الحدائق الناضرة - ج ١١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٠

وتابعه نفلا ، فان وافق حال تشهده حال قيام الأول فليقتصر في تشهده على الشهادتين والصلاة على النبي وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويسلم إيماء ويقوم مع الامام. وعلى هذا تدل موثقة سماعة المتقدمة.

وقال الشيخ على بن بابويه : فإذا صليت أربع ركعات وقام الإمام إلى رابعته فقم معه وتشهد من قيام وسلم من قيام. وعلى هذا القول يدل كلامه عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي ، بل الظاهر ان الشيخ المزبور إنما أخذ عبارته من الكتاب المذكور كما لا يخفى على من تأمل العبارتين لتطابقهما لفظا وكذلك ما قبل هذه العبارة ، فإن العلامة في المختلف في موضع آخر نقلها عن الشيخ المذكور بعين عبارة الكتاب ، وهو من قبيل ما عرفت في غير موضع من ما تقدم وستعرف أمثاله من أخذ الشيخ المزبور عبارات الكتاب المشار اليه والإفتاء بها.

وكيف كان فطريق الجمع بين الكلامين ـ وهو يرجع الى الجمع بين الخبرين المذكورين ـ هو ما ذكره في المختلف من انه ان تمكن المأموم من تخفيف الشهادتين والتسليم والإتيان بهما جالسا وجب وإلا قام مع الامام وتشهد وسلم قائما لضرورة التقية فإنها تبيح ذلك وأمثاله. والله العالم.

المسألة السابعة ـ قال شيخنا العلامة أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني (طيب الله مرقده) في رسالته التي في الصلاة : وفي جواز الاقتداء بمن علم نجاسة ثوبه أو بدنه نظر. واستوجه المحقق الشيخ على المنع وبعض المتأخرين الجواز ولا يخلو من قوة. انتهى. ولم ينبه على وجه القوة التي اختارها في حواشي رسالته كما جرى عليه غالبا في حواشيه.

وقال تلميذه المحدث الصالح شيخنا الشيخ عبد الله بن صالح (قدس‌سره) في شرحه على الرسالة المذكورة بعد قوله «نظر» وبيان وجه النظر ما لفظه : ينشأ من أن الامام غافل فتكون صلاته صحيحة فيكون الاقتداء به صحيحا ، ومن ان طهارة الثوب والبدن واجب في الصلاة مع العلم وصلاة المأموم متحدة بصلاة الإمام

٢٦١

فتكون كأنها في ثوبه أو بدنه. ثم قال (قدس‌سره) بعد قول المصنف ـ واستوجه الشيخ على المنع ـ ما لفظه : لما مر. ثم قال بعد قوله : «ولا يخلو من قوة» ما لفظه : لما مر وعدم صلاحية المعارض للمعارضة وان كان الاحتياط لا يخفى. انتهى.

أقول : لا يخفى ما في كلام شيخنا الشارح المذكور وما ذكره من التعليل العليل الظاهر القصور كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى غاية الظهور.

ومن ما يناسب هذا المقام ويدخل في سلك هذا النظام ما وقفت عليه من مسألة مذيلة بالجواب لبعض الأعلام حيث قال السائل ما هذه صورته : لو رأى المأموم في أثناء الصلاة في ثوب الإمام نجاسة غير معفو عنها فهل يجوز له الاقتداء في تلك الحال أم لا؟ وهل يجب عليه إعلامه أم لا؟ ولو لم يجز له الاقتداء فهل يبنى بعد نية الانفراد على ما مضى أم يعيد من رأس؟ فكتب المسؤول ما صورته : الجواب الأولى عدم الائتمام ويجب الاعلام ويجب الانفراد في الأثناء ويبنى على قراءة الإمام. انتهى.

أقول وبالله سبحانه التوفيق لإدراك كل مأمول ونيل كل مسؤول : أما ما ذكره هذا المجيب من وجوب الاعلام في هذه الصورة فقد صرح به العلامة (أجزل الله تعالى إكرامه) في أجوبة مسائل السيد السعيد منها بن سنان المدني (طاب ثراه) مستندا الى كونه من باب الأمر بالمعروف.

ولا يخفى ما فيه (اما أولا) ـ فلان الأصل عدمه وأدلة الأمر بالمعروف لا تشمله لعدم توجه الخطاب الى الجاهل والغافل والناسي كما ذكروه فلا معروف ولا منكر بالنسبة إليهما.

وثانيا ـ دلالة الأخبار على خلافه فإن جملة ما وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بجزئيات هذه المسألة ترد ما ذكروه وتبطل ما حروره :

ومنها ـ صحيحة عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) «ان الباقر عليه‌السلام اغتسل وبقيت لمعة في جسده لم يصبها الماء فقيل له فقال ما كان عليك لو سكت؟».

__________________

(١) الوسائل الباب ٤١ من الجنابة و ٤٧ من النجاسات.

٢٦٢

ورواية محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام (١) قال : «سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دما وهو يصلى؟ فقال لا يؤذنه حتى ينصرف». وهي صريحة في المطلوب خالية عن جهات العيوب.

ورواية عبد الله بن بكير المروية في كتاب قرب الاسناد (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلى فيه وهو لا يصلى فيه؟ فقال لا يعلمه.

قلت فإن أعلمه؟ قال يعيد».

والمستفاد من هذه الأخبار كراهية الأخبار فضلا عن جوازه فكيف الوجوب وله مؤيدات كثيرة من الأخبار.

إذا عرفت ذلك فنقول بالنسبة إلى أصل المسألة وما وقع فيها من القولين بجواز الاقتداء والمنع ان الظاهر ان القول بالمنع هنا مبنى على مسألة أخرى وهي ان من صلى في النجاسة جاهلا بها فهل تكون صلاته والحال هذه صحيحة أم لا؟ المشهور الثاني وان كان غير معاقب ولا مؤاخذ من حيث الجهل ، وهو يرجع الى أن تكون صحيحة ظاهرا باطلة واقعا ، والظاهر انه على هذا القول يتجه المنع من الائتمام بمن كان بدنه أو ثوبه نجسا والانفراد في الأثناء كما ذكره المجيب المتقدم لتبين بطلان الصلاة عند المأموم وان كانت صحيحة ظاهرا عند الامام لمكان جهله ، وحينئذ فيتجه عدم جواز الاقتداء ووجوب الانفراد في الأثناء.

إلا ان الظاهر عندي في هذه المسألة إنما هو القول الأول (أما أولا) ـ فلما تقدم تحقيقه في كتاب الطهارة من أن الحكم بالطهارة والنجاسة والحل والحرمة ونحوها ليس منوطا بالواقع ونفس الأمر وانما ترتب على نظر المكلف وعلمه وعدم علمه ، فالطاهر شرعا هو ما لا يعلم المكلف بملاقاة النجاسة له وان لاقته واقعا لا ما لم تلاقه النجاسة واقعا ، ويقابله النجس وهو ما علم المكلف بملاقاة النجاسة له لا ما لاقته النجاسة وان لم يعلم بها ، وحينئذ فإذا صلى

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٤٧ من النجاسات.

٢٦٣

المكلف في ثوب لم يعلم ملاقاة النجاسة له ومثله في بدنه فقد امتثل ما أمره الشارع به ويلزم منه كون صلاته صحيحة موجبة للثواب بغير شك ولا ارتياب.

و (اما ثانيا) ـ فلما أسلفنا من الأخبار الدالة على المنع من الاخبار بالنجاسة وان كان في أثناء الصلاة ، ولو كان الأمر كما يدعونه من كون وصف النجاسة والطهارة ونحوهما انما هو باعتبار الواقع ونفس الأمر وان تلبس المصلي بالنجاسة جاهلا موجب لبطلان صلاته واقعا فكيف يحسن من الامام عليه‌السلام المنع من الإيذان بها والاخبار في الصلاة كما تضمنته رواية محمد بن مسلم أو قبلها كما في رواية ابن بكير؟ وهل هو بناء على ما ذكروه إلا من باب التقرير له على تلك الصلاة الباطلة والمعاونة على الباطل ، ولا ريب في بطلانه.

و (اما ثالثا) ـ فإنه يلزم على ما ذكروه عدم الجزم بصحة شي‌ء من العبادات إلا نادرا لشيوع تطرق النجاسات سيما من النساء والأطفال ومن لا يحترز عن النجاسة وسريان ذلك في عامة الناس ، وقد اعترف بذلك شيخنا الشهيد الثاني في شرح الألفية وألزم به القول المشهور.

وبما ذكرنا يظهر لك ان الأظهر في أصل المسألة هو القول بجواز الاقتداء وان علم بالنجاسة في بدن الإمام أو ثوبه وعدم وجوب الانفراد. ومن أراد تحقيق المسألة زيادة على ما ذكرناه فليرجع الى كتابنا الدرر النجفية من الملتقطات اليوسفية. والله العالم.

المقصد الثالث في صلاة الخوف

وهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع من علمائنا كملا وجمهور الجمهور (١)

__________________

(١) في المغني ج ٢ ص ٤٠٠ صلاة الخوف ثابتة بالكتاب والسنة ، وجمهور العلماء متفقون على ان حكمها باق بعد النبي (ص) وقال أبو يوسف انما تختص بالنبي (ص) وليس بصحيح فان ما ثبت في حقه ثبت في حقنا إلا ان يدل دليل على الاختصاص به. ونحو ذلك في بدائع الصنائع ج ١ ص ٢٤٢.

٢٦٤

قال عزوجل : «وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ... الآية» (١).

وتحقيق الكلام في هذا المقام يتوقف على بسطه في مسائل الأولى ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم في وجوب التقصير في صلاة الخوف إذا وقعت سفرا وانما الخلاف في ما إذا وقعت حضرا ، فنقل عن الأكثر ومنهم ـ المرتضى والشيخ في الخلاف وابن الجنيد وابن ابى عقيل وابن البراج وابن إدريس إنهم ذهبوا الى وجوب التقصير سفرا وحضرا جماعة وفرادى ، وقال الشيخ في المبسوط انها انما تقصر في الحضر بشرط الجماعة ونسبه الشهيد الى ابن إدريس وظاهر جماعة من الأصحاب ، وحكى المحقق في المعتبر وقبله ابن إدريس في السرائر قولا عن بعض الأصحاب بأنها إنما تقصر في السفر خاصة ، وحينئذ ففي المسألة أقوال ثلاثة ، والسيد السند في المدارك قد نسب القول الأول الى ابن إدريس والشهيد في الذكرى نسب اليه القول الثاني ، وظاهر الذي وقفت عليه في السرائر من عبارته في هذه المسألة انما يدل على ما ذكره في المدارك ، حيث قال : واعلم ان الخوف إذا انفرد عن السفر لزم فيه التقصير في الصلاة مثل ما يلزم في السفر إذا انفرد على الصحيح من المذهب ، وقال بعض أصحابنا لا قصر إلا في حال السفر والأول عليه العمل. وظاهره فيه الاقتصار على نقل القول الأول والثالث ، وأما الثاني فلم يتعرض له فنقل الشهيد (قدس‌سره) ذلك عنه لا يخلو من غفلة. وصاحب الذخيرة قد نقل عنه القولين تبعا للقولين وهو غير جيد لما عرفت من ظهور عبارته في ما ذكره في المدارك ، واحتمال كون ذلك في غير كتاب السرائر بعيد جدا.

واستدل على القول المشهور بقوله عزوجل «وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ» (٢) قيل : والتقريب فيها ان الظاهر انه ليس المراد بالضرب سفر التقصر وإلا لم يكن في التقييد بالخوف فائدة.

وبقوله تعالى «وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ

__________________

(١) سورة النساء الآية ١٠٣.

(٢) سورة النساء الآية ١٠٢.

٢٦٥

وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ» (١) وهي مطلقة في الاقتصار على الركعتين شاملة بإطلاقها للحضر والسفر

وما رواه ابن بابويه في الصحيح عن زرارة عن ابى جعفر عليه‌السلام (٢) قال : «قلت له صلاة الخوف وصلاة السفر تقصران جميعا؟ قال نعم ، وصلاة الخوف أحق أن تقصر من صلاة السفر الذي لا خوف فيه».

وأورد على ذلك ، اما بالنسبة الى الآية الأولى فلان حمل الضرب في الأرض على غير سفر القصر عدول عن الظاهر ، مع انه غير نافع فان مجرد الخوف كاف للقصر على قولهم من غير توقف على الضرب في الأرض. والظاهر ان المراد بالضرب سفر القصر والتقييد بالخوف إما لوجود الخوف في السفر حين نزول الآية أو يكون قد خرج مخرج الأعم الأغلب في أسفارهم فإنهم كانوا يخافون الأعداء في عامتها ، وربما يدعى لزوم الخوف في السفر غالبا. وبالجملة المفهوم انما يعتبر إذا لم يكن للتقييد فائدة أخرى وههنا ليس كذلك. ويؤيد ما ذكرناه القراءة بترك «ان خفتم» وعلى قول من يقول ان التقصير في الخوف ليس كالتقصير في السفر كما سيجي‌ء فأثر التقييد واضح ، وكذا على القول بان المراد بالقصر في الآية القصر من حدود الصلاة كما يصلى في شدة الخوف.

وأما الثانية فإنها تتمة للآية السابقة ، والظاهر ان معناها «وإذا كنت يا محمد فيهم يعني في أصحابك الضاربين في الأرض الخائفين عدوهم» كما قاله الطبرسي في مجمع البيان ، وهو يقتضي اتصالها بما قبلها وسياقها مع شأن نزولها فلا عموم لها ، مع انه لا دلالة لها على القصر فرادى.

واما الرواية فيمكن المناقشة فيها بأنه يجوز أن يكون المراد بالتقصير القصر في حدود الصلاة لا في ركعاتها كما قيل في الآية لكنه بعيد.

__________________

(١) سورة النساء الآية ١٠٣.

(٢) الوسائل الباب ١ من صلاة الخوف والمطاردة وفيه بدل «الذي.» «لأن فيها خوفا».

٢٦٦

أقول : لا ريب ان ما ذكره من المناقشة في الآيتين المذكورتين لا يخلو من وجه ، وأما المناقشة في الرواية فهي ضعيفة واهية لما عرفت في غير مقام من ان الألفاظ إنما تحمل على ما هو المتكرر الشائع من الأفراد دون الفروض النادرة الوقوع ، والتقصير في الصلاة عرفا وشرعا انما يتبادر الى نقص الكمية ، وحينئذ فالاعتماد في الدلالة هنا على الرواية المذكورة وإطلاقها شامل للحضر والسفر جماعة وفرادى.

واستدل في الذكرى بعد هذه الرواية بما في حسن محمد بن عذافر عن الصادق عليه‌السلام (١) «إذا جالت الخيل تضطرب بالسيوف أجزأه تكبيرتان». قال : وهو ظاهر في الانفراد لبعد الجماعة في هذه الحال.

وأما القول بأنها لا تقصر إلا في السفر خاصة فلم أقف له على دليل إلا ما يدل عليه ظاهر كلام الذكرى من الاقتصار على موضع الوفاق وأصالة إتمام الصلاة. ثم قال في الذكرى : وجوابه انما يقتصر مع عدم الدليل وهو ظاهر الثبوت. انتهى.

وأما القول بأنها تقصر في الحضر بشرط الجماعة فعلله في الذكرى بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انما قصرها في الجماعة. ثم أجاب عنه بأنه انما كان لوقوع ذلك لا لكونه شرطا إذا عرفت ذلك فاعلم ان المشهور في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم ان هذا القصر على حسب قصر المسافر من إرجاع الرباعية إلى ركعتين ، وقال ابن الجنيد : فان كانت الحالة الثالثة وهي مصافة الحرب والموافقة والتعبئة والتهيؤ للمناوشة من غير بداية صلى الإمام بالفرقة الأولى ركعة وسجد سجدتين ثم انصرفوا وسلم القوم بعضهم على بعض في مصافهم ، وقد روى عن ابى جعفر محمد بن على عليهما‌السلام (٢) ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صلى كذلك بعسفان ،. وروى ذلك عن

__________________

(١) الوسائل الباب ٤ من صلاة الخوف والمطاردة.

(٢) لم نقف عليه في كتب الحديث.

٢٦٧

حذيفة بن اليمان وجابر وابن عباس وغيرهم (١) وقال بعض الرواة وكانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ركعتان ولكل طائفة ركعة ركعة.

وقال ابن بابويه (٢) سمعت شيخنا محمد بن الحسن يقول : رويت انه سئل الصادق عليه‌السلام عن قول الله عزوجل «وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا» (٣) فقال هذا تقصير ثان وهو أن يرد الرجل ركعتين إلى ركعة. انتهى.

أقول : لعل ما أشار إليه من الرواية هو ما رواه الشيخ في الصحيح عن حريز عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٤) «في قول الله عزوجل (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)؟ قال في الركعتين تنقص منهما واحدة». ونقل عن ابن الجنيد القول بذلك كما عرفت من عبارته المذكورة.

ويرد هذا القول الأخبار المتكاثرة بكيفية صلاة الخوف كما سيأتي ذكرها ان شاء الله تعالى. والظاهر حمل الرواية المذكورة على التقية (٥).

قال في الذخيرة بعد ذكر هذا القول : وهو المحكي عن جماعة من الصحابة والتابعين في تفسير القصر المذكور في الآية.

وقال في الذكرى : وقال ابن الجنيد بهذا المذهب وان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صلى كذلك بعسفان برواية الباقر عليه‌السلام (٦) وجابر وابن عباس وحذيفة ، وقال بعض الرواة فكانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ركعتان ولكل طائفة ركعة ركعة. ثم قال في الذكرى : وهذا القول نادر والرواية (٧) وان كانت صحيحة إلا أنها معارضة بأشهر منها عملا ونقلا ،

__________________

(١) سنن ابى داود ج ٢ ص ١١ عن جابر وابن عباس ومجاهد وهشام بن عروة عن أبيه وابى موسى. وفي الصفحة ١٧ ذكر حديث حذيفة في كيفية صلاة الخوف وليس فيه ذكر الموضع.

(٢) الفقيه ج ١ ص ٢٩٥.

(٣) سورة النساء الآية ١٠٢.

(٤ و ٧) التهذيب ج ١ ص ٣٣٨ وفي الوسائل الباب ١ من صلاة الخوف والمطاردة.

(٥) ارجع الى التعليقة ١ ص ٢٦٩.

(٦) تقدم عدم الوقوف عليها.

٢٦٨

ثم أورد بعض الأخبار الدالة على القول المشهور.

واحتمل في الذخيرة حمل الرواية على انه لما كان كل طائفة انما تصلى مع الإمام ركعة فكأن صلاته ردت إليها.

أقول : ومن المحتمل قريبا تخصيص الرواية بحال الخوف من إتمام الركعتين بمعنى ان الحال أضيق والخوف أشد من الحالة الموجبة للركعتين فيقتصر على الركعة ، فتكون هذه المرتبة أول مراتب الانتقالات الآتية في هذه الصلاة. والأظهر هو الحمل على التقية (١).

المسألة الثانية ـ من صلاة الخوف المذكورة في كلام الأصحاب صلاة ذات الرقاع ، والنظر في شروطها وكيفيتها وأحكامها :

أما الشروط فهي على ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم أربعة : أحدها ـ كون الخصم في غير جهة القبلة بحيث لا يمكنهم مقابلته وهم يصلون إلا بالانحراف عن القبلة ، وعلى هذا لو كان العدو في جهة القبلة وأمكن أن يصلوا جميعا ويحرس بعضهم بعضا صلوا صلاة عسفان الآتية ان شاء الله تعالى.

وهذا الشرط هنا بناء على المشهور ، قال في المدارك : وهو مقطوع به في كلام أكثر الأصحاب ، واستدلوا عليه بان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما صلاها كذلك فيجب

__________________

(١) في عمدة القارئ ج ٣ ص ٣٢٩ : اعلم ان الخوف لا يؤثر في نقصان عدد الركعات إلا عند ابن عباس والحسن البصري وطاوس حيث قالوا إنها ركعة ، وروى مسلم من حديث مجاهد عن ابن عباس «ان الله فرض الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة» أخرجه الأربعة أيضا ، واليه ذهب عطاء وطاوس ومجاهد والحكم بن عتيبة وقتادة وإسحاق والضحاك ، وروى مثله عن زيد بن ثابت وابى هريرة وجابر ، قال جابر انما القصر ركعة عند القتال. وقال إسحاق تجزئك عند الشدة ركعة تومئ إيماء فان لم تقدر فكبر تكبيرة حيث كان وجهك. وقال القاضي لا تأثير للخوف في عدد الركعات ، وهذا قول أكثر أهل العلم منهم ابن عمر والنخعي والثوري ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه ، وسائر أهل العلم من علماء الأمصار لا يجيزون ركعة.

٢٦٩

متابعته. واستوجه العلامة في التذكرة عدم اعتباره لعدم المانع من فعلها بدونه ، قال : وفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقع اتفاقا لا لأنه كان شرطا. ورجحه الشهيدان.

وثانيها ـ أن يكون الخصم ذا قوة يخاف هجومه على المسلمين فلو كان ضعيفا بحيث يؤمن منه الهجوم انتفى الخوف المسوغ لهذه الصلاة.

وثالثها ـ أن يكون في المسلمين كثرة تمكنهم الافتراق طائفتين تقاوم كل فرقة منهم العدو حال صلاة الأخرى.

ورابعها ـ عدم احتياجهم إلى زيادة على الفرقتين ، وهذا الاشتراط في الثنائية واضح لتعذر التوزيع بدونه ، وأما في الثلاثية فهل يجوز توزيعهم ثلاث فرق وتخصيص كل ركعة بفرقة؟ قولان واختار الشهيد الجواز ، وهو مبنى على جواز الانفراد اختيارا وإلا اتجه المنع.

وأما الكيفية فهي ان يصلى الإمام بالطائفة الأولى ركعة والثانية تحرسهم واقفه بإزاء العدو ثم يقوم الامام ومن خلفه الى الثانية ، فينفرد الجماعة الذين خلفه ويقرأون لأنفسهم ويطول الإمام في قراءته بقدر ما يتم الطائفة الذين خلفه وينصرفون الى موقف أصحابهم ، وتجي‌ء الطائفة الأخرى وتدخل مع الامام فيكبرون ثم يركع الامام بهم ويسجد ، وتقوم الجماعة فتصلي ركعة أخرى ويطيل الامام تشهده ويتمون فيسلم بهم الامام. ويتخير الإمام في الثلاثية بين ان يصلى بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين وبالعكس.

وأما الأحكام فسيأتي ان شاء الله تعالى فيها الكلام.

والواجب أو لا بسط ما وقفنا عليه من اخبار المسألة ثم الكلام بتوفيق الملك العلام في ما يدخل في حين المقام.

فنقول : منها ـ ما رواه ثقة الإسلام في الصحيح أو الحسن عن الحلبي (١) قال «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن صلاة الخوف؟ قال يقوم الامام وتجي‌ء طائفة من

__________________

(١) الوسائل الباب ٢ من صلاة الخوف والمطاردة.

٢٧٠

أصحابه فيقومون خلفه وطائفة بإزاء العدو فيصلي بهم الإمام ركعة ، ثم يقوم ويقومون معه فيمثل قائما ويصلون هم الركعة الثانية ثم يسلم بعضهم على بعض ، ثم ينصرفون فيقومون في مقام أصحابهم ويجي‌ء الآخرون فيقومون خلف الإمام فيصلي بهم الركعة الثانية ، ثم يجلس الامام فيقومون هم فيصلون ركعة أخرى ثم يسلم عليهم فينصرفون بتسليمة. قال وفي المغرب مثل ذلك يقوم الامام وتجي‌ء طائفة فيقومون خلفه ثم يصلى بهم ركعة ، ثم يقوم ويقومون فيمثل الإمام قائما فيصلون ركعتين فيتشهدون ويسلم بعضهم على بعض ، ثم ينصرفون فيقومون في موقف أصحابهم ويجي‌ء الآخرون ويقومون خلف الإمام فيصلي بهم ركعة يقرأ فيها ثم يجلس فيتشهد ثم يقوم ويقومون معه ويصلى بهم ركعة أخرى ، ثم يجلس ويقومون هم فيتمون ركعة أخرى ثم يسلم عليهم».

ومنها ـ ما رواه الصدوق في الصحيح عن عبد الرحمن بن ابى عبد الله عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «صلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأصحابه في غزاة ذات الرقاع ففرق أصحابه فرقتين فأقام فرقة بإزاء العدو وفرقة خلفه فكبر وكبروا فقرأ وأنصتوا فركع وركعوا فسجد وسجدوا ، ثم استمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قائما فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلم بعضهم على بعض ثم خرجوا إلى أصحابهم فقاموا بإزاء العدو ، وجاء أصحابهم فقاموا خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكبر وكبروا وقرأ فأنصتوا وركع فركعوا وسجد وسجدوا ثم جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فتشهد ثم سلم عليهم فقاموا ثم قضوا لأنفسهم ركعة ثم سلم بعضهم على بعض ، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ). ثم ساق الآية في الفقيه الى قوله (كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً)» (٢) ثم قال فهذه صلاة الخوف التي أمر الله عزوجل بها نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال من صلى المغرب في خوف بالقوم صلى بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة الثانية ركعتين».

__________________

(١) الوسائل الباب ٢ من صلاة الخوف والمطاردة.

(٢) سورة النساء الآية ١٠٣ و ١٠٤.

٢٧١

هذه صورة ما في الفقيه (١) وظاهر صاحب الوافي (٢) ان رواية عبد الرحمن الى قوله «ثم سلم بعضهم على بعض» وان قوله «وقد قال الله لنبيه. الى آخره» إنما هو من كلام صاحب الفقيه ولهذا لم ينقله ، وظاهر صاحب الوسائل انه من الرواية حيث انه نقله في جملتها. والكل محتمل. وأما قوله «وقال من صلى المغرب. الى آخره» فالظاهر ان هذه رواية أخرى مرسلة. وصاحب الكافي (٣) روى رواية عبد الرحمن المذكورة كما تقدم الى قوله «فقاموا خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال : «فصلى بهم ركعة ثم تشهد وسلم عليهم فقاموا وصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلم بعضهم على بعض».

ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : «صلاة الخوف المغرب يصلى بالأولين ركعة ويقضون ركعتين ويصلى بالآخرين ركعتين ويقضون ركعة».

ومنها ـ ما رواه في الصحيح عن زرارة عن ابى جعفر عليه‌السلام (٥) انه قال : «إذا كانت صلاة المغرب في الخوف فرقهم فرقتين ، فيصلي بفرقة ركعتين ثم جلس بهم ثم أشار إليهم بيده فقام كل انسان منهم فيصلي ركعة ثم سلموا وقاموا مقام أصحابهم وجاءت الطائفة الأخرى فكبروا ودخلوا في الصلاة وقام الامام فصلى بهم ركعة ثم سلم ثم قام كل رجل منهم فصلى ركعة فشفعها بالتي صلى مع الامام ثم قام فصلى ركعة ليس فيها قراءة ، فتمت للإمام ثلاث ركعات وللأولين ركعتان في جماعة وللآخرين وحدانا ، فصار للأولين التكبير وافتتاح الصلاة وللآخرين التسليم». ورواه العياشي في تفسيره عن زرارة ومحمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه‌السلام مثله (٦) وبإسناده عن الحسين بن

__________________

(١) ج ١ ص ٢٩٣ و ٢٩٤.

(٢) باب صلاة الخائف في القتال.

(٣) باب صلاة الخوف.

(٤ و ٥ و ٦) الوسائل الباب ٢ من صلاة الخوف والمطاردة.

٢٧٢

سعيد عن محمد بن ابى عمير عن عمر بن أذينة عن زرارة وفضيل ومحمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه‌السلام مثل ذلك (١).

ومنها ـ ما رواه الحميري في كتاب قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام (٢) قال : «سألته عن صلاة الخوف كيف هي؟ فقال يقوم الإمام فيصلي ببعض أصحابه ركعة ويقوم في الثانية ويقوم أصحابه ويصلون الثانية ويخففون وينصرفون ، ويأتي أصحابهم الباقون فيصلون معه الثانية فإذا قعد في التشهد قاموا فصلوا الثانية لأنفسهم ثم يقعدون فيتشهدون معه ثم يسلم وينصرفون معه».

ومنها ـ ما رواه في الكتاب المذكور عنه عن أخيه عليه‌السلام (٣) قال : «سألته عن صلاة المغرب في الخوف؟ قال يقوم الامام ببعض أصحابه فيصلي بهم ركعة ثم يقوم في الثانية ويقومون فيصلون لأنفسهم ركعتين ويخففون وينصرفون ، ويأتي أصحابه الباقون فيصلون معه الثانية ثم يقوم إلى الثالثة فيصلي بهم فتكون للإمام الثالثة وللقوم الثانية ثم يقعدون فيتشهد ويتشهدون معه ثم يقوم أصحابه والامام قاعد فيصلون الثالثة ويتشهدون معه ثم يسلم ويسلمون». ورواه على بن جعفر في كتابه وكذا الذي قبله (٤).

ومنها ـ ما رواه العياشي في تفسيره عن ابان بن تغلب عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام (٥) قال : «صلاة المغرب في الخوف ان يجعل أصحابه طائفتين بإزاء العدو واحدة والأخرى خلفه فيصلي بهم ثم ينتصب قائما ويصلون هم تمام ركعتين ثم يسلم بعضهم على بعض ، ثم تأتي الطائفة الأخرى خلفه فيصلي بهم ركعتين ويصلون هم ركعة ، فيكون للأولين قراءة وللآخرين قراءة».

ومنها ـ ما رواه فيه ايضا عن زرارة ومحمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه‌السلام (٦) قال : «إذا حضرت الصلاة في الخوف فرقهم الامام فرقتين فرقة مقبلة على عدوهم

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦) الوسائل الباب ٢ من صلاة الخوف والمطاردة.

٢٧٣

وفرقة خلفه كما قال الله تعالى ، فيكبر بهم ثم يصلى بهم ركعة ثم يقوم بعد ما يرفع رأسه من السجود فيمثل قائما ويقوم الذين صلوا خلفه ركعة فيصلي كل انسان منهم لنفسه ركعة ثم يسلم بعضهم على بعض ، ثم يذهبون إلى أصحابهم فيقومون مقامهم ويجي‌ء الآخرون والامام قائم فيكبرون ويدخلون في الصلاة خلفه فيصلي بهم ركعة ثم يسلم ، فيكون للأولين استفتاح الصلاة بالتكبير وللآخرين التسليم من الامام ، فإذا سلم الامام قام كل انسان من الطائفة الأخيرة فيصلي لنفسه ركعة واحدة ، فتمت للإمام ركعتان ولكل انسان من القوم ركعتان واحدة في جماعة والأخرى وحدانا. الحديث».

هذه جملة ما وقفت عليه من الأخبار الواردة في المسألة.

والكلام يقع في هذا المقام في مواضع الأول ـ في سبب التسمية بذات الرقاع كما اشتمل عليه صحيح عبد الرحمن بن ابى عبد الله ، قال شيخنا الشهيد في الذكرى : اختلف في سبب التسمية بذلك ، فقيل لان القتال كان في سفح جبل فيه جدد حمر وصفر كالرقاع ، وقيل كانت الصحابة حفاة فلفوا على أرجلهم الجلود والخرق لئلا تحترق. قال صاحب المعجم : وقيل سميت برقاع كانت في ألويتهم ، وقيل الرقاع اسم شجرة كانت في موضع الغزوة ، قال وفسرها مسلم في الصحيح (١) بأن الصحابة نقبت أرجلهم من المشي فلفوا عليها الخرق ، وهي على ثلاثة أميال من المدينة عند بئر أروما. هكذا نقله صاحب معجم البلدان بالألف ، قال : وبين الهجرة وبين هذه الغزوة أربع سنين وثمانية أيام. وقيل مر بذلك الموضع ثمانية حفاة فنقبت أرجلهم وتساقطت أظفارهم فكانوا يلفون عليها الخرق. انتهى كلام شيخنا المشار اليه.

الثاني ـ قال في الذكرى : يستحب تطويل الإمام القراءة في انتظار الثانية ، ولو انتظرهم بالقراءة ليحضروها كان جائزا فحينئذ يشتغل بذكر الله تعالى الى حين حضورهم ، والأول أجود لأن فيه تخفيفا للصلاة وقراءة كافية لاقتدائهم وان لم يحضروها كغيرهم من المؤتمين. وإذا انتظرهم لفراغ ما بقي عليهم في تشهده طوله

__________________

(١) ج ٢ ص ١٠٦ كتاب الغزوات غزوة ذات الرقاع.

٢٧٤

بالأذكار والدعوات حتى يفرغوا ، ولو سكت أيضا فالأقرب جوازه. انتهى.

وهو جيد بالنسبة إلى القراءة لإطلاق الأخبار المذكورة وشمولها لكل من الأمرين مع عدم حصول ما ينافي صحة الصلاة في البين ، وأما بالنسبة إلى التشهد فان ظاهر صحيحة الحلبي أنه يجلس الامام بعد إتمام صلاته الى أن يتم المأمون صلاتهم ثم يسلم عليهم وظاهرها تأخير التسليم خاصة ، وهي وان كانت مطلقة بالنسبة إلى التشهد إلا أن صريح صحيحة عبد الرحمن انه صلى‌الله‌عليه‌وآله تشهد بعد تمام صلاته وسلم عليهم قبل تمام صلاتهم ثم قاموا فأتموا ما بقي عليهم ، وكذا ظاهر صحيحة زرارة الثانية ان الامام سلم بعد تمام صلاته ثم قام كل رجل منهم لإتمام صلاته ، وهو أيضا ظاهر صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم المنقولة من تفسير العياشي. نعم ظاهر رواية قرب الاسناد الأولى ربما يفيد ما ذكره من تطويل الإمام في التشهد الى ان يدركوه فيه ، حيث قال فيها : «فإذا قعد في التشهد قاموا فصلوا الثانية لأنفسهم ثم يقعدون فيتشهدون معه ثم يسلم وينصرفون معه» وكذلك رواية قرب الاسناد الثانية التي في صلاة المغرب فان ظاهرها ذلك أيضا. ولعل الوجه في الجمع بين الأخبار هنا التخيير بين ما دلت عليه من ما فصلناه وأوضحناه ، إلا ان صحيحة الحلبي مجملة لا بد من حملها على بعض الروايات المفصلة.

وظاهر كلامه في الذكرى هو تعين تأخير التشهد الى أن تفرغ الفرقة الثانية إما بان يطول فيه بحيث يدركونه أو يسكت ، وبذلك صرح في المختلف نقلا عن الأصحاب فقال : المشهور ان الامام إذا صلى بالثانية الركعة الباقية من الثنائية طول تشهده حتى تتم الثانية ويسلم بهم. ثم نقل عن ابن الجنيد انه قال : إذا كان الامام قد سبقهم بالتسليم لم يبرح من مكانه حتى يسلموا وانصرفوا أجمعين. وقال ابن إدريس في صفة صلاة الخوف بعد دخول الفرقة الثانية وصلاتهم مع الإمام ركعة ثانية : فإذا جلس للتشهد قاموا فصلوا ركعة أخرى وهو جالس ثم جلسوا معه فيسلم بهم ثم انصرفوا بتسليمة ، وقد روى انه إذا جلس الإمام للثانية تشهد وسلم ثم قام من خلفه فصلوا

٢٧٥

الركعة الأخرى فيصلون لأنفسهم. وما ذكرناه أولا هو الأظهر في المذهب والصحيح من الأقوال. انتهى. وفيه ما عرفت من أن أكثر الأخبار وصحاحها دالة على التسليم قبل إتمام الفرقة الثانية ، ولا دليل على ما ذهبوا اليه إلا ظاهر روايتي قرب الاسناد. وكيف كان فالظاهر كما عرفت هو التخيير بين أن يسلم قبلهم أو ينتظرهم. والله العالم.

الثالث ـ هل يجب على الفرقة الأولى نية الانفراد عند مفارقة الإمام أم لا؟ وجهان اختار أولهما الشهيد في الدروس والثاني في الذكرى.

احتج الأولون بوجوب الانفراد ، ووجوب نية كل واجب ، وما تقدم من عدم جواز مفارقة المأموم الإمام بدون نية الانفراد. وأورد على الأول منع وجوب نية كل واجب ، وعلى الوجهين معا أنهما إنما يتمان مع إطلاق نية الاقتداء ، اما إذا تعلقت النية بالركعة الأولى خاصة فلا. واحتج الآخرون بالأصل وانقضاء ما تعلق به نية الائتمام.

أقول : والتحقيق بناء على ما عرفت من معنى النية كما حققناه في غير موضع من بحث نية الوضوء ونية الصلاة ان هذا الكلام سؤالا وجوابا لا وجه له ولا أثر يتعلق به ، فان من المعلوم ان هذا المصلى مع علمه بأحكام هذه الصلاة وكيفيتها انما تعلق قصد ائتمامه بالركعة الأولى وهو في الثانية منفرد حكمه حكم المنفرد نوى الانفراد أم لم ينوه ، كما لو أدرك مع الإمام ركعة ثم قام وأتم بعد فراغ الإمام ، فإن الائتمام وأحكامه من وجوب المتابعة ونحوها إنما هو بالنسبة إلى تلك الركعة وإلا فحكمه في الثانية حكم المنفرد وان كتب له ثواب الجماعة تفضلا من الله تعالى بل لو لم يدرك ركعة. نعم يبقى الكلام في أن المأموم هنا هل يكتب له ثواب الجماعة كملا بمجرد هذه الركعة أو إنما يكتب له بالنسبة الى هذه الركعة خاصة؟ فيه اشكال لعدم تصريح الأخبار بشي‌ء من ذلك ، وقد تقدم في اخبار المسبوق ما يدل على إدراك ثواب الجماعة بإدراك الإمام في التشهد الأخير ، فلا يبعد من فضل الله سبحانه

٢٧٦

حصول ثواب الجماعة بالمتابعة في هذه الركعة كما أنه يكتب ثواب الجماعة للفرقة الأخيرة بدخولها مع الإمام في الركعة الثانية لدخولها في اخبار المسبوق الذي قد عرفت انه يكتب له ثواب الجماعة بإدراك التشهد الأخير.

الرابع ـ قال في الذكرى : ظاهر الأصحاب بقاء اقتداء الثانية في الركعة الثانية حكما وان استقلوا بالقراءة والأفعال فيحصل لهم ثواب الائتمام ويرجعون الى الامام في السهو ، وحينئذ لا ينوون الانفراد عند القيام إلى الثانية ، وابن حمزة في الواسطة والوسيلة حكم بأن الثانية تنوي الانفراد في الركعة الثانية. وكأنه أخذه من كلام الشيخ في المبسوط حيث قال : ومتى سهت الطائفة يعني الثانية. في ما تنفرد به فإذا سلم بهم الامام سجدوا هم لسهوهم سجدتي السهو ، ومتى سهت في الركعة التي تصلى مع الامام لم يلزمها حكم ذلك السهو ولا يجب عليها شي‌ء ، فنفى الشيخ لازم الائتمام وهو وجوب سجدتي السهو ونفى اللازم يستلزم نفى الملزوم. ويدل على المشهور انهم عدوا من جملة مخالفة هذه الصلاة ائتمام القائم بالقاعد وانه في رواية زرارة الصحيحة (١) ان الباقر عليه‌السلام قال : «فصار للأولين التكبير وافتتاح الصلاة وللآخرين التسليم». ولا يحصل لهم التسليم إلا ببقاء الائتمام. وللشيخ وابن حمزة ان يمنعا كون ذلك مستلزما لبقاء الائتمام حقيقة وان كان مستلزما له في ثواب الائتمام وهما يقولان به ، على ان التسليم في الرواية مصرح به ان الامام يوقعه من غير انتظارهم كما يأتي وذلك مقتضى لانفرادهم حتما وانما قال : «للآخرين التسليم» لأنهم حضروه مع الامام. انتهى.

أقول : والكلام في هذه المسألة أيضا غير منقح ولا موجه بالنظر الى الأدلة الشرعية ، وذلك فان ما نقله عن ظاهر الأصحاب ـ من بقاء اقتداء الثانية حكما وان استقلوا بالقراءة. الى آخره ـ ان أريد بالنسبة إلى ترتب ثواب الجماعة فهو من ما لا إشكال فيه ، وقد عرفت في ما قدمناه ان ثواب الجماعة يدرك في المسبوق

__________________

(١) ص ٢٧٢.

٢٧٧

بإدراك الإمام في التشهد الأخير فكيف بمن أدرك ركعة تامة ، وان أريد غير ذلك مثل ما نقله عن الشيخ من تحمل الامام السهو عن المأموم ونحو ذلك فهو من ما لا دليل عليه وان كان في حال مصاحبة الإمام في الصلاة فضلا عن الانفراد ، فان الحق ان لكل من الامام والمأموم حكم نفسه في السهو فلو حصل موجب السهو من المأموم حال متابعة الإمام لم يتحمله عنه الامام كما هو الأظهر الأشهر. وأما بالنسبة إلى رجوع الظان الى العالم وكذلك الشاك الى الظان ونحو ذلك من ما تقدم فهذا لا يتم هنا بعد تمام صلاة الامام وقيام المأموم لما بقي عليه ، فان الأدلة الدالة على ذلك انما قامت بالنسبة إلى المشتركين في الصلاة لا بعد إتمام الامام وانفراد المأموم. وبالجملة فإن حكم المأموم في هذه الصورة حكم المسبوق الذي قد تقدمت صلاة امامه وقام لإتمام ما بقي عليه فان أوجبوا فيه نية الانفراد فكذا هنا وإلا فلا ، وكل ما يترتب من الأحكام في مسألة المسبوق فهو يجرى هنا ، وغاية ما تدل عليه الأخبار في مسألة المسبوق هو حصول ثواب الجماعة له وان انفرد في بقية صلاته سواء أدرك ركعة أو أقل كما تقدم ، وكل ما يثبت للمسبوق من الأحكام فهو ثابت هنا لأنه أحد أفراده. وأما ما ذكره من الأدلة للقول المشهور فهي مدخولة سخيفة كما أشار إليه (قدس‌سره).

وبالجملة فإنه لا دليل في كل من المسألتين على أزيد من ترتب الثواب خاصة ، فإن أريد ببقاء الاقتداء ذلك فهو مسلم وان أريد غيره فهو ممنوع.

وأما ما ذكره ابن حمزة من نية الانفراد فقد تقدم ما فيه ، فإنه بعد تمام صلاة الامام وقيام المأموم الى ما بقي عليه منفرد نوى الانفراد أو لم ينوه.

وما نقله عن الشيخ من التفريع ضعيف فإنه لم يقم لنا دليل على تحمل الامام سهو المأموم حال مصاحبته حتى يفرع ذلك على حال انفراده وبقاء الاقتداء حكما ، والظاهر انه لا خلاف عندنا في انه لو سها المسبوق في ما بقي عليه من صلاته بعد إتمام الإمام فإنه يجب عليه الإتيان بموجب السهو وان قلنا بتحمل الامام ذلك في حال

٢٧٨

مصاحبته ، والحكم هنا كذلك فان هذا أحد أفراد المسبوق. والله العالم.

الخامس ـ قد اختلفت الروايات في الائتمام في صلاة المغرب ففي بعضها كصحيحة الحلبي «يصلى بهم الإمام ركعة وينفردون بركعتين ويصلى بالثانية ركعتين وينفردون بركعة». ونحوها مرسلة الفقيه المتقدمة وصحيحة زرارة الأولى وصحيحة على بن جعفر ، وفي بعضها بالعكس بان يصلى بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة كصحيحة زرارة الثانية بطرقها العديدة.

والظاهر ان وجه الجمع بينها هو التخيير بين الأمرين كما هو ظاهر جملة من الأصحاب أيضا ، لكن اختلفوا في الأفضل منهما فقيل ان الأول أفضل لكونه مرويا عن على عليه‌السلام فيترجح للتأسي به ، ولانه يستلزم فوز الفرقة الثانية بالقراءة والزيادة ليوازي فضيلة تكبيرة الافتتاح والتقدم ، ولتقارب الفرقتين في إدراك الأركان. ونسب هذا القول إلى الأكثر واختاره العلامة في التذكرة. وقيل ان الثاني أفضل لئلا تكلف الثانية زيادة جلوس في التشهد وهي مبنية على التخفيف.

أقول : القدر المعلوم من الأخبار من حيث ضرورة الجمع بينها التخيير بين الأمرين المذكورين ، وأما الحكم بالأفضلية فلا يظهر من شي‌ء منها ، والركون الى هذه التعليلات العلية مجازفة.

وأما كلمات الأصحاب في هذا المقام فقال الشيخ في المبسوط صلاة المغرب مخيرة بين أن يصلى بالطائفة الأولى ركعة واحدة والأخرى ثنتين وبين أن يصلى بالأولى ثنتين وبالأخرى واحدة كل ذلك جائز. ولم يرجح أحدهما على الآخر. وكذا في الجمل ، وفي النهاية ذكر الأول ولم يتعرض للثاني. وقال في الخلاف : الأفضل أن يصلى بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين ، فان صلى بالأولى ثنتين وبالأخرى ركعة واحدة كان أيضا جائزا. وفي الاقتصاد قال والأول أحوط. وأشار به الى الذي جعله في الخلاف الأفضل. والمفيد لم يذكر الثاني في المغرب ولا السيد المرتضى. وقال على بن بابويه : وان كانت المغرب فصلى بالأولى ركعة وبالثانية

٢٧٩

ركعتين. وكذا قال ابنه في كتاب من لا يحضره الفقيه وسلار وابن البراج. وقال ابن ابى عقيل : ويصلى الإمام في المغرب خاصة بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة الأخرى ركعتين حتى يكون لكلتا الطائفتين قراءة ، بذلك تواترت الأخبار عنهم عليهم‌السلام وقال ابن الجنيد : فان صلى بهم المغرب فالذي اختاره ان يصلى بالطائفة الأولى ركعة واحدة فإذا قام إلى الثانية أتم من معه بركعتين أخراوين. وقال أبو الصلاح : يصلى بالأولى ركعة أو ثنتين وبالثانية ما بقي. كذا نقله عنهم العلامة في المختلف. ثم انه (قدس‌سره) اختار التخيير للأخبار التي ذكرناها والظاهر ان عبارتي ابني بابويه مأخوذتان من كتاب الفقه الرضوي حيث قال عليه‌السلام (١) «وان كانت صلاة المغرب فصل بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة الثانية ركعتين». فاختصراها بحذف لفظ الطائفة. وكيف كان فقد عرفت ما هو الظاهر من الأخبار في هذا المكان. والله العالم.

السادس ـ قال المرتضى وابن الجنيد : إذا صلى بالأولى في المغرب ركعة وأتموا ثم قام الإمام إلى ثالثته وهي الثانية للفرقة الثانية سبح هو وقرأت الطائفة الثانية وقال ابن إدريس بعد نقل ذلك عن المرتضى : والصحيح عند أصحابنا المصنفين والإجماع حاصل عليه انه لا قراءة عليهم.

أقول : والكلام في هذه المسألة مبنى على ما تقدم في بحث صلاة الجماعة من وجوب القراءة على المسبوق في أخيرتي الامام وأولتي المأموم وعدمه ، وقد تقدم تحقيق القول في المسألة وان القراءة واجبة على المأموم في الصورة المذكورة كما دلت عليه الأخبار المتكاثرة وان ذهب العلامة في المنتهى وتبعه في المدارك الى الاستحباب وبه يظهر ان كلام ابن إدريس ليس بشي‌ء يعتمد عليه وان الصحيح انما هو المجمع عليه في الأخبار لا في كلام الأصحاب مع خلوه من الدليل بل قيام الدليل على خلافه كما عرفت ، على ان ما ادعاه من الإجماع ممنوع كما تقدم تحقيقه في المسألة بل

__________________

(١) ص ١٤.

٢٨٠