الحدائق الناضرة - ج ١١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٠

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الباب الرابع

في اللواحق

والكلام يقع في هذا الباب في مقاصد الأول ـ في القضاء وهو إما أن يكون عن الإنسان نفسه أو عن غيره من الأموات ، فهنا مطلبان (الأول) ـ في قضاء الإنسان عن نفسه ما فاته وفيه مسائل :

الأولى ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في عدم قضاء ما فات بصغر أو جنون أو حيض أو نفاس أو كفر أصلي.

ويدل على الأولين مضافا الى الإجماع حديث رفع القلم عن الصبي والمجنون (١) كما ذكره بعض الأصحاب. إلا ان فيه ان غاية ما يدل عليه سقوط الأداء ، ويمكن إتمام الاستدلال به بأنه لما دل على سقوط الأداء ـ ومن الظاهر عدم ترتب القضاء على مجرد فوات الأداء بل لا بد له من أمر جديد على الأشهر الأظهر ـ فلا قضاء حينئذ لعدم الدليل عليه. وقيد شيخنا الشهيد الثاني في الروض الثاني بما إذا لم يكن سبب الجنون من فعله وإلا وجب عليه القضاء كالسكران. انتهى. وعلى الثالث

__________________

(١) الوسائل الباب ٤ من مقدمة العبادات ، وسنن ابى داود ج ٤ ص ١٤١ حد الزنا.

٢

والرابع ما تقدم في كتاب الطهارة.

وعلى الخامس مضافا الى الإجماع المذكور قوله سبحانه «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية» (١) والخبر وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) «الإسلام يجب ـ أو يهدم ـ ما قبله».

وتقييد الكفر بالأصلي كما ذكرنا وقع في عبائر أصحابنا أيضا للاحتراز عن العارض كالمرتد وسيأتي حكمه ان شاء الله تعالى في المقام.

إنما الخلاف في المغمى عليه إذا استوعب الإغماء جميع وقت الصلاة فقد اختلفت فيه كلمة الأصحاب الظاهر اختلاف الأخبار في هذا الباب ، فالمشهور انه لا يجب القضاء عليه ، وعن بعض الأصحاب انه يقضى آخر أيام إفاقته إن أفاق نهارا أو آخر ليلته إن أفاق ليلا ، وقال الصدوق في المقنع (٣) : اعلم ان المغمى عليه يقضى جميع ما فاته من الصلوات ، وروى ليس على المغمى عليه ان يقضى إلا صلاة اليوم الذي أفاق فيه والليلة التي أفاق فيها ، وروى انه يقضى صلاة ثلاثة أيام ، وروى انه يقضى الصلاة التي أفاق في وقتها. وهو كما ترى ظاهر في اختياره قضاء جميع ما فاته. والعجب منه (قدس‌سره) انه بعد أن اختار وجوب القضاء عليه لجميع ما فاته أسند الأقوال الباقية إلى الرواية ولم يتعرض الى سقوط القضاء بالكلية مع انه المشهور وهو الذي تظافرت به الأخبار كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى.

والأظهر هو القول المشهور ، ويدل عليه من الأخبار ما رواه الشيخ في الصحيح عن أيوب بن نوح (٤) قال : «كتبت الى ابى الحسن الثالث عليه‌السلام اسأله عن المغمى عليه يوما أو أكثر هل يقضى ما فاته من الصلاة أم لا؟ فكتب لا يقضى الصوم ولا يقضي الصلاة».

وعن الحلبي في الصحيح عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٥) قال : «سألته عن المريض

__________________

(١) سورة الأنفال الآية ٣٩ «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ».

(٢) الخصائص الكبرى ج ١ ص ٢٤٩ وصحيح مسلم باب الايمان.

(٣ و ٤ و ٥) الوسائل الباب ٣ من قضاء الصلوات.

٣

هل يقضى الصلاة إذا أغمي عليه؟ قال لا إلا الصلاة التي أفاق فيها».

وعن حفص في الصحيح عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «يقضى الصلاة التي أفاق فيها».

وعن على بن مهزيار في الصحيح (٢) قال : «سألته عن المغمى عليه يوما أو أكثر هل يقضى ما فاته من الصلاة أم لا؟ فكتب لا يقضى الصوم ولا يقضي الصلاة». ورواه في الفقيه في الصحيح عن على بن مهزيار ايضا (٣) وزاد فيه «وكل ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر».

وعن ابى بصير في الموثق أو الصحيح أو الضعيف ـ بالنظر الى الخلاف في أبي بصير ـ عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٤) قال : «سألته عن المريض يغمى عليه ثم يفيق كيف يقضى صلاته؟ قال يقضى الصلاة التي أدرك وقتها».

وعن أبي أيوب عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٥) قال : «سألته عن رجل أغمي عليه أياما لم يصل ثم أفاق أيصلى ما فاته؟ قال لا شي‌ء عليه».

وعن معمر بن عمر في الحسن اليه وهو مجهول (٦) قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن المريض يقضي الصلاة إذا أغمي عليه؟ قال لا».

وفي الصحيح الى على بن محمد بن سليمان وهو مجهول (٧) قال : «كتبت الى الفقيه ابى الحسن العسكري عليه‌السلام اسأله عن المغمى عليه يوما أو أكثر هل يقضى ما فاته من الصلاة أم لا؟ فكتب لا يقضى الصوم ولا يقضي الصلاة».

وما رواه الكليني والشيخ في الصحيح أو الحسن عن حفص بن البختري عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٨) قال : «سمعته يقول في المغمى عليه قال ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر».

وما رواه الشيخ عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه‌السلام (٩) «في الرجل يغمى عليه الأيام؟ قال لا يعيد شيئا من صلاته».

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦ و ٧ و ٨ و ٩) الوسائل الباب ٣ من قضاء الصلوات.

٤

وعن عبد الله بن سنان في الصحيح أو الحسن عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «كل ما غلب الله عليه فليس على صاحبه شي‌ء».

وعن العلاء بن الفضيل (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يغمى عليه يوما الى الليل ثم يفيق قال ان أفاق قبل غروب الشمس فعليه قضاء يومه هذا ، فإن أغمي عليه أياما ذوات عدد فليس عليه ان يقضى إلا آخر أيامه إن أفاق قبل غروب الشمس وإلا فليس عليه قضاء».

وعن ابى بصير في الموثق أو الصحيح أو الضعيف ـ كما تقدم ـ عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «سألته عن الرجل يغمى عليه نهارا ثم يفيق قبل غروب الشمس؟ قال يصلى الظهر والعصر ، ومن الليل إذا أفاق قبل الصبح قضى صلاة الليل».

وعن عبد الله بن محمد الحجال في الصحيح (٤) قال «كتبت اليه جعلت فداك روى عن ابى عبد الله عليه‌السلام في المريض يغمى عليه أياما فقال بعضهم يقضى صلاة يومه الذي أفاق فيه ، وقال بعضهم يقضى صلاة ثلاثة أيام ويدع ما سوى ذلك ، وقال بعضهم انه لا قضاء عليه؟ فكتب يقضى صلاة اليوم الذي يفيق فيه».

وروى الصدوق «قدس‌سره» في كتاب العيون والعلل في الصحيح عن الفضل ابن شاذان عن الرضا عليه‌السلام (٥) في حديث قال : «وكذلك كل ما غلب الله عليه مثل المغمى عليه يغمى عليه في يوم وليلة فلا يجب عليه قضاء الصلوات كما قال الصادق عليه‌السلام كل ما غلب الله على العبد فهو أعذر له».

وروى في كتاب قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام (٦) قال : «سألته عن المريض يغمى عليه أياما ثم يفيق ما عليه من قضاء ما ترك من الصلاة؟ قال يقضى صلاة ذلك اليوم».

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل الباب ٣ من قضاء الصلوات.

(٦) الوسائل الباب ٣ من قضاء الصلوات. وفيه وفي قرب الاسناد ص ٩٧ «يقضى صلاة اليوم الذي أفاق فيه».

٥

وقال الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (١) «قال العالم عليه‌السلام ليس على المريض ان يقضى الصلاة إذا أغمي عليه إلا الصلاة التي أفاق في وقتها».

وروى الصدوق في كتاب الخصال بسنده عن موسى بن بكر (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الرجل يغمى عليه اليوم واليومين والثلاثة والأربعة وأكثر من ذلك كم يقضى من صلاته؟ فقال ألا أخبرك بما يجمع لك هذا وأشباهه : كل ما غلب الله عزوجل عليه من أمر فالله أعذر لعبده». وزاد فيه غيره (٣) «ان أبا عبد الله عليه‌السلام قال وهذا من الأبواب التي يفتح كل باب منها الف باب».

وروى في بصائر الدرجات عن احمد بن محمد مثله (٤).

هذا ما وقفت عليه من الأخبار الدالة على القول المشهور وهي كما ترى مع كثرتها فيه واضحة الظهور.

وأما روايات المسألة الباقية فمنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن حفص عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٥) قال : «سألته عن المغمى عليه يوما الى الليل قال يقضى صلاة يوم».

وعن سماعة في الموثق (٦) قال : «سألته عن المريض يغمى عليه قال : إذا جاز عليه ثلاثة أيام فليس عليه قضاء وان أغمي عليه ثلاثة أيام فعليه قضاء الصلاة فيهن».

__________________

(١ و ٤) البحار ج ١٨ الصلاة ص ٦٧٧.

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٨ من قضاء الصلوات.

(٥) الوسائل الباب ٤ من قضاء الصلوات. وليس في الوسائل ولا في التهذيب ج ١ ص ٢٣٨ في هذا الحديث «يوما الى الليل» وانما هو في الوافي باب صلاة المغمى عليه ، فقد نقله من التهذيب بطريقين وفيه هذا القول ، والموجود في التهذيب والوسائل انما هو أحد الطريقين ولم نقف على الطريق الآخر. ولا يخفى ان الشيخ في التهذيب ج ١ ص ٤٢١ يروى من طريق حفص الحديث رقم (٥) إلا انه لا يشتمل على السؤال ومورد الكلام انما هو حديث حفص المشتمل على السؤال.

(٦) الوسائل الباب ٤ من قضاء الصلوات.

٦

وعن حفص بن البختري في الصحيح عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «المغمى عليه يقضى صلاة ثلاثة أيام».

وعن حفص في الصحيح عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «يقضى المغمى عليه ما فاته».

وعن حفص في الصحيح عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «يقضى صلاة يوم».

وعن ابى بصير (٤) قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام رجل أغمي عليه شهرا أيقضى شيئا من صلاته؟ قال يقضى منها ثلاثة أيام».

وعن ابى كهمس (٥) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام وسئل عن المغمى عليه أيقضى ما ترك من الصلاة؟ فقال أما انا وولدي وأهلي فنفعل ذلك».

وفي الحسن أو الصحيح عن إبراهيم بن هاشم عن غير واحد عن منصور بن حازم عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٦) «انه سأله عن المغمى عليه شهرا أو أربعين ليلة قال فقال ان شئت أخبرتك بما آمر به نفسي وولدي ان تقضى كل ما فاتك».

وفي الصحيح عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٧) قال : «كل شي‌ء تركته من صلاتك لمرض أغمي عليك فيه فاقضه إذا أفقت».

وفي الحسن عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه‌السلام (٨) قال : «سألته عن الرجل يغمى عليه ثم يفيق قال يقضى ما فاته يؤذن في الأولى ويقيم في البقية».

وفي الصحيح عن منصور بن حازم عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٩) «في المغمى عليه قال يقضى كل ما فاته».

وعن رفاعة في الصحيح عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١٠) قال : «سألته عن المغمى عليه شهرا ما يقضى من الصلاة؟ قال يقضيها كلها ، ان أمر الصلاة شديد».

وروى في الذكرى عن إسماعيل بن جابر (١١) قال : «سقطت عن بعيري

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦ و ٧ و ٨ و ٩ و ١٠ و ١١) الوسائل الباب ٤ من قضاء الصلوات.

٧

فانقلبت على أم رأسي فمكثت سبع عشرة ليلة مغمى على فسألته عن ذلك فقال اقض مع كل صلاة صلاة». ونقل في الذكرى (١) عن ابن إدريس انه قال : «وروى انه يقضى صلاة شهر» أقول : وهذه الرواية لم تصل إلينا.

وكيف كان فالظاهر ـ كما ذكره الشيخ وقبله الصدوق في الفقيه وهو المشهور ـ هو حمل هذه الأخبار على الاستحباب كما يشير اليه خبر ابى كهمس ورواية منصور بن حازم الأولى وان تفاوتت مراتبه بالجميع أو الشهر أو الثلاثة أو اليوم الواحد فهي مترتبة في الفضل والاستحباب.

قال في الفقيه (٢) واما الأخبار التي رويت في المغمى عليه ـ انه يقضى جميع ما فاته وما روى انه يقضى صلاة شهر وما روى انه يقضى صلاة ثلاثة أيام ـ فهي صحيحة ولكنها على الاستحباب لا على الإيجاب والأصل انه لا قضاء عليه. انتهى.

والعجب ان هذا كلامه في الفقيه مع انه كما تقدم من عبارة المقنع اختار وجوب قضاء جميع ما فاته ، وهذا من نوادر الاتفاق له في اختلاف الفتوى في مسألة واحدة وان كان ذلك كثيرا في كلام المجتهدين من أصحابنا (رضوان الله عليهم)

تنبيهات

الأول ـ قد صرح غير واحد من أصحابنا (رضوان الله عليهم) بأنه لا يلحق بالكافر الأصلي من حكم بكفره من منتحلي الإسلام ولا غيرهم من المخالفين ، فان الحكم في هؤلاء جميعا هو انهم بعد الاستبصار والرجوع الى الدين الحق يجب عليهم قضاء ما فاتهم لو أخلوا بشي‌ء من واجباته اما ما كان صحيحا في مذهبهم فلا اعادة عليهم فيه.

اما الأول فلعموم الأدلة الدالة على وجوب قضاء الفائت (٣) الشامل لمحل البحث ، وخروج الكافر الأصلي بدليل مختص به فيبقى ما عداه داخلا تحت العموم.

__________________

(١) ص ١٣٥ وفي البحار ج ١٨ الصلاة ص ٦٧٦.

(٢) ج ١ ص ٢٣٧.

(٣) الوسائل الباب ١ من قضاء الصلوات.

٨

واما الثاني فللأخبار المستفيضة الدالة على ذلك ، ومنها ما رواه ثقة الإسلام والشيخ عنه في الصحيح أو الحسن عن زرارة وبكير والفضيل ومحمد بن مسلم وبريد العجلي عن ابى جعفر وابى عبد الله (عليهما‌السلام) (١) «انهما قالا في الرجل يكون في بعض هذه الأهواء : الحرورية والمرجئة والعثمانية والقدرية ثم يتوب ويعرف هذا الأمر ويحسن رأيه أيعيد كل صلاة صلاها أو صوم أو زكاة أو حج أو ليس عليه إعادة شي‌ء من ذلك؟ قال ليس عليه إعادة شي‌ء من ذلك غير الزكاة لا بد أن يؤديها لأنه وضع الزكاة في غير موضعها وانما موضعها أهل الولاية».

ومنها ـ ما رواه الكليني في الصحيح أو الحسن عن ابن أذينة (٢) قال : «كتب الى أبو عبد الله عليه‌السلام ان كل عمل عمله الناصب في حال ضلاله أو حال نصبه ثم من الله عليه وعرفه هذا الأمر فإنه يؤجر عليه ويكتب له إلا الزكاة فإنه يعيدها لانه وضعها في غير موضعها وانما موضعها أهل الولاية ، وأما الصلاة والصوم فليس عليه قضاؤهما».

ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن بريد بن معاوية العجلي عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) في حديث قال فيه «وكل عمل عمله وهو في حال نصبه وضلالته ثم من الله عليه وعرفه الولاية فإنه يؤجر عليه إلا الزكاة. الى ان قال : وأما الصلاة والحج والصيام فليس عليه قضاء».

ومنها ـ ما رواه الكشي بسنده عن عمار الساباطي (٤) قال : «قال سليمان بن خالد لأبي عبد الله عليه‌السلام وانا جالس انى منذ عرفت هذا الأمر أصلي في كل يوم صلاتين اقضى ما فاتنى قبل معرفتي قال لا تفعل فان الحال التي كنت عليها أعظم من ترك ما تركت من الصلاة».

أقول : ظاهر هذا الخبر عدم وجوب قضاء ما تركه حال ضلاله ، وهو

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ٣ من المستحقين للزكاة.

(٤) الوسائل الباب ٣١ من مقدمة العبادات.

٩

خلاف ما صرح به الأصحاب من وجوب قضاء ما تركه كما عرفت.

وشيخنا الشهيد في الذكرى قد نقل هذا الخبر من كتاب الرحمة عن عمار كما ذكرناه ثم قال : وهذا الحديث مع ندوره وضعف سنده لا ينهض مخصصا للعموم مع قبوله التأويل بأن يكون سليمان يقضى صلاته التي صلاها وسماها فائتة بحسب معتقده الآن ، لأنه اعتقد انه بحكم من لم يصل لمخالفتها في بعض الأمور ، فيكون معنى قول الامام عليه‌السلام «من ترك.» ما تركت من شرائطها وأفعالها ، وحينئذ لا دلالة فيه على عدم قضاء الفائتة حقيقة في الحال الاولى. انتهى.

واستشكل العلامة في التذكرة سقوط القضاء عن من صلى منهم أو صام لاختلال الشرائط والأركان. والظاهر بعده لدلالة الأخبار الصحيحة كما ترى على خلافه ، والمستفاد من هذه الأخبار ترتب الثواب على تلك الأعمال بعد الدخول في الإيمان وان كانت باطلة واقعا تفضلا منه سبحانه لرجوعه الى المذهب الحق ، وبطلانها سابقا لا ينافي ترتب الثواب عليها أخيرا لأن الثواب هنا انما هو تفضلى لا استحقاقي لتبعيته للصحة والحال انها غير صحيحة كما عرفت.

قيل : وصحيحة الفضلاء المتقدمة تدل على عدم الفرق في الحكم المذكور بين من يحكم بإسلامه من فرق المخالفين ومن يحكم بكفره من أهل القبلة ، لأن من جملة من ذكر فيها صريحا الحرورية وهم كفار لأنهم خوارج.

أقول : هذا الخبر وأمثاله إنما خرج بناء على كفر المخالفين وانه لا فرق بينهم وبين الخوارج كما هو مذهب متقدمي الأصحاب وبه استفاضت الأخبار كما قدمناه ذكره في كتاب الطهارة ، والحكم بإسلام المخالفين انما وقع في كلام جملة من المتأخرين غفلة عن التعمق في الأخبار والنظر فيها بعين الفكر والاعتبار ، وسيأتي مزيد تحقيق للمسألة ان شاء الله تعالى في كتاب الحج.

الثاني ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو حصل الإغماء بفعل المكلف كشرب المسكر وشرب المرقد وجب القضاء ، أسنده في الذكرى الى

١٠

الأصحاب ، واستدل عليه بأنه مسبب عن فعله. قال في المدارك : والاعتماد في ذلك على النصوص المتضمنة لوجوب قضاء الفوائت (١) المتناولة بعمومها لهذه الصورة.

وقال الفاضل الخراساني في الذخيرة : واعلم ان ظاهر الأدلة عدم الفرق بين أن يكون الإغماء من غير فعله أم لا ، وذكر الشهيد انه لو أغمي عليه بفعله وجب عليه القضاء وأسنده إلى الأصحاب والحجة عليه غير واضحة. انتهى. وظاهره المخالفة في الحكم المذكور وستعرف ما فيه ان شاء الله تعالى.

قالوا : ولو أكل غذاء لم يعلم بكونه مقتضيا للإغماء فاتفق انه آل إلى الإغماء لم يجب عليه قضاء ما يفوته من الصلاة في حال الإغماء.

قال في المدارك : والوجه فيه إطلاق النصوص المتضمنة لسقوط القضاء عن المغمى عليه (٢) ثم قال : ولو علم بكون الغذاء موجبا للإغماء قيل وجب القضاء كتناول المسكر ، ولو شربت المرأة دواء للحيض أو لسقوط الولد فتصير نفساء لم يجب عليها القضاء للعموم وبه قطع الشهيدان ، وفرقا بين ذلك وبين تناول الغذاء المقتضى للإغماء بأن سقوط القضاء عنهما عزيمة لا رخصة وتخفيف بخلاف المغمى عليه. وفي هذا الفرق نظر. انتهى.

أقول وبالله سبحانه الثقة : لا ريب انه في جميع هذه الفروض المذكورة قد تعارض فيها إطلاق الأخبار الدالة على سقوط القضاء عن المغمى عليه بناء على الأشهر الأظهر وإطلاق الأخبار الدالة على وجوب القضاء على من فاتته صلاة فتقييد أحد الإطلاقين بالآخر يحتاج الى مرجح ، إلا ان الظاهر من اخبار الإغماء ـ بالنظر الى ما دل عليه جملة منها من أن سقوط القضاء عن المغمى عليه انما هو من حيث ابتلاء الله سبحانه له بذلك المرض فهو سبحانه أعذر لعبده ، كما في صحيحة حفص بن البختري (٣) من قوله «ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر». وفي حسنة عبد الله

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من قضاء الصلوات.

(٢) الوسائل الباب ٣ من قضاء الصلوات.

(٣) ص ٤ و ٥ و ٦ والراوي في الثانية «ابن سنان».

١١

ابن المغيرة «كل ما غلب الله عليه فليس على صاحبه شي‌ء». ونحوه في صحيحة على بن مهزيار برواية الفقيه ورواية موسى بن بكر الصريحة في أن هذا أحد القواعد الكلية والأبواب التي ينفتح منها الف باب ـ هو أنها أخص من اخبار القضاء ، وحينئذ فيجب تقييد إطلاق أخبار القضاء بها في هذا المقام في جميع ما ذكروه من الأفراد التي تعارض فيها الإطلاقان المذكوران ، فان الجميع ظاهر كما ترى في أن سقوط القضاء عن المغمى عليه انما هو من حيث كون الإغماء من قبله سبحانه وفعله بعبده ، وحينئذ فإلحاق الإغماء الحاصل من قبل المكلف به وان كان عن جهل ليس بجيد بل حكمه حكم ما لو تعمد ذلك من وجوب القضاء.

ومن هذا التعليل الذي قد عرفت انه من القواعد الكلية والضوابط الإلهية يفهم ايضا وجوب القضاء على الحائض والنفساء إذا كان عروض ذلك من قبلهما بشرب الدواء وان كان ظاهر الأصحاب خلافه عملا بإطلاق أخبار الحيض كما ذكره السيد المذكور.

هذا ، مع انهم صرحوا في غير مقام بأن الأحكام المودعة في الأخبار انما تنصرف وتحمل على الأفراد الشائعة المتكررة فإنها هي التي يتبادر إليها الإطلاق دون الفروض النادرة الوقوع. وبذلك يظهر لك ما في كلام الفاضل الخراساني المتقدم في المسألة الأولى وكلام السيد في الثانية جريا على كلام الأصحاب في الباب.

واستثنى جماعة من متأخري الأصحاب من الموجب للقضاء السكر الذي يكون الشارب غير عالم به أو أكره عليه أو اضطر إليه لحاجة. وفيه ما عرفت من ان مدار الحكم في سقوط القضاء عن المغمى عليه هو كون الإغماء من قبله سبحانه ، فكل ما كان كذلك فإنه لا قضاء وما لم يكن كذلك فالواجب القضاء عملا بإطلاق أخبار وجوب القضاء لعدم المخصص لها ، مؤيدا ذلك بما ذكرناه من عدم انصراف إطلاق الحكم بسقوط القضاء عن المغمى عليه الى هذه الأفراد النادرة الوقوع. والله العالم.

الثالث ـ قال في الذكرى ـ بعد أن ذكر ان مما يوجب القضاء النوم المستوعب

١٢

وشرب المرقد ـ ما لفظه : ولو كان النوم على خلاف العادة فالظاهر التحاقه بالإغماء وقد نبه عليه في المبسوط. انتهى.

أقول : لا يخفى ان الأخبار الواردة بوجوب قضاء النائم لما نام عنه شاملة بإطلاقها لهذا الفرد المذكور فلا أعرف لاستثنائه دليلا معتمدا.

ومن الأخبار المشار إليها ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة عن ابى جعفر عليه‌السلام (١) قال : «سألته عن رجل صلى ركعتين بغير طهور أو نسي صلاة لم يصلها أو نام عنها؟ قال يقضيها إذا ذكرها في أي ساعة ذكرها من ليل أو نهار».

وفي الصحيح عن عبد الله بن مسكان رفعه الى ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) قال : «من نام قبل ان يصلى العتمة فلم يستيقظ حتى يمضى نصف الليل فليقض صلاته وليستغفر الله». الى غير ذلك من الأخبار.

ويدل على ذلك إطلاق الأخبار الدالة على ان من فاتته فريضة بنوم أو غيره فإنه يجب عليه قضاؤها وهي كثيرة :

ومنها ـ صحيحة حماد بن عثمان (٣) «انه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل فاته شي‌ء من الصلوات فذكر عند طلوع الشمس أو عند غروبها؟ قال فليصل حين يذكر».

وصحيحة معاوية بن عمار (٤) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول خمس صلوات لا تترك على حال. الى ان قال في تعداد الخمس المذكورة : وإذا نسيت فصل إذا ذكرت».

وصحيحة زرارة أو حسنته الطويلة الواردة في ترتب الفوائت (٥) وغيرها من الأخبار الكثيرة.

__________________

(١) الوسائل الباب ١ و ٢ من قضاء الصلوات واللفظ «سئل» وليس فيه «ركعتين».

(٢) الوسائل الباب ١٧ و ٢٩ من مواقيت الصلاة.

(٣ و ٤) الوسائل الباب ٣٩ من مواقيت الصلاة.

(٥) الوسائل الباب ٦٣ من مواقيت الصلاة.

١٣

ومن هنا صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بوجوب قضاء كل ما فاته عمدا أو سهوا بنوم أو سكر أو شرب مرقد أورده عن الإسلام إلا ما استثنى مما تقدم ذكره. والله العالم.

المسألة الثانية ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أن من ترك الصلاة مستحلا تركها فان كان ممن ولد على فطرة الإسلام فإنه يقتل من غير استتابة. لأنه مرتد لإنكاره ما علم ثبوته من الدين ضرورة ، ومن حكم المرتد الفطري القتل وان تاب ، إلا ان الاخبار ـ كما تقدم جملة منها في المقدمة الاولى من مقدمات هذا الكتاب ـ دلت على الكفر مطلقا من غير قيد الاستحلال ، وقد مر تحقيق الكلام في ذلك في الموضع المشار اليه (١) وبينا انه لا مانع من حمل الكفر فيها على المعنى الحقيقي.

قالوا : وفي حكم استحلال الصلاة استحلال شرط مجمع عليه كالطهارة أو جزء كالركوع دون المختلف فيه كتعين الفاتحة ووجوب الطمأنينة ، وكأنهم بنوا ذلك على الفرق بين ضروري الدين وضروري المذهب وإلا فتعين الفاتحة ووجوب الطمأنينة لا خلاف فيه عندنا وانما الخلاف فيهما بين العامة والخاصة. والفرق المذكور لا يخلو عندي من اشكال لعدم ظهور الدليل عليه.

وكيف كان فهذا الحكم مختص بالرجل دون المرأة فإنها لا تقتل بل تستتاب فإن أبت فإنها تحبس وتضرب أوقات الصلاة حتى تتوب أو تموت.

وان كان التارك مستحلا مليا بان كان كافرا ثم أسلم استتيب أولا فإن امتنع قتل.

وان لم يكن مستحلا عزر فان عاد عزر فان عاد ثالثة قتل على قول وقيل انما يقتل في الرابعة ، والخلاف هنا مبنى على الخلاف في أصحاب الكبائر هل يقتلون في الثالثة أو الرابعة؟ ولتحقيق المسألة محل آخر.

__________________

(١) ج ٦ ص ١٨.

١٤

ولا خلاف في ان المرتد فطريا كان أو مليا إذا رجع الى الإسلام فإنه يقضى زمان ردته ، والمستند فيه عموم الأخبار الدالة على وجوب قضاء الفوائت (١) خرج ما خرج بالدليل وبقي الباقي.

وهذا الحكم واضح في المرتد الملي والمرأة مطلقا ملية أو فطرية فإنه لا اشكال ولا خلاف في قبول توبتهما متى تابا.

وانما الخلاف والإشكال في الرجل المرتد إذا كان فطريا هل تقبل توبته أم لا؟ ففيه أقوال ثلاثة : (الأول) ـ وهو المشهور على ما صرح به شيخنا الشهيد الثاني في كتاب الميراث من المسالك ـ عدم قبولها مطلقا ، قال في الموضع المذكور من الكتاب المشار اليه : واما عدم قبولها مطلقا فالمشهور ذلك عملا بإطلاق الاخبار (٢) والحق قبولها في ما بينه وبين الله تعالى حذرا من التكليف بما لا يطاق. انتهى. وبذلك يظهر ما في كلام بعض مشايخنا المعاصرين حيث ادعى ان المشهور هو قبولها باطنا وعدم قبولها ظاهرا (الثاني) قبولها مطلقا باطنا وظاهرا وهو منقول عن ابن الجنيد (الثالث) قبولها باطنا وعدم قبولها ظاهرا وهو اختيار شيخنا الشهيد الثاني كما سمعت من كلامه وعليه جملة من المتأخرين وهو الظاهر عندي ، وبه يجمع بين أدلة المسألة ويزول عنها الاختلاف ، وحينئذ فتجري عليه الأحكام التي أوجبتها الردة من القتل وبينونة الزوجة وقسمة أمواله على الورثة وتصح عباداته في ما بينه وبين الله سبحانه وتقبل منه لو اتفق ذلك قبل القتل وبعد التوبة.

حجة القول المشهور ظواهر الاخبار مثل قول ابى جعفر عليه‌السلام في حسنة محمد بن مسلم «وقد سأل عن المرتد فقال من رغب عن الإسلام وكفر بما انزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد إسلامه فلا توبة له وقد وجب قتله وبانت منه امرأته ويقسم ما ترك على ولده».

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١ من حد المرتد.

١٥

وقول ابى عبد الله عليه‌السلام في موثقة عمار الساباطي (١) «كل مسلم بين مسلمين ارتد عن الإسلام وجحد محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله نبوته وكذبه فإن دمه مباح لكل من سمع ذلك منه وامرأته عدة بائنة منه يوم ارتد فلا تقربه ويقسم ماله على ورثته ، وتعتد امرأته المتوفى عنها زوجها ، وعلى الامام ان يقتله ولا يستتيبه».

ونحوهما غيرهما من الاخبار ، وظاهرهما عدم القبول مطلقا لإجرائه مجرى الميت في الأحكام المذكورة.

حجة القول بالقبول باطنا وعدمه ظاهرا كما هو المختار الجمع بين الاخبار المذكورة وبين ما دل على قبول التوبة من الآيات القرآنية والاخبار النبوية.

ومن الآيات قوله عزوجل «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» (٢) وقوله سبحانه «فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (٣) ومفهوم قوله عزوجل «وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ» (٤).

ومن الأخبار حسنة محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه‌السلام (٥) قال : «من كان مؤمنا فعمل خيرا في إيمانه ثم أصابته فتنة فكفر ثم تاب بعد كفره كتب له وحسب كل شي‌ء كان عمله في إيمانه ولا يبطله الكفر إذا تاب بعد كفره». الى غير ذلك من الآيات والروايات.

وكذا ما دل على توجه خطاب التكليف اليه من عموم أدلة التكاليف لكل بالغ عاقل مسلم فيلزم صحة عباداته وقبولها منه المستلزم لقبول التوبة باطنا وإلا لزم

__________________

(١) الوسائل الباب ١ من حد المرتد.

(٢) سورة الفرقان الآية ٦٨ و ٦٩.

(٣) سورة المائدة الآية ٤٢.

(٤) سورة البقرة الآية ٢١٤.

(٥) الوسائل الباب ٩٩ من جهاد النفس.

١٦

التكليف بما لا يطاق ، كما يشير اليه كلام شيخنا الشهيد الثاني المتقدم ، وهو منفي عقلا ونقلا.

وحينئذ فلو لم يطلع عليه أحد أو لم يقدر على قتله أو تأخر بوجه وقد حصلت منه التوبة فإنه تقبل توبته في ما بينه وبين الله عزوجل وتصح عباداته ومعاملاته ويطهر بدنه ويدفن في مقابر المسلمين ، لقوله عزوجل زيادة على ما تقدم «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (١) ولا ينافيه اجراء تلك الأحكام التي اشتملت عليها الأخبار المتقدمة ، فإن هذا أمر آخر وراء قبول التوبة باطنا.

وأما ما نقل عن ابن الجنيد وهو القول الثالث فلعل وجهه العمل بما دل على قبول التوبة من الآيات والروايات ، إلا ان فيه طرحا للأخبار المتقدمة والجمع بين الدليلين متى أمكن أولى من طرح أحدهما.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان كلام شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) في المسالك في هذه المسألة لا يخلو من اضطراب ، فإنه قال في كتاب الميراث ما قدمنا ذكره مما يدل على ان المختار عنده هو قبول التوبة باطنا لا ظاهرا وان المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) هو عدم القبول مطلقا.

وقال في كتاب القضاء : ثم ان قبلت توبته كالمرأة والملي قضى وان لم تقبل ظاهرا كالفطرى على المشهور فإن أمهل بما يمكنه القضاء قبل قتله قضى وإلا بقي في ذمته ، والأقوى قبول توبته مطلقا. انتهى.

وهذا الكلام كما ترى ظاهر في اختياره قبول التوبة ظاهرا وباطنا كما هو المنقول عن ابن الجنيد وهو خلاف ما صرح به في كتاب الميراث ، وظاهره ان القبول ظاهرا وعدمه محل خلاف والمشهور هو عدم القبول مع انه ادعى الإجماع في مبحث الارتداد من كتاب الحدود على عدم قبول توبته ظاهرا وقوى قبولها

__________________

(١) سورة المائدة الآية ٣٨.

١٧

باطنا كما حكيناه عنه في كتاب الميراث ، ففي الأول نسب عدم القبول ظاهرا الى المشهور مؤذنا بالخلاف فيه ، وفي الثاني ادعى الإجماع المؤذن بعدم الخلاف.

ويمكن الجواب عن هذا بحمل الإجماع على الشهرة وان عبر بلفظ الإجماع لما ذكره الشهيد في الذكرى من انهم كثيرا ما يريدون به الشهرة دفعا للتناقض الواقع في كلامهم في دعوى الإجماع على حكم ودعوى الإجماع على خلافه من ذلك المدعى أو غيره ، وانما الإشكال في اختياره القول بالقبول باطنا لا ظاهرا كما في كتاب الميراث مع اختياره القبول ظاهرا وباطنا كما في كتاب القضاء. والله العالم.

المسألة الثالثة ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب تقديم الفائتة على الحاضرة على أقوال ثلاثة ، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة مستوفى بحمد الله سبحانه في مبحث الأوقات فلا حاجة الى الإعادة.

المسألة الرابعة ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه لو نسي تعيين الصلاة الفائتة بأن كانت واحدة مثلا ولا يعلم ايها من الخمس فإنه يصلى ثلاثا ينوي بها المغرب وأربعا مرددة بين الظهر والعصر والعشاء واثنتين ينوي بهما الصبح ، ذهب اليه الشيخان وابنا بابويه وابن الجنيد وأكثر المتأخرين ، ونقل الشيخ في الخلاف الإجماع عليه (١) ونقل عن ابى الصلاح وابن حمزة وجوب الخمس.

ويدل على المشهور ما رواه الشيخ بإسنادين أحدهما من الصحاح والآخر من الحسان عن على بن أسباط عن غير واحد من أصحابنا عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) قال «من نسي من صلاة يومه واحدة ولم يدر أي صلاة هي صلى ركعتين وثلاثا وأربعا».

وما رواه أحمد بن ابى عبد الله البرقي في كتاب المحاسن عن على بن مهزيار عن الحسين رفعه (٣) قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل نسي صلاة من الصلوات الخمس لا يدرى أيتها هي قال يصلى ثلاثة وأربعة وركعتين ، فان كانت الظهر أو العصر أو العشاء كان قد صلى أربعا ، وان كانت المغرب أو الغداة فقد صلى».

__________________

(١) وفي الخطية «وهو الأظهر».

(٢ و ٣) الوسائل الباب ١١ من قضاء الصلوات.

١٨

احتج الفاضلان المذكوران بعموم ما دل على وجوب قضاء الفوائت ولا يعلم إلا بالإتيان بالخمس كملا.

واحتج في المدارك على القول المشهور بما لا يخلو عند التأمل الصادق من القصور ، قال بعد ذكر القول المشهور أو لا ثم القول الثاني : والمعتمد الأول ، لنا ان الواجب عليه صلاة واحدة لكن لما كانت غير متعينة والزيادة والنقيصة في الصلاة مبطلة وجب عليه الإتيان بالثلاث لدخول الواجب في أحدها يقينا والأصل براءة الذمة من الزائد ، ويؤيده رواية على بن أسباط. ثم ساق الرواية إلى قوله «أربعا».

أقول : لا يخفى انه لما كانت الرواية المذكورة باصطلاحه ضعيفة السند لفق هذا الدليل وجعله المعتمد وجعل الرواية مؤيدة له. وفيه ان دليله لا يفي بالمطلوب ولا يقوم حجة على الخصم ، لان مطرح النزاع في هذه المسألة هو انه هل يكتفى بالرباعية المرددة بين الثلاث الفرائض المذكورة أم يجب الإتيان بكل فريضة منها على حدة حتى يستوفى الخمس؟ فالخصم يوجب الثاني وهو الحق بناء على طرح الرواية من البين لما ذكره ذلك الخصم من التعليل ، وجوابه عنه بالمنع لحصوله بالثلاث المرددة مردود بان العبادات توقيفية من الشارع كما وكيفا وأداء وقضاء ووجوبا وندبا لا مسرح لأمثال هذه التخريجات الغثة فيها ، ولم يثبت من الشارع الاكتفاء بذلك بناء على طرح النص المذكور ، ويقين براءة الذمة لا يحصل إلا بالإتيان بالثلاث المذكورة على حدة. ويؤيده ان الأصل عدم التداخل ، والقول بالتداخل والاكتفاء بالواحدة من غير دليل شرعي مردود. وبالجملة فإن دليله المذكور لا يخرج عن المصادرة لأن الخصم يمنع الاكتفاء بالأربع المرددة ويوجب الإتيان بالخمس وهو يحتج بالاكتفاء بها وهو عين الدعوى ، ومن ثم ان صاحب الذخيرة مع اقتفائه له في أكثر الأحكام عدل عنه في هذا المقام ولفق للاستدلال بالخبر وجوها ذكرها لجبر ضعفه ، والكل حاصل عن ضيق الخناق في هذا الاصطلاح

١٩

الذي هو الى الفساد أقرب من الصلاح كما نبهت عليه في غير مقام.

فروع

الأول ـ لو كانت الفائتة في الصورة المذكورة في السفر صلى ثنائية مطلقة إطلاقا رباعيا ومغربا ، وخالف ابن إدريس هنا مع موافقته ثمة نظرا الى اختصاص النص بالأول فالتعدية قياس ، وزعما منه حصول الإجماع ثمة دون ما هنا.

وأنت خبير بان ظاهر خبر المحاسن وقوله عليه‌السلام فيه «فان كانت الظهر أو العصر أو العشاء كان قد صلى أربعا» هو الإشارة الى ان الغرض من التشريك والعلة فيه هو حصول الفريضة الفائتة في ضمن هذه الكيفية. ولا تفاوت فيه بين اشتراك هذا العدد بين ثلاث فرائض أو أربع ، وورود الثلاث في الخبرين المذكورين انما هو باعتبار صلاة الحضر التي هي الغالبة المتكررة ، فذكر هذا التفصيل فيها بالثلاث والأربع والثنتين انما خرج مخرج التمثيل.

الثاني ـ لو قلنا بالترديد كما هو المشهور وقلنا بوجوب الجهر والإخفات فهل الحكم في هذه الفريضة المترددة الجهر أو الإخفات؟ إشكال ، والظاهر من كلام جملة من الأصحاب هنا التخيير ، ولا يخلو من قرب وإلا لزم الترجيح من غير مرجح.

الثالث ـ لو تعددت الفائتة المجهولة قضى كما تقدم مكررا. فلو كان العدد معلوما كأن نسي فريضتين مجهولتين مثلا صلى ثلاثا ثلاثا ان كانتا من صلاة الحضر وان كانتا من السفر اثنتين اثنتين ، وعلى هذا النحو لو نسي ثلاث فرائض مجهولات ، وأما لو لم يكن العدد معلوما قضى على الوجه المذكور حتى يغلب على ظنه الوفاء.

الرابع ـ لو فاتته فريضة معينة مرات لا يعلم عددها قالوا يكرر حتى يغلب على ظنه الوفاء ، قال في المدارك : وهو مقطوع به في كلام الأصحاب ولم نقف فيه على نص بالخصوص.

وبنحو ذلك صرح جده (قدس‌سره) في الروض ثم قال : والظاهر من الجماعة ايضا انه لا نص عليه. ثم قال نعم ورد ذلك في قضاء النوافل الموقتة فروى

٢٠