الحدائق الناضرة - ج ١١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٠

والرجال أمام الصبيان والصبيان أمام الخناثى والخناثى أمام النساء.

وقال ابن الجنيد : يقوم الرجال أولا ثم الخصيان ثم الخناثى ثم الصبيان ثم النساء ويقدم الأحرار على العبيد والإماء والاشراف على غيرهم والعلماء من الاشراف على من لا علم له ، والأحق بقرب الامام من تصح منه النيابة عند احتياج الامام إليها.

قال في الذكرى : والخلاف بينه وبين الشيخ في تقديم الصبيان على الخناثى فالشيخ نظر الى تحقق الذكورية في الصبيان ونظر ابن الجنيد الى تحقق الوجوب في الخناثى دون الصبيان وهو حسن واختاره ابن إدريس والفاضل. انتهى.

أقول : الظاهر انهم بنوا في هذا الترتيب المذكور على مجرد الاعتبار لعدم وجود ما يدل عليه من الأخبار كما يشير اليه كلام الشهيد في وجه اختلاف الشيخ وابن الجنيد.

الثاني ـ قد صرح جملة : منهم ـ العلامة والشهيدان (رضى الله عنهم بأن الأفضل وقوف الإمام في وسط الصف ، قال في المنتهى : ويستحب أن يقف الإمام في مقابلة وسط الصف لتتساوى نسبة المأمومين إليه فيمكنهم المتابعة ، وقد روى الجمهور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) انه قال : «وسطوا الامام وسدوا الخلل».

أقول : روى ثقة الإسلام في الكافي عن على بن إبراهيم رفعه (٢) قال : «رأيت أبا عبد الله عليه‌السلام يصلى بقوم وهو الى زاوية من بيته بقرب الحائط وكلهم عن يمينه وليس على يساره أحد».

وهذا الخبر كما ترى ظاهر في خلاف ما ذكروه ، ويؤيده أن أفضلية اليمين تقتضي استحباب توسيعها. ولا معارض للخبر المذكور إلا ما ينقلونه من هذا الخبر العامي.

وأما ما ذكره في الذكرى في سنة الموقف في الجماعة ـ حيث قال : وخامسها

__________________

(١) سنن ابى داود ج ١ ص ١٨٢ رقم ٦٨ باب مقام الامام من الصف.

(٢) الوسائل الباب ٢٣ من صلاة الجماعة.

١٦١

ان يقتدى الرجال بالرجل ، والأفضل صلاتهم خلفه بأجمعهم وهو منصوص عنهم عليهم‌السلام (١) وكونه في وسط الصف فلو صلى لا في وسطه جاز ، وقد روى من فعل بعضهم عليهم‌السلام (٢) ولعله للضرورة لأن الإمام لا يترك الأفضل ـ

فهو جيد لو ثبت دليل أفضلية ما ذكروه وإلا فارتكاب التأويل في الخبر من غير معارض عقلي أو نقلي غير معقول ولا مقبول ، وهم لم يذكروا دليلا على ما ادعوه ولو اعتباريا سوى ما عرفت من الرواية العامية.

ومنها ـ استحباب إعادة المصلي منفردا صلاته جماعة إماما كان أو مأموما ولا خلاف فيه بين الأصحاب (رضوان الله عليهم بل ادعى عليه الإجماع جمع منهم

وعليه يدل جملة من الأخبار : منها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن إسماعيل بن بزيع (٣) قال : «كتبت الى ابى الحسن عليه‌السلام انى أحضر المساجد مع جيرتي وغيرهم فيأمرونى بالصلاة بهم وقد صليت قبل أن آتيهم فربما صلى خلفي من يقتدى بصلاتي والمستضعف والجاهل واكره أن أتقدم وقد صليت لحال من يصلى بصلاتي ممن سميت لك فأمرني في ذلك بأمرك انتهى اليه وأعمل به ان شاء الله تعالى؟ فكتب صل بهم».

وعن الحلبي في الصحيح عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : «إذا صليت صلاة وأنت في المسجد وأقيمت الصلاة فإن شئت فاخرج وان شئت فصل معهم واجعلها تسبيحا».

ومنها ـ ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن حفص بن البختري عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٥) «في الرجل يصلى الصلاة وحده ثم يجد جماعة؟ قال يصلى معهم

__________________

(١) ارجع الى الصفحة ٨٩.

(٢) تقدم في رواية على بن إبراهيم ص ١٦١.

(٣ و ٤ و ٥) الوسائل الباب ٥٤ من صلاة الجماعة.

١٦٢

ويجعلها الفريضة». ورواه في الفقيه عن هشام بن سالم عنه عليه‌السلام مثله (١) وزاد في آخره «ان شاء».

قيل : المعنى انه يجعلها تلك الفريضة التي صلاها وحده فان اعادة تلك الفريضة مستحبة ، أو المراد أن يجعل هذه الفريضة المطلوبة منه وما صلاها أو لا نافلة ، قال : وفي التهذيب حمله على محامل بعيدة من غير ضرورة.

وقال في الفقيه (٢) وروى انه يحسب له أفضلهما وأتمهما.

وروى في الكافي عن ابى بصير (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أصلي ثم أدخل المسجد فتقام الصلاة وقد صليت؟ فقال صل معهم يختار الله أحبهما اليه».

وروى في التهذيب عن عمار الساباطي (٤) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يصلى الفريضة ثم يجد قوما يصلون جماعة أيجوز له أن يعيد الصلاة معهم؟

قال نعم وهو أفضل. قلت فان لم يفعل؟ قال ليس به بأس». وقال في كتاب الفقه الرضوي (٥) نقلا عن العالم عليه‌السلام «إذا صليت صلاتك وأنت في مسجد وأقيمت الصلاة فإن شئت فصل وان شئت فاخرج. ثم قال لا تخرج بعد ما أقيمت صل معهم تطوعا واجعلها تسبيحا».

والكلام هنا يقع في مواضع الأول ـ لا خلاف ولا إشكال في صحة الإعادة ومشروعيتها لمن صلى الفرض أولا منفردا وانما الإشكال والخلاف في ما لو صلاة جماعة فهل يستحب الإعادة جماعة مرة أخرى؟ الأشهر الأظهر العدم ، وحكم الشهيد في الذكرى باستحباب الإعادة للمنفرد والجامع لعموم الأدلة ، قال في المدارك : وهو غير واضح لأن أكثر الروايات مخصوصة بمن صلى وحده وما ليس بمقيد بذلك فلا عموم فيه ، ومن هنا يعلم ان الأظهر عدم تراسل الاستحباب ، وجوزه الشهيدان. انتهى.

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٥٤ من صلاة الجماعة.

(٥) ص ١١.

١٦٣

وقال شيخنا الشهيد الثاني في الروض بعد قول المصنف «واعادة المنفرد مع الجماعة» : ولو صلى أولا جماعة ففي استحباب الإعادة جماعة قولان أصحهما الجواز لعموم الأدلة خصوصا مع اشتمال الجماعة الثانية على مرجح ، وهل يسترسل الاستحباب؟ منعه المصنف في التذكرة وجوزه في الذكرى ، وعموم الأدلة يدل عليه. انتهى.

وظاهر الفاضل الخراساني في الذخيرة الميل الى ما ذكره الشهيدان حيث نفى البعد عن قولهما مستندا الى عدم الاستفصال في صحيحة محمد بن إسماعيل ، ثم قال : والأحوط الأول لعدم ما يدل عليه صريحا وتوقف الصلاة على توقيف الشارعو قد روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) لا تصل صلاة في يوم مرتين. انتهى.

أقول : الظاهر المتبادر من صحيحة محمد بن إسماعيل المذكورة ان صلاته أولا انما كانت فرادى حيث انه أخبر عن نفسه بأنه يأتي المساجد وقد صلى ، فإن قرينة الحال تدل على أنه صلى في بيته قبل مجي‌ء المساجد ، والحمل على كونه صلى في بيته جماعة بعيد عن رسم العادة سيما ان المساجد التي اتى إليها من ما تقام فيها الجماعة من غير تقية كما هو المفروض ، وبه يظهر سقوط ما ذكره الفاضل المذكور. وكذلك ظاهر صحيحة الحلبي وقوله فيها «إذا صليت صلاة وأنت في المسجد وأقيمت الصلاة». فإن ظاهرها انه صلى فرادى واتفقت الجماعة بعد صلاته كذلك ، والحمل على كونه صلى جماعة وبعد فراغه أقيمت جماعة أخرى في غاية البعد عن رسم العادة وما هو المتكرر المعروف سيما على القول بتحريم الجماعة ثانية أو كراهتها كما هو المشهور. وبالجملة فإن الأحكام في الأخبار انما تنصرف الى الافراد المتكررة المتعارفة. وأما صحيحة حفص أو حسنته فهي صريحة في كونه صلى وحده ، ومثلها صحيحة هشام بن سالم المروية في الفقيه. واما رواية أبي بصير فالتقريب فيها ما تقدم في صحيحة محمد بن إسماعيل ونحوها رواية عمار. وأما رواية كتاب الفقه الرضوي فالتقريب فيها ما تقدم في صحيحة الحلبي مع احتمال حملها على كون الصلاة أخيرا مع جماعة المخالفين كما قدمنا ذكره سابقا على هذا المقام.

__________________

(١) تيسير الوصول ج ٢ ص ٢٧٦.

١٦٤

ويمكن ان يقال ايضا ان هذه الأخبار ما بين مطلق ومقيد والقاعدة تقتضي حمل مطلقها على مقيدها ، وبذلك يظهر ان الأظهر هو القول المشهور من الاختصاص بالمنفرد ، ويؤيده ان العبادات مبنية على التوقيف ولم يثبت يقينا الإعادة بعد الصلاة جماعة. ومنه يظهر بطلان التراسل كما ذهبوا اليه تفريعا على ما اختاروه من استحباب اعادة الجامع.

الثاني ـ قال في المدارك : لو صلى اثنان فرادى ففي استحباب إعادة الصلاة لهما جماعة إذا لم يكن معهما مفترض وجهان ، من ان أقصى ما يستفاد من الروايات مشروعية الإعادة إذا اقتدى بمفترض أو اقتدى به مفترض ، ومن عموم الترغيب في الجماعة. انتهى.

ولا يخفى ضعف ثاني الوجهين المذكورين ، فان استحباب الجماعة لا يقتضي استحباب إيقاعها كيف اتفقت بل على الوجه الذي وردت به النصوص ، والكيفية التي ثبتت عنهم عليهم‌السلام استحباب الصلاة بقول مطلق ، مع انه لا بد من تقييدها بما ثبت مشروعيته من الكيفية والكمية ونحوها. وبالجملة فالأظهر هو ما يستفاد من الوجه الأول وهو المستفاد من روايات المسألة.

الثالث ـ قال شيخنا الشهيد الثاني في الروض : واولى الصلاتين أو الصلوات هي فرضه فينوي بالباقي الندب لامتثاله المأمور به على وجهه فيخرج من العهدة ، ولو نوى الفرض في الجميع جاز لرواية هشام بن سالم. ثم نقل الرواية ، ثم قال ولما روى (١) «ان الله تعالى يختار أحبهما اليه» وروى «أفضلهما وأتمهما». ونقل في المدارك الوجه الثاني عن الشهيد في الذكرى والدروس للرواية المذكورة ، ورده بأنه بعيد جدا والرواية لا تدل عليه بوجه.

أقول : قد تقدم ان الرواية محتملة لأن يكون المعنى في قوله : «يصلى معهم ويجعلها الفريضة» انه يجعل الصلاة المعادة جماعة هي الفريضة التي صلاها أولا

__________________

(١) ص ١٦٣.

١٦٥

لا صلاة غيرها من الفرائض والصلوات وهو وجه وجيه ، والحمل على المعنى الذي فهموه من الخبر وان كان محتملا إلا ان صيرورة الفريضة بعد إتمامها نافلة والنافلة فريضة غير معهود ، فإثباته بمجرد هذا الخبر لا يخلو من الإشكال سيما مع قيام ما ذكرناه من الاحتمال ، وعليه حمل صاحب المدارك الخبر المذكور. ورواية «ان الله يختار أحبهما إليه» لا تقتضي نية وجوب كل منهما واتصافها بأنها فرض ، بل المعنى انه لما شرع عز شأنه) الإعادة وأمر بها استحبابا فله سبحانه الاختيار في ما يختاره منهما فيختار ما هو أحب إليه. هذا غاية ما يدل عليه الخبر المذكور وهو لا يقتضي ما ادعاه. والله العالم.

ومنها ـ القرب من الامام لما تقدم من رواية جابر ورواية كتاب الفقه الرضوي ، وقد عده الشهيد في النفلية من مستحبات الجماعة. وذكر أفضلية القرب في الخبرين المذكورين من الصف الأول يقتضي (١) أفضلية الأقربية مطلقا.

ومنها ـ اقامة الصفوف واعتدالها ويستحب استحبابا مؤكدا وكذا سد الفرج الواقعة في الصفوف.

روى الصدوق في الفقيه في الصحيح عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه‌السلام (٢) في حديث قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أقيموا صفوفكم فإني أراكم من خلفي كما أراكم من قدامي ومن بين يدي ولا تخالفوا فيخالف الله بين قلوبكم».

وروى في التهذيب عنه عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام (٣) قال : «قال

__________________

(١) وفي المطبوع القديم «لا يقتضي».

(٢) الوسائل الباب ٧٠ من صلاة الجماعة. وقد نقلها عن الصدوق بصورة الإرسال عن النبي (ص) إلا ان ظاهر عبارة الفقيه ج ١ ص ٢٥٠ خلاف ذلك حيث ان العبارة فيه بعد ذكر رواية إمامة الرجل للرجل والرجلين هكذا «قال وقال رسول الله ص.» وظاهرها ان الذي حكى قول رسول الله (ص) هو أبو جعفر (ع) وقد نقلها في الوافي باب (اقامة الصفوف) كذلك.

(٣) الوسائل الباب ٧٠ من صلاة الجماعة. وهي رواية السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه (ع).

١٦٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سووا بين صفوفكم وحاذوا بين مناكبكم لا يستحوذ عليكم الشيطان».

وروى في كتاب ثواب الأعمال في الموثق عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا أيها الناس أقيموا صفوفكم وامسحوا بمناكبكم لئلا يكون بينكم خلل ولا تخالفوا فيخالف الله بين قلوبكم ، ألا وانى أراكم من خلفي».

وروى في كتاب البصائر في الصحيح عن محمد بن مسلم (٢) قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام الرجل يكون في المسجد فتكون الصفوف مختلفة فيها الناس فأميل اليه مشيا حتى أقيمه؟ قال نعم لا بأس به ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال يا أيها الناس إني أراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم».

ومن الكتاب المذكور (٣) عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه‌السلام قال : «قلت له انا نصلي في مسجد لنا فربما كان الصف امامى وفيه انقطاع فامشى اليه بجانبي حتى أقيمه؟ قال نعم ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال أراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي ، لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم».

ومن الكتاب المذكور عن عبد الله الحلبي في الصحيح عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٤) قال : «ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال أقيموا صفوفكم فإني أراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي ، ولا تختلفوا فيخالف الله بين قلوبكم».

ومن الكتاب المذكور عن ابى عتاب زياد مولى آل دغش عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٥) قال : «سمعته يقول أقيموا صفوفكم إذا رأيتم خللا ، ولا عليك أن تأخذ ورائك إذا وجدت ضيقا في الصفوف فتتم الصف الذي خلفك أو تمشي منحرفا فتتم الصف الذي قدامك فهو خير. ثم قال ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال أقيموا صفوفكم فانى انظر إليكم من خلفي لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم».

__________________

(١ و ٢ و ٤ و ٥) الوسائل الباب ٧٠ من صلاة الجماعة.

(٣) ص ٤١٩ الطبع الحديث وفي البحار ج ١٨ الصلاة ص ٦٣٢.

١٦٧

ومنه ايضا عن هارون بن حمزة الغنوي عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال أقيموا صفوفكم فانى انظر إليكم من خلفي لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم».

وروى في كتاب دعائم الإسلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) قال : «سووا صفوفكم وحاذوا بين مناكبكم ولا تخالفوا بينها فتختلفوا ويتخللكم الشيطان تخلل أولاد الحذف». قال : والحذف ضرب من الغنم الصغار السود واحدتها حذفة فشبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تخلل الشيطان الصفوف إذا وجد فيها خللا بتخلل أولاد تلك الغنم بين كبارها. انتهى.

أقول : وروى العامة في صحاحهم (٣) «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يسوى صفوفنا كما يسوى القداح. وقال أقيموا صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري. وقال سووا صفوفكم فان تسوية الصفوف من تمام الصلاة. وكان يمسح مناكبهم في الصلاة ويقول استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم».

قال في النهاية : فيه «سووا صفوفكم ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم» أي إذا تقدم بعضهم على بعض في الصفوف تأثرت قلوبهم ونشأ بينهم الخلف. ومنه الحديث الآخر «لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم» يريد ان كلا منهم بصرف وجهه عن الآخر يوقع بينهم التباغض ، فان إقبال الوجه على الوجه من أثر المودة والألفة. وقيل المراد تحويلها الى الإدبار. وقيل تغيير صورها الى صور اخرى.

وأنت خبير بان ظاهر الخبر الأول من أخبار البصائر جواز المشي حال الصلاة لأجل اقامة الصف إذا رآهم مختلفين في الوقوف تقدما وتأخرا ، وينبغي

__________________

(١) الوسائل الباب ٧٠ من صلاة الجماعة.

(٢) مستدرك الوسائل الباب ٥٤ من صلاة الجماعة.

(٣) سنن ابى داود وصحيح مسلم وصحيح البخاري باب تسوية الصفوف وسنن النسائي باب كم مرة يقول استووا.

١٦٨

ان يقيد بغير وقت القراءة لما تقدم في الباب الثاني في أفعال الصلاة من وجوب الطمأنينة على المأموم حال القراءة وان تحمل عنه الإمام القراءة.

وظاهر الخبر الثاني من الأخبار المذكورة ان من اقامة الصفوف إتمام الصف لو كان ناقصا ، وقوله «فامشى اليه بجانبي» يدل على ان النقصان في جانب اليمين أو اليسار من موقف المصلى وإلا فلو كان محاذيا له في الموقف لم يحتج إلى المشي اليه على جانب. ونحو هذا الخبر خبر ابى عتاب.

وقال في الذكرى : لو وجد فرجة في الصف فله السعي إليها وان كانت في غير الصف الأخير ، ولا كراهة هنا في اختراق الصفوف لأنهم قصروا حيث تركوا تلك الفرجة ، نعم لو أمكن الوصول بغير اختراقهم كان أولى.

أقول : وإطلاق الخبرين المذكورين يدل على ما ذكروه لان الصف الواقع إمام أو خلف في الخبرين أعم من أن يكون بغير فاصلة أو بفاصلة صف آخر.

وأظهر من ذلك ما رواه على بن جعفر في كتابه عن أخيه عليه‌السلام (١) قال : «سألته عن الرجل يكون في صلاته في الصف هل يصلح له ان يتقدم الى الثاني أو الثالث أو يتأخر وراءه في جانب الصف الآخر؟ قال : إذا رأى خللا فلا بأس به».

وظاهر الحديث المرسل في التهذيب وحديث كتاب ثواب الأعمال وخبر كتاب الدعائم ان اقامة الصفوف واستواءها بالمحاذاة بين المناكب من المأمومين. ومنه يعلم تحديد المساواة في الموقف بين الامام والمأموم مع اتحاد المأموم والتقدم مع التعدد. وقد تقدم في كلام الأصحاب تحديد ذلك بالأعقاب أو مع رؤوس الأصابع ، وقد عرفت انه لا مستند له.

ومنها ـ تقارب الصفوف بعضها من بعض ، قال في الذكرى : يستحب تقارب الصفوف فلا يزيد ما بينها على مسقط الجسد إذا سجد ، رواه زرارة عن ابى جعفر عليه‌السلام (٢) وقدر ايضا بمريض عنز (٣) ذكره في المبسوط.

__________________

(١) الوسائل الباب ٧٠ من صلاة الجماعة.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٦٢ من صلاة الجماعة.

١٦٩

أقول : قد قدمنا ان ظاهر الخبر المذكور وكذا غيره من ما ورد بهذا المضمون ان التقدير بهذا المقدار على جهة الوجوب والشرطية لصحة القدوة فلو زاد على ذلك بطلت القدوة ، لأن الرواية قد اشتملت على النهى عن التباعد بين الامام والمأموم وبين المأمومين بعضهم مع بعض بما لا يتخطى ، وان نهاية ما يتخطى الذي يجوز التباعد به قدر مسقط جسد الإنسان حال السجود. والأصحاب لما حملوا الرواية في ما اشتملت عليه من تحديد البعد على الاستحباب ـ حيث انهم فسروه بما يرجع الى العرف والعادة ـ فرعوا عليه ما ذكروه هنا من الاستحباب ، ومن عمل بظاهر الخبر المذكور كما أوضحناه آنفا فإنه يصير هذا الحد بين الصفوف نهاية الجواز فلو زاد على ذلك بطلت القدوة.

ومنها ـ انه يستحب تسبيح المأموم إذا فرغ من قراءته قبل الإمام في موضع يجوز له القراءة فيه كما في الجهرية إذا لم يسمع ولا همهمة فإنه متى قرأ وفرغ قبل الإمام فإنه يستحب له ان يسبح حتى يفرغ الامام ، وله ايضا ان يمسك آية حتى إذا فرغ الإمام قرأها وركع بعدها :

روى الشيخ في الموثق عن عمر بن أبي شعبة عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «قلت له أكون مع الإمام فأفرغ قبل أن يفرغ من قراءته؟ قال فأتم السورة ومجد الله واثن عليه حتى يفرغ».

وعن زرارة في الموثق (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الإمام أكون معه فأفرغ من القراءة قبل أن يفرغ؟ قال فأمسك آية ومجد الله واثن عليه فإذا فرغ فاقرأ الآية واركع».

وقد ورد نحو ذلك في الصلاة خلف المخالفين إذا فرغ المأموم من قراءته قبل الإمام (٣) فإنه يتخير بين الأمرين المذكورين :

روى الكليني في الكافي في الموثق عن إسحاق بن عمار عن من سأل أبا عبد الله

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ٣٥ من صلاة الجماعة.

١٧٠

عليه‌السلام (١) قال : «أصلي خلف من لا اقتدى به فإذا فرغت من قراءتي ولم يفرغ هو؟ قال فسبح حتى يفرغ».

وروى البرقي في كتاب المحاسن عن صفوان الجمال (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ان عندنا مصلى لا نصلي فيه وأهله نصاب وامامهم مخالف فائتم به؟ قال لا. قلت ان قرأ اقرأ خلفه؟ قال نعم. قلت فان نفدت السورة قبل أن يركع؟ قال سبح وكبر انما هو بمنزلة القنوت وكبر وهلل».

أقول : وبذلك صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم قال في المنتهى : لو فرغ المأموم من القراءة قبل الامام استحب له ان يسبح الى ان يفرغ الامام ويركع معه ، ويستحب له أن يبقى آية فإذا ركع الإمام قرأها وركع معه.

وقال في الذكرى : لو قرأ ففرغ قبله استحب أن يبقى آية ليقرأها عند فراغ الامام ليركع عن قراءة. ثم ذكر رواية زرارة وقال : فيه دليل على استحباب التسبيح والتحميد في الأثناء ودليل على جواز القراءة خلف الامام. ثم قال وكذا يستحب إبقاء آية لو قرأ خلف من لا يقتدى به. انتهى. والظاهر انه لم يقف على رواية التحميد والتسبيح في الصورتين المذكورتين.

ومن ما يدل على التخيير بين الأمرين المذكورين في الصلاة خلف المخالف قوله عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (٣) بعد ذكر الصلاة خلف المخالف تقية : واذن لنفسك وأقم واقرأ فيها لأنه غير مؤتمن به. فإذا فرغت قبله من القراءة أبق آية منها حتى تقرأ وقت ركوعه وإلا فسبح الى أن يركع. انتهى.

وكذا يستحب للمأموم في الصلاة الإخفاتية والجهرية ، وقد تقدم ذكر ذلك والدليل عليه في المسألة الثامنة.

ومنها ـ ان الأفضل للإمام ان يصلى بصلاة أضعف من خلفه والأخبار به مستفيضة

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٣٥ من صلاة الجماعة.

(٣) ص ١٤.

١٧١

ومنها ـ ما رواه الشيخ والصدوق عن إسحاق بن عمار عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «ينبغي للإمام أن تكون صلاته على صلاة أضعف من خلفه».

وما رواه الشيخ في التهذيب مسندا عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن على عليهم‌السلام ـ ورواه الصدوق مرسلا عن على عليه‌السلام (٢) ـ قال «آخر ما فارقت عليه حبيب قلبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال يا على إذا صليت فصل صلاة أضعف من خلفك. الحديث».

وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الظهر والعصر فخفف الصلاة في الركعتين الأخيرتين فلما انصرف قال له الناس يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحدث في الصلاة شي‌ء؟ قال وما ذاك؟ قالوا خففت في الركعتين الأخيرتين. فقال لهم أما سمعتم صراخ الصبي؟». ورواه في كتاب عدة الداعي (٤) ثم قال : وفي حديث آخر «خشيت ان يشتغل به خاطر أبيه».

وقال في كتاب الفقيه (٥) : كان معاذ يؤم في مسجد على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويطيل القراءة وانه مر به رجل فافتتح سورة طويلة فقرأ الرجل لنفسه وصلى ثم ركب راحلته فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فبعث الى معاذ فقال يا معاذ إياك أن تكون فتانا عليك بالشمس وضحاها وذواتها.

وفي كتاب نهج البلاغة (٦) في عهده عليه‌السلام للأشتر (رضى الله عنه) «إذا قمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفرا ولا مضيعا فان في الناس من به العلة وله الحاجة وقد سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين وجهنى الى اليمين كيف أصلي بهم؟ فقال صلى بهم كصلاة أضعفهم وكن بالمؤمنين رحيما».

وقال في كتاب الفقه الرضوي (٧) : إذا صليت فخفف بهم الصلاة وإذا كنت

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٥ و ٦) الوسائل الباب ٦٩ من صلاة الجماعة.

(٤) مستدرك الوسائل الباب ٥٣ من صلاة الجماعة.

(٧) ص ١٤.

١٧٢

وحدك فثقل فإنها العبادة.

وقال في الذكرى : يستحب للإمام تخفيف الصلاة والاقتصار على السور القصار والتسبيح في الركوع والسجود ثلاثا لا أزيد. ثم نقل رواية إسحاق بن عمار المتقدمة. ثم قال : ولو أحس بشغل لبعض المأمومين استحب التخفيف أزيد من ذلك. ثم نقل صحيحة عبد الله بن سنان في بكاء الصبي.

وبالجملة فالحكم المذكور اتفاقي نصا وفتوى ، واستثنى بعض الأصحاب من ذلك ما إذا علم منهم حب التطويل ولا بأس به ، لأن الظاهر من الأخبار هو مراعاة حالهم في الاستعجال لأغراضهم وحوائجهم وأمراضهم فإذا أحبوا ذلك فلا منافاة فيه لما دلت عليه النصوص المذكورة.

ومنها ـ ان الأفضل للإمام أن لا يقوم من مقامه بعد التسليم حتى يتم من خلفه صلاته ، وقد تقدم الكلام في ذلك في المسألة العاشرة.

ومن الأخبار الواردة في المسألة زيادة على ما قدمناه ما رواه الشيخ في الصحيح عن إسماعيل بن عبد الخالق (١) قال : «سمعته يقول لا ينبغي للإمام ان يقوم إذا صلى حتى يقضى كل من خلفه ما قد فاته من الصلاة».

وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «لا ينبغي للإمام أن ينتقل إذا سلم حتى يتم من خلفه الصلاة. الحديث».

وما رواه في الفقيه عن حفص بن البختري في الصحيح عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «ينبغي للإمام ان يجلس حتى يتم من خلفه صلاتهم».

وما رواه في التهذيب في الموثق عن سماعة (٤) قال : «ينبغي للإمام ان يلبث قبل أن يكلم أحدا حتى يرى ان من خلفه قد أتموا الصلاة ثم ينصرف هو».

وعن ابى بكر الحضرمي (٥) قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام إذا صليت بقوم

__________________

(١) الوسائل الباب ٥١ من صلاة الجماعة.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل الباب ٢ من التعقيب.

١٧٣

فاقعد بعد ما تسليم هنيهة».

وقد تقدم ثمة (١) نقل موثقة عمار الدالة على جواز قيامه من موضعه وانصرافه قبل أن يتم من خلفه.

ومن اخبار المسألة قوله عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (٢) نقلا عن العالم عليه‌السلام قال : «لا ينبغي للإمام ان ينتقل من صلاته إذا سلم حتى يتم من خلفه الصلاة».

أقول : ربما أشعر ظاهر هذا الخبر وظاهر موثق سماعة وكذا ظاهر صحيحة الحلبي أو حسنته بأنه يستحب له البقاء بعد التسليم على هيئة الصلاة فلا يتكلم ولا يلتفت حتى يتم من خلفه ، والذي ذكره الأصحاب انما هو ان لا يقوم من محله وما أشعرت به هذه الأخبار أخص من ذلك.

ومنها ـ ان الأفضل له ان يسمع من خلفه كل ما يقول من الأذكار ولا سيما التشهد ولمن خلفه أن لا يسمعوه شيئا.

ويدل عليه ما رواه الشيخ في التهذيب عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «ينبغي للإمام أن يسمع من خلفه كل ما يقول ولا ينبغي لمن خلفه ان يسمعه شيئا من ما يقول».

وربما سبق الى بعض الافهام الفاسدة والأوهام الشاردة من هذا الخبر وجوب الجهر في الأخيرتين على الامام بتقريب ان لفظ «ينبغي» في الأخبار قد تكاثر وروده بمعنى الوجوب و «لا ينبغي» بمعنى التحريم.

وفيه انه لا ريب ان الأمر كذلك إلا انه قد ورد فيها ايضا بمعنى الاستحباب والكراهة كما هو ظاهر الاستعمال العرفي ، ونحن قد حققنا في غير موضع من ما تقدم ان هذين اللفظين في الأخبار من الألفاظ المتشابهة وانه لا يحمل على أحد المعنيين

__________________

(١) ص ١٥٣.

(٢) ص ١٠.

(٣) الوسائل الباب ٥٢ من صلاة الجماعة.

١٧٤

في الأخبار إلا بقرينة تؤذن بذلك.

(فان قلت) ان مقتضى كون اللفظ كما ذكرتم ـ مع تصريحكم بان الحكم في المتشابه هو الاحتياط وجوبا ـ ترجيح الجهر في الأخيرتين احتياطا وجوبا كما تختارونه واستحبابا كما هو المشهور لدخول هذا الجزئي تحت عموم الخبر ، وكذا الكلام بالنسبة إلى المأموم.

فالجواب انه لا ريب في صحة ما ذكرت لو خلينا وظاهر الخبر المذكور» إلا انه لما كان أصحابنا (رضوان الله عليهم سلفا وخلفا على الإخفات في هذه المسألة وحمل الخبر المذكور في جميع ما اشتمل عليه من الأحكام على الاستحباب بالنسبة الى الامام والكراهة بالنسبة إلى المأموم ـ فإنهم ما بين مصرح بما ذكرنا وما بين من لم يظهر منه خلاف ذلك ـ فالواجب تقييد الخبر المذكور بما ذكروه وعدم الخروج عن ما اعتمدوه ، وكم في الأخبار من ما هو من هذا القبيل من ما اشتمل على هذا اللفظ مع حمله على الاستحباب بين كافة الأصحاب جيلا بعد جيل ، أو لفظ «لا ينبغي» مع حمله على الكراهة اتفاقا أو مع خلاف نادر قليل كما لا يخفى على المتتبع من ذوي التحصيل.

ولا يخفى على المتتبع ايضا ورود ما هو أصرح من هذا الخبر في الوجوب في جملة من الأحكام مع اتفاقهم على العدول عنه من غير خلاف يعرف أو خلاف شاذ في المقام ، وكثير من مستحبات الصلاة من هذا القبيل كالتكبير للركوع والسجود ونحوهما من ما قد وردت الأوامر به من غير معارض ومقتضى الأمر الوجوب والاستغفار في الأخيرتين بعد التسبيح فان مقتضى الأمر الوجوب مع الفتوى منهم من غير خلاف يعرف أو خلاف شاذ على الاستحباب ، والتورك في الصلاة كذلك وليس للأمر به معارض إلا إطلاق بعض الأخبار التي يمكن حمل إطلاقها على الأخبار المقيدة مع انه لا خلاف في الاستحباب ، وأمثال ذلك كثير يقف عليها المتتبع ، ولا سيما ما اشتمل عليه حديث حماد بن عيسى الوارد في تعليم

١٧٥

الصادق عليه‌السلام له الصلاة ، ونحوه صحيحة زرارة ، وما ذكره عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي المتقدم جميع ذلك في صدر الباب الثاني في الصلوات اليومية (١) فإن جميع ما اشتملت عليه الأخبار المشار إليها من الأوامر والنواهي لا معارض لها يوجب إخراجها عن حقيقة الأمر والنهى.

فالواجب على هذا القائل هنا بمجرد ورود لفظ مشتبه محتمل للوجوب أن يقول بالوجوب والتحريم في جميع تلك المستحبات والمكروهات باتفاق العلماء ، وهذا عين السفسطة ، وما ذاك إلا من حيث تقييد تلك الأخبار بعمل الأصحاب على ذلك الحكم واتفاقهم عليه.

ولا يخفى على المنصف المتدرب في الفن ان اتفاق الأصحاب على الحكم متقدميهم ومتأخريهم من ما يثمر العلم أو الظن المتاخم له بان ذلك هو مذهب الأئمة صلوات الله عليهم فان مذهب كل امام من أئمة الهدى أو أئمة الضلال انما يعلم بنقل شيعته واتباعه. واما الأخبار فليست كذلك فان فيها ما خرج على خلاف المذهب وفيها المجمل والمتشابه ونحو ذلك من الوجوه المانعة من الجزم بكون ما اشتملت عليه مذهبا ، وقد وردت عندنا جملة من الأخبار الصحاح الصراح في جملة من الأحكام لم يلتفت إليها أصحابنا ولم يعملوا بها واطرحوها كاخبار عدم وجوب الغسل على المرأة بالاحتلام (٢) واخبار السنة والسنتين في الرضاع المحرم (٣) ونحو ذلك من ما يقف عليه المتتبع البصير ولا ينبئك مثل خبير.

وحينئذ فإذا جاز الخروج عن مقتضى الأوامر الظاهرة في الوجوب باتفاق الأصحاب على خلاف ذلك فكيف بلفظ محتمل كما هو محل البحث ، ومن ذا الذي يروم الجزم بوجوب جهر الامام بجميع ما يأتي به من الأذكار وتحريم الجهر على المأموم في جميع ذلك بهذا الخبر المجمل مع مخالفة كافة العلماء له قديما وحديثا وطرحه

__________________

(١) ج ٨ ص ٢ الى ١١.

(٢) الوسائل الباب ٧ من الجنابة.

(٣) الوسائل الباب ٢ من ما يحرم بالرضاع.

١٧٦

بينهم بهذا المعنى الذي توهموه وحملهم له على ما ذكروه (رضوان الله عليهم من المعنى الذي قدمناه عنهم. هذا مع ما أخذ على المفتي في الأخبار من القول بالعلم واليقين والنهى عن الظن والتخمين.

وما توهمه بعض من لم يعض على العلم بضرس قاطع ولم يعط التأمل حقه في جميع المواضع من التفرد بالعمل بالأخبار من غير ملاحظة كلام الأصحاب فهو جهل محض لما أوضحناه وان صار في هذه الأيام من صار الى ما ذكرناه إلا انه كما عرفت واضح الفساد ناشى‌ء من العصبية واللداد.

ومن ما يوضح لك صحة ما ذكرناه ما اشتهر بينهم الآن من انه ينبغي لطالب العلم ان لا يشتغل إلا بكتب الأخبار وان كان أميا لم يقرأ شيئا من العلوم بالكلية وصارت كتب الفقهاء بينهم مهجورة مطرحة ، وهذه حماقة ظاهرة فإنه لا يخفى على المنصف العارف بالقواعد الشرعية والضوابط المرعية ان هذه المرتبة وهي الاشتغال بالأخبار واستنباط ما فيها من الأحكام والأسرار ليست بسهلة التناول لكل من ورامها من الناس وان زعم ذلك من تلبس الآن بهذا اللباس وانما هي مرتبة الفقيه الجامع الشرائط ، وهي مرتبة لم يصلها العلماء إلا بعد أن تشيب نواصيهم في تحصيل العلوم والاطلاع على كل معلوم منها ومفهوم وأحكام قواعدها وتحصيل ضوابطها ، ومع هذا فهم فيها بين قائم وطائح وغريق وسابح ، واين لهؤلاء الجهال من نيل هذه المرتبة العزيزة المنال بمجرد عقولهم الناقصة العيار وتوهماتهم الموجبة للعثار ، نعوذ بالله سبحانه من زيغ الافهام وزلل الاقدام والخروج عن النهج القويم والميل عن الصراط المستقيم وأما ما يدل على تأكد الإسماع في التشهد

فرواية أبي بصير (١) قال : «صليت خلف ابى عبد الله عليه‌السلام فلما كان في آخر تشهده رفع صوته حتى أسمعنا فلما انصرف قلت كذا ينبغي للإمام ان يسمع تشهده من خلفه؟ قال نعم».

وما رواه الشيخ والصدوق في الصحيح عن حفص بن البختري عن ابى عبد الله

__________________

(١) الوسائل الباب ٦ من التشهد.

١٧٧

عليه‌السلام (١) قال : «ينبغي للإمام أن يسمع من خلفه التشهد ولا يسمعونه هم شيئا». قال في الفقيه (٢) : يعنى الشهادتين. قال : ويسمعهم ايضا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

ومنها ـ انه يستحب للإمام إذا أحس بداخل حال ركوعه أن يطيل بقدري ركوعه انتظار للداخلين ثم يرفع.

ويدل على ذلك ما رواه الشيخ عن جابر الجعفي (٣) قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام انى لؤم قوما فاركع فيدخل الناس وأنا راكع فكم انتظر؟ فقال ما أعجب ما تسأل عنه يا جابر انتظر مثلي ركوعك فان انقطعوا وإلا فارفع رأسك».

وروى في الكافي عن مروك بن عبيد عن بعض أصحابه عن ابى جعفر عليه‌السلام (٤) قال : «قلت له انى إمام مسجد الحي فاركع بهم وأسمع خفقان نعالهم وأنا راكع؟ قال اصبر ركوعك ومثل ركوعك فان انقطعوا وإلا فانتصب قائما».

ومنها ـ أن يقول المأموم عند فراغ الامام من الفاتحة : الحمد لله رب العالمين. قال العلامة في المنتهى : ذكر ابن بابويه في كتابه انه يستحب للمأمومين إذا فرغ الامام من قراءة الحمد أن يقولوا : الحمد لله رب العالمين. ورواه الحسين بن سعيد في كتابه أيضا (٥). انتهى.

أقول : ويدل عليه ايضا ما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن جميل عن

__________________

(١) الوسائل الباب ٦ من التشهد.

(٢) الوسائل الباب ٥٢ من صلاة الجماعة.

(٣ و ٤) الوسائل الباب ٥٠ من صلاة الجماعة.

(٥) أورد في الوسائل في الباب ١٧ من القراءة روايات الحسين بن سعيد ولكنها تتضمن النهى عن قول «آمين» فقط ولم نقف على ما نقله من روايته الأمر بقول «الحمد لله رب العالمين» وقد نقل في البحار ج ١٨ الصلاة ص ٦٢٣ عبارة المنتهى كما في المتن ولم يعقبها بشي‌ء.

١٧٨

ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «إذا كنت خلف إمام فقرأ الحمد وفرغ من قراءتها فقل أنت : الحمد لله رب العالمين. ولا تقل آمين». ونحوه روى عن جميل في كتاب مجمع البيان للطبرسي (٢).

ومنها ـ قيام المأمومين إلى الصلاة عند قول المقيم «قد قامت الصلاة» على المشهور ، واستدل عليه بان هذا اللفظ اخبار عن الإقامة فيجب المبادرة للتصديق. ولا يخفى ما فيه من الوهن فهو بالإعراض عنه حقيق.

والأظهر الاستناد في ذلك الى ما رواه الشيخ والصدوق عن الحناط (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام إذا قال المؤذن «قد قامت الصلاة» أيقوم القوم على أرجلهم أو يجلسون حتى يجي‌ء إمامهم؟ قال لا بل يقومون على أرجلهم فإن جاء امامهم وإلا فليؤخذ بيد رجل من القوم فيقدم».

وما رواه الشيخ عن معاوية بن شريح (٤) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام قال إذا قال المؤذن «قد قامت الصلاة» ينبغي لمن في المسجد أن يقوموا على أرجلهم ويقدموا بعضهم ولا ينتظروا الامام. قال قلت وان كان الامام هو المؤذن؟ قال وان كان فلا ينتظرونه ويقدموا بعضهم».

أقول : والواجب على ذلك القائل المتقدم ذكره بما قدمنا نقله عنه هو القول بوجوب القيام في هذه الصورة ، لورود الخبر المذكور من غير معارض بل تأكده بالخبر المتقدم ، والقول به سفسطة ظاهرة.

وقال الشيخ في المبسوط والخلاف وقت القيام إلى الصلاة عند فراغ المؤذن من كمال الأذان. ولم نقف على دليله.

وحكى العلامة في المختلف عن بعض علمائنا قولا بان وقت القيام إلى الصلاة

__________________

(١) الوسائل الباب ١٧ من القراءة في الصلاة ، والشيخ يرويه عن الكليني.

(٢) ج ١ ص ٣١.

(٣ و ٤) الوسائل الباب ٤٢ من صلاة الجماعة.

١٧٩

عند قوله «حي على الصلاة» لأنه دعاء إليها فاستحب القيام عنده.

وأجيب عنه بالمعارضة بالأذان فإن هذا اللفظ موجود فيه ولا يستحب القيام عنده. وبان هذا اللفظ دعاء إلى الإقبال إلى الصلاة و «قد قامت» صيغة اخبار بمعنى الأمر فالقيام عنده أولى.

وقد مضى بعض المستحبات في الأبحاث السابقة وسيأتي أيضا في المطلب الآتي بعض ذلك من ما سنشير اليه ان شاء الله تعالى.

المسألة الثانية عشرة ـ قد ذكر الأصحاب (رضوان الله عليهم جملة من المكروهات في الجماعة أيضا :

منها ـ ان يقف المأموم وحده في الصف إلا أن تمتلئ الصفوف فلا يجد موضعا يدخل فيه فإنه يقف وحده في صف بغير كراهة ، والحكم المذكور مجمع عليه كما نقله في المدارك وقبله العلامة ، ونقل عن ابن الجنيد انه منع من ذلك ، قال على ما نقل عنه في الذكرى : ان امكنه الدخول في الصف من غير أذية غيره لم يجز قيامه وحده.

ويدل على الحكم الأول ما رواه الشيخ عن السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام (١) قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تكونن في العيكل. قلت وما العيكل؟ قال أن تصلى خلف الصفوف وحدك ، فان لم يمكن الدخول في الصف قام حذاء الإمام أجزأه فإن هو عاند الصف فسد عليه صلاته».

وروى في كتاب دعائم الإسلام عن على عليه‌السلام (٢) قال : «قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا على لا تقومن في العيكل. قلت وما العيكل يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال ان تصلى خلف الصفوف وحدك».

ثم قال في الكتاب المذكور (٣) : يعنى ـ والله العالم ـ إذا كان ذلك وهو

__________________

(١) الوسائل الباب ٥٨ من صلاة الجماعة.

(٢) مستدرك الوسائل الباب ٤٦ من صلاة الجماعة.

(٣) ج ١ ص ١٨٨ واللفظ فيه هكذا : «يعنى ـ والله أعلم ـ إذا وجد موضعا في ما

١٨٠