الحدائق الناضرة - ج ١١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٠

ظاهر كلام جل الأصحاب انما هو الوجوب وان عبروا عنه بعبارة مجملة وان لم يفصح بذلك إلا المرتضى (رضى الله عنه) وابن الجنيد.

السابع ـ قد صرح المحقق في الشرائع بأن هذه الصلاة تخالف صلاة الجماعة في ثلاثة أشياء : انفراد المؤتم وتوقع الإمام للمأموم حتى يتم وامامة القاعد بالقائم واعترضه في المدارك ، اما بالنسبة إلى الأول فقال : انه لا يخفى ان انفراد المؤتم إنما تحصل به المخالفة على قول الشيخ من المنع من المفارقة في حال الاختيار ، اما ان سوغناها مطلقا كما هو المشهور فلا تتحقق المخالفة بذلك لصلاة المختار ، اللهم إلا أن يقال بوجوب الانفراد هنا فتحصل المخالفة بذلك. انتهى. وهو جيد.

وأما بالنسبة الى الثاني فقال فيه على أثر الكلام الأول : وكذا الكلام في توقع الإمام المؤتم حتى يتم فإنه جائز مع الاختيار ، مع انه غير لازم في هذه الصلاة كما دلت عليه صحيحة عبد الرحمن المتقدمة حيث وقع التصريح فيها بان الامام يتشهد ويسلم على الفرقة الثانية ثم يقومون بعد ذلك ويتمون صلاتهم. انتهى.

أقول : لا يخفى انه يمكن تطرق المناقشة الى هذا الكلام ، فان ما ذكره من جواز انتظار الإمام المأموم حتى يتم مع الاختيار لا أعرف عليه دليلا ، فان ذلك لا محل له إلا في مسألة المسبوق ، واخبار المسبوق على تعددها دالة على ان الامام متى تمت صلاته سلم ولم ينتظر بسلامه إتمام المأمومين. نعم دلت على ان الأفضل له أن لا يفارق مصلاه حتى يتم المسبوق صلاته. واما قوله : «على انه غير لازم في هذه الصلاة كما دلت عليه صحيحة عبد الرحمن» فان ظاهرها انه وان لم يكن لازما إلا انه جائز ، وهو الظاهر لما عرفت من ما تقدم في الموضع الثاني من دلالة ظاهر روايتي قرب الاسناد على ما ذكره الأصحاب وان الظاهر هو القول بالتخيير جمعا بين الأخبار ، وهذا يكفي في الفرق متى قلنا بعدم جواز توقع الإمام للمأموم حتى يتم في مسألة المسبوق لعدم الدليل عليه كما عرفت ، وهنا يجوز ذلك لما ذكرنا وهو ظاهر في الفرق وبالجملة فإن كلامه هنا لا يخلو من تأمل لما عرفت.

٢٨١

والظاهر انهم لو ذكروا في هذا المقام في وجه الفرق ـ تمثل الإمام قائما بعد صلاة ركعة بالطائفة الأولى وإتمامها الصلاة ثم المضي إلى موقف أصحابها وإتيان الطائفة الثانية ودخولهم معه ـ لكان أظهر في الفرق ، فإنه لم يعهد في صلاة الجماعة مثله سيما على القول بسكوت الامام عن القراءة حتى تأتي الطائفة الثانية وتدخل معه كما تقدم في كلام الذكرى.

واما بالنسبة الى الثالث فإنه قال : واما إمامة القاعد بالقائم فإنما تتحقق إذا قلنا ببقاء اقتداء الفرقة الثانية في الركعة الثانية حكما وان استقلوا بالقراءة والأفعال كما صرح به العلامة في المختلف محتجا بقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة «فصار للأولين التكبير وافتتاح الصلاة وللآخرين التسليم» قال ومع الانفراد لا يحصل لهم ذلك.

وهو احتجاج ضعيف للتصريح في تلك الرواية بعينها بان الامام يوقع السلام وبعد فراغه من التشهد من غير انتظارهم ، وعلى هذا فيكون معنى قوله عليه‌السلام «وللآخرين التسليم» انهم حضروه مع الامام. والأصح انفراد الفرقة الثانية عند مفارقة الإمام كالأولى كما هو ظاهر الشيخ في المبسوط وصريح ابن حمزة في الوسيلة لقوله عليه‌السلام في صحيحة عبد الرحمن المتقدمة «ثم تشهد وسلم عليهم فقاموا فصلوا لأنفسهم ركعة وسلم بعضهم على بعض» ولأنه لا معنى للقدوة مع الاستقلال بالقراءة والأفعال إلا حصول ثواب الائتمام وسقوط السهو عنهم في الركعة الثانية ان قلنا بسقوطه عن المأموم ، وليس في الأدلة النقلية ما يدل عليه فكان منفيا بالأصل. انتهى كلامه (زيد مقامه) وهو جيد. وانما نقلناه بطوله لتأييده لما قدمنا ذكره في الموضع الرابع.

الثامن ـ في جملة من الفروع : الأول ـ نقل عن الشيخ وأكثر الأصحاب انهم صرحوا بوجوب أخذ السلاح في الصلاة استنادا الى قوله عزوجل «وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ» (١) والأمر المطلق للوجوب. وعن ابن الجنيد انه يستحب

__________________

(١) سورة النساء الآية ١٠٣.

٢٨٢

أخذ السلاح حملا للأمر على الإرشاد لما في أخذ السلاح من الاستظهار في التحفظ من العدو. أقول : وما ذكره ابن الجنيد غير بعيد والظاهر انه لذلك تردد المحقق في النافع والمعتبر. ونقل عن ابن إدريس انه أوجب أخذ السلاح على الطائفتين ، ولا بأس به لما فيه من زيادة الاحتراس والمحافظة ، إلا ان الحكم بالوجوب لا يخلو من اشكال إلا أن تلجئ الضرورة اليه.

الثاني ـ قال الشيخ في المبسوط : يكره أن يكون السلاح ثقيلا لا يتمكن معه من الصلاة والركوع والسجود كالجوشن الثقيل والمغفر السابغ لأنه يمنع من السجود على الجبهة. وقال في المختلف بعد نقل ذلك عنه : والأقرب أن نقول ان احتاج الى أخذه وجب ولم يكن مكروها وان لم يحتج اليه حرم أخذه لأنه يمنعه من استيفاء الأفعال الواجبة. انتهى. وهو جيد. ويمكن على بعد حمل الكراهة في كلامه على التحريم.

الثالث ـ لا تمنع النجاسة على السلاح من أخذه في الصلاة لما تقدم في مقدمة اللباس من ثبوت العفو عن نجاسة ما لا تتم الصلاة فيه منفردا وعدم قيام الدليل على طهارة المحمول ، ولو تعدت النجاسة الى الثوب وجب تطهيره إن أمكن.

الرابع ـ لو ترك أخذ السلاح في مقام وجوبه لم تبطل صلاته لأن أخذه ليس شرطا في الصلاة ولا جزء منها وانما هو واجب منفصل عنها. ولو منع من كمال الأفعال كزيادة الانحناء في الركوع كره أخذه.

الخامس ـ قال في الذكرى : يجوز في أثناء الصلاة الضربة والضربتان والطعنة والطعنتان والثلاث مع تباعدها اختيارا واضطرارا لأنها ليست فعلا كثيرا ولو احتاج الى الكثير فاتى به لم تبطل وتكون كصلاة الماشي. وكذا يجوز له إمساك عنان فرسه وجذبه اليه كثيرا وقليلا لأنه في محل الحاجة. انتهى.

السادس ـ قال في الذكرى : لا فرق في جواز القصر مع الخوف بين الرجال والنساء لحصول المقتضي في الجميع ، وابن الجنيد قال يقصرها كل من يحمل السلاح

٢٨٣

من الرجال حرا كان أو عبدا دون النساء في الحرب. ولعله لعدم مخاطبتهن بالقتال والخوف انما يندفع غالبا بالرجال فلا أثر فيه للنساء قصرن أم اتممن. انتهى. ولا يخلو من تردد واشكال لعدم النص الواضح في هذا المجال.

السابع ـ قال في الكتاب المذكور ايضا : لو عرض الخوف في أثناء صلاة الا من أتمها ركعتين ، ولو عجز عن الركوع والسجود أتمها بالإيماء لمكان الضرورة ووجود المقتضى ، ولو أمن في أثناء صلاة الخوف أتمها عددا ان كان حاضرا وكيفية سواء كان حاضرا أو مسافرا ، ولا فرق بين أن يكون قد استدبر أو لم يستدبر. وقال الشيخ في المبسوط : لو صلى ركعة مع شدة الخوف ثم أمن نزل وصلى بقية صلاته على الأرض ، وان صلى على الأرض آمنا ركعة فلحقه شدة الخوف كبر وصلى بقية صلاته إيماء ما لم يستدبر القبلة في الحالين فان استدبرها بطلت صلاته ، والأقرب الصحة مع الحاجة الى الاستدبار لانه موضع ضرورة والشروط معتبرة مع الاختيار. انتهى.

المسألة الثالثة ـ من صلاة الخوف المذكورة في كلام الأصحاب صلاة بطن النخل ، قالوا ورد ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صلاها بأصحابه (١) قال في المبسوط : روى ذلك الحسن عن أبي بكرة عن فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) وصفتها أن يصلى الإمام بالفرقة الأولى مجموع الصلاة والأخرى تحرسهم ثم يسلم بهم ثم يمضون الى موقف أصحابهم ، ثم يصلى بالطائفة الأخرى نفلا له وفرضا لهم. قال في المبسوط : وهذا يدل على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل. وشرطها كون العدو فيه قوة يخاف هجومه

__________________

(١) الدر المنثور ج ٢ ص ٢١٢.

(٢) في عمدة القارئ ج ٣ ص ٣٤٢ : حديث أبي بكرة افتى به الحسن البصري ، وحكى المزني عن الشافعي انه لو صلى في الخوف بطائفة ركعتين ثم سلم وصلى بطائفة ركعتين ثم سلم كان جائزا ، قال وهكذا صلى النبي (ص) ببطن نخل ، وقال ابن عبد البر روى ان صلاته هكذا كانت يوم ذات الرقاع.

٢٨٤

وإمكان افتراق المسلمين فرقتين لا أزيد ، وكونه في خلاف جهة القبلة.

قال في الذكرى : ويتخير بين هذه الصلاة وذات الرقاع ، وترجح هذه إذا كان في المسلمين قوة ممانعة بحيث لا تبالي الفرقة الحارسة بطول لبث المصلية ، ويختار ذات الرقاع إذا كان الأمر بالعكس.

ومنها ـ صلاة عسفان وقد نقلها الشيخ في المبسوط بهذه العبارة ، قال : ومتى كان العدو في جهة القبلة ويكونون في مستوي الأرض لا يسترهم شي‌ء ولا يمكنهم أمر يخافون منه ويكون في المسلمين كثرة لا تلزمهم صلاة الخوف ولا صلاة مرشدة الخوف ، وان صلوا كما صلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعسفان جاز ، فإنه قام مستقبل القبلة والمشركون أمامه فصف خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صف وصف بعد ذلك الصف صف آخر فركع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وركعوا جميعا ثم سجد صلى‌الله‌عليه‌وآله وسجد الصف الذين يلونه وقام الآخرون يحرسونه فلما سجد الأولون السجدتين وقاموا سجد الآخرون الذين كانوا خلفهم ، ثم تأخر الصف الذين يلونه الى مقام الآخرين وتقدم الصف الآخر الى مقام الصف الأول ثم ركع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وركعوا جميعا في حالة واحدة ثم سجد وسجد الصف الذي يليه وقام الآخرون يحرسونه فلما جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والصف الذي يليه سجد الآخرون ثم جلسوا جميعا وسلم بهم جميعا. وصلى صلى‌الله‌عليه‌وآله بهم ايضا هذه الصلاة يوم بنى سليم (١).

أقول قال في المنتهى : روى أبو عياش الزرقي (٢) قال : كنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد فصلينا الظهر فقال المشركون لقد أصبنا غرة لو حملنا عليهم في الصلاة فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر ، فلما حضرت صلاة العصر قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مستقبل القبلة والمشركون امامه فصف خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ثم ساق الحديث كما تقدم في عبارة المبسوط.

__________________

(١ و ٢) سنن ابى داود ج ٢ ص ١١.

٢٨٥

ثم قال في المنتهى : وروى جابر بن عبد الله (١) «ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صلى الظهر ببطن النخل : جعل أصحابه طائفتين فصلى بالأولى ركعتين ثم سلم فصلى بالأخرى ركعتين». قال الشيخ : ولو صلى كما صلى بعسفان جاز.

ثم قال في المنتهى تبعا للمحقق في المعتبر : ونحن نتوقف في هذا لعدم ثبوت النقل عندنا عن أهل البيت عليهم‌السلام بذلك. انتهى. وهو جيد متين.

وأما ما ذكره في الذكرى ـ جوابا عما ذكراه هنا حيث قال : قلت هذه صلاة مشهورة في النقل فهي كسائر المشهورات الثابتة وان لم تنقل بأسانيد صحيحة ، وقد ذكرها الشيخ مرسلا لها غير مسند ولا محيل على سند فلو لم تصح عنده لم يتعرض لها حتى ينبه على ضعفها فلا تقصر فتواه عن روايته ، ثم ليس فيها مخالفة لأفعال الصلاة غير التقدم والتأخر والتخلف بركن ، وكل ذلك غير قادح في صحة الصلاة اختيارا فكيف عند الضرورة. انتهى.

فهو كلام مزيف سخيف ، فان فيه (أولا) ان ما ذكره يرجع الى تقليد الشيخ في الفتوى بصحة هذه الصلاة وان لم يقفوا له على دليل ، مع انا نراهم لا يقفون على هذه القاعدة في مقام وجود الأدلة للشيخ على فتاويه وإلا لما اتسع الخلاف وانتشرت الأقوال في الأحكام الشرعية على ما هي عليه الآن ، إذ لا حكم إلا وقد تعددت فيه أقوالهم واختلفت فيه آراؤهم ولم يقفوا فيه على فتاوى الشيخ ونحوه من عظماء متقدميهم.

وثانيا ـ ما هو معلوم من طريقة الشيخ وتساهله في الفتاوى ودعوى الإجماعات والاحتجاج بالأخبار العامية ، وهذا ظاهر للمطلع على كتبه (قدس‌سره) والمتدبر لاقواله.

وثالثا ـ ان ما ذكره من عدم قدح التأخر بركن في القدوة ممنوع ، وقد تقدم الكلام في المسألة مستوفى وقد بينا تناقض كلامه (قدس‌سره) فيها.

__________________

(١) الدر المنثور ج ٢ ص ٢١٣.

٢٨٦

ورابعا ـ ان بلوغ التساهل في العبادات المبنية على التوقيف الى هذا الحد لا يخلو من تشريع وقول على الله سبحانه بغير علم «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً» (١) «أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ» (٢) ونحوهما من الآيات المعتضدة بالروايات المستفيضة الدالة على النهى عن القول بما لم يثبت عنهم عليهم‌السلام والأمر بالوقوف والتثبت والرد إليهم في ما اشتبه منها (٣) وبالجملة فان الحق هنا ما ذكره الفاضلان المذكوران. والله العالم.

المسألة الرابعة ـ في صلاة شدة الخوف بمعنى انه ينتهى الحال إلى المسايفة والمعانقة ، والضابط أن لا يتمكنوا من الصلاة على الوجه المتقدم ، فإنهم يصلون فرادى كيفما أمكنهم وقوفا أو ركبانا أو مشاة ، ويركعون ويسجدون مع الإمكان وإلا فبالإيماء ، ويستقبلون القبلة مع الإمكان في جميع الصلاة أو بعضها ولو بتكبيرة الإحرام ان أمكن وإلا سقط ايضا. وهذه الأحكام كلها مجمع عليها بينهم.

ويدل عليه جملة من الأخبار : منها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة وفضيل ومحمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه‌السلام (٤) قال : «في صلاة الخوف عند المطاردة والمناوشة وتلاحم القتال فإنه يصلى كل انسان منهم بالإيماء حيث كان وجهه فإذا كانت المسايفة والمعانقة وتلاحم القتال فإن أمير المؤمنين عليه‌السلام ليلة صفين وهي ليلة الهرير لم يكن صلى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء عند وقت كل صلاة إلا بالتكبير والتهليل والتسبيح والتحميد والدعاء ، فكانت تلك صلاتهم ولم يأمرهم بإعادة الصلاة».

وعن عبيد الله بن على الحلبي في الصحيح عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٥) قال : «صلاة الزحف على الظهر إيماء برأسك وتكبير ، والمسايفة تكبير مع إيماء ،

__________________

(١) سورة هود الآية ٢١.

(٢) سورة الأعراف الآية ٢٧.

(٣) الوسائل الباب ١٢ من صفات القاضي وما يجوز أن يقضى به.

(٤ و ٥) الوسائل الباب ٤ من صلاة الخوف والمطاردة.

٢٨٧

والمطاردة إيماء يصلى كل رجل على حياله».

وعن زرارة في الصحيح (١) قال : «قال أبو جعفر عليه‌السلام الذي يخاف اللصوص والسبع يصلى صلاة الموافقة إيماء على دابته. قال قلت أرأيت ان لم يكن المواقف على وضوء كيف يصنع ولا يقدر على النزول؟ قال يتيمم من لبد سرجه أو من معرفة دابته فان فيها غبارا ، ويصلى ويجعل السجود أخفض من الركوع ، ولا يدور إلى القبلة ولكن أينما دارت دابته غير أنه يستقبل القبلة بأول تكبيرة حين يتوجه».

وعن عبد الرحمن بن ابى عبد الله في الصحيح (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل «فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً» (٣) كيف يصلى؟ وما يقول؟ ان خاف من سبع أو لص كيف يصلى؟ قال يكبر ويومئ برأسه إيماء».

وعن ابى بصير في الموثق أو الصحيح (٤) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إذا التقوا فاقتتلوا فإنما الصلاة حينئذ بالتكبير وإذا كانوا وقوفا فالصلاة إيماء».

ثم انه مع تعذر الإيماء كما تقدم فإنه ينتقل الفرض الى التسبيح بان يقول عوض كل ركعة «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» وذلك يجزئ عن جميع الأفعال والأذكار كما صرح به الأصحاب ومنهم الفاضلان في المعتبر والمنتهى والظاهر انه مجمع عليه بينهم كما جزم به في المدارك.

قال في الذكرى : ومع تعذر الإيماء يجزئ عن كل ركعة «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» فعن جميع الصلوات تسبيحتان وعن المغرب ثلاثا.

وقال في المنتهى : لو لم يتمكن من الإيماء حال المسايفة جعل عوض كل ركعة تكبيرة ، وصورتها «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» وذلك يجزئ عن القراءة والركوع والسجود لما تقدم في حديث زرارة وفضيل ومحمد بن مسلم.

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٣ من صلاة الخوف والمطاردة.

(٣) سورة البقرة الآية ٢٤٠.

(٤) الوسائل الباب ٤ من صلاة الخوف والمطاردة.

٢٨٨

أقول : ويدل على الحكم المذكور ما تقدم في صحيحة الفضلاء من صلاة أمير المؤمنين عليه‌السلام ليلة الهرير ، ونحوها رواية أبي بصير المتقدمة.

ويدل على ذلك ايضا ما رواه الصدوق في الصحيح عن عبد الرحمن بن ابى عبد الله عن الصادق عليه‌السلام (١) «في صلاة الزحف؟ قال تكبير وتهليل يقول الله عزوجل (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً)» (٢).

ثم قال (٣) وفي كتاب عبد الله بن المغيرة ان الصادق عليه‌السلام قال : «أقل ما يجزئ في حد المسايفة من التكبير تكبيرتان لكل صلاة إلا المغرب فان لها ثلاثا». وهذه الرواية قد نقلها الشيخ عن عبد الله بن المغيرة في الصحيح عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه‌السلام (٤).

وما رواه الشيخ عن محمد بن عذافر عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٥) قال : «إذا جالت الخيل تضطرب بالسيوف أجزأته تكبيرتان ، فهذا تقصير آخر». وقال عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (٦) : وان كنت في حرب هي لله رضى وحضرت الصلاة فصل على ما أمكنك على ظهر دابتك وإلا تومئ إيماء أو تكبر وتهلل. وروى انه فات الناس مع على عليه‌السلام يوم صفين صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء فأمر على عليه‌السلام فكبروا وهللوا وسبحوا ، ثم قرأ هذه الآية «فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً» فأمرهم على عليه‌السلام فصنعوا ذلك رجالا وركبانا. انتهى.

بقي الكلام هنا في أشياء الأول ـ ان المذكور في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم ان التسبيح الذي ينتقل إليه في هذه المرتبة يجب أن يكون بهذه الكيفية التي تقدم نقلها عن المنتهى والذكرى ، والأخبار التي قدمناها ونحوها من اخبار المسألة لا تساعد على ذلك ، فإن أوضحها في هذا الحكم صحيحة الفضلاء وظاهرها الاكتفاء بهذه الأذكار كيف اتفق.

__________________

(١ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل الباب ٤ من صلاة الخوف والمطاردة.

(٢) سورة البقرة الآية ٢٤٠.

(٦) ص ١٤.

٢٨٩

وقال في الذكرى : وتجب الصيغة المشار إليها أولا في التسبيح للإجماع على اجزائها ، وظاهر الرواية انه يتخير في الترتيب كيف شاء ، والأجود الأول لتحصيل يقين البراءة. انتهى. ولا ريب ان ما ذكره طريق الاحتياط.

ويمكن تأييد ما ذكرناه بالأخبار الواردة في تسبيح الأخيرتين ، فإنها من قبيل صحيحة الفضلاء المذكورة ونحوها في عدم الترتيب مع اتفاق الأصحاب على هذه الكيفية المشهورة.

الثاني ـ الأحوط أن يضاف الى التسبيح المذكور الدعاء كما دلت عليه الصحيحة المشار إليها.

الثالث ـ انه قد صرح جمع من المتأخرين : منهم ـ الشهيد في الذكرى والعلامة وغيرهما بأنه لا بد في التسبيحات من النية وتكبيرة الإحرام والتشهد والتسليم وظواهر أخبار المسألة قاصرة عن افادته ، نعم النية التي قد عرفت انها من الأمور الجبلية لا يمكن تخلفها ليحتاج الى اعتبار إيجابها. وما استندوا إليه في هذا المقام ـ من عموم الأخبار الواردة بهذه الأشياء ـ ففيه ان ما نحن فيه خاص ولا ريب في تقديمه على العام وتخصيص العام به. وبما ذكرناه صرح في المدارك ، قال : وعندي في وجوب ما عدا النية إشكال لعدم استفادته من الروايات بل ربما كانت ظاهرة في خلافه. انتهى. وهو جيد.

الرابع ـ المشهور انه إذا صلى مومئا فأمن أتم صلاته بالركوع والسجود في ما بقي منها ولا يجب عليه الاستئناف مطلقا. وقال الشيخ بذلك بشرط عدم الاستدبار في ما صلاه أولا. ورد بصدق الامتثال في ما اتى به فلا تتعقبه إعادة لأن ما اتى به من الاستدبار مأمور به في تلك الحال وامتثال الأمر يقتضي الإجزاء.

الخامس ـ قالوا : لو رأى سوادا فظنه عدوا فقصر وصلى مومئا ثم انكشف بطلان خياله لم يعد. وكذا لو أقبل العدو فصلى مومئا لشدة خوفه ثم ظهران

٢٩٠

هناك حائلا يمنع العدو. قالوا : والوجه في ذلك ان الصلاة في الحال المذكور مأمور بها شرعا فتكون مجزئة ، نعم لو استند الخوف الى التقصير في الاطلاع وعدم التأمل أو غلبة الوهم من غير تحقيق فالظاهر وجوب الإعادة ، وبه قطع في الذكرى للتفريط. وهو جيد. والله العالم.

المسألة الخامسة ـ المشهور في كلام جملة من أصحابنا (رضوان الله عليهم ان الخوف بأي نحو كان من عدو أو لص أو سبع أو غرق موجب لهذه الصلاة كمية وكيفية.

قال الشهيد في الذكرى : لا فرق في لباب الخوف بين الخوف من عدو أو لص أو سبع فيجوز قصر الكمية والكيفية عند وجود سبب الخوف كائنا ما كان.

وقال المحقق في المعتبر : كل أسباب الخوف يجوز معها القصر والانتقال إلى الإيماء مع الضيق والاقتصار على التسبيح ان خشي مع الإيماء وان كان الخوف من لص أو سبع أو غرق ، وعلى ذلك فتوى علمائنا. ثم استدل بقوله تعالى «وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا» (١) قال : وهو دال بمنطوقه على خوف العدو وبفحواه على ما عداه من المخوفات. ثم قال : ومن طريق الأصحاب ما رواه. ثم نقل صحيحة عبد الرحمن ابن ابى عبد الله المتقدمة ثم صحيحة زرارة المتقدمة أيضا الواردة في اللصوص والسبع

أقول : ومن قبيل هاتين الروايتين اللتين ذكرهما ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن على بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام (٢) قال : «سألته عن الرجل يلقى السبع وقد حضرت الصلاة ولا يستطيع المشي مخافة السبع ، فان قام يصلى خاف في ركوعه وسجوده السبع والسبع امامه على غير القبلة ، فإن توجه إلى القبلة خاف ان يثب عليه الأسد فكيف يصنع؟ قال فقال يستقبل الأسد ويصلى ويومئ برأسه

__________________

(١) سورة النساء الآية ١٠٢.

(٢) الوسائل الباب ٣ من صلاة الخوف والمطاردة.

٢٩١

إيماء وهو قائم وان كان الأسد على غير القبلة».

وما رواه الشيخ في التهذيب عن إسحاق بن عمار عن من حدثه عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) «في الذي يخاف السبع أو يخاف عدوا يثب عليه أو يخاف اللصوص يصلى ـ على دابته إيماء ـ الفريضة».

وما رواه في الفقيه عن زرارة في الصحيح (٢) قال : «الذي يخاف اللصوص يصلى إيماء على دابته».

وعن عبد الرحمن بن ابى عبد الله عن الصادق عليه‌السلام (٣) في حديث قال : «ومن تعرض له سبع وخاف فوت الصلاة استقبل القبلة وصلى صلاته بالإيماء فإن خشي السبع وتعرض له فليدر معه كيف دار وليصل بالإيماء».

قال في المدارك ـ بعد نقل ما قدمناه عن المعتبر من كلامه وما استدل به من الآية والروايتين ثم صحيحة على بن جعفر ـ ما لفظه : وهذه الروايات انما تدل على مساواة صلاة خائف الأسد لخائف العدو في الكيفية أما قصر العدد فلا دلالة لها عليه بوجه ، وما ادعاه من دلالة الآية الشريفة عليه بالفحوى غير واضح ، ومن ثم تردد في ذلك في المنتهى وحكى عن بعض علمائنا قولا بان التقصير في عدد الركعات انما يكون في صلاة الخوف من العدو وخاصة ، والمصير اليه متعين الى أن يقوم على قصر العدد دليل يعتد به. انتهى. وهو جيد فإن غاية ما تدل عليه أخبار المسألة ما ذكره من قصر الكيفية دون الكمية.

ثم ان ظاهر هذه الأخبار ان الصلاة هنا تقصر في الكيفية وتصلى بالإيماء مع عدم إمكان الركوع والسجود وهي صلاة الخوف ، وظاهر بعض الأخبار ايضا انه مع تعذر الإيماء ينتقل إلى صلاة شدة الخوف وهي التسبيحات كما رواه في الفقيه (٤) قال : «وقد رخص في صلاة الخوف من السبع إذا خشيه الرجل على نفسه ان

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ٣ من صلاة الخوف والمطاردة.

(٤) ج ١ ص ٢٩٥ وفي الوسائل الباب ٣ من صلاة الخوف والمطاردة.

٢٩٢

يكبر ولا يومي» رواه محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام). ولفظ الرواية وان كان بالتكبير إلا ان الظاهر كما فهمه الأصحاب (رضوان الله عليهم) من روايات هذا المقام هو التسبيح كما تقدم مثله في اخبار صلاة شدة الخوف من رواية أبي بصير وصحيحة محمد بن عذافر المصرحة بأن هذا تقصير آخر ورواية عبد الله بن المغيرة المتقدم ذلك كله ، وبه عبر في المنتهى في عبارته المتقدمة في سابق هذه المسألة من قوله : «جعل عوض كل ركعة تكبيرة وصورتها : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر».

وظاهر رواية عبد الرحمن بن ابى عبد الله المذكورة هنا هو تأخير الصلاة الى آخر وقتها رجاء لزوال العذر.

وبه صرح الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (١) حيث قال : «إذا كنت راكبا وحضرت الصلاة وتخاف أن تنزل من لص أو سبع أو غير ذلك فلتكن صلاتك على ظهر دابتك ، وتستقبل القبلة وتومئ إيماء إن أمكنك الوقوف وإلا استقبل القبلة بالافتتاح ثم امض في طريقك الذي تريد حيث توجهت بك راحلتك مشرقا ومغربا ، وتومئ للركوع ، والسجود اخفض من الركوع ، وليس لك أن تفعل ذلك إلا في آخر الوقت».

وقال في آخر الباب ايضا (٢) : وإذا تعرض لك سبع وخفت أن تفوت الصلاة فاستقبل القبلة وصل صلاتك بالإيماء فإن خشيت السبع يعرض لك فدر معه كيفما دار وصل بالإيماء كيفما يمكنك. انتهى.

ولم أقف على من تعرض هنا لذلك من الأصحاب ، وهو مؤيد لما سلف نقله عن المرتضى (رضى الله عنه) من وجوب التأخير إلى آخر الوقت على ذوي الأعذار. والله العالم.

المسألة السادسة ـ قد صرح جملة من الأصحاب ـ بل الظاهر انه لا خلاف فيه ـ

__________________

(١ و ٢) ص ١٤.

٢٩٣

بان الموتحل والغريق يصليان بحسب الإمكان فيقصران في الكيفية ، وأما الكمية فلا تقصر إلا في سفر أو خوف.

اما الأول فعلل بان ما لا يتعكن منه ليس بواجب ، قال في الذخيرة بعد نقل ذلك : والمستفاد من ذلك عدم وجوب استيفاء الأفعال ، واما وجوب الإيماء بدله فيحتاج الى دليل آخر وكأنه إجماعي ، والتوصل الى اليقين بالبراءة من التكليف الثابت انما يصحل به. انتهى.

أقول : حاصل كلامه ان مقتضى التعليل المذكور سقوط ما لم يمكن الإتيان به من أفعال الصلاة ، واما انه ينتقل من ذلك الفعل الى بدل آخر فلا دلالة للتعليل عليه إلا من حيث توقف يقين البراءة على ذلك.

وفيه انه لما كان المعهود من الشرع في غير موضع هو أنه مع تعذر الأفعال المعهودة في الصلاة ينتقل منها إلى أشياء جعلها الشارع بدلا عنها مع تعذرها فالواجب هنا الجري على ذلك ، وتوضيحه ان الصلاة المأمور بها شرعا تقع على أنحاء عديدة ومراتب متفاوتة باعتبار حال المكلف قوة وضعفا ، فكل ما أمكن منها في هذه المراتب أصالة أو بدلا وجب الإتيان به وما لم يمكن يسقط ، ومن جملة ذلك الركوع والسجود فإنه مع تعذره ينتقل منه الى الإيماء والقيام ينتقل منه الى القعود ثم الى الاضطجاع على ما تقدم تفصيله في محله ، وهكذا «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ» (١).

واما الثاني فعلل بان مقتضى الأصل وجوب الإتمام قام الدليل على وجوب التقصير في الكمية حال السفر والخوف فوجب استثناؤه وبقي ما بقي ومنه محل البحث إلا ان شيخنا الشهيد في الذكرى قال بعد ذكر الحكم المذكور : نعم لو خاف من إتمام الصلاة استيلاء الغرق عليه ورجا عند قصر العدد سلامته وضاق الوقت فالظاهر انه يقصر العدد أيضا.

__________________

(١) سورة القيامة الآية ١٤.

٢٩٤

واستحسنه الشهيد الثاني في الروض حيث قال بعد نقله : وهو حسن حيث انه يجوز له الترك فقصر العدد أولى ، لكن في سقوط القضاء بذلك نظر لعدم النص على جواز القصر هنا ، ووجه السقوط حصول الخوف في الجملة كما مر ، والحاصل ان علية مطلق الخوف توجب تطرق القصر الى كل خائف ووجهه غير واضح إذ لا دليل عليه والوقوف مع النصوص عليه بالقصر أوضح. انتهى.

قال في المدارك : وما ذكره (قدس‌سره) من وجوب القضاء بعيد لانه لا يلائم ما استحسنه من جواز قصر العدد ، إذ مقتضاه وجوب الإتيان بالصلاة المقصورة وإذا وجب الأداء سقط القضاء ، ومع ذلك فما استدل به على جواز القصر ضعيف جدا إذ لا يلزم من جواز ترك الصلاة للعجز جواز قصرها على هذا الوجه. وبالجملة فاللازم من ما اعترف به من انتفاء دليل القصر مساواة حكم التمكن من الركعتين لحكم التمكن من الركعة الواحدة خاصة في عدم وجوب الإتيان بها منفردة. انتهى. ونسج على منواله صاحب الذخيرة أيضا كما هي قاعدته غالبا.

أقول : ما ذكره شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) هنا لا يخلو من قرب وان اعترضوا عليه بما ذكروه ، فان مرجع كلامه إلى الأخذ بالاحتياط في المسألة حيث انها غير منصوصة والأدلة فيها من الطرفين متدافعة ، لاحتمال دخولها تحت مسألة الخوف فيكون الحكم فيها هو التقصير واحتمال قصر التقصير في صلاة الخوف على موارد النصوص وليس هذه منها فيجب القضاء تماما بعد زوال العذر. ولا ريب ان هذا هو الأحوط في المقام.

والظاهر انه لما ذكره في الذكرى عد المحقق في المعتبر الغرق في مسألة الخوف من السبع واللص التي حكموا فيها بوجوب التقصير كمية وكيفية كما تقدم في عبارته ثم عده في مسألة الموتحل التي قد صرح فيها بعدم قصر الكمية وإلا لزم التدافع بين كلاميه. والله العالم بحقائق أحكامه ونوابه القائمون بمعالم حلاله وحرامه.

٢٩٥

المقصد الرابع في صلاة المسافر

لا خلاف نصا وفتوى في سقوط أخيرتي الرباعية في السفر الجامع للشرائط الآتية ، وكذا لا خلاف في سقوط نافلتها إلا الوتيرة فان المشهور سقوطها والأظهر العدم ، وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك في مقدمات هذا الكتاب.

روى الصدوق (عطر الله مرقده) في الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم (١) انهما قالا : «قلنا لأبي جعفر عليه‌السلام ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي وكم هي؟ فقال ان الله عزوجل يقول «وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ» (٢) فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر. قالا قلنا إنما قال الله عزوجل (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ)» ولم يقل «افعلوا» فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ فقال عليه‌السلام أو ليس قد قال الله عزوجل «إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» (٣) ألا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض لان الله عزوجل ذكره في كتابه وصنعه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ وكذلك التقصير شي‌ء صنعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكره الله في كتابه. قالا قلنا فمن صلى في السفر أربعا أيعيد أم لا؟ قال ان كان قد قرئت عليه آية التقصير وفسرت له فصلى أربعا أعاد وان لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا اعادة عليه. والصلاة كلها في السفر الفريضة ركعتان كل صلاة إلا المغرب فإنها ثلاث ليس فيها تقصير تركها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في السفر والحضر ثلاث ركعات. وقد سافر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ذي خشب وهي مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان أربعة وعشرون ميلا فقصر وأفطر فصارت سنة. وقد سمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوما صاموا حين أفطر «العصاة» قال فهم العصاة إلى يوم القيامة وانا لنعرف أبناءهم وأبناء أبنائهم إلى يومنا هذا».

__________________

(١) الفقيه ج ١ ص ٢٧٨ وفي الوسائل الباب ٢٢ و ١٧ و ١ من صلاة المسافر.

(٢) سورة النساء الآية ١٠٢.

(٣) سورة البقرة الآية ١٥٣.

٢٩٦

وروى الصدوق في كتاب الخصال بسنده عن الأعمش عن الصادق عليه‌السلام (١) في حديث قال : «ومن لم يقصر في السفر لم تجز صلاته لانه قد زاد في فرض الله عزوجل».

وروى في كتاب ثواب الأعمال بسنده فيه عن على بن ابى طالب عليه‌السلام (٢) قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خياركم الذين إذا سافروا قصروا وأفطروا».

ومنه في الصحيح عن محمد بن أحمد الأشعري رفعه الى ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «من صلى في سفره أربع ركعات متعمدا فأنا الى الله عزوجل منه بري‌ء». وفي المقنع مرسلا مثله ومثل الخبر السابق (٤).

وروى ثقة الإسلام عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٥) قال : «الصلاة في السفر ركعتان ليس قبلهما ولا بعدهما شي‌ء إلا المغرب فان بعدها أربع ركعات. الحديث».

وعن سماعة في الموثق (٦) قال : «سألته عن الصلاة في السفر قال ركعتان ليس قبلهما ولا بعدهما شي‌ء إلا انه ينبغي للمسافر أن يصلى بعد المغرب أربع ركعات. الخبر».

وروى الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٧) قال : «سألته عن الصلاة تطوعا في السفر قال لا تصل قبل الركعتين ولا بعدهما شيئا نهارا».

وعن حذيفة بن منصور في الصحيح عن ابى جعفر وابى عبد الله (عليهما‌السلام) (٨) انهما قالا : «الصلاة في السفر ركعتان ليس قبلهما ولا بعدهما شي‌ء».

__________________

(١) الوسائل الباب ١٧ من صلاة المسافر.

(٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٢٢ من صلاة المسافر.

(٥ و ٦) الوسائل الباب ٢٤ من أعداد الفرائض.

(٧ و ٨) الوسائل الباب ٢١ من أعداد الفرائض.

٢٩٧

وعن أبي يحيى الحناط (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن صلاة النافلة بالنهار في السفر قال يا بنى لو صلحت النافلة في السفر تمت الفريضة».

وأما ما ورد في شواذ الأخبار (٢) ـ من قضاء صلاة النهار في السفر بالليل ـ فحمله الشيخ على محامل بعيدة والأقرب خروجه مخرج التقية (٣).

إذا عرفت ذلك فاعلم ان البحث في هذا المقصد يقع في مطلبين الأول ـ في شروط هذه الصلاة وهي على ما صرح به الأصحاب ستة إلا انها في التحقيق ـ وبه نطقت النصوص ـ سبعة.

الأول ـ اعتبار المسافة والكلام هنا يقع في مقامين الأول : أجمع العلماء من الخاصة والعامة على ان المسافة شرط في التقصير (٤) وانما الخلاف في قدرها ، فذهب علماؤنا أجمع (رضوان الله عليهم) الى ان القصر انما يجب في مسيرة يوم تام بريدين ثمانية فراسخ أربعة وعشرون ميلا ، حكى إجماعهم على ذلك المحقق في المعتبر وغيره في غيره.

ويدل عليه من الأخبار صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم المتقدمة (٥) وما رواه

__________________

(١) الوسائل الباب ٢١ من أعداد الفرائض.

(٢) الوسائل الباب ٢٢ من أعداد الفرائض.

(٣) لم نقف على المسألة بعنوانها في كتبهم نعم في المغني ج ٢ ص ٢٩٤ قال أحمد أرجو ان لا يكون بالتطوع في السفر بأس ، وروى عن الحسن قال كان أصحاب رسول الله (ص) يسافرون فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها ، روى ذلك عن عمر وعلى وابن مسعود وجابر وانس وابن عباس وابى ذر وجماعة من التابعين كثير ، وهو قول مالك والشافعي وإسحاق وابى ثور وابن المنذر ، وكان ابن عمر لا يتطوع مع الفريضة قبلها ولا بعدها إلا من جوف الليل ونقل ذلك عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعلى بن الحسين.

(٤) في عمدة القارئ ج ٣ ص ٥٣١ «اختلف العلماء في المسافة التي تقصر فيها الصلاة.» والظاهر منه ان اعتبار المسافة اتفاقي.

(٥) ص ٢٩٦.

٢٩٨

الشيخ في الصحيح عن أبي أيوب عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «سألته عن التقصير فقال في بريدين أو بياض يوم».

وعن على بن يقطين في الصحيح (٢) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام الأول عن الرجل يخرج في سفره وهو مسيرة يوم قال يجب عليه التقصير إذا كان مسيرة يوم وان كان يدور في عمله».

وعن ابى بصير في الصحيح (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام في كم يقصر الرجل؟ قال في بياض يوم أو بريدين».

وعن عبد الله بن يحيى الكاهلي في الحسن (٤) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول في التقصير في الصلاة قال بريد في بريد أربعة وعشرون ميلا».

وعن سماعة في الموثق (٥) قال : «سألته عن المسافر في كم يقصر الصلاة؟ قال في مسيرة يوم وذلك بريدان وهما ثمانية فراسخ. الحديث».

وعن عيص بن القاسم في الحسن أو الموثق عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٦) قال : «في التقصير حده أربعة وعشرون ميلا».

وروى الصدوق بسند معتبر عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه‌السلام (٧) قال «وانما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقل من ذلك ولا أكثر لأن ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامة والقوافل والأثقال فوجب التقصير في مسيرة يوم. قال : ولو لم يجب في مسيرة يوم لما وجب في مسيرة ألف سنة وذلك لأن كل يوم يكون بعد هذا اليوم فإنما هو نظير هذا اليوم فلو لم يجب في هذا اليوم لما وجب في نظيره».

وأما ما رواه الصدوق في الصحيح عن زكريا بن آدم (٨) ـ «انه سأل أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن التقصير في كم يقصر الرجل إذا كان في ضياع أهل بيته وامره جائز فيها يسير في الضياع يومين وليلتين وثلاثة أيام ولياليهن؟ فكتب : التقصير في مسيرة يوم وليلة».

وما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن احمد بن محمد بن ابى نصر عن

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦ و ٧ و ٨) الوسائل الباب ١ من صلاة المسافر.

٢٩٩

ابى الحسن الرضا عليه‌السلام (١) قال : «سألته عن الرجل يريد السفر في كم يقصر؟ قال في ثلاثة برد».

وعن ابى بصير عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «لا بأس للمسافر ان يتم في السفر مسيرة يومين». ـ

فالظاهر حملها على التقية كما أجاب به الشيخ عن الخبرين الأخيرين حيث قال انهما غير معمول عليهما لموافقتهما العامة. وهكذا ينبغي أن يقال في الخبر الأول.

ولا بأس بالإشارة هنا إلى أقوال العامة في اعتبار المسافة وعدمها وقدرها كما ذكره بعض مشايخنا المحدثين من متأخري المتأخرين.

فنقول : اعلم ان بعضا منهم لم يشترط مسافة مخصوصة بل ذهب الى انه متى صدق عليه اسم المسافر فله القصر ، ونقل ذلك عن داود ومحمد بن لحسن. والمشهور اعتبار المسافة لكن اختلفوا في قدرها فنقلوا عن دحية الكلبي انها فرسخ ، ونقل عن بعض قدمائهم انها روحة أي ثمانية فراسخ ، وعن آخر انها يوم وليلة ، وعن بعض مسيرة ثلاثة أيام ، ونسب هذا الى ابى حنيفة وجماعة (٣) وستأتي هذه الأقوال الثلاثة في مرسلة محمد بن يحيى الخزاز ، ومن هنا يعلم ان ما دل عليه صحيح زكريا بن آدم المذكور من التقدير بيوم وليلة موافق لبعض أقوالهم كما عرفت. وعن جمع منهم أنها ثلاثة برد يعني اثنى عشر فرسخا (٤) ومنه يعلم ان ما تضمنه صحيح البزنطي من تفسيرها بذلك فإنه موافق لهذا القول. وعن جملة منهم الشافعي ومالك كونها مسيرة يومين عبارة عن ستة عشر فرسخا (٥) ومنه يعلم ان ما اشتملت عليه رواية أبي بصير من تحديدها بيومين فإنها خرجت مخرج هذا القول.

إذا عرفت ذلك فتحقيق الكلام في هذا المقام يتوقف على بسطه في موارد : أولها ـ قد عرفت ان المسافة الموجبة للتقصير ثمانية فراسخ ، والفرسخ عندهم ثلاثة

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١ من صلاة المسافر.

(٣ و ٤ و ٥) عمدة القارئ ج ٣ ص ٥٣١ والمجموع للنووي ج ٤ ص ٣٢٥.

٣٠٠