الحدائق الناضرة - ج ١١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٠

أميال والميل أربعة آلاف ذراع بذراع اليد الذي طوله أربعة وعشرون إصبعا والإصبع سبع شعيرات عرضا وقيل ست والشعيرة سبع شعرات من شعر البرذون.

اما ان الفرسخ ثلاثة أميال فهو اتفاقي بينهم وعليه تدل الأخبار ، واما ان الميل أربعة آلاف ذراع فهو المشهور في كلامهم من غير خلاف يعرف.

قالوا : وفي كلام أهل اللغة دلالة عليه حيث قال في القاموس : الميل قدر مد البصر ومنار يبنى للمسافر أو مسافة من الأرض متراخية بلا حد أو مائة ألف إصبع إلا أربعة آلاف إصبع أو ثلاثة أو أربعة آلاف ذراع بحسب اختلافهم في الفرسخ هل هو تسعة آلاف بذراع القدماء أو اثنا عشر ألفا بذراع المحدثين. انتهى.

وقال احمد بن محمد الفيومي في كتاب المصباح المنير : الميل بالكسر في كلام العرب مقدار مد البصر من الأرض قاله الأزهري ، والميل عند القدماء من أهل الهيئة ثلاثة آلاف ذراع وعند المحدثين أربعة آلاف ذراع ، والخلاف لفظي فإنهم اتفقوا على ان مقداره ست وتسعون ألف إصبع ، والإصبع سبع (١) شعيرات بطن كل واحدة إلى ظهر الأخرى» ولكن القدماء يقولون الذراع اثنتان وثلاثون إصبعا والمحدثون يقولون اربع وعشرون إصبعا ، فإذا قسم الميل على رأى القدماء كل ذراع اثنين وثلاثين كان المتحصل ثلاثة آلاف ذراع ، وان قسم على رأى المحدثين أربعا وعشرين كان المتحصل أربعة آلاف ذراع ، والفرسخ عند الكل ثلاثة أميال. انتهى.

أقول : ومن هذا الكلام يمكن أن يستنبط وجه جمع بين التقدير المشهور بالأربعة آلاف ذراع وبين ما يأتي في رواية الكليني من ثلاثة آلاف وخمسمائة بأن يكون الاختلاف مبنيا على اختلاف الأذرع.

وقال السيد السند في المدارك : أما الميل فلم نقف في تقديره على رواية من طرق الأصحاب سوى ما رواه ابن بابويه مرسلا عن الصادق عليه‌السلام (٢) انه ألف وخمسمائة ذراع. وهو متروك. انتهى. والظاهر انه من هنا قال المحقق في الشرائع

__________________

(١) في المصباح ج ٢ ص ١٥٥ «ست».

(٢) الوسائل الباب ٢ من صلاة المسافر.

٣٠١

أربعة آلاف ذراع بذراع اليد الذي طوله أربعة وعشرون إصبعا تعويلا على المشهور بين الناس ، أو مد البصر من الأرض.

أقول : روى ثقة الإسلام في الكافي في الصحيح عن ابن ابى عمير عن بعض أصحابه عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «سئل عن حد الأميال التي يجب فيها التقصير فقال أبو عبد الله عليه‌السلام ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جعل حد الأميال من ظل عير الى ظل وعير ، وهما جبلان بالمدينة ، فإذا طلعت الشمس وقع ظل عير الى ظل وعير وهو الميل الذي وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليه التقصير».

وروى في الكتاب المذكور ايضا عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن يحيى الخزاز عن بعض أصحابنا عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «بينا نحن جلوس وابى عند وال لبني أمية على المدينة إذ جاء ابى فجلس فقال كنت عند هذا قبيل فسألهم عن التقصير فقال قائل منهم في ثلاث وقال قائل منهم في يوم وليلة وقال قائل منهم روحة فسألني فقلت له ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما نزل عليه جبرئيل بالتقصير قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في كم ذاك؟ قال في بريد. قال وأي شي‌ء البريد؟ قال ما بين ظل عير إلى في‌ء وعير. قال ثم عبرنا زمانا ثم رأى بنو أمية يعملون اعلاما على الطريق وأنهم ذكروا ما تكلم به أبو جعفر عليه‌السلام فذرعوا ما بين ظل عير إلى في‌ء وعير ثم جزاؤه على اثنى عشر ميلا فكانت ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع كل ميل فوضعوا الأعلام ، فلما ظهر بنو هاشم غيروا أمر بنى أمية غيرة لان الحديث هاشمي فوضعوا الى جنب كل علم علما».

وهذا الخبر كما ترى واضح الدلالة على ان الميل شرعا عبارة عن ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع ، والعجب من غفلة السيد (قدس‌سره) عنه.

قال المحدث الكاشاني في الوافي بعد نقل هذا الخبر أو لا ثم نقل حديث الفقيه ثانيا ما صورته : تقدير الميل في هذا الحديث بألف وخمسمائة ذراع ينافي

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٢ من صلاة المسافر.

٣٠٢

تقديره في الحديث السابق بثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع مع ان القصة واحدة فقد تطرق السهو الى أحد الحديثين ، والظاهر ان السهو في الثاني لأن الأول أقرب الى ما هو المشهور في تقديره بين الأصحاب وهو الأربعة آلاف ذراع والى ما قدره به أهل اللغة. إلى آخر كلامه زيد في إكرامه.

أقول : والخبر المذكور في الفقيه (١) بهذه الصورة «قال الصادق عليه‌السلام ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما نزل عليه جبرئيل بالتقصير قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في كم ذلك؟ فقال في بريد. قال وكم البريد؟ قال ما بين ظل عير إلى في‌ء وعير. فذرعته بنو أمية ثم جزاؤه على اثنى عشر ميلا فكان كل ميل ألفا وخمسمائة ذراع وهو أربعة فراسخ».

ثم انه من ما يؤيد ما ذكره في الوافي من تطرق السهو الى حديث الفقيه ما هو محسوس من البعد ما بين ظل الجبلين ، فإنه أزيد من فرسخ ونصف بكثير ، على انه لا بعد في مثل هذا السقوط فقد تقدم التنبيه على أمثال ذلك في كثير من المواضع.

وأما تقدير الإصبع بسبع شعيرات والشعيرة بسبع شعرات فهو مأخوذ من كلام بعض أهل اللغة. إلا ان الظاهر ان أمثال هذه الأمور في الشرع تقريبية لا تتوقف على هذه التدقيقات فان الذراع معروف بين عامة الناس ، نعم لا بد من البناء على مستوي الخلقة كما جروا عليه في غير موضع من الأحكام إذ هو الفرد الذي يحمل عليه الإطلاق.

وثانيها ـ المستفاد من الأخبار المتقدمة ان المسافة تعلم بأمرين (أحدهما) مسير يوم ، و (ثانيهما) الأذرع.

والمراد باليوم على ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) يوم الصوم ، ويدل عليه ما تقدم في صحيحة أبي أيوب من قوله عليه‌السلام «في بريدين أو بياض يوم» ونحوه قوله في صحيحة أبي بصير أيضا «في بياض يوم أو بريدين»

والمراد بالسير فيه ما هو المتعارف الغالب من سير الإبل القطار وسير عامة

__________________

(١) الوسائل الباب ٢ من صلاة المسافر.

٣٠٣

الناس فإنه الذي يحمل عليه الإطلاق مضافا الى ما صرحت به الأخبار :

ومنها ـ ما تقدم في رواية الفضل بن شاذان عن الرضا عليه‌السلام من قوله «لأن ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامة والقوافل والأثقال».

ومنها ـ قول الصادق عليه‌السلام في حسنة الكاهلي المتقدمة (١) زيادة على ما قدمناه منها «ثم قال ابن ابى كان يقول ان التقصير لم يوضع على البغلة السفواء والدابة الناجية وانما وضع على سير القطار». أقول : قال الجوهري يقال بغلة سفواء بالسين المهملة خفيفة سريعة وقال أيضا : الناجية الناقة السريعة ينجو من ركبها.

وفي رواية عبد الرحمن بن الحجاج (٢) قال : «قلت له كم ادنى ما تقصر فيه الصلاة؟ فقال جرت السنة ببياض يوم. فقلت له ان بياض يوم يختلف فيسير الرجل خمسة عشر فرسخا في يوم ويسير الآخر أربعة فراسخ في يوم؟ فقال انه ليس الى ذلك ينظر اما رأيت سير هذه الأثقال بين مكة والمدينة؟ ثم أومأ بيده أربعة وعشرين ميلا يكون ثمانية فراسخ».

وبما دلت عليه هذه الاخبار قد صرح أيضا أصحابنا (رضوان الله عليهم من غير خلاف يعرف.

واعتبر الشهيدان اعتدال الوقت والسير والمكان ، قال في المدارك : وهو جيد بالنسبة إلى الوقت والسير ، اما المكان فيحتمل قويا عدم اعتبار ذلك فيه لإطلاق النص وان اختلفت كمية المسافة في السهولة والحزونة. انتهى.

أقول : ما ذكره من الاحتمال لإطلاق النص مع اعترافه باختلاف كمية المسافة في السهولة والحزونة يجري في الوقت أيضا ، فإن النصوص مطلقة شاملة بإطلاقها لجميع الأوقات ، فقصير النهار وطويله من ما تختلف به الكمية أيضا ، فلا وجه لتسليمه لهما ذلك في الوقت ومناقشته في المكان. وبالجملة فإن غاية ما يستفاد من النصوص هو اعتدال السير كما عرفت وما عداه فلا ، فان حمل إطلاق النصوص على الحد الأوسط

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١ من صلاة المسافر.

٣٠٤

بين طرفي الزيادة والنقصان والإفراط والتفريط ليكون ضابطا كليا لا يختلف بالزيادة والنقصان ففي الجميع وإلا فلا معنى لتسليم ذلك في فرد والمناقشة في الآخر. والى ما ذكرنا يشير كلام جده في الروض حيث قال : ولما كان ذلك يختلف باختلاف الأرض والأزمنة والسير حمل على الوسط في الثلاثة. انتهى. وهو جيد

وثالثها ـ لا خلاف ولا إشكال في الاكتفاء بالسير كما تكاثرت به الأخبار ، وكذا لا إشكال في ما لو اعتبرت المسافة بالتقدير فوافق السير.

إنما الإشكال في ما لو اختلفا فهل يتخير في العمل على أيهما كان ولزوم القصر ببلوغ المسافة بأحدهما أو انه يقدم السير لأنه أضبط أو يقدم التقدير؟ احتمالات استظهر أولها في المدارك ، والظاهر ان وجهه ورود النصوص بكل منهما.

واحتمل في الروض تقديم السيرة ، قال : لأن دلالة النص عليه أقوى إذ ليس لاعتبارها بالأذرع على الوجه المذكور نص صريح بل ربما اختلفت فيه الأخبار وكلام الأصحاب ، وقد صنف السيد السعيد جمال الدين احمد بن طاوس كتابا مفردا في تقدير الفراسخ وحاصله لا يوافق المشهور ، ولأن الأصل الذي اعتمد عليه المصنف وجماعة في تقدير الفرسخ يرجع الى اليوم ، لأنه استدل عليه في التذكرة بأن المسافة تعتبر بمسير اليوم للإبل السير العام وهو يناسب ذلك. انتهى. ويظهر من الذكرى تقديم التقدير ولعله لانه تحقيق والآخر تقريب.

أقول : لا ريب ان الاعتبار بكل منهما جيد بالنظر الى دلالة النصوص المتقدمة عليهما ، إلا ان الإشكال في التقدير من حيث الاختلاف في تفسير الفرسخ كما عرفت من اضطراب كلامهم في الميل ، والرجوع الى الاحتياط بالجمع بين القصر والإتمام في موضع الاشتباه طريق السلامة. والله العالم.

ورابعها ـ قد صرح غير واحد من الأصحاب رضوان الله عليهم ان مبدأ التقدير من آخر خطة البلد في المعتدل وآخر محلته في المتسع. ولم أقف له على دليل. وقيل مبدأ التقدير مبدأ سيره بقصد السفر.

٣٠٥

وخامسها ـ قال في الذكرى : لو قصد مسافة في زمان يخرج به عن اسم المسافر كالسنة فالأقرب عدم القصر لزوال التسمية. ومن هذا الباب لو قارب المسافر بلده فتعمد ترك الدخول اليه للترخص ولبث في قرى تقاربه مدة يخرج بها عن اسم المسافر. ولم أقف في هذين الموضعين على كلام لأصحاب وظاهر النظر يقتضي عدم الترخص.

قال في المدارك بعد نقل ذلك : هذا كلامه (قدس‌سره) ويمكن المناقشة في عدم الترخص في الصورة الثانية بأن السفر بعد استمراره الى انتهاء المسافة فإنما ينقطع بأحد القواطع المقررة من نية الإقامة أو التردد ثلاثين يوما أو الوصول الى الوطن وبدونه يجب البقاء على حكم القصر. أما ما ذكروه من عدم الترخص في الصورة الأولى فجيد لان التقصير انما يثبت في السفر الجامع لشرائط القصر فمتى انتفى السفر أو أحد شرائطه قبل انتهاء المسافة انتفى التقصير. انتهى.

أقول : حاصل كلام السيد (قدس‌سره) يرجع الى منع دخول هذه الصورة المفروضة في كلامه تحت القاعدة التي قدمها في صدر الكلام ، حيث انه سلم له ما ذكره في تلك القاعدة وناقش في الصورة المذكورة بزعم انها ليست من قبيل ما ذكره أولا ، لحصول الاستمرار على قصد السفر الى انتهاء المسافة في هذه الصورة فلا ينقطع إلا بأحد القواطع المقررة بخلاف ما قدمه من القاعدة للخروج عن اسم المسافر بهذا القصد الذي قصده.

وأنت خبير بأنه يمكن الجواب بان ما ذكره ـ من أن السفر بعد استمراره الى انتهاء المسافة فإنما ينقطع بأحد القواطع المذكورة ـ جيد بالنسبة إلى السفر المتعارف المتكرر ، أما بالنسبة الى هذا الفرد النادر ـ وهو انه بعد قربه من البلد ترك الدخول فيه لقصد بقائه على التقصير وبقي مترددا في تلك القرى على وجه يخرج به عن كونه مسافرا ـ فان دخوله تحت حكم المسافر الذي ذكره بعيد ، فإنه وان وجب عليه التقصير في مدة سفره إلا انه بعد أن قصد هذا القصد الآخر بتأخره عن الدخول

٣٠٦

وتردده في تلك القرى على وجه يخرج عن كونه مسافرا فلا يبعد أن يكون حكمه حينئذ هو التمام كما ذكره شيخنا المذكور ويكون هذا من قبيل القواطع الثلاثة المذكورة ، ولا فرق بين هذا الفرد المذكور وبين ما ذكره أولا إلا باعتبار ان الأول قصد التطويل في المسافة بزمان يخرج به عن اسم المسافر في أول الأمر وهذا انما تجدد له هذا القصد بعد أن حصلت المسافة ووجب التقصير عليه مدة سفره ، فالواجب على الأول التمام من أول الأمر لأن قصده الذي قصده من أول الأمر موجب لخروجه عن اسم المسافر فلا يكون حكمه التقصير ، والواجب على الثاني هو التقصير مدة سفره وأما بعد تجدد هذا القصد الأخير على الوجه المذكور فإنه لخروجه به عن اسم المسافر يزول عنه حكم التقصير ويجب عليه الإتمام. والظاهر ان بناء كلام شيخنا المذكور (قدس‌سره) على ما ذكرناه وإلا فهو لا يخفى عليه ان السفر بعد ثبوته لا ينقطع إلا بأحد القواطع الثلاثة المذكورة ، ولكن هذا قد خرج عن كونه مسافرا بما قصده وفعله فلا يدخل تحت المسافر المتصف بالسفر المعروف المتكرر الذي وردت فيه الأخبار بأنه لا ينقطع سفره إلا بأحد القواطع. والله العالم.

وسادسها ـ قال في المنتهى : لو كان مسافرا في البحر كان حكمه حكم المسافر في البر من اعتبار المسافة سواء قطعها في زمان طويل أو قصير ، لا نعرف فيه خلافا. انتهى.

وهو كذلك لأن وجوب التقصير ترتب على قصد المسافة التي قد ورد اعتبارها بالتقدير المتقدم ذكره وهي ثمانية فراسخ ، وحينئذ فمتى قصد هذه المسافة في بر أو بحر فلا فرق بين ان يقطعها في ساعة أو يوم أو أكثر ما لم يتطاول الزمان على الوجه المتقدم في سابق هذا المورد. ومثل السفر في البحر السفر في البر من البريد الحثيث كما هو معمول الآن في بلاد العجم بحيث يقطع مسير اليوم في ربع نهار أو أقل

وسابعها ـ قال في المدارك : انما يجب التقصير مع العلم ببلوغ المسافة بالاعتبار

٣٠٧

أو الشياع أو شهادة العدلين ومع انتفاء الأمرين يجب الإتمام. وفي وجوب الاعتبار مع الشك إشكال منشأه أصالة البراءة وتوقف الواجب عليه. ولو سافر مع الجهل ببلوغ المسافة ثم ظهر ان المقصد مسافة وجب التقصير حينئذ وان قصر الباقي عن مسافة ، ولا يجب عليه اعادة ما صلاة تماما قبل ذلك لأنها صلاته المأمور بها فكانت مجزئة. انتهى.

أقول : أما ما ذكره ـ من توقف وجوب التقصير على العلم ببلوغ المسافة بأحد الوجهين ومع عدمه يجب الإتمام ـ فهو من ما لا ريب فيه ولا إشكال ، لأن العلم ببلوغ المسافة شرط في وجوب التقصير كما عرفت والمشروط عدم عند عدم شرطه. والحكم المذكور مقطوع به في كلام الأصحاب.

وبذلك يظهر ان ما أطال به في الذخيرة ـ من الاستدلال على ذلك بما ذكره ثم المناقشة في ذلك ـ من ما لا طائل تحته ، على انها لا تقصر عن التأييد لما ذكرناه ، ومنها قول ابى جعفر عليه‌السلام في صحيح زرارة (١) «لا تنقض اليقين بالشك ابدا». بناء على ان الحكم الثابت أصالة هو الإتمام والقصر مشكوك فيه مع الجهل ببلوغ المسافة أو الشك فيها للشك في سببه وهو واضح. وما ذكره ـ من ان الاستدلال بالخبر المذكور لا يصفو عن المنازعة ـ لا أعرف له وجها بعد ما عرفت.

وأما ما ذكره في المدارك ـ من الإشكال في وجوب الاعتبار مع الشك ـ فهو في محله.

وأما ما ذكره ـ من انه لو سافر مع الجهل ببلوغ المسافة ثم ظهر ان المقصد مسافة فإنه يجب التقصير حينئذ وان قصر الباقي عن مسافة ـ فهو عندي محل اشكال وان كان قد تقدمه في ذلك الشهيد في الذكرى ، لان من جملة الشروط ـ كما سيأتي ان شاء الله تعالى ـ قصد المسافة وهو السفر الشرعي وهذا في حال خروجه والحال هذه لم يحصل له هذا القصد ، ولهذا ان فرضه التمام وقد صلى تماما بناء على ذلك فهو

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من نواقض الوضوء و ٣٧ و ٤١ و ٤٤ من النجاسات.

٣٠٨

حاضر غير مسافر ، وقصد السفر بعد ظهور كون المقصد مسافة مع نقصان الباقي عن المسافة غير مجد ولا مسوغ للقصر لعدم المسافة في الباقي ، والبناء على ما مضى مع عدم نية قصد المسافة فيه مشكل كما عرفت. وما نحن فيه في الحقيقة مثل طالب الآبق والحاجة الذي سار مسافة أو أقل من غير قصد المسافة ثم ظهر له ان حاجته في مكان يقصر عن المسافة الشرعية ، فإنه لا ريب ولا إشكال في انه يتم في سفره المذكور بعد خروجه وبعد ظهور كون حاجته في محل كذا من ما يقصر عن المسافة ، ولا يضم ما تقدم الى هذه المسافة الباقية ويجب عليه التقصير حينئذ بل الواجب عليه هو الإتمام. نعم متى أراد الرجوع فان الواجب عليه التقصير ان بلغ المسافة وهو شي‌ء آخر. وبالجملة فإن ما ذكره هنا غير خال عندي من الاشكال.

ثم ان ظاهره في الذخيرة المناقشة في شهادة العدلين في هذا المقام مدعيا انه لا يعلم نصا يدل على ان شهادة العدلين متبعة كلية.

وفيه انه وان كان ما ذكره ـ من عدم وجود نص دال على وجوب العمل بشهادة العدلين في كل أمر ـ كذلك إلا ان جملة من النصوص المعتبرة كما قدمناه في باب التطهير من النجاسات من كتاب الطهارة قد دلت على العمل بخبر العدل الواحد بل انه مفيد للعلم وان لم يسم ذلك شهادة ، وحينئذ لا ريب في قبول خبر العدلين هنا ولا اشكال

وثامنها ـ قال في الذكرى : لو كان لبلد طريقان أحدهما خاصة مسافة فسلك الأقرب أتم وان سلك الأبعد لعلة غير الترخص قصر ، وان كان للترخص لا غير فالأقرب التقصير للإباحة ، وقال ابن البراج يتم لأنه كاللاهي بصيده. ولو رجع قاصد الأقرب بالأبعد قصر في رجوعه لا غير. ولو رجع قاصد الأبعد بالأقرب قصر في ذهابه وإيابه. انتهى.

أقول : الظاهر ضعف ما ذكره ابن البراج لأن السفر بقصد الترخص غير محرم بل هو مباح ، وقياسه على اللاهي بصيده قياس مع الفارق مع ان القياس غير صحيح في مذهبنا ، وحينئذ فيجب عليه التقصير.

٣٠٩

واما ما ذكره في الذكرى ـ من ان قاصد الأقرب متى رجع بالأبعد فإنه يتم في ذهابه ويقصر في رجوعه خاصة ـ فهو مبنى على ما هو المشهور بينهم من عدم ضم الذهاب إلى الإياب إلا في قصد الأربعة. وفيه ما سيأتي ان شاء الله تعالى في موضعه من أنه لا دليل عليه غير مجرد الشهرة بينهم.

وتاسعها ـ قال في الذخيرة : لو تردد يوما في ثلاثة فراسخ ذاهبا وجائيا ، فإن بلغ في الرجوع الى موضع سماع الأذان ومشاهدة الجدران فالظاهر انه لا خلاف في عدم القصر ، وان لم يبلغ فالمقطوع به في كلام أكثر الأصحاب انه لم يجز القصر وخالف فيه المصنف في التحرير ، واستدل على الأول بوجهين : (أحدهما) ان من هذا شأنه ينقطع سفره بالرجوع وان كان في رجوعه لم ينته الى الحد المذكور وإلا لزم القصر لو تردد في ثمانية فراسخ خمس مرات (١) وبان مقتضى الأصل لزوم الإتمام خرج منه قاصد الثمانية والأربعة التي لا تكون ملفقة من الذهاب والإياب لأنه المتبادر من اللفظ فيبقى الباقي على الأصل. وللتأمل في الوجهين طريق. انتهى.

أقول : الظاهر ان ما ذكره من هذا التفصيل والاستدلال في المقام وما وقع له فيه من النقض والإبرام من متفرداته (قدس‌سره) وتخريجاته ، ومقتضى ما صرح به الأصحاب هنا كالعلامة في المنتهى والشهيد في الذكرى هو ان التردد في ثلاثة فراسخ ذاهبا وجائيا غير موجب للقصر ثلاث مرات وأزيد بلغ محل الترخص أم لم يبلغ لعدم صدق المسافر عليه ، وهو التحقيق في المقام الذي لا يعتريه نقض ولا إبرام ، لأن وجوب التقصير تابع لصدق السفر مع استكمال شروطه. ومثل هذا لا يسمى مسافرا عرفا ولا شرعا.

قال في المنتهى : لو كانت المسافة ثلاثة فراسخ وتردد فيها ثلاث مرات لم

__________________

(١) في الذخيرة في التنبيه السابع من تنبيهات الشرط الأول هكذا : «ولو تردد في فرسخ واحد ثماني مرات».

٣١٠

يقصر ، لأنه بالعود انقطع سفره ، ولعدم الدليل على القصر مع وجود المقتضى لشغل الذمة.

وقال في الذكرى : ولو كان القصد زيادة على الأربعة فكالأربعة ، ولو نقص كالثلاثة يتردد فيها ثلاث مرات لم يترخص لخروجه عن اسم المسافر وإلا لزم تقصير المتردد في أقل من ميل وهو باطل. انتهى.

والجميع كما ترى ظاهر في ما قلناه واضح في ما نقلناه ، وبه يظهر ان ما ذكره مجرد توهم وخيال ضعيف ، فان ظهور عدم صدق المسافر على مثل هذا لا يمكن إنكاره عرفا ولا شرعا. والله العالم.

وعاشرها ـ لو تعارضت البينتان في المسافة بالنفي والإثبات ، قال في الذكرى : الأقرب العمل ببينة الإثبات لأن شهادة النفي غير مسموعة. وقال في المعتبر : أخذ بالمثبتة وقصر.

قال في المدارك بعد ذكر كلام المعتبر : وهو جيد مع إطلاق البينتين أما لو كان النفي متضمنا للإثبات كدعوى الاعتبار وتبين القصور فالمتجه تقديم بينة النفي لاعتضادها بأصالة التمام.

أقول : لا يخفى ما في الاعتضاد هنا بأصالة التمام من الإشكال لقيام البينة المثبتة للمسافة التي بالنظر إليها يجب التقصير شرعا والخروج عن هذا الأصل. والحق ان المسألة لا تخلو من الإشكال إلا أن يقال بالرجوع الى الترجيح بين البينتين قال في الذكرى : ولا يكفي إخبار الواحد بها ، ويحتمل الاكتفاء به إذا كان عدلا جعلا لذلك من باب الرواية لا من باب الشهادة.

أقول : ما ذكره من الاحتمال جيد لما أشرنا إليه قريبا من دلالة الأخبار على قبول قول الثقة وانه مفيد للعلم الشرعي.

ثم قال في الذكرى : فعلى هذا لو سافر اثنان أحدهما يعتقد المسافة والآخر لا يعتقدها فالظاهر ان لكل منهما أن يقتدى بالآخر لصحة صلاته بالنسبة إليه.

٣١١

وقال في المدارك بعد ذكر التعارض بين البينتين : ويتعلق بكل من البينتين حكم ما يعتقده فيقصر المثبت ويتم النافي ، وفي جواز اقتداء أحدهما بالآخر وجهان من حكم كل منهما بخطإ الآخر ، ومن ان كلا من الصلاتين محكوم بصحتها شرعا لإتيان كل منهما بما هو فرضه فينتفى المانع من الاقتداء ، ورجح الشهيدان الجواز وهو حسن لكنهما منعا من الاقتداء مع المخالفة في الفروع ، والفرق بين المسألتين مشكل. انتهى.

أقول : قد قدمنا في بحث القبلة من التحقيق في هذا المقام ما يندفع به هذا الإشكال الذي ذكره (قدس‌سره) ومرجعه الى الفرق بين الأحكام الشرعية وموضوعاتها فيمتنع الاقتداء على الأول دون الثاني.

وأقول هنا : انه لا يخفى ان ما ذكروه من جواز الاقتداء في الصورة المذكورة ان أريد به الاقتداء في مجموع الصلاة ـ بحيث ان من فرضه منهما التمام يصلى قصرا وبالعكس كما هو الظاهر من كلامهم ، وقوله في الذكرى لأنها صحيحة بالنسبة اليه. وقوله في المدارك ان كلا من الصلاتين محكوم بصحتها شرعا. الى آخره ـ فالظاهر عدمه لأنها وان صحت من هذه الجهة التي ذكرها إلا ان هذا مكلف شرعا بالعمل بعلمه وما أدى اليه اعتقاده ، فلو تابع الإمام في صلاته قصرا أو تماما والحال ان اعتقاده خلاف اعتقاد الامام فقد خالف ما هو تكليفه شرعا ومأمور به من جهته سبحانه فكيف يجزئ عنه ، وان أريد به الاقتداء في ما يتفق معه فيه كاقتداء المسافر بالحاضر وبالعكس فالظاهر انه لا بأس به لما ذكروه من التعليل ، ولان هذا من باب موضوعات الأحكام الشرعية التي قد أشرنا إلى انه يجوز الاقتداء فيها مع الاختلاف من حيث ان صلاته صحيحة شرعية ، ونحن انما منعنا من الاقتداء في الفرض الأول من حيث مخالفته لما هو مكلف به شرعا لا من حيث حكمنا ببطلان صلاة الامام ، والفرق بحمد الله سبحانه ظاهر. فاشرب بكأس هذا التحقيق الذي هو بان يكتب بالنور على وجنات الحور جدير وحقيق ، ولا تكاد تجد مثل

٣١٢

هذه التحقيقات في غير كتبنا وزبرنا. ولله سبحانه الحمد والمنة والله الهادي لمن يشاء.

المقام الثاني ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ما لو كانت المسافة أربعة فراسخ فصاعدا الى ما دون الثمانية على أقوال :

أحدها ـ وهو المشهور سيما بين المتأخرين وبه صرح المرتضى وابن إدريس ـ انه يجب التقصير إذا أراد الرجوع ليومه والمنع من التقصير ان لم يرد الرجوع ليومه

وثانيها ـ ما ذهب اليه الصدوق (قدس‌سره) في الفقيه قال : إذا كان سفره أربعة فراسخ وأراد الرجوع من يومه فالتقصير عليه واجب وان كان سفره أربعة فراسخ ولم يرد الرجوع من يومه فهو بالخيار ان شاء أتم وان شاء قصر. ونحوه قال الشيخ المفيد ، ونقله الأصحاب عن والد الصدوق ايضا وسلار ، وبه صرح الشيخ في النهاية إلا انه منع من التقصير في الصوم ، فصار هذا قولا ثالثا.

وما ذهبوا اليه ظاهر في وجوب التقصير مع الرجوع ليومه كما هو المشهور والتخيير في ما لم يرد الرجوع ليومه خلافا للمشهور حيث أوجبوا التمام هنا حتما ، فهذا القول يوافق المشهور من جهة ويخالفه من اخرى.

وينبغي أن يعلم ان مرادهم بقولهم في صورة التخيير «ومن لم يرد الرجوع من يومه» انه أعم من أن لم يرد الرجوع بالكلية فالنفي متوجه الى القيد والمقيد ، أو أراد الرجوع ولكن في غير ذلك اليوم فالنفي متوجه الى القيد خاصة. وما ربما يتوهم من التخصيص بالصورة الثانية غلط محض كما لا يخفى على المتأمل.

وثالثها ـ ما ذهب إليه في النهاية من ما قدمنا الإشارة اليه.

ورابعها ـ ما نقله شيخنا الشهيد في الذكرى عن الشيخ في التهذيب والمبسوط وابن بابويه في كتابه الكبير وقواه من التخيير في قصد الأربعة بشرط الرجوع ليومه قال في الذكرى : واعلم ان الشيخ في التهذيب ذهب الى التخيير لو قصد أربعة فراسخ وأراد الرجوع ليومه ، وكذا في المبسوط وذكره ابن بابويه في كتابه الكبير ، وهو قوي لكثرة الأخبار الصحيحة بالتحديد بأربعة فراسخ فلا أقل من الجواز.

٣١٣

أقول : عبارة الشيخ في التهذيب هكذا : ان المسافر إذا أراد الرجوع من يومه فقد وجب عليه التقصير في أربعة فراسخ. ثم قال : ان الذي نقوله في ذلك انه انما يجب التقصير إذا كان مقدار المسافة ثمانية فراسخ وإذا كان أربعة فراسخ كان بالخيار في ذلك ان شاء أتم وان شاء قصر.

وأنت خبير بان ظاهر هذه العبارة العدول عن القول الأول الموافق للمشهور الى ان مجرد قصد الأربعة موجب للتخيير أراد الرجوع ليومه أم لا ، وحينئذ فما نقله عنه هنا من قوله بالتخيير بشرط الرجوع ليومه ان أراد من حيث عموم كلامه وشموله لهذا الفرد فهو مسلم إلا انه بعيد عن ظاهر عبارته ، وان أراد تخصيص عبارته بما ذكره فهو خلاف ظاهر كلام الشيخ كما عرفت.

واما عبارته في المبسوط فهي أيضا لا تساعد ما ادعاه حيث ان عبارة المبسوط هكذا : حد المسافة التي يجب فيها التقصير ثمانية فراسخ أربعة وعشرون ميلا ، فان كانت أربعة فراسخ وأراد الرجوع من يومه وجب ايضا التقصير وان لم يرد الرجوع من يومه كان مخيرا بين التقصير والإتمام. وهذه العبارة كما ترى صريحة الانطباق على ما قدمنا نقله عن الصدوق والشيخ المفيد وهو القول الثاني لا في ما ذكره وادعاه.

والعجب أن الأصحاب لم يتنبهوا لموافقة الشيخ للصدوق في هذا الكتاب بل خصوا ذلك بالنهاية مع منعه فيها التقصير في الصوم ، وهذه العبارة ظاهرة في الانطباق على ذلك القول من جميع جهاته. وأعجب من ذلك نقل شيخنا المشار اليه عن المبسوط ما ادعاه والحال ان العبارة كما ترى ، ولعل النقل عن ابن بابويه في كتابه الكبير من هذا القبيل.

وكيف كان فهو قول مرغوب عنه كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى.

وخامسها ـ ما ذهب اليه ابن ابى عقيل (قدس‌سره) حيث قال : كل سفر كان مبلغه بريدين وهو ثمانية فراسخ أو بريدا ذاهبا وبريدا جائيا وهو أربعة فراسخ في يوم واحد أو ما دون عشرة أيام فعلى من سافر عند آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يصلى

٣١٤

صلاة السفر ركعتين. والى هذا القول مال جملة من أفاضل متأخري المتأخرين وهو الظاهر عندي من الأخبار كما سيسفر عنه ان شاء الله تعالى صبح التحقيق أى اسفار

إلا ان عبارة الشيخ ابن ابى عقيل لا تخلو عن مسامحة أو غفلة ، وذلك فان الحق في هذا المقام أن يقال انه لا ريب أن المسافة الموجبة للتقصير انما هي ثمانية فراسخ لكنها أعم من أن تكون ممتدة في الذهاب خاصة أو ملفقة من الذهاب والإياب ، وحينئذ فمن قصد أربعة فراسخ مريدا للرجوع من غير ان يقطع سفره بإقامة العشرة ولا بالمرور على منزل يقطع سفره ولا مضى ثلاثين يوما مترددا فإنه يجب عليه التقصير ويصدق عليه ان مسافة سفره ثمانية فراسخ لان السفر لا خصوصية له بالذهاب خاصة. ونظيره من قصد ثمانية فراسخ وهي المسافة المتفق على وجوب التقصير فيها ثم اتفق جلوسه على رأس أربعة فراسخ أياما لبعض المطالب والأغراض ، فان جلوسه تلك المدة ما لم ينقطع سفره بأحد القواطع المذكورة لا يخرجه عن كونه مسافرا ولا كون سفره ثمانية فراسخ. وحينئذ فإن كان ما ذكره ابن ابى عقيل في هذه العبارة من قوله : «أو ما دون عشرة أيام» إنما وقع على وجه التمثيل إشارة إلى انه يقصر ما لم ينقطع سفره بأحد القواطع التي من جملتها العشرة أيام فهو يرجع الى ما ذكرناه ونسبته الى آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في محله ، لانه الظاهر من أخبارهم كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى ، وإلا كان هذا قولا آخر ولا وجه لنسبته إليهم صلوات الله عليهم) باعتبار التخصيص بالعشرة ، إذ يمكن ان يرجع بعد عشرين يوما ولم ينقطع سفره بإقامة العشرة في موضع.

وسادسها ـ ما ذهب اليه السيد السند (قدس‌سره) في المدارك من القول بالتخيير بمجرد قصد الأربعة أراد الرجوع أو لم يرد ، ونقله عن الشيخ في التهذيب وجده.

قال (قدس‌سره) بعد البحث في المسألة : وجمع الشيخ في كتابي الأخبار بين هذه الروايات بوجه آخر وهو تنزيل أخبار الثمانية على الوجوب واخبار

٣١٥

الأربعة على الجواز ، وحكاه بعض مشايخنا المعاصرين عن جدي (قدس‌سره) في الفتاوى ، ومال إليه في روض الجنان حتى انه استوجه كون القصر أفضل من الإتمام. ولا ريب في قوة هذا القول. ولا ينافي ما ذكرناه من التخيير رواية معاوية بن عمار المتضمنة لنهي أهل مكة عن الإتمام بعرفات (١) لأنا نجيب عنها بالحمل على الكراهة أو على ان النهى عن الإتمام على وجه اللزوم. انتهى.

وسابعها ـ ما ذهب اليه بعض فضلاء متأخري المتأخرين من وجوب التقصير مع قصد الأربعة مطلقا ونسبه مذهبا لثقة الإسلام الكليني في الكافي حكى ذلك بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين ، حيث قال بعد الكلام في المسألة وذكر أخبار الثمانية : ثم اختلفوا في نصف ذلك أي أربعة فراسخ على أقوال شتى ، فمنهم من ظاهر كلامه كالكليني ان الأربعة هي المسافة حيث لم يذكر ما سوى أحاديث الأربعة حتى ان بعض مشايخنا كان يدعى له هذا القول ويقويه استنادا الى عدم وجدان قائل بها من المخالفين (٢) وجعل وجه الجمع بين هذه الأخبار واخبار الثمانية بأن المراد بهذه الأخبار أقل ما يتحقق به تحتم القصر وانه مستلزم للتحتم بالزائد أيضا كما هو ظاهر ، فيكون حينئذ تخصيص التعبير بالثمانية في اخبارها لأجل بعض المصالح كمراعاة التقية. انتهى كلام شيخنا المشار اليه. ثم انه (قدس‌سره) رجح كون اعتقاد الكليني التخيير في قصد الأربعة مطلقا.

أقول : لا يخفى ان حمل أخبار الأربعة على الوجوب ـ كما ذكره البعض المشار اليه وانه أقل ما يجب فيه التقصير ـ يدفعه ما اشتملت عليه جملة من أخبار الثمانية الفراسخ والبريدين من أنها أقل مسافة القصر وانه لا يقصر في ما دونها وان المناط

__________________

(١) ص ٣١٩ و ٣٢٠.

(٢) في المحلى ج ٥ ص ٨ عن شعبة قال : سمعت ميسرة بن عمران عن أبيه عن جده انه خرج مع عبد الله بن مسعود وهو رديفه على بغلة له مسيرة أربع فراسخ فصلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين.

٣١٦

في ذلك بياض يوم أو سير الإبل ونحو ذلك من ما اشتملت عليه الأخبار كما لا يخفى على من راجعها.

إذا عرفت ذلك فالكلام هنا يقع في موضعين الأول ـ في نقل أخبار المسألة كملا فنقول :

اعلم ان الأخبار المتعلقة بهذه المسألة على ثلاثة أقسام : الأول ـ ما اشتمل على تحديد المسافة بما علم مخالفته لمذهب الإمامية وهو موافقته لمذهب العامة كالأخبار الدالة على التحديد بفرسخ أو ثلاثة أبرد أو يوم وليلة ونحو ذلك ، وقد تقدم شطر منها في صدر المسألة الأولى ، وقد أوضحنا ثمة (١) خروجها مخرج التقية فلا حاجة الى ارتكاب التأويل فيها ولا نكلف الجواب عنها بعد ظهور ما قلناه فيها.

الثاني ـ الأخبار المشتملة على ما عليه اتفاق الإمامية من ثمانية فراسخ أو بريدين أو بياض يوم ، وقد مر منها صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم في صدر المقصد وتقدم في صدر المقام الأول صحيحة أبي أيوب وفيها بريدين أو بياض يوم وصحيحة على بن يقطين وفيها مسيرة يوم ، وصحيحة أبي بصير وفيها بياض يوم أو بريدين وحسنة الكاهلي وفيها بريد في بريد أربعة وعشرون ميلا ، وموثقة سماعة وفيها مسيرة يوم وذلك بريدان وهما ثمانية فراسخ ، وموثقة عيص بن القاسم أو حسنته وفيها حده أربعة وعشرون ميلا ، ورواية الفضل بن شاذان وفيها ثمانية فراسخ مسير يوم ، ومنها رواية صفوان الآتية ان شاء الله تعالى (٢) في الموضع الثاني ، ومنها موثقة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدمة في المورد الثاني من موارد المقام المتقدم ، الى غير ذلك من الأخبار التي لا ضرورة في التطويل بها مع الاتفاق على العمل بمضمونها.

الثالث ـ الأخبار المشتملة على التقصير في أربعة فراسخ أو بريد أو نحو ذلك التي هي محل الإشكال في المقام ومنفصل سهام النقض والإبرام.

وهذه الأخبار ايضا على ثلاثة أقسام : أحدها ـ ما ورد في التحديد

__________________

(١) ص ٣٠٠.

(٢) ص ٣٢٦.

٣١٧

بالأربعة على الإطلاق من غير تقييد بالذهاب والإياب وغير ذلك بحيث يتبادر من ظواهرها التعارض بين إطلاقها وإطلاق أخبار الثمانية :

ومنها ـ مرسلة محمد بن يحيى الخزاز المتقدمة في صدر المسألة الأولى ومرسلة ابن ابى عمير المتقدمة ثمة أيضا.

وصحيحة زرارة عن ابى جعفر عليه‌السلام (١) قال : «التقصير في بريد والبريد أربعة فراسخ».

وصحيحة زيد الشحام (٢) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول يقصر الرجل الصلاة في مسيرة اثنى عشر ميلا».

وصحيحة إسماعيل بن الفضل (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن التقصير فقال في أربعة فراسخ».

ورواية أبي الجارود (٤) قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام في كم التقصير؟ فقال في بريد».

وموثقة ابن بكير (٥) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن القادسية اخرج إليها أتم أم أقصر؟ قال وكم هي؟ قلت هي التي رأيت. قال قصر».

أقول : قال في المغرب ، القادسية موضع بينه وبين الكوفة خمسة عشر ميلا كذا نقله عنه في كتاب البحار ، ثم قال : وهي تدل على وجوب التقصير في أربعة فراسخ لعدم القول بالفصل. انتهى.

ومنها صحيحة أبي أيوب (٦) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ادنى ما يقصر فيه المسافر؟ فقال بريد».

وثانيها ـ ما ورد بالتحديد بأربعة فراسخ مع التقييد بان ذلك حيث يضم الإياب إلى الذهاب بحيث ان يحصل منهما جميعا ثمانية فراسخ :

ومنها ـ صحيحة معاوية بن وهب (٧) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أدنى

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦ و ٧) الوسائل الباب ٢ من صلاة المسافر.

٣١٨

ما يقصر فيه المسافر؟ قال بريد ذاهبا وبريد جائيا».

ومنها ـ صحيحة زرارة المروية في الفقيه (١) قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن التقصير فقال بريد ذاهبا وبريد جائيا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أتى ذبابا قصر وذباب على بريد ، وانما فعل ذلك لأنه إذا رجع كان سفره بريدين ثمانية فراسخ».

وموثقة محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه‌السلام (٢) قال : «سألته عن التقصير فقال في بريد. قال قلت بريد؟ قال انه إذا ذهب بريدا ورجع بريدا فقد شغل يومه».

ورواية سليمان بن حفص المروزي (٣) قال : «قال الفقيه عليه‌السلام التقصير في الصلاة بريدان أو بريد ذاهبا وجائيا. الحديث».

ورواية الفضل بن شاذان المروية في كتاب العلل والعيون عن الرضا عليه‌السلام (٤) قال : «انما وجبت الجمعة على من يكون على رأس فرسخين لا أكثر من ذلك لأن ما تقصر فيه الصلاة بريدان ذاهبا أو بريد ذاهبا وبريد جائيا والبريد أربعة فراسخ ، فوجبت الجمعة على من هو على نصف البريد الذي يجب فيه التقصير ، وذلك انه يجي‌ء فرسخين ويذهب فرسخين فذلك أربعة فراسخ وهو نصف طريق المسافر».

وروى الحسن بن على بن شعبة في كتاب تحف العقول عن الرضا عليه‌السلام في كتابه إلى المأمون (٥) قال : «والتقصير في أربعة فراسخ بريد ذاهبا وبريد جائيا اثنى عشر ميلا ، وإذا قصرت أفطرت».

وثالثها ـ ما ورد كذلك بحيث يدل على ان ذلك على سبيل الحتم وانه مراعى باعتبار ضم الإياب إلى الذهاب بحيث يكون الجميع ثمانية فراسخ ، وانه لا حاجة الى أن يكون الذهاب والإياب في يوم واحد :

ومنها ـ صحيحة معاوية بن وهب المروية في كتب المشايخ الثلاثة بالأسانيد الصحيحة (٦) «انه قال لأبي عبد الله عليه‌السلام ان أهل مكة يتمون الصلاة بعرفات؟

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل الباب ٢ من صلاة المسافر.

(٦) الوسائل الباب ٣ من صلاة المسافر. والراوي معاوية بن عمار.

٣١٩

فقال ويلهم أو ويحهم وأى سفر أشد منه لا تتم». وفي بعض النسخ «لا تتموا».

وصحيحته الأخرى عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «أهل مكة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم أتموا وإذا لم يدخلوا منازلهم قصروا».

وصحيحة الحلبي أو حسنته عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «ان أهل مكة إذا خرجوا حجاجا قصروا وإذا زاروا ورجعوا الى منازلهم أتموا».

وموثقة معاوية بن عمار (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام في كم أقصر الصلاة؟ فقال في بريد ألا ترى ان أهل مكة إذا خرجوا الى عرفة كان عليهم التقصير».

ورواية إسحاق بن عمار (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام في كم التقصير؟ فقال في بريد ويحهم كأنهم لم يحجوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقصروا».

وقال شيخنا المفيد (عطر الله مرقده) في المقنعة (٥) قال الصادق عليه‌السلام «ويل لهؤلاء القوم الذي يتمون بعرفات أما يخافون الله؟ فقيل له وهو سفر؟ فقال وأى سفر أشد منه».

أقول : وذكر أهل مكة وان لم يقع في الكلام إلا ان الظاهر بمعونة ما ذكرنا من الأخبار هو كونهم المرادين بهذا الكلام وان خفي علينا الآن قرينة المقام.

وصحيحة زرارة عن ابى جعفر عليه‌السلام (٦) قال : «من قدم قبل التروية بعشرة أيام وجب عليه إتمام الصلاة وهو بمنزلة أهل مكة فإذا خرج الى عرفات وجب عليه التقصير فإذا زار البيت أتم الصلاة وعليه إتمام الصلاة إذا رجع الى من حتى ينفر».

وموثقة إسحاق بن عمار (٧) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن أهل مكة إذا

__________________

(١) الوسائل الباب ٣ من صلاة المسافر. والراوي معاوية بن عمار.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل الباب ٣ من صلاة المسافر.

(٦) الوسائل الباب ٣ من صلاة المسافر. واللفظ فيه وفي الوافي باب عزم الإقامة في السفر «فإذا خرج الى منى».

(٧) الوسائل الباب ٦ و ١٥ من صلاة المسافر.

٣٢٠