى.

وظاهر هذا الكلام يرجع الى اختيار الاحتمال الثاني من الاحتمالات الثلاثة المتقدمة ، حيث انه اعتبر بلوغ المسافة ثم ضم ما زاد من الذهاب إلى الإياب

__________________

(١) لم نقف على من صرح بذلك والظاهر من عبائرهم ان الإياب لا يحتسب.

(٢) الوسائل الباب ٤ من صلاة المسافر.

٣٣١

فأوجب القصر في ما بقي من الذهاب. وأشار بالخبر الآتي الذي استدل به الشيخ الى خبر صفوان المتقدم (١) وأشار بخبر الفطحية الآتي الى

ما رواه عمار في الموثق (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يخرج في حاجته وهو لا يريد السفر فيمضي في ذلك يتمادى به المضي حتى يمضى به ثمانية فراسخ كيف يصنع في صلاته؟ قال يقصر ولا يتم الصلاة حتى يرجع الى منزله».

قال في الوافي ذيل هذا الخبر ايضا : وذلك لانه صار حينئذ مسافرا ناويا لقطع المسافة المعتبرة في التقصير وان لم يكن قصد من الأول ذلك. كذا في التهذيب. انتهى والظاهر ان وجه الاستدلال بهذا الخبر على ما ذكره هو حكمه عليه‌السلام بالتقصير بعد حصول ثمانية فراسخ أعم من أن يكون ضم إليها شيئا من الذهاب أو رجع بعد تمام الثمانية ، وظاهره في التهذيب ذلك أيضا لإطلاق كلامه كإطلاق الرواية.

والوجه فيه ما ذكره سابقا من حصول القصد إلى الإياب الذي قد صار مسافة فيضم إليها ما بقي من الذهاب ، وعلى هذا فيدل الخبر المذكور على ضم الذهاب إلى الإياب خلافا لما هو المشهور بينهم من عدم ضم أحدهما إلى الآخر إلا في الصورة المتقدمة.

وأما خبر عمار الأول فما ذكره فيه من التأويل الراجع الى ما دل عليه هذا الخبر لا يخلو من إشكال ، لأن ما ذكره مبنى على ان المعنى في جوابه عليه‌السلام ان هذا الذي قطع المسافة على هذا الوجه لا يكون مسافرا حتى يمضى له من خروجه من منزله أو قريته ثمانية فراسخ ، فإذا مضت له ثمانية فراسخ كان مسافرا لحصول المسافة المقصودة من الإياب ويضم إليها ما بقي من الذهاب ان كان ، وعلى هذا قوله عليه‌السلام «فليتم الصلاة» يعني قبل بلوغ الثمانية. ومن المحتمل ان مراده عليه‌السلام بهذه العبارة أعني قوله «لا يكون مسافرا حتى يسير. الى آخره» انما هو أن ما اتى به من السفر من قرية إلى قرية على الوجه المذكور ليس بسفر شرعي يوجب التقصير

__________________

(١) ص ٣٢٦.

(٢) الوسائل الباب ٤ من صلاة المسافر.

٣٣٢

وانما يكون مسافرا حتى يقصد من منزله أو قريته ثمانية فراسخ ، وحيث انه لم يقصد حال خروجه من منزله ذلك فهو ليس بمسافر فليتم الصلاة في هذا السفر الذي على هذه الكيفية بلغ ثمانية فراسخ أو أزيد. إلا انه بالنظر الى ما دل عليه الخبر الثاني من حكمه عليه‌السلام بالتقصير بعد الثمانية التي هي أعم من حصول الذهاب بعدها وعدمه يرجح ما ذكره (قدس‌سره) فيحمل إطلاق ذلك الخبر على هذا. والله العالم.

الثالث من الشروط المتقدمة استمرار القصد المذكور يعنى أن يكون قصد المسافة مستمرا إلى انتهائها وتمامها ، فلو عدل قبل بلوغ ذلك أو تردد في السفر كمنتظر الرفقة ونحوه وجب عليه الإتمام وان سار مسافة أو أزيد بهذه الكيفية إلا إذا قصد العود في ما يصير به مجموع الذهاب والإياب مسافة فإنه يقصر.

ويدل على ذلك ما تقدم قريبا من رواية إسحاق بن عمار بالتقريب المذكور ذيلها ، وموردها المتردد.

ويدل عليه ايضا ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابى ولاد (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام انى كنت خرجت من الكوفة في سفينة إلى قصر ابن هبيرة وهو من الكوفة على نحو من عشرين فرسخا في الماء فسرت يومي ذلك أقصر الصلاة ثم بدا لي في الليل الرجوع الى الكوفة فلم أدر أصلي في رجوعي بتقصير أم بتمام فكيف كان ينبغي أن أصنع؟ فقال ان كنت سرت في يومك الذي خرجت فيه بريدا فكان عليك حين رجعت ان تصلى بالتقصير لأنك كنت مسافرا الى ان تصير الى منزلك. قال : وان كنت لم تسر في يومك الذي خرجت فيه بريدا فان عليك ان تقضى كل صلاة صليتها في يومك ذلك بالتقصير بتمام من قبل ان تريم من مكانك ذلك ، لأنك لم تبلغ الموضع الذي يجوز فيه التقصير حتى رجعت فوجب عليك قضاء ما قصرت ، وعليك إذا رجعت أن تتم الصلاة حتى تصير الى منزلك». ومورد هذه الرواية الرجوع عن النية السابقة.

__________________

(١) الوسائل الباب ٥ من صلاة المسافر.

٣٣٣

والعجب من جملة من الأصحاب ومنهم صاحب المدارك حيث انهم ذكروا هذا الشرط ولم يوردوا عليه دليلا حتى قال الفاضل الخراساني في الذخيرة بعد نقل ذلك عن الأصحاب : وحجتهم عندي غير واضحة. مع ان صحيحة أبي ولاد المذكورة ورواية إسحاق بن عمار المتقدمة أظهر ظاهر في الدلالة على ذلك.

وفيهما دلالة واضحة على بطلان قول من قال بالجواز في قصد الأربعة كصاحب المدارك ومن سبقه بالتقريب الذي ذكرناه في معنى رواية صفوان في ذكر الشرط الثاني.

ونزيده بيانا بالنسبة الى هذا الشرط ايضا فنقول انك قد عرفت من كلامه سابقا ان التقصير الواجب المشروط بهذه الشروط الستة التي ذكرها الأصحاب ومنها هذا الشرط اعنى استمرار القصد انما هو في قصد الثمانية الفراسخ دون الأربعة لجواز الإتمام عندهم فيها ، وحينئذ فمقتضى كلامه انه لو قصد الثمانية ثم رجع عن قصده أو تردد قبل بلوغها وان كان ما اتى به أربعة فراسخ فما زاد ما لم تبلغ الثمانية فان الواجب عليه الإتمام ، مع ان الخبرين المذكورين اللذين هما مستند هذا الشرط ظاهر ان بل صريحان في انه متى حصل العدول عن المسافة التي توجه إليها القصد الأول بعد حصول الأربعة إلى الرجوع الى بلده فالواجب عليه التقصير الى أن يصير الى بلده ، ومبناهما على ان المسافة تحصل بالثمانية الملفقة ، فهما صريحان في رد هذا القول لاتفاقهم على كون استمرار القصد شرطا في الوجوب مع ان هذه أدلة استمرار الشرط. إلا ان العذر لهم واضح من حيث عدم التدبر في الروايات والاطلاع عليها ، ولكنه عذر غير مسموع ولا يسمن ولا يغني من جوع.

فروع

الأول ـ لو صلى بعد سفره قبل الرجوع عن نيته أو التردد فيها قصرا فهل تجب عليه الإعادة متى رجع أو تردد أم لا؟ المشهور الثاني لأنه صلى صلاة مأمورا بها شرعا وقضية امتثال الأمر الإجزاء.

٣٣٤

ويدل عليه زيادة على ذلك ما رواه الصدوق في الصحيح عن زرارة (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يخرج في سفر يريده فدخل عليه الوقت وقد خرج من القرية على فرسخين فصلوا وانصرفوا فانصرف بعضهم في حاجة له فلم يقض له الخروج ما يصنع في الصلاة التي كان صلاها ركعتين؟ قال تمت صلاته ولا يعيد». قال في الوافي في ذيل هذا الخبر : يشبه أن يكون قد سقط لفظ «مع القوم» بعد «يخرج» كما هو في الفقيه (٢).

وذهب الشيخ في الاستبصار (٣) إلى انه يعيد مع بقاء الوقت ، واستدل عليه بما رواه عن سليمان بن حفص المروزي (٤) قال : «قال الفقيه عليه‌السلام التقصير في الصلاة بريدان أو بريد ذاهبا وبريد جائيا. الى أن قال : وان كان قصر ثم رجع عن نيته أعاد الصلاة». وحمل صحيحة زرارة على ما إذا لم يرجع عن نيته بل يكون عازما عليها ليوافق خبره الذي استدل به. كذا نقله عنه في الوافي ثم رده بالبعد ، والمنقول عنه انما هو حمل الخبر المذكور على خروج الوقت جمعا بينه وبين رواية المروزي بحملها على بقاء الوقت. وهذا هو المناسب لمذهبه في المسألة فإنه جعل ذلك وجه جمع بين خبريها المذكورين.

قال في المدارك بعد نقل رواية المروزي : وهي ضعيفة بجهالة الراوي ولو صحت لوجب حملها على الاستحباب.

أقول : ويعضد هذه الرواية صحيحة أبي ولاد المتقدمة ، والعجب منه (قدس‌سره) حيث لم يقف عليها في المقام مع تضمنها لجملة من هذه الأحكام.

وقد نقلها بعض من تأخر عنه من مشايخنا المحققين وحملها على الاستحباب ايضا ، ولا يخفى ما فيه لما اشتملت عليه الرواية من الصراحة في الحكم المذكور

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٣ من صلاة المسافر.

(٢) ج ١ ص ٢٨١.

(٣) ج ١ ص ٢٢٨.

(٤) الوسائل الباب ٢ من صلاة المسافر.

٣٣٥

كقوله عليه‌السلام «فان عليك ان تقضى كل صلاة صليتها في يومك ذلك بالتقصير بتمام من قبل ان تريم ـ أى تبرح ـ من مكانك». فإن التأكيد في القضاء فورا بتقديمه على اليومية ـ كما ينادى به ظاهر الخبر ، وهو الذي اخترناه في مسألة القضاء كما تقدم من وجوب الفورية به ، مفرعا عليه الوجوب بقوله «وجب عليك» ـ لا يلائم الاستحباب وظاهرها ان صحة الصلاة قصرا قبل بلوغ المسافة وقبل الرجوع عن القصد كأنها مراعاة بعدم الرجوع الى ان يبلغ المسافة.

وربما حملت على ان المقضي هو ما صلاة قصرا في حال الرجوع فقط بقرينة ان السؤال فيها عن حال الرجوع كما أشار إليه الوالد (عطر الله مرقده) في بعض حواشيه.

وفيه ان الظاهر من الخبر ان ذلك حكم كلي بالنسبة إلى الرجوع عن القصد قبل بلوغ البريد وبعده ولا اختصاص له بالسؤال. ويؤيده ما ذكره في المنتقى من أن قوله عليه‌السلام «من قبل ان تريم» ان معناه من قبل أن تنثني عن السفر من المكان الذي بدا فيه الرجوع.

وكيف كان فالمسألة لا تخلو من شوب الإشكال والاحتياط فيها لازم على كل حال وان كان ما دلت عليه صحيحة زرارة هو الأوفق بمقتضى القواعد الشرعية ، إلا ان هذه الرواية مع ما هي عليه من الصحة والصراحة منافية لذلك ، ولا يحضرني الآن لها محمل تحمل عليه ، وبعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين احتمل حمل هذه الرواية ورواية المروزي على التقية (١) والله العالم.

الثاني ـ قد عرفت انه متى تردد عزمه قبل بلوغ المسافة فإنه يجب عليه التمام لاختلال شرط التقصير وهو استمرار القصد الى بلوغ المسافة ، أما لو كان ذلك

__________________

(١) في المغني ج ٢ ص ٢٥٨ : إذا خرج يقصد سفرا بعيدا يوجب قصر الصلاة ثم بدا له فرجع كان ما صلاه ماضيا صحيحا ولا يقصر في رجوعه إلا ان تكون مسافة الرجوع مبيحة بنفسها.

٣٣٦

بعد بلوغ المسافة لم يؤثر في الترخص بل الواجب هو القصر لحصول الشرط ، فلو تمادى في سفره مترددا والحال هذه ومضى عليه ثلاثون يوما فهل يكون بمثابة من تردد وهو مقيم في المصر؟ قال في الذكرى : فيه نظر من وجود حقيقة السفر فلا يضر التردد ومن اختلال القصد. انتهى. وبالأول صرح الشيخ في النهاية كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى في عبارته ، وهو مشكل لأن مورد النص التردد في المصر بان يقول أسافر اليوم أو غدا حتى يمضى له ثلاثون يوما ، وإلحاق التردد في هذه الصورة بين السفر وعدمه لا يخلو من إشكال كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى

الثالث ـ قال في المنتهى : ولو خرج من بلده ان وجد رفقة سافر وإلا رجع أتم ما لم يسر ثمانية فراسخ. وقال الشيخ في النهاية إذا خرج قوم الى السفر وساروا أربعة فراسخ وقصروا من الصلاة ثم أقاموا ينتظرون رفقة لهم في السفر فعليهم التقصير الى أن يتيسر لهم العزم على المقام فيرجعون الى التمام ما لم يتجاوزا ثلاثين يوما ، وان كان مسيرهم أقل من أربعة فراسخ وجب عليهم الإتمام الى ان يسيروا فإذا ساروا رجعوا الى التقصير. والتحقيق ما قلناه نحن أولا. انتهى كلامه في المنتهى

وأنت خبير بما فيه من النظر الظاهر لكل ناظر فان مقتضى كلامه (قدس‌سره) أو لا انما هو من خرج من بلده معلقا سفره على وجود الرفقة ، وهذا غير قاصد للسفر جزما وحكمه هو الإتمام وان قطع مسافات عديدة بهذه الكيفية ، لاختلال شرط وجوب التقصير وهو القصد إلى المسافة. وقوله انه يتم ما لم يسر ثمانية فراسخ لا اعرف له وجها. ومقتضى كلام الشيخ في النهاية انما هو من سافر قاصدا للمسافة جازما بالسفر ثم عرض له بعد ذلك انتظار الرفقة ، وهذا متفرع على شرط استمرار القصد كما تقدم. وما ذكره الشيخ من التقصير هنا جيد كما تقدم في رواية إسحاق بن عمار من قوله عليه‌السلام «ان كانوا بلغوا مسيرة أربعة فراسخ فليقيموا على تقصيرهم أقاموا أم انصرفوا ، وان كانوا ساروا أقل من أربعة فراسخ فليتموا الصلاة ما أقاموا فإذا مضوا فليقصروا». ثم ذكر عليه‌السلام العلة في ذلك على

٣٣٧

رواية كتاب العلل والمحاسن.

وبالجملة فإن موضوع كلامه غير موضوع كلام الشيخ ، ولعل ذلك لغلط في نسخة الكتاب أو لسوء فهمي في الباب ، ولا يبعد ان يكون مراد العلامة ـ وان قصرت عنه العبارة المذكورة لغلط فيها ونحوه ـ انه متى حصل له التردد بانتظار الرفقة قبل بلوغ ثمانية فراسخ بمعنى انه خرج ناويا للسفر قاصدا للمسافة ولكن عرض له ما يوجب عدم استمرار القصد من انتظار الرفقة ، فإن كان هذا العارض عرض قبل بلوغ نهاية المسافة التي هي عندهم بناء على المشهور ثمانية فراسخ فان الواجب الإتمام لزوال الشرط المذكور قبل بلوغ المسافة ، وان كان بعد حصول الثمانية التي هي المسافة فالواجب البقاء على التقصير إلا ان ينقطع بأحد القواطع الشرعية. وهو جيد بناء على ما هو المشهور من تخصيص المسافة بالثمانية ، وأما على ما اخترناه ـ من ان الأربعة أيضا باعتبار انضمام الإياب إلى الذهاب مسافة شرعية ، وهو مورد الأخبار المتقدمة وعليه بناء كلام الشيخ (قدس‌سره) هنا إلا انه مخالف لمذهبه في أصل المسألة كما تقدم من قوله بالجواز في الأربعة ـ فهو محل النظر لما عرفت من أخبار الشرطين المذكورين اعنى شرط القصد وشرط استمراره ، فان موردهما انما هو أخبار الأربعة الفراسخ كما تقدم ، وهو دليل ظاهر في كونها مسافة القصر حقيقة وان القصر واجب فيها حتما لوجود شرطي الوجوب. ولكنه (قدس‌سره) لعدم إمعان النظر في اخبار المسألة بنى على ما هو المشهور من تخصيص المسافة بالثمانية وعدم حصولها بالأربعة الراجعة باعتبار الذهاب والإياب إلى الثمانية. والله العالم.

الرابع ـ لا يخفى ان انتظار الرفقة إنما يكون موجبا للعدول الى التمام إذا كان قبل بلوغ المسافة إذا علق سفره على ذلك ، وإلا فلو كان عازما على السفر وان لم يأتوا فمجرد انتظارهم لا يكون موجبا لعدوله عما هو عليه من وجوب التقصير لأنه جازم بالسفر وشرط استمرار القصد موجود إلا أن يحصل شي‌ء من القواطع الآتية

ثم انه لو رجع عن التردد الموجب للتمام الى العزم على السفر فالواجب

٣٣٨

التقصير ان كان الباقي مسافة ذهابا وإيابا.

واستقرب الشهيد في البيان ضم ما مضى من المسافة ، واستظهره بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين استنادا الى قوله عليه‌السلام في آخر رواية إسحاق ابن عمار المتقدمة «فإذا مضوا فليقصروا».

أقول : يمكن المناقشة في دلالة العبارة المذكورة بناء على ان المتبادر كما هو الغالب المتكرر في الأسفار هو حصول المسافة بعد موضع التردد ، والإطلاق في الأخبار كما عرفت في غير مقام من ما تقدم انما ينصرف الى ما هو المتكرر الغالب المتكثر الوقوع دون الفروض النادرة.

الخامس ـ قال في المنتهى : لو اخرج مكرها إلى المسافة كالأسير قصر لانه مسافر سفرا بعيدا غير محرم فأبيح له التقصير كالمختار والمرأة مع الزوج والعبد مع السيد إذا عزما على الرجوع مع زوال اليد عنهما ، خلافا للشافعي قال لانه غير ناو للسفر ولا جازم به فان نيته انه متى خلى رجع (١) والجواب النقض بالعبد والمرأة. انتهى.

وظاهر كلامه (قدس‌سره) عدم الخلاف في المسألة إلا من العامة مع انه قال في النهاية : لو عزم العبد على الرجوع متى أعتقه مولاه والزوجة متى طلقها أو على الرجوع وان كان على سبيل التحريم كالإباق والنشوز لم يترخصوا لعدم القصد. انتهى.

وظاهره كما ترى المنافاة لما اختاره في المنتهى والموافقة لما نقله عن الشافعي في الأسير لأنه لا فرق بين الأسير ولا غيره من هؤلاء المعدودين.

وقال الشهيد في الذكرى : ولو جوز العبد العتق أو الزوجة الطلاق وعزما على الرجوع متى حصل فلا يترخص ، قاله الفاضل وهو قريب ان حصلت امارة لذلك وإلا

__________________

(١) المغني ج ٢ ص ٢٥٩.

٣٣٩

فالظاهر البناء على بقاء الاستيلاء وعدم رفعه بالاحتمال البعيد. انتهى. وهو مؤذن بالتفصيل.

وقال في الذخيرة : والعبد والزوجة والخادم والأسير تابعون يقصرون ان علموا جزم المتبوع ، وقد صرح جماعة من الأصحاب بأنهم يقصرون وان قصدوا الرجوع عند زوال اليد عنهم.

والمسألة لخلوها عن النص محل إشكال إلا ان يقصدوا المسافة ويريدوا السفر ولو تبعا. وما ذكره في المنتهى ـ في تعليل وجوب التقصير على الأسير لو اخرج مكرها من أنه مسافر سفرا بعيدا غير محرم ـ لا يخفى ما فيه ، فان من الشروط كما عرفت قصد المسافة وهذا غير قاصد كما اعترف به في النهاية. وما ذكره في الذكرى لا يخلو من قرب ، والاحتياط في المسألة عندي لازم لاشتباه الحكم وعدم وجود النص الرافع للإشكال. والله العالم.

الرابع من الشروط المتقدمة أن لا ينقطع سفره بأحد القواطع الثلاثة التي هي إقامة عشرة أيام والمرور بوطنه أو ملك له استوطنه ستة أشهر ومضى ثلاثين يوما مترددا ، والأصحاب (رضوان الله عليهم) لم يذكروا في هذا الشرط إلا نية الإقامة والوطن أو الملك وأما مضى ثلاثين يوما مترددا فإنما ذكروه في الأحكام ، وهو ان وصل بلدا ونوى اقامة العشرة وجب عليه التمام ولو لم ينو العشرة بحيث انه يقول اليوم أخرج أو غدا فإنه يجب عليه التقصير الى أن تمضى ثلاثون يوما ، وهذا مدلول الأخبار كما سيأتي ان شاء الله تعالى عند ذكر المسألة. وبه يظهر لك صحة ما ذكرنا آنفا من الإشكال في ما ذكره الأصحاب من انه لو تردد في طريقة في السفر الى مضى ثلاثين يوما وجب عليه التمام ، مع ان مورد النصوص وظاهر كلامهم في هذا المقام ان ذلك ليس من القواطع مطلقا وإلا لعدوه في هذا الشرط مع انهم لم يذكروه كما لا يخفى على من راجع كلامهم وانما ذكروه في تلك المسألة المخصوصة ، هذا مع دلالة النصوص ايضا على التخصيص بالإقامة في البلد كما

٣٤٠