الحدائق الناضرة - ج ١١

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١١

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٠٠

فيه خلافا ، والخبر إنما دل على بطلان القدوة بالحائل والساتر من جدار ونحوه لا بحيلولة المأمومين بعضهم ببعض. وبالجملة فالأصل وعموم الأدلة يقتضي صحة القدوة في الصورة المذكورة مضافا الى دعوى الاتفاق على ذلك.

الرابع ـ نقل عن ابى الصلاح وابن زهرة المنع من حيلولة النهر بين الامام والمأموم ، قال في المدارك فإن أرادا به ما لا يمكن تخطيه من ذلك كان جيدا لإطلاق صحيحة زرارة المتقدمة ، وان لم يعتبرا فيه هذا القيد طولبا بالدليل على الإطلاق. وقال في الذكرى : ومنع أبو الصلاح وابن زهرة من حيلولة النهر لرواية زرارة السالفة وقد بينا حملها على الاستحباب.

أقول : سيأتي ان مذهب هذين الفاضلين هو تفسير البعد الموجب لبطلان القدوة بما لا يتخطى وهو الذي دل عليه الخبر المشار اليه ، وسيأتي في معنى الخبر المذكور انه لا بد من تواصل الصفوف بعضها مع بعض وهكذا مع الإمام ، بان لا يزيد ما بين موقف الصف الثاني إلى الصف الذي قدامه على مسقط جسد الإنسان حال سجوده وان هذا هو الحد الذي يتخطى عادة وما زاد عليه فهو مما لا يتخطى ، ولا ريب ان النهر إذا فصل بين الصفوف أو بين الامام والصف فقد حصلت الزيادة في المسافة المعتبرة وانتهت الى ما لا يتخطى.

وبذلك يظهر ان كلامهما هنا يرجع الى ما ذكروه ثمة كما قدمنا نقله عنهما ، وهو جيد عند من عمل بالخبر المذكور كما يشير اليه كلام صاحب المدارك دون من يتأوله كما يشير اليه كلام صاحب الذكرى.

الخامس ـ تجوز الصلاة بين الأساطين مع المشاهدة واتصال الصفوف لقوله عليه‌السلام في صحيحة الحلبي (١) «لا أرى بالصفوف بين الأساطين بأسا». وقال في كتاب الفقه الرضوي (٢) : نقلا عن العالم عليه‌السلام قال :

«وقال لا أرى بالصفوف بين الأساطين بأسا». وهو يشتمل ما لو كانت الأساطين

__________________

(١) الوسائل الباب ٥٩ من صلاة الجماعة.

(٢) ص ١١.

١٠١

معترضة بين الصف الواحد أو بين الصفين. وفيه دلالة على أنه لا يضر الوقوف خلف الأسطوانة وان كان مانعا من رؤية الإمام إذا رأى المأمومين الذين يرون الإمام أو من يراه.

وبما ذكرنا صرح في الذكرى فقال : يجوز الصلاة بين الأساطين مع المشاهدة واتصال الصفوف لقوله (عليه‌السلام) : «لا أرى بالصفوف بين الأساطين بأسا»

وبذلك يظهر ما في كلام العلامة (أجزل الله إكرامه) في المنتهى حيث قال : ويكره للمأمومين الوقوف بين الأساطين لأنها تقطع صفوفهم ، وبه قال ابن مسعود والنخعي وحذيفة وابن عباس ، ولم يكره مالك وأصحاب الرأي (١) لعدم الدلالة على المنع. والجواب ما رواه الجمهور عن معاوية بن قرة عن أبيه (٢) قال : «كنا ننهى ان نصف بين الأساطين على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونطرد عنها طردا». ولما ذكرناه من قطعها للصف. انتهى. وظاهره انه لا مستند له في ما ذكره إلا هذه الرواية العامية وهذا التعليل العليل وغفل عن ملاحظة النص الواضح في نفى البأس عن ذلك.

السادس ـ قال في الذكرى : لو صلى في داره خلف امام المسجد وهو يشاهد الصفوف صحت قدوته وأطلق الشيخ ذلك ، والأولى تقييده بعدم البعد المفرط ، قال ولو كان باب الدار بحذاء باب المسجد أو باب المسجد عن يمينه أو عن يساره واتصلت الصفوف من المسجد الى داره صحت صلاتهم ، وان كان قدام هذا الصف في داره صف لم تصح صلاة من كان قدامه ، ومن صلى خلفهم صحت صلاتهم سواء كان على الأرض أو في غرفة منها لأنهم يشاهدون الصف المتصل بالإمام والصف الذي قدامه لا يشاهدون الصف المتصل بالإمام ، وقد روى (٣) «ان أنسا كان يصلى في بيت حميد بن عبد الرحمن بن عوف بصلاة الامام وبينه وبين

__________________

(١ و ٢) المغني ج ٢ ص ٢٢٠.

(٣) المغني ج ٢ ص ٢٠٩ وفيه هكذا «. في موت حميد بن عبد الرحمن.».

١٠٢

المسجد طريق» وفيه أيضا دلالة على أن الشارع ليس بحائل (فإن قلت) قد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) «من كان بينه وبين الإمام حائل فليس مع الامام». قلت يحمل على البعد المفرط أو على الكراهة. انتهى ما ذكره في الذكرى.

أقول : هذا الكلام من أوله الى آخره مبنى على ما تقدم نقله عنهم من تفسير البعد الموجب لبطلان القدوة بما قدمنا نقله عن الشيخ في الخلاف والمبسوط وما ذكره الأكثر من الإحالة إلى العرف ، وقد عرفت ما في الجميع وان الاعتماد في ذلك انما هو على الخبر الصحيح الصريح الدال على التقدير بما لا يتخطى عادة المفسر في الخبر المذكور بما زاد على مسقط جسد الإنسان حال السجود. واما ما استند اليه في عدم كون الشارع حائلا من الخبر العامي فضعفه أظهر من أن يبين ، وتأويله الخبر المروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بما ذكره موقوف على وجود المعارض وليس في المقام ما يعارضه بل الموجود فيها ما يعضده ويقويه وهو صحيحة زرارة المتقدمة.

وبالجملة فإن كلماتهم في هذا المقام لكون البناء على غير أساس وثيق القوام مختلة النظام عديمة الانتظام.

المسألة الرابعة ـ قال في المدارك : أجمع علماؤنا وأكثر العامة على انه يشترط في الجماعة عدم التباعد بين الامام والمأموم إلا مع اتصال الصفوف ، وانما الخلاف في حده فذهب الأكثر الى ان المرجع فيه الى العادة ، وقال في الخلاف حده مع عدم اتصال الصفوف ما يمنع من مشاهدته والاقتداء بأفعاله ، ويظهر منه في المبسوط جواز البعد بثلاثمائة ذراع. انتهى.

__________________

(١) في المجموع للنووي شرح المهذب للشيرازي ج ٤ ص ٤٠٩ في مسألة حيلولة الطريق «وقال أبو حنيفة لا يصح الحديث رووه مرفوعا «من كان بينه وبين الامام طريق فليس مع الامام» ثم قال : وهذا حديث باطل لا أصل له وانما يروى عن عمر من رواية ليث بن ابى سليم عن تميم وليث ضعيف وتميم مجهول» وفي التذكرة في المسألة الرابعة من الشرط الثالث من شروط الجماعة رواه كما تقدم بلفظ «طريق» وبما تقدم من النووي يظهر ان نسبة الحديث إلى النبي «ص» كما في الذكرى والتذكرة ليست في محلها.

١٠٣

أقول : فيه (أولا) ـ ان الظاهر من كلام العامة ـ على ما نقله بعض محققي متأخري المتأخرين ـ خلاف ما ذكره (قدس‌سره) فإنه نقل ان مذهب الشافعية الفرق في ذلك بين المساجد وغيرها ، قال البغوي في التهذيب : فان تباعدت الصفوف أو بعد الصف الأول عن الامام نظر ان كانوا جميعا في مسجد واحد صحت صلاتهم مع الامام ، وان بعدوا واختلف بهم البناء أو كان بين الامام والمأموم حائل. الى ان قال : وان كانوا في غير المسجد فان كان بين المأموم والامام أو بينه وبين الصف الآخر ثلاثمائة ذراع أو أقل صحت. انتهى. وهو صريح في عدم اعتبار الصفوف كما زعمه (قدس‌سره). وقال في شرح المنهاج : واشترطوا ان يجمع الامام والمأموم المسجد وان بعدت المسافة وحالت الأبنية نافذة أغلق أبوابها أم لا ، وقيل لا تصح في الإغلاق. وهو كما ترى ظاهر في انهم لم يشترطوا في المساجد غير ذلك من قرب المسافة أو وجود الصفوف فضلا عن اتصالها لكن لا بد أن يعلم بانتقالات الامام إما برؤية شخصه أو يسمعه أو يبلغه غيره. ومذهب مالك على ما ذكره العثماني في كتابه انه إذا صلى في داره بصلاة الامام وهو في المسجد وكان يسمع التكبير صح الاقتداء إلا في الجمعة فإنها لا تصح إلا في الجامع أو في رحابه إذا كان متصلا به ، وقال أبو حنيفة يصح الاقتداء في الجمعة وغيرها ، وقال عطاء الاعتبار العلم بصلاة الإمام دون المشاهدة وعدم الحائل وحكى ذلك عن النخعي والحسن البصري (١) انتهى. ومقتضاه ان أبا حنيفة قائل

__________________

(١) في المجموع للنوى الشافعي ج ٤ ص ٣٠٩ «فرع في مسائل : إحداها ـ يشترط ان لا تطول المسافة بين الامام والمأمومين إذا صلوا في غير المسجد وبه قال جماهير العلماء ، وقدر الشافعي القرب بثلاثمائة ذراع ، وقال عطاء يصح مطلقا وان طالت المسافة ميلا وأكثر إذا علم صلاته. الثانية ـ لو حال بينهما طريق صح الاقتداء عندنا وعند مالك والأكثرين ، وقال أبو حنيفة لا يصح. الى آخر ما تقدم في التعليقة (١) ص ١٠٣ الثالثة ـ لو صلى في دار أو نحوها بصلاة الإمام في المسجد وحال بينهما حائل لم يصح عندنا وبه قال احمد ، وقال مالك تصح إلا في الجمعة ، وقال أبو حنيفة تصح مطلقا».

١٠٤

بقول مالك حتى في الجمعة ، وبذلك يظهر ان ما نسبه الى أكثر العامة من موافقة الأصحاب في ما ذكره ليس في محله وكان ينبغي أن يقول : أجمع أصحابنا خلافا لأكثر العامة بل جميعهم. على ان ما ادعاه من إجماع أصحابنا على ما ذكره يرده ظاهر كلام العلامة في المختلف من قوله : والمشهور المنع من التباعد الكثير ، ويستند في ذلك الى العرف.

و (ثانيا) ان ما نسبه الى الشيخ في المبسوط من انه يظهر منه جواز البعد بثلاثمائة ذراع ليس في محله ، وهذه عبارته قال في المبسوط : وحد البعد ما جرت العادة بتسميته بعدا ، وحد قوم ذلك بثلاثمائة ذراع وقالوا على هذا ان وقف وبينه وبين الإمام ثلاثمائة ذراع ثم وقف آخر وبينه وبين هذا المأموم ثلاثمائة ذراع ثم على هذا الحساب والتقدير بالغا ما بلغوا صحت صلاتهم. قالوا وكذلك إذا اتصلت الصفوف في المسجد ثم اتصلت بالأسواق والدروب والدور بعد أن يشاهد بعضهم بعضا ويرى الأولون الإمام صحت صلاة الكل. وهذا قريب على مذهبنا ايضا. قال العلامة (قدس‌سره) ومراده بالقوم هنا بعض الجمهور لانه لا قول لعلمائنا في ذلك. انتهى. وهو جيد. وقد عرفت قول بعض الجمهور بذلك من ما نقلناه.

وقال في الذكرى بعد نقل ذلك عنه : يمكن أن يشير الى جميع ما تقدم فيكون رضى بالثلاثمائة ، ويمكن أن يشير بالقرب الى الفرض الأخير خاصة فلا يكون راجعا الى التقدير بثلاثمائة ذراع وهو الأنسب بقوله : وحد البعد ما جرت العادة بتسميته بعدا. وقال أبو الصلاح وابن زهرة لا يجوز أن يكون بين الصفين من المسافة ما لا يتخطى.

والى هذا القول مال جملة من أفاضل متأخري المتأخرين ، وهو الحق الحقيق بالاتباع لقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة المتقدمة (١) «ان صلى قوم وبينهم وبين الامام ما لا يتخطى فليس ذلك الامام لهم بإمام ، وأى صف كان أهله يصلون بصلاة إمام

__________________

(١) ص ٩٥ و ٩٦.

١٠٥

وبينهم وبين الصف الذي يتقدمهم قدر ما لا يتخطى فليس تلك لهم بصلاة».

وأجاب عنها في المعتبر بان اشتراط ذلك مستبعد فيحمل على الأفضل. وأجاب عنها في المختلف باحتمال أن يكون المراد ما لا يتخطى من الحائل لا من المسافة. ورد بالتصريح في الرواية بعد ذلك بذكر الحائل ، مع ان اللازم من حمله على الحائل المنع من الصلاة خلف الشبابيك والحائل القصير الذي يمنع من الاستطراق دون المشاهدة وهو لا يقول به.

أقول : ويؤيد الرواية المذكورة ما رواه في كتاب دعائم الإسلام عن ابى جعفر محمد بن على عليهما‌السلام) (١) انه قال : ينبغي للصفوف أن تكون تامة متصلة ويكون بين كل صفين قدر مسقط جسد الإنسان إذا سجد ، وأى صف كان أهله يصلون بصلاة الامام وبينهم وبين الصف الذي تقدمهم أزيد من ذلك فليس تلك الصلاة لهم بصلاة. انتهى.

ثم ان العجب منهم (نور الله مراقدهم) في هذا المقام في ارتكاب هذه التأويلات البعيدة والتمحلات الشديدة من غير موجب لذلك ، فان ما ذهبوا اليه من الحوالة على العادة لا دليل عليه غير مجرد تخرصهم وظنهم ، مع ما عرفت في غير مقام من ما تقدم ما في حوالة الأحكام الشرعية على العرف الذي لا انضباط له بالكلية ، وهل هو إلا رد إلى جهالة لما يعلم من اختلاف الأقطار والبلدان في هذا العرف فان لكل قطر عرفا على حدة ، ثم انه من الذي يدعى الوقوف والاطلاع على العرف العام لجميع الناس في جميع الأقطار والأمصار حتى يرتب عليه حكما شرعيا أو أنه يجب الوقوف في الحكم حتى يحصل تتبع العرف أو أنه يكتفى بعرف كل بلد وإقليم على حدة ، ما هذه إلا تخرصات ظنية ومجازفات وهمية في أحكامه سبحانه المبنية على القطع واليقين والعلم «أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ» (٢) مع ان

__________________

(١) مستدرك الوسائل الباب ٤٩ من صلاة الجماعة. وفيه بدل «أزيد» «أقل».

(٢) سورة الأعراف الآية ٢٧.

١٠٦

الخبر المذكور صحيح صريح خال من المعارض دال على الحكم المذكور بأظهر تأكيد لقوله عليه‌السلام (١) زيادة على ما قدمنا ذكره «ينبغي أن تكون الصفوف تامة متواصلة بعضها الى بعض لا يكون بين الصفين ما لا يتخطى». و «ينبغي» هنا بمعنى الوجوب كما استفاض في الأخبار ، وعليه صدر الكلام الى أن قال عليه‌السلام أيضا في الخبر «أيما امرأة صلت خلف امام وبينها وبينه ما لا يتخطى فليس لها تلك بصلاة» وهل وقع في حكم من الأحكام ما وقع في هذا الحكم من المبالغة بهذا التأكيد التام؟ ما هذا إلا عجب عجيب من هؤلاء الأعلام تجاوز الله عنا وعنهم في دار المقام.

وبالجملة فالظاهر عندي من النص المذكور هو وجوب مراعاة هذا المقدار بين الامام والمأمومين وكذا ما بين المأمومين بعضهم مع بعض ، وظاهر الخبر المذكور انه لا ينبغي أن يكون بين الصفين زيادة على مسقط جسد الإنسان حال السجود بمعنى أنه يكون سجوده متصلا بعقب رجلي المتقدم فتكون مسافة البعد من موقف المصلى لا من موضع سجوده ، وقوله عليه‌السلام : «يكون قدر ذلك مسقط جسد الإنسان» أي قدر المسافة التي يحصل بها تواصل الصفوف بعضها الى بعض هذا المقدار. وما ذكرناه ظاهر من عبارة الخبر المنقول من كتاب الدعائم أتم الظهور.

فرعان

الأول ـ قال في المدارك : واعلم انه ينبغي للبعيد من الصفوف أن لا يحرم بالصلاة حتى يحرم قبله من المتقدم من يزول معه التباعد. انتهى. وهو جيد لأنه مع إحرام البعيد بهذا المقدار قبل إحرام من يزول به البعد يصدق وجود ما لا يتخطى فان وجود المأمومين قبل الدخول في الصلاة في حكم العدم وحينئذ تبطل القدوة. واحتمال انهم آن وجودهم مريدين الصلاة وان لم يحرموا في حكم من أحرم معارض بجواز انصرافهم وتركهم الاقتداء أو عروض مانع منه. إلا ان اعتبار هذا الشرط في غاية الإشكال الآن في حق المأمومين الذين هم في الأغلب

__________________

(١) ص ٩٦.

١٠٧

الأكثر من الجهال ولكن جهلهم ليس عذرا شرعيا يوجب الخروج عن العمل بأحكام الملك المتعال.

الثاني ـ لو حصل البعد المذكور بخروج الصفوف المتخللة بين الامام والمأمومين من الصلاة عن الاقتداء لانتهاء صلاتهم أو نية الانفراد ، فهل تنفسخ القدوة لحصول البعد حينئذ أم لا؟ وعلى تقدير الانفساخ هل تعود القدوة بالانتقال الى محل القرب الذي به يزول البعد بناء على جواز تجديد المؤتم بإمام آخر إذا انتهت صلاة الإمام الأول أم لا؟ ولعل الأظهر ان اشتراط عدم البعد انما هو في ابتداء الصلاة خاصة دون استدامتها ، كما تقدم نظيره في صلاة الجمعة والعيد من أن اشتراط الجماعة والعدد المشروط فيهما إنما هو في الابتداء فلو انفض العدد بعد الدخول في الصلاة وجب الإتمام جمعة ولو لم يبق إلا الإمام خاصة.

المسألة الخامسة ـ من الشرائط أيضا في صحة الجماعة عدم علو الامام بما يعتد به من الابنية ونحوها بل إما أن يكون مساويا للمأموم أو أخفض منه ، ولا بأس بذلك في المأموم ويستثني من ذلك العلو في الأرض المنبسطة لو قام الإمام في المكان الأعلى منها.

والأصل في هذه الأحكام ما رواه ثقة الإسلام والصدوق والشيخ في الموثق عن عمار عن ابى عبد الله عليه‌السلام (١) قال : «سألته عن الرجل يصلى بقوم وهم في موضع أسفل من موضعه الذي يصلى فيه؟ فقال ان كان الامام على شبه الدكان أو على موضع أرفع من موضعهم لم تجز صلاتهم ، وان كان أرفع منهم بقدر إصبع أو أكثر أو أقل إذا كان الارتفاع ببطن مسيل ، فان كان أرضا مبسوطة وكان في

__________________

(١) الوسائل الباب ٦٣ من صلاة الجماعة. والشيخ يرويه عن الكليني. وقوله «سألته» في رواية الكليني في الفروع ج ١ ص ١٠٧ والشيخ عنه في التهذيب ج ١ ص ٢٦١ ، وفي الفقيه ج ١ ص ٢٥٣ «قال عمار سئل أبو عبد الله ع» وفي الفقيه ايضا هكذا «وان كانت الأرض مبسوطة» وفيه ايضا بعد قوله «منحدر» هكذا «فلا بأس به» وفي الفروع والتهذيب «قال لا بأس».

١٠٨

موضع منها ارتفاع فقام الإمام في الموضع المرتفع وقام من خلفه أسفل منه والأرض مبسوطة إلا انهم في موضع منحدر فلا بأس به. وسئل فإن قام الإمام أسفل من موضع من يصلى خلفه؟ قال لا بأس. قال وان كان رجل فوق بيت أو غير ذلك دكانا كان أو غيره وكان الامام يصلى على الأرض أسفل منه جاز للرجل أن يصلى خلفه ويقتدى بصلاته وان كان أرفع منه بشي‌ء كثير».

قوله : «إذا كان الارتفاع ببطن مسيل» في الكافي ، وفي غيره (١) «إذا كان الارتفاع بقدر شبر» وطعن السيد السند في المدارك في هذه الرواية بأنها ضعيفة السند متهافتة المتن قاصرة الدلالة فلا يسوغ التعويل عليها في إثبات حكم مخالف للأصل ، قال ومن ثم تردد فيه المصنف (رحمة الله عليه) وذهب الشيخ في الخلاف إلى كراهة كون الإمام أعلى من المأموم بما يعتد به كالأبنية وهو متجه. انتهى كلامه زيد مقامه.

أقول : ومما ورد في المسألة أيضا ما رواه الشيخ في الصحيح عن صفوان ـ وهو ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ـ عن محمد بن عبد الله وهو مجهول عن الرضا عليه‌السلام (٢) قال : «سألته عن الامام يصلى في موضع والذين خلفه يصلون في موضع أسفل منه أو يصلى في موضع والذين خلفه في موضع أرفع منه؟ فقال يكون مكانهم مستويا».

وما رواه على بن جعفر (رضى الله عنه) في كتاب المسائل عن أخيه موسى ابن جعفر عليه‌السلام (٣) قال : «سألته عن الرجل هل يحل له أن يصلى خلف الامام فوق دكان؟ قال إذا كان مع القوم في الصف فلا بأس».

أقول : قضية الجمع بين هذه الأخبار هو المنع من علو الامام كما دلت عليه الموثقة المذكورة ، إذ لا معارض لها في البين وطرحها من غير معارض مشكل وجواز علو المأموم كما دل عليه خبر على بن جعفر ، والظاهر انه مما لا خلاف فيه كما يظهر من المنتهى حيث انه أسنده إلى علمائنا مؤذنا بدعوى الإجماع عليه ، وأفضلية

__________________

(١) هذا في التهذيب وفي الفقيه «بقطع سيل».

(٢ و ٣) الوسائل الباب ٦٣ من صلاة الجماعة.

١٠٩

المساواة بحمل خبر محمد بن عبد الله المذكور على ذلك جمعا بين الأخبار المذكورة.

وحمل العلامة في المختلف كلام الشيخ في الخلاف على أنه انما قصد به التحريم وهو غير بعيد. إلا ان ظاهر كلام المحقق في المعتبر ان الشيخ في الخلاف انما استند في ما ذكره من الكراهة إلى رواية سهل (١) قال : «رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على المنبر فكبر وكبر الناس وراءه ثم ركع وهو على المنبر ثم رجع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ ثم أقبل على الناس فقال أيها الناس فعلت كذا لتأتموا ولتعلموا صلاتي». ثم أجاب في المعتبر بمنع الرواية (أولا) وبالحمل على علو لا يعتد به كالمرقاة السفلى (ثانيا) وبجواز كونه من خواصه صلى‌الله‌عليه‌وآله (ثالثا) وزاد العلامة فقال : ولانه لم يتم الصلاة على المنبر فان سجوده وجلوسه انما كان على الأرض بخلاف ما وقع فيه الخلاف ، أو لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله علمهم الصلاة ولم يعتدوا بها. انتهى.

أقول : ربما أشعر تكلف هذه الأجوبة عن الخبر المذكور بثبوته عندهم إلا ان يحمل على التنزل بعد تسليم صحته وهو الأقرب ، فإن الظاهر ان الخبر المذكور ليس من طرقنا ولا من أخبارنا. وكيف كان فالظاهر ان الشيخ إنما ذهب الى الكراهة جمعا بين ما دل عليه هذا الخبر من الجواز كما يعطيه استدلاله به وما دلت عليه موثقة عمار من المنع فجعل وجه الجمع بينهما حمل خبر عمار على الكراهة ، ومنه يظهر بعد ما ذكره العلامة في المختلف من حمل الكراهة في عبارته على التحريم.

ثم انه في المختلف نقل عن ابن الجنيد أنه قال لا يكون الإمام أعلى في مقامه بحيث لا يرى المأموم فعله إلا أن يكون المأمومون أضراء ، فإن فرض البصراء الاقتداء بالنظر وفرض الأضراء الاقتداء بالسماع إذا صح لهم التوجه. ثم استدل للقول المشهور بالموثقة المتقدمة ثم قال وهو شامل للبصراء والأضراء.

هذا. وقد استدل في الذكرى للقول المشهور زيادة على الموثقة المذكورة

__________________

(١) صحيح مسلم ج ١ ص ٢٠٥ باب جواز الخطوة والخطوتين.

١١٠

بما روى (١) «ان عمارا (رضى الله عنه) تقدم للصلاة على دكان والناس أسفل منه فقدم حذيفة (رضى الله عنه) فأخذ بيده حتى أنزله فلما فرغ من صلاته قال له حذيفة ألم تسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول إذا أم الرجل القوم فلا يقومن في مكان أرفع من مقامهم؟ قال عمار فلذلك اتبعتك حين أخذت على يدي». قال وروى ايضا (٢) «ان حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان فأخذ عبد الله بن مسعود بقميصه فجذبه فلما فرغ من صلاته قال ألم تعلم انهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال بلى ذكرت حين جذبتني». والظاهر ان هذين الخبرين من روايات العامة أو من الأصول التي وصلت اليه ولم تصل إلينا.

فروع

الأول ـ اختلف الأصحاب (رضى الله عنهم) في مقدار العلو المانع من صحة القدوة فقيل انه القدر المعتد به وانه لا تقدير له إلا بالعرف ، وهو قول الأكثر ومنهم الشهيد في الذكرى والعلامة في بعض كتبه ، وقيل قدر شبر ، وقيل ما لا يتخطى وبه صرح العلامة في التذكرة ، قال لو كان العلو يسيرا جاز إجماعا وهل يتقدر بشبر أو بما لا يتخطى؟ الأقرب الثاني. والظاهر انه بنى في ذلك على صحيحة زرارة المتقدمة.

قال في الذكرى : لا تقدير للعلو إلا بالعرف وفي رواية عمار (٣) «ولو كان أرفع منهم بقدر إصبع إلى شبر فان كان أرضا مبسوطة وكان في موضع فيه ارتفاع فقام الإمام في المرتفع وقام من خلفه أسفل منه إلا انه في موضع منحدر فلا بأس». وهي تدل بمفهومها على ان الزائد على شبر ممنوع وأما الشبر فيبني على دخول الغاية في المغني وعدمه. انتهى.

__________________

(١ و ٢) سنن ابى داود باب (الامام يقوم مكانا ارفع من مكان القوم.

(٣) ص ١٠٨ و ١٠٩.

١١١

أقول : وهذا الموضع من ما طعن به على الرواية بأنها متهافتة فإنه لا يخفى ما في عبارة الخبر من القصور عن تأدية هذا المعنى الذي ذكره هنا.

الثاني ـ لو وقف الامام على الموضع الأعلى بما يعتد به صحت صلاته وبطلت صلاة المأموم لأنه منهي عن الاقتداء به في هذه الحال ، وأما الامام فلا وجه لبطلان صلاته ، والنهى عن قيامه في الموضع المذكور انما هو لأجل صحة صلاة المأموم لا لأجل صحة صلاته. ونقل عن بعض العامة القول ببطلان صلاة الإمام أيضا لأنه منهي عن القيام على مكان أعلى من مكان المأمومين (١) وفيه ما عرفت.

الثالث ـ قال في المدارك : لو صلى الامام على سطح والمأموم على آخر وبينهما طريق صح مع عدم التباعد وعلو سطح الامام. انتهى.

أقول : قد عرفت من ما قدمنا ان المستفاد من خبر زرارة وكذا من خبر كتاب الدعائم انه لا بد من اتصال الصفوف بالإمام والصفوف بعضها ببعض بحيث لا يكون بينهم أزيد من مسقط جسد الإنسان حال سجوده ، وحينئذ فالطريق التي بين السطحين متضمنة لزيادة المسافة على القدر المذكور ، وبه يظهر الإشكال في الحكم بالصحة في الصورة المفروضة إلا أن تعتبر مسافة التقدير بما لا يتخطى من موضع سجود المأموم ، والظاهر أنه ليس كذلك بل المسافة إنما هي من موقفه الى موقف من قدامه فإنه هو الذي به يحصل تواصل الصفوف المأمور به في الخبر ، ورواية كتاب الدعائم كما تقدم صريحة في ما ذكرناه.

وظاهر الأصحاب ان هذا الحكم اعنى تواصل الصفوف على الوجه المذكور

__________________

(١) في المغني ج ٢ ص ٢١١ «إذا صلى الإمام في مكان أعلى من المأمومين فقال ابن حامد بطلت صلاتهم وهو قول الأوزاعي ، لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه. وقال القاضي لا تبطل وهو قول أصحاب الرأي ، لان عمارا أتم صلاته ولو كانت فاسدة لاستأنفها. ثم قال : ويحتمل أن يتناول النهي الإمام لكونه منهيا عن القيام في مكان أعلى من مقامهم ، فعلى هذا الاحتمال تبطل صلاة الجميع عند من أبطل الصلاة بارتكاب النهى».

١١٢

انما هو على سبيل الاستحباب ، قال في الذكرى : يستحب تقارب الصفوف فلا يزيد ما بينها على مسقط الجسد إذا سجد ، رواه زرارة عن ابى جعفر عليه‌السلام (١) وقدر ايضا بمريض عنز (٢) ذكره في المبسوط. انتهى.

أقول : لا ريب ان تصريحهم بالاستحباب هنا مبنى على حملهم الخبر في ما يدل عليه من النهى عن البعد بما لا يتخطى على الاستحباب كما تقدم ذكره واعتمادهم في تقدير البعد على ما تقدم نقله عنهم من الأقوال ، وأما من يجعل البعد الموجب لبطلان القدوة هو ما دل عليه الخبر فلا إشكال عنده في صحة ما ذكرنا ، وبه يظهر ما في كلام صاحب المدارك حيث انه ممن يقول بما دل عليه الخبر المذكور ظاهرا وان كان كلامه غير صريح في ذلك مع قوله هنا بصحة الصلاة على السطحين اللذين بينهما طريق فاصلة ، فان القول بالصحة هنا لا يجامع ما دل عليه الخبر كما أوضحناه وانما يتم بناء على القول المشهور من تحديد البعد بما تقدم نقله عنهم. والله العالم.

المسألة السادسة ـ من الشرائط في صحة القدوة أن لا يتقدم المأموم في الموقف على الامام بمعنى أن يكون أقرب الى القبلة من الامام ، قال في المدارك : هذا قول علمائنا أجمع ووافقنا عليه أكثر العامة (٣) ثم احتج عليه بان المنقول من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام إما تقدم الإمام أو تساوى الموقفين فيكون الإتيان بخلافه خروجا عن المشروع ، ولأن المأموم مع التقدم يحتاج الى استعلام حال الامام بالالتفات الى ما وراءه وذلك مبطل. انتهى.

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٦٢ من صلاة الجماعة.

(٣) في المهذب للشيرازي ج ١ ص ٩٩ «ان تقدم المأموم على الامام ففيه قولان : قال في القديم لا تبطل كما لو وقف خلف الامام وحده. وقال في الجديد تبطل ، لانه وقف في موضع ليس بموقف مؤتم بحال فأشبه إذا وقف في موضع نجس» وفي المغني ج ٢ ص ٢١٣ «السنة ان يقف المأمومون خلف الإمام فإن وقفوا قدامه لم تصح وبذا قال أبو حنيفة والشافعي ، وقال مالك وإسحاق تصح».

١١٣

والتعليل الأول جيد لأن مرجعه الى أن العبادات توقيفية فيرجع في كيفيتها صحة وبطلانا الى ما ثبت من الشارع فما ثبت التعبد به حكم بصحته وإلا فلا ، إلا انه ينقض عليهم بما قدمنا ذكره في مسألة صلاة المأموم الواحد مع الامام حيث جعلوا موقفه على يمينه من المستحبات وجوزوا كونه خلفه وعن يساره ، والأخبار الواردة في المسألة كلها متفقة على كون المأموم المتحد موقفه عن يمين الامام والأكثر خلفه ، وقضية التعليل المذكور في هذه المسألة جار في تلك المسألة كما عرفت فكيف عدلوا عنه ثمة من غير دليل؟

وكيف كان فظاهر كلامهم انهم لم يقفوا على دليل من الأخبار زائدا على ما ذكروه هنا من هذا الدليل المؤيد باتفاقهم.

ويمكن أن يستدل على ذلك بصحيحة محمد بن عبد الله الحميري المروية في التهذيب (١) قال : «كتبت الى الفقيه عليه‌السلام اسأله عن الرجل يزور قبور الأئمة عليهم‌السلام هل يجوز أن يسجد على القبر أم لا؟ وهل يجوز لمن صلى عند قبورهم أن يقوم وراء القبر ويجعل القبر قبلة ويقوم عند رأسه ورجليه؟ وهل يجوز أن يتقدم القبر ويصلى ويجعله خلفه أم لا؟ فأجاب وقرأت التوقيع ومنه نسخت : أما السجود على القبر فلا يجوز في نافلة ولا فريضة ولا زيارة بل يضع خده الأيمن على القبر ، وأما الصلاة فإنها خلفه يجعله الامام ولا يجوز أن يصلى بين يديه لأن الإمام لا يتقدم ويصلى عن يمينه وشماله».

والتقريب فيها انه عليه‌السلام جعل القبر الشريف بمنزلة إمام الجماعة في الأحكام المذكورة فكما لا يجوز التقدم على الإمام في الجماعة لا يجوز التقدم في الصلاة على القبر الشريف ، وكما يجوز التأخر والمساواة هناك فإنهما يجوزان هنا.

وقد سبقنا الى فهم هذا المعنى من الخبر شيخنا البهائي عطر الله مرقده) في كتاب الحبل المتين حيث قال ما صورته : هذا الخبر يدل على عدم جواز وضع

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٦ من مكان المصلي.

١١٤

الجبهة على قبر الامام عليه‌السلام. الى أن قال : وعلى عدم جواز التقدم على الضريح المقدس حال الصلاة ، لأن قوله عليه‌السلام «يجعله الامام» صريح في جعل القبر بمنزلة الإمام في الصلاة ، فكما أنه لا يجوز للمأموم أن يتقدم على الإمام بأن يكون موقفه أقرب الى القبلة من موقف الامام بل يجب أن يتأخر عنه أو يساويه في الموقف يمينا أو شمالا فكذا هنا ، وهذا هو المراد هنا بقوله عليه‌السلام «لا يجوز أن يصلى بين يديه لأن الإمام لا يتقدم ويصلى عن يمينه وشماله» والحاصل ان المستفاد من الحديث ان كل ما ثبت للمأموم من وجوب التأخر عن الإمام أو المساواة أو تحريم التقدم عليه فهو ثابت للمصلي بالنسبة إلى الضريح المقدس من غير فرق فينبغي لمن صلى عند رأس الإمام أو عند رجليه أن يلاحظ ذلك. انتهى المقصود نقله من كلامه (أفاض الله تعالى عليه رواشح إكرامه) وهو جيد رشيق كما لا يخفى على ذوي التحقيق ، ومنه يظهر الدليل على الحكم المذكور وان غفل عنه الجمهور.

بقي الكلام هنا في مواضع (الأول) ـ ان ظاهر كلام أكثر الأصحاب (رضوان الله عليهم أنه يجوز المساواة مع تعدد المأمومين ، بل نقل عن العلامة في التذكرة دعوى الإجماع على ذلك وان الممنوع منه انما هو التقدم على الامام ، ونقل عن ابن إدريس هنا انه اعتبر تأخر المأموم ولم يكتف بالتساوي ، قال في المدارك : وهو مدفوع بالأصل السالم من المعارض وصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام (١) قال : «الرجلان يؤم أحدهما صاحبه يقوم عن يمينه فان كانوا أكثر من ذلك قاموا خلفه». ونحوه روى زرارة (٢) قال : دلت الروايتان على استحباب وقوف المأموم الواحد عن يمين الإمام أو وجوبه ولو وجب التأخر لذكره إذ المقام مقام البيان. انتهى.

أقول : قد تقدم في المسألة الثانية النقل عن ابن إدريس في صورة اتحاد

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٣ من صلاة الجماعة.

(٢) الوسائل الباب ٤ من صلاة الجماعة.

١١٥

المأموم أنه أوجب أيضا تقدم الامام بقليل ، وظاهر النقل عنه في هذه المسألة أنه مع التعدد أيضا أوجب تقدم الامام.

والتحقيق في المقام بالنظر الى ما يفهم من أخبارهم عليهم‌السلام التي عليها المدار في النقض والإبرام ان ما ذكره ابن إدريس في هذه المسألة جيد دون ما ذكره في المسألة المتقدمة ، لما عرفت في المسألة المتقدمة من تكاثر الأخبار واستفاضتها بأنه متى كان المأموم متحدا فموقفه عن يمين الامام والمتبادر منه المحاذاة وان كانوا أكثر فموقفهم خلفه ، وقد عرفت من ما قدمنا في المسألة المذكورة تطابق الأخبار على ذلك ، وحينئذ فحكمهم بالاستحباب في كل من الموقفين ـ مع دلالة ظواهر الأخبار على الوجوب من غير معارض سوى مجرد الشهرة بينهم ـ تحكم محض ، وبه يظهر قوة ما ذكره ابن إدريس هنا. وما استدل به عليه في المدارك من الأخبار الدالة على صورة وحدة المأموم ليس في محله إذ هو أخص من المدعى ، فان المدعى أنه هل تجوز المساواة تعدد المأموم أو اتحد أم لا؟ والبحث هنا انما هو في هذه المسألة والروايات إنما دلت على جواز المساواة مع الاتحاد كما قدمناه في تلك المسألة. وأما ما يدل على الجواز مع التعدد فلم يرد في شي‌ء من الأخبار بل الوارد فيها إنما هو وجوب التأخر خلف الامام كما تقدم ، فكلام ابن إدريس في صورة تعدد المأموم حق لا ريب فيه.

وبالجملة فالمستفاد من الأخبار كما عرفت هو كون المأموم متى كان رجلا واحدا فموقفه على يمين الامام ومتعددا خلفه ، وما ذكروه من جواز خلاف ذلك فلم نقف فيه على دليل ، ومقتضى دليلهم الذي قدمنا ذكره في صدر هذه المسألة كما أشرنا إليه هو عدم الجواز كما لا يخفى.

الثاني ـ قال في المدارك : وقد نص الأصحاب على أن المعتبر التساوي بالأعقاب فلو تساوى العقبان لم يضر تقدم أصابع رجل المأموم أو رأسه ، ولو تقدم بعقبة على الامام لم ينفعه تأخره عنه بأصابعه أو رأسه ، واستقرب العلامة في

١١٦

النهاية اعتبار التقدم بالعقب والأصابع معا ، وصرح بأنه لا يقدح في التساوي تقدم رأس المأموم في حالتي الركوع والسجود ومقاديم الركبتين أو الاعجاز في حال التشهد. والنص خال من ذلك كله. ولو قيل ان المرجع في التقدم المبطل الى العرف كان وجيها قويا. انتهى.

أقول : روى في كتاب دعائم الإسلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) قال : «سووا صفوفكم وحاذوا بين مناكبكم ولا تخالفوا بينها فتختلفوا ويتخللكم الشيطان. الحديث». وهو ظاهر في ان التساوي في الموقف يحصل بتحاذي المناكب فإذا وقع المنكب بحذاء المنكب فقد حصل التساوي في الموقف ولهذا رتب اعتدال الصفوف واستقامتها على ذلك ، وعلى هذا فلا يحتاج الى ما تكلفوه هنا من ما لم يقم عليه دليل في المقام.

واما ما اختاره من الحوالة على العرف فقد عرفت في غير مقام من ما تقدم ولا سيما ما تقدم قريبا ما في حوالة الأحكام الشرعية على العرف من المجازفة بل الاختلال مضافا الى عدم وجود الدليل عليه من الآل عليهم صلوات ذي الجلال.

واما ما ذكره من عدم ورود نص في هذا المقام فهو وان كان كذلك إلا ان المستفاد من النصوص التي قدمناها في المقدمة السادسة في المكان في مسألة محاذاة الرجل للمرأة جوازا ومنعا ما به يعلم التساوي والتقدم ، فان المستفاد من تلك الأخبار كما قدمنا تحقيقه في تلك المسألة المذكورة هو تحريم محاذاة المرأة للرجل حال الصلاة وانه لا بد من تقدم الرجل عليها ، وانه يحصل التقدم بنحو شبر كما في صحيحة معاوية بن وهب عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٢) «انه سأله عن الرجل والمرأة يصليان في بيت واحد فقال إذا كان بينهما قدر شبر صلت بحذائه وحدها وهو وحده لا بأس». والمراد تقدم الرجل بالشبر ، وفي بعض الأخبار «بقدر عظم الذراع» (٣).

__________________

(١) مستدرك الوسائل الباب ٥٤ من صلاة الجماعة.

(٢) الوسائل الباب ٥ من مكان المصلى.

(٣) وهو حديث زرارة المروي في الفقيه ج ١ ص ١٥٩ باللفظ الآتي : «إذا كان

١١٧

وفي بعض «قدر ما يتخطى» وفي موثقة عبد الله بن بكير (١) قال : «إذا كان سجودها مع ركوعه فلا بأس». بمعنى ان موضع سجودها يحاذي ركبتيه ، وفي صحيحة لزرارة (٢) «لا تصلى المرأة بحيال الرجل إلا ان يكون قدامها ولو بصدره». وهذه الرواية قريبة من ما ذكره الأصحاب من بناء ذلك على التقدم بالأعقاب ، فإنه متى تقدم الرجل بعقبة لزم تقدم صدره إلى القبلة على صدر من يحاذيه ممن كان متأخرا عنه بالمقدار المذكور.

وبالجملة فالمفهوم من هذه الروايات انه متى حصل تقدم الرجل بأحد هذه المقادير زالت المحاذاة وهي وان كانت متفاوتة لكن التفاوت يسير ، وأقل مراتبها التقدم بالصدر وبعده بالشبر ، وفي معناه سجودها مع ركوعه ثم عظم الذراع ثم بما يتخطى الذي قد عرفت آنفا انه عبارة عن مسقط جسد الإنسان حال السجود. والله العالم

الثالث ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم في جواز استدارة المأمومين حول الكعبة في المسجد الحرام ، فقل عن ابن الجنيد القول بجواز ذلك بشرط أن لا يكون المأموم أقرب الى الكعبة من الامام ، وبه قطع الشهيد في الذكرى محتجا بالإجماع عليه عملا في كل الأعصار السالفة ، ونقل عن العلامة في جملة من كتبه منع ذلك ، وأوجب وقوف المأموم في الناحية التي فيها الامام بحيث يكون خلفه أو الى جانبه كما في غير المسجد ، واحتج عليه في المنتهى بان موقف المأموم خلف الإمام أو الى جانبه وهو انما يحصل في جهة واحدة فصلاة من غايرها باطلة ، وبان المأموم مع الاستدارة إذا لم يكن واقفا في جهة الإمام يكون واقفا بين يديه فتبطل صلاته.

__________________

بينها وبينه قدر ما يتخطى أو قدر عظم ذراع فصاعدا فلا بأس صلت بحذائه وحدها». وهكذا أورده في الوافي باب صلاة كل من الرجل والمرأة بحذاء الآخر أو قريبا منه) وأورده في الوسائل في الباب ٥ من مكان المصلى هكذا : «إذا كان بينها وبينه ما لا يتخطى أو قدر عظم الذراع فصاعدا فلا بأس».

(١ و ٢) الوسائل الباب ٦ من مكان المصلي.

١١٨

أقول : لم أقف في هذا المقام على نص عنهم عليهم‌السلام وطريق الاحتياط في ما ذهب إليه العلامة (أجزل الله تعالى إكرامه) والله العالم.

المسألة السابعة ـ من الشرائط في صحة القدوة نية الائتمام بإمام معين ، فلو نوى كل منهما الإمامة صحت صلاتهما معا ، بخلاف ما لو نوى كل منهما الائتمام بالآخر فإنه يجب الحكم ببطلان صلاتهما معا ، وكذا في ما لو شكا في ما أضمراه من الإمامة والائتمام.

وتفصيل هذا الإجمال يحتاج إلى بسطه في مقامات ثلاثة (الأول) في وجوب نية الائتمام بإمام معين ، أما وجوب نية الائتمام فلأنه بدون ذلك يكون منفردا يجب عليه ما يجب على المنفرد ، وهو من ما لا خلاف فيه حتى قال في المنتهى انه قول كل من يحفظ عنه العلم. وأما قصد تعيين الامام فالظاهر ايضا انه من ما لا خلاف فيه.

واستدلوا على ذلك بعدم الدليل على سقوط القراءة بدون ذلك فتكون العمومات الدالة على وجوب القراءة باقية على عمومها بالنسبة اليه. ولا يخفى ما فيه إلا ان الحكم لما كان من ما ظاهرهم الاتفاق عليه مع معلومية ذلك من حال السلف من أصحابنا (رضوان الله عليهم مضافا الى توقف يقين البراءة عليه ورجوع الاحتياط اليه فيجب العمل به.

وتعيين الامام كما يكون باسمه وصفته يكون أيضا بالإشارة إليه بهذا الحاضر إذا علم استجماعه لشرائط الإمامة.

ولو اقتدى بالحاضر على انه زيد فبان انه عمرو مثلا ففي ترجيح الإشارة على الاسم فيصح الاقتداء أو العكس فيبطل نظر ، بمعنى انه لاحظ في حال النية هذا الحاضر مع كونه زيدا فبالنظر الى قيد الحضور وظهور كونه عمرا يصح من حيث أنه هو الحاضر وبالنظر الى نية كونه زيدا مع ظهور انه ليس هو يبطل ، والحق ان منشأ النظر والتوقف انما هو من حيث عدم النص والدليل في المسألة ، قال في الذكرى : ونظيره أن يقول المطلق لزوجة اسمها عمرة «هذه زينب طالق» أو يشير البائع إلى

١١٩

حمار فيقول «بعتك هذا الفرس».

وهل يشترط في الإمام نية الإمامة؟ ظاهر الأصحاب العدم ، بل قال العلامة لو صلى بنية الانفراد مع علمه بان من خلفه يأتم به صح عند علمائنا ، لأن أفعال الإمام مساوية لأفعال المنفرد في الكيفية والأحكام فلا وجه لاعتبار تمييز أحدهما عن الآخر. وهو جيد.

وظاهرهم ـ بل صرح به جملة منهم ـ ان الثواب لا يترتب على صلاة الإمام إلا مع النية ، ولو تحققت القدوة به وهو لا يعلم حتى فرغ من الصلاة فهل يكون الحكم فيه كالحكم في من نوى الانفراد فلا يترتب عليه الثواب أو حكم من نوى الجماعة فيترتب؟ إشكال إلا انه لا يبعد من سعة كرمه سبحانه وفضله وإحسانه جل شأنه امداده بالثواب وإدخاله في سعة تلك الأبواب.

وفي وجوب نية الإمامة في الجماعة الواجبة احتمالات ، استظهر جملة من أصحابنا العدم ، إذ المعتبر فيها تحقق القدوة في نفس الأمر وهي حاصلة ، وجزم الشهيدان بالوجوب لوجوب نية الواجب. وفيه بحث تقدم في باب الوضوء من كتاب الطهارة في بحث النية.

المقام الثاني ـ في ما لو صلى اثنان فقال كل منهما كنت الإمام فإنه يحكم بصحة صلاتهما ، ولو قال كل منهما كنت مأموما بطلت صلاة كل منهما.

والوجه في الأول ان كلا منهما اتى بجميع الأفعال الواجبة من قراءة وغيرها ولم يخل بشي‌ء من الواجبات فلا وجه لبطلان صلاته ، ونية الإمامة لا منافاة فيها لصحة صلاة المنفرد فلا تؤثر بطلانا. وفي الثاني انه أخل كل منهما بالقراءة الواجبة فتبطل صلاته.

والأصل في ذلك مضافا الى ما ذكرناه من ما هو واضح الدلالة على الحكم المذكور ما رواه الشيخ عن السكوني عن ابى عبد الله عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام عن

١٢٠