شرح كتاب سيبويه - ج ٤

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٤

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٢٠

وَعَشِيًّا)(١).

وهذا غير منكر ؛ لأن الأسماء الأعلام يجوز تنكيرها بعد وقوعها معارف ، فيكون لفظ المعرفة والنكرة سواء ، كقولك هذا زيد من الزيدين ، وجاءتني سعاد وسعاد أخرى.

وأما" سحر" فإنه يكون معرفة بغير ألف ولام إذا كان ظرفا ، وإذا لم يكن ظرفا لم يجز طرح الألف واللام منه إذا أردت تعريفه كقولك : ما رأيته مذ السّحر ، وقد رأيته عند السحر الأعلى ، ولا يجوز أن تقول : رأيته عند سحر الأعلى.

هذا باب الألقاب

قال سيبويه : إذا لقبت مفردا بمفرد أضفته إلى اللقب كقولك : هذا سعيد كرز ، وهذا قبس قفّة ، وهذا زيد بطّة.

كأنه كان اسمه سعيد ولقب بكرز واسمه قيسا ولقب بقفة ، واسمه زيدا ، ولقب ببطة ، فأضيفت هذه الأسماء المفردة إلى هذه الألقاب ، وجعلت الألقاب معارف ؛ لأنها تجري مجرى الأعلام.

وإنما أضيفت ؛ لأن أصل أسمائهم اسم مفرد أو مضاف ، فالمفرد : زيد ، وعمرو ، والمضاف عبد الله وامرؤ قيس ، وكنية ، هي مضافة لا غير كقولنا : أبو زيد ، وأبو عمرو وأم جعفر وأم الحمارس (٢) ، وليس لهم اسمان مفردان يستعمل كل واحد منهما مفردا ، فلو جعلوا" سعيدا" مفردا و" كرزا" مفردا لخرجوا عن منهاج أسمائهم في اسمين مفردين لشخص واحد ، وإذا أضافوا فله نظير.

وإن لقبوا من اسمه مضاف أفردوا اللقب كقولهم : هذا عبد الله بطة ؛ لأنه يصير بمنزلة قولنا : أبو بكر زيد ، فعبد الله بمنزلة أبي بكر ، وزيد بمنزلة بطة ، وهذه الألقاب متى لقبت بها أشياء ، صار تعريفها بغير ألف ولام ، وخرجت عن التعريف الذي كان لها بالألف واللام ، كما أنا إذا قلنا : الشمس لم يكن معرفة إلا بالألف واللام ، ثم نقول : عبد شمس فيكون تعريفه بغير ألف ولام لمّا وضعناه اسما.

فإن قال قائل : فما أحوجنا إلى تعريف الشمس بالألف واللام ولا شمس غيرها في

__________________

(١) سورة مريم ، من الآية ٦٢.

(٢) الحمارس : الشديد ، وهو اسم للأسد. انظر اللسان (حمرس).

٦١

الدنيا؟

قيل له قد يسمى ضوء الشمس شمسا ، كقول القائل : لا تقعدوا في الشمس ، وإنما يريد ضوءها ، ويقول : شمس البصرة أحرّ من شمس الكوفة ، وجرم الشمس واحد وإنما تريد ضوءها.

هذا باب الشيئين اللذين ضم أحدهما إلى الآخر

فجعلا بمنزلة اسم واحد كعيضموذ (١) وعيسجور (٢)

قال سيبويه : " وذلك نحو حضر موت وبعلبك وكل ما كان من ذلك ، إذا سمي به رجل ، أو مكان ، فهو معرفة ، لا ينصرف في المعرفة وينصرف في النكرة.

وقد ذكرنا أن كون اسمين اسما واحدا من العلل المانعة من الصرف ، ويجوز في ذلك إضافة الأول إلى الثاني ، فإذا أضفت أعربت الأول بوجوه الإعراب واعتبرت الثاني ، فإن كان مما لا ينصرف لم تصرفه وإن كان مما ينصرف صرفته.

فأما ما ينصرف فقولك : هذا حضر موت وبعلبك ، ورأيت حضر موت وبعلبك ، ومررت بحضر موت وبعلبك.

وأما ما يضاف إلى ما لا ينصرف ف" رامهرمز" (٣) ومارسرجس ، تقول ، إذا أضفت : هذا رام هرمز ، ومار سرجس ، ورأيت رام هرمز ومار سرجس ، ومررت برام هرمز ومار سرجس ، وإذا لم تضف فتحت الاسم الأول على كل حال ، ورفعت الثاني في حال الرفع ونصبته في النصب والجر بغير تنوين كسائر ما لا ينصرف.

تقول : هذا حضر موت ورامهرمز ومارسرجس ، ورأيت حضر موت ورامهرمز ومارسرجس ، ومررت بحضر موت ، ورامهرمز ومار سرجس.

ولو نادينا شيئا من هذا ، والأول غير مضاف لضممت آخره ، فقلت يا حضر موت ، ويا بعلبك ويا رامهرمز ويا مارسرجس.

__________________

(١) العجوز الكبيرة ، ومنه الناقة العيضموز ، اللسان (عضمز).

(٢) الناقة الصلبة ، اللسان (عسجر).

(٣) مدينة فارسية مشهورة.

٦٢

قال سيبويه : وبعضهم يقول في بيت جرير :

لقيتم بالجزيرة خيل قبس

فقلتم مارسرجس لا قتالا (١)

أنشده على قول من يضيف الأول إلى الثاني ، ومن لا يضيف يقول : مارسرجس لا قتالا ؛ لأنه كاسم واحد لما ناداه.

قال : " وأما معد يكرب ففيه لغات ، منهم من يقول : معد يكرب ، فيضيف ومنهم من يقول : معد يكرب فيضيف ولا يصرف بجعل" كرب" اسما مؤنثا ، ومنهم من يقول : معد يكرب ، كما يقول : حضر موت غير أن الياء في معد يكرب مسكنة"

وعلى قياس ما حكاه سيبويه في معد يكرب إذا أضاف ، ولم يصرف كرب ، لأنه مؤنث يجوز أن يقال ـ إن صحت الرواية في" ذي يزن" أن لا يصرف ـ لا يصرف" يزن" ؛ لأنه اسم مؤنث.

قال أبو سعيد : وقد كنت حكيت أن الجرمي لا يصرف" يزن" بجعله بمنزلة يسع ويزن من الفعل.

وإذا نكرت الاسمين اللذين بمنزلة اسم واحد صرفت كقولك : مررت بحضر موت وحضر موت آخر ، وهذا معد يكرب ومعدي كرب آخر ؛ لأن الذي كان يمنع الصرف التعريف وجعل الاسمين اسما واحدا ، فإذا نكرت زال إحدى العلتين وليس ذلك بمنزلة أحمر ومساجد ومفاتيح. وما فيه ألف التأنيث كحبلى ، وما أشبهها مما لا ينصرف في معرفة ولا نكرة ، وقد مضى تفسير ذلك.

قال : " وأما خمسة عشر وأخواتها ، وحادي عشر وأخواتها فهما شيئان جعلا شيئا واحدا ، وإنما أصل خمسة عشر خمسة وعشرة ، ولكنهم جعلوه بمنزلة حرف واحد ، وأصل حادي عشر أن يكون مضافا كثالث ثلاثة ، فلما خولف به عن حال أخواته ، مما يكون للعدد خولف به ، وجعل كأولاء ، إذ كان موافقا له في أنه مبهم يقع على كل شيء ، فلما اجتمع فيه هذان أجري مجراه ، وجعل كغير المتمكن ، والنون لا تدخله كما تدخل غاق ؛ لأنها مخالفة لها ولضربها في البناء ، فلم يكونوا لينونوا ؛ لأنها زائدة ضمت إلى الأول فلم يجمعوا عليه هذا والتنوين".

__________________

(١) البيت في الكتاب ٣ / ٢٩٦ ، والمقتضب ٤ / ٢٣ ، وابن يعيش ١ / ٦٥ ، واللسان (سرجس).

٦٣

قال أبو سعيد : اعلم أن الذي أوجب بناء خمسة عشر تضمنها معنى الواو ؛ لأنك إذا قلت : عندي خمسة عشر دينارا فمعناه خمسة وعشرة فبنيت لتضمن معنى الواو ، وكذلك أكثر المبنيات تجري مجرى الحروف ؛ لأن الحروف مبنية ، وأما حادي عشر ، وثالث عشر فإنما أصلها ثالث ثلاثة عشر كما يقال : ثالث ثلاثة ، ومعناه أحد ثلاثة عشر ، ثم خففوه لطوله فحذفوا ثلاثة ، وأقاموا ثالث مقامها ففتحوه كما كانت ثلاثة مفتوحة ، وكذلك حادي عشر أصله حادي أحد عشر ، وحذفوا أحد وأقاموا حادي مقامة ففتحوه.

وكان الزجاج يقول في هذا قولا يستحسن.

قال : لو قلنا : خمسة وعشرة لوقع اللبس في بعض المواقع حتى لا يكون في معنى خمسة عشر ، ولا يقع اللبس في خمسة عشر ، وموضع اللبس أن يقول الإنسان لآخر : قد أعطيتك بهذا الثوب خمسة وعشرة ولم تبع ، ومعناه أعطيتك بهذا الثوب مرة خمسة فلم تبع ومرة عشرة فلم تبع".

ومعنى قوله : " فلما خولف به عن أخواته : يعني خولف بخمسة عشر في طرح الواو عن خمسة وعشرين ولم يجر على القياس ، وجعل" كأولاء" في البناء إذ كان موافقا له في أنه مبهم.

وسيبويه يجري كثيرا على المبنيات لفظ الإبهام كهذا وما أشبهه لإشارة بنائه إلى كل شيء ، وكذلك خمسة عشر ؛ لأنه عدد لكل شيء.

ومعنى قوله : والنون لا تدخله كما تدخل غاق. يعني لا ينون خمسة عشر كما ينون" غاق" وذلك أن" غاق" تنوينه علامة للتنكير. وإذا كان معرفة قلت : غاق ، وقد مضى الكلام فيه وفي نحوه.

وخمسة عشر بني في حال التنكير لتضمنه معنى الواو.

قال : ونحو هذا في كلامهم : حيص بيص ، وفيه لغات ، قد ذكرتها في باب المبنيات. قال أمية بن أبي عائذ :

قد كنت خرّاجا ولوجا صيرفا

لم تلتحصني حيص بيص لحاص (١)

__________________

(١) البيت في ديوان الهذليين ٢ / ١٩٢ ، والكتاب ٣ / ٢٩٨ ، وابن يعيش ٤ / ١١٥ ، واللسان (حيص) ، والخزانة ٢ / ٤٣٥.

٦٤

معنى" حيص بيص" داهية يضيق المخرج منها ، وتلتحصني : تنشبني فيها وتلحجني و" لحاص" هي المنشبة الملحجة.

وإذا أضفت" خمسة عشر" ، أو أدخلت عليها الألف واللام فهي على حالها ، تقول :

هذه الخمسة عشر درهما ؛ وهذه خمسة عشرك ؛ لأن معنى الواو فيه قائم مع الإضافة والألف واللام ، وحكى سيبويه أن من العرب من يقول" خمسة عشرك" وهي لغة رديئة ، يحملها على بعض ما ترده الإضافة إلى التمكن والأصل وقد مضى نحو ذلك.

ولو سمينا رجلا" بخمسة عشر" جرى مجرة" حضر موت" وأعربته ، وهو لا ينصرف.

تقول : هذا خمسة عشر ومررت بخمسة عشر.

وكان الزجاج يجيز فيه الإضافة كما تجوز في حضر موت فيقول :

هذه خمسة عشر ورأيت خمسة عشر.

قال سيبويه : " ومثل ذلك الخازباز وفيه لغات ذكرتها في المبنيات وهي : الخاذباذ والخاذباز والخازباز والخازباء".

ويضاف فيقال : خازباز كما يقال : حضر موت ، والخازباء مثل القاصعاء والراهطاء وهو عند بعض العرب ذباب يكون في الروض ، وعند بعضهم" نبت" وعند بعضهم" داء" ويقال إنه داء يأخذ الماشية من هذا النبت.

فمن كسر جعل آخره كجير وغاق ، ومن فتح جعله بمنزلة خمسة عشر.

ومن أعرب" آخره جعله بمنزلة حضر موت ، وقال الشاعر في الخزباز :

مثل الكلاب تهرّ عند درابها

ورمت لهازمها من الخزباز (١)

وقال الشاعر في الداء :

يا خازباز أرسل اللهازما (٢)

__________________

(١) البيت بلا نسبة في الكتاب ٣ / ٣٠٠ ، والخصائص ٣ / ٢٢٨ ، وابن يعيش ٤ / ١٢٢ ، والإنصاف ١ / ٣١٥ ، واللسان (خزبز).

(٢) من مشطور الرجز ، وهو بلا نسبة في الخزانة ٦ / ٤٤٢ ، وابن يعيش ٤ / ١٢٢ ،

٦٥

وقال آخر وهو عمرو بن أحمر :

تفقّأ فوقه القلع السواري

وجنّ الخازباز به جنونا (١)

فهذا النبت ويقال : " الذباب".

وأما" حيّهل" التي للأمر فمن شيئين ، يدلك على ذلك حي على الصلاة ، والدليل على أنهما جعلا اسما واحدا قول الشاعر :

وهيج الحي من دار فظل لهم

يوم كثير تناديه وحيّهله (٢)

والقوافي مرفوعة.

قال : وأنشدناه هكذا أعرابي من أفصح الناس وزعم أنه من شعر أبيه.

وذكر غير سيبويه أن الشعر لرجل من بني أبي بكر بن كلاب. وإنما احتج سيبويه بالبيت ليرى أنه من شيئين ، لأنه ليس في الأسماء المفردة ولا في الأفعال مثل هذا البناء ، واحتج أيضا بقولهم : حي على الصلاة ؛ لأنه قد جعل" على" مكان هل وأنه شيء مضاف إلى حي.

وذكر عن بعض السلف أنه قال : إذا ذكر الصالحون فحيّهل بعمر ، وفيه ثماني لغات : يقال : حيّ هلا بعمر ، وحيّ هلا بعمر ، وحيّهل بعمر ، وحيّ هل بعمر ، وحيّهل بعمر ، وحيّهلا بعمر ، وحيّ هل إلى عمر ، وحيّ هل على عمر.

قال أبو سعيد : ويجوز عندي مع" إلى" و" على" الست اللغات التي ذكرتها من كل واحدة من" إلى" و" على".

والذي ذكر سيبويه ثلاث لغات حيّ هلا ، وأنشد :

يحيّهلا يزجون كل مطيّة

أمام المطابا سيرها المتقاذف (٣)

وحيّ هلا إذا جعلت نكرة ، وحيّ هل إذا وصل. جعله بمنزلة قوله أنا فعلت إذا وصل ، وإذا وقف قال : أنا. ومعنى حيهل أى أسرع إليه وأعجل.

ويقال لنبت من النبات الحيّهل ، وإنما قيل له ذلك لسرعة نباته.

__________________

(١) البيت في الكتاب ٣ / ٣٠١ ، والإنصاف ١ / ٣١٣ ، والخزانة ٦ / ٤٤٢ ، والكامل ٣٠٠.

(٢) البيت في الكتاب ٣ / ٣٠٠ ، وابن يعيش ٤ / ٤٦ ، والخزانة ٣ / ٤٢ ، والمقتضب ٣ / ٢٠٦.

(٣) البيت للنابغة الجعدي في الكتاب ٣ / ٣٠٠ ، وابن يعيش ٤ / ٣٦ ، والمقتضب ٣ / ٢٠٦ ، والخزانة ٣ / ٤٣ ، واللسان (حيا).

٦٦

قال : " وأما عمرويه فإنه زعم ـ يعني الخليل ـ أنه أعجمي وأنه ضرب من الأسماء الأعجمية وألزموا آخره شيئا لم يلزم الأعجمية ، فكما تركوا صرف الأعجمية جعلوا ذا بمنزلة الصوت ؛ لأنهم رأوه قد جمع أمرين فحطّوه درجة عن إسماعيل وأشباهه ، وجعلوه في النكرة بمنزلة غاق منونة مكسورة في كل موضع"

قال أبو سعيد : الذي أوجب بناء عمرويه أن المضاف إلى عمرو صوت وهو في كلام العجم على غير هذا اللفظ ، إنما هو عمروه وإنما هو زيادة صوت في اسم" عمرو" المعروف في كلام العرب ، فغيروا لفظ الصوت والصوتية مبقاة ؛ لأن أصوات العرب بالبهائم وغيرها تخالف أصوات العجم ، كما اختلفت سائر ألفاظهم. وبنوه على الكسره لاجتماع الساكنين ، وجعلوا علامة التنكير فيه التنوين. تقول هذا عمرويه وعمرويه آخر ، وعلى هذا تقول هذا زبلويه آخر ، فينونونه لأنه نكرة.

وللمحتج عن المبرد أن يحتج له بقول سيبويه : إنه بني لما انحط عن إسماعيل ، كما احتج المبرد في حذام وقطام ؛ لأنها لما عدلت صارت أثقل من حازمة وقاطمة معرفة. وأظن أبا العباس أخذ ذلك من لفظ سيبويه. ويجوز أن يكون أراد سيبويه أنه جمع أمرين من اسم وصوت يوجب البناء فحطوه درجة عن إسماعيل لذلك. ولحاق النون في هذه المبنيات علامة للتنكير ، إلا أن منها ما لم تستعمله العرب إلا منكورا ، ومنها ما استعملته على التنكير والتعريف.

فمما استعلمتة منكّرا فقط قولهم : إيها يا زيد إذا أردت اكفف ، وويها إذا أغريته ، وإيه إذا استزدته ، وقد خطّأ الأصمعىّ ذا الرمة في قوله :

وقفنا فقلنا إيه عن أم سالم

وما بال تكليم الدّيار البلاقع (١)

فقال : ترك التنوين في" إيه" وقوم من النحويين أنكروا قول الأصمعي وصوبوا ذا الرمة فقالوا : أتى به معرفة كما يقال غاق وغاق ، وقد أصاب الأصمعي في ذلك ؛ لأنه أراد أن العرب لم تستعمل" إيه" الا منكورا فلا يجوز استعماله معرفة كما لا يجوز ترك التنوين في" ويها وإيها" وإنما يجعل هذا من ذي الرمة على الضرورة لما اضطر تأوله معرفة.

وأما ما يجوز فيه الأمران جميعا فغاق وغاق ، وهو حكاية صوت الغراب ، وحاي

__________________

(١) البيت في ديوانه ٣٥٥ ، والمقتضب ٣ / ١٧٩ ، وابن يعيش ٤ / ٣١ ، واللسان (ايه).

٦٧

وعاي ، وحاي وعاي وهما صوتان بالغنم ، وجاه وجاه وهما زجر السبع ، وصه وصه ومه ومه وهيهات وهيهات. وذلك كثير في كلامهم.

قال : وسألت الخليل عن قوله فداء فقال : بمنزله أمس يعني أنه مبني وإنما بني ، لأنه وضع موضع الأمر كأنه قال ليفدك أبي وأمي ، ونوّن لأنه نكرة كما عمل بغاق حين نكر ، وإنما صار نكرة لأنهم أرادوا أنه يفديك في ضرب من ضروب ما يفدى به الإنسان من موت أو مرض وهذا كلام مختصر ، وكان الأصل جعل الله أبي وأمي فداءك ، أو جعل الله فلانا فداءك على حسب ما تذكره ، ثم جعله أمرا لذلك الفادي فقال : ليفدك فلان ثم فداء لك فلان ، وقد روي بيت النابغة على ثلاثة أوجه ، وهو قوله :

مهلا فداء لك الأقوام كلهم

وما أثمر من مال ومن ولد (١)

وفداء ، وفداء ، والكسر على ما ذكرت له والفتح على المصدر ، كأنه قال فداك فداء الأقوام ، والرفع على الابتداء والخبر كأنه قال : الأقوام فادون لك.

قال : وأما يوم يوم ، وصباح مساء ، وبيت بيت وبين بين ، فإن العرب تختلف في ذلك ؛ بعضهم يجعله بمنزلة اسم واحد وبعضهم يضيف الأول إلى الثاني. وإنما يجعل بمنزلة اسم واحد إذا كان ظرفا وحالا.

وتجوز إضافته أيضا في الظرف والحال وإذا لم يكن ظرفا ولا حالا لم تجز غير إضافته. تقول : لقيت زيدا صباح مساء ويوم يوم وحين حين ، وإن شئت صباح مساء ويوم يوم ، فهذا ظرف ، وتقول : زيد جارى بيت بيت ولقيته كفة كفة ، وإن شئت بيت بيت وكفّة كفّة ، فهذا حال ، كأنك قلت : هو جاري ملاصقا ولقيته متفاجئين أو متواجهين. فإن قلت آتيك في كل صباح مساء وآتيك في كل يوم يوم لم يجز غير الإضافة ، والدليل على ذلك أنهم قد يستعملون فيها حرف الجر ، كقولها هو جاري بيتا لبيت ، وحكى يونس أن رؤبة كان يقول : لقيته كفّة عن كفة. وحرف الجر إذا حذف أضيف الأول إلى الثاني كقولك : غلام زيد ، والأصل : غلام لزيد ، وثوب خزّ ، والأصل : ثوب من خزّ.

ولم يستعمل ذلك بمنزلة اسم واحد في كل مكان ، كما لم يستعمل يا ابن عمّ ويا

__________________

(١) البيت في ديوانه ٢٦ ، والخزانة ٦ / ١٨١ ، وابن يعيش ٤ / ٧٣.

٦٨

ابن أمّ ، في غير النداء ، لو قلت جاءني ابن عمّ لم يجز ؛ لأن الأصل فيه الإضافة ، وكثر في النداء حتى استعمل ذلك فيمن ليس بابن عمّ ، ولا ابن أم على جهة الملاطفة.

والنداء أيضا موضع قد يبنى فيه الاسم ويزول تمكنه ، وكذلك استعمل هذا في الحال والظرف ؛ لأن الظروف قد تكون غير متمكنة ، وكذلك الأحوال قد يستعمل فيها ما لا يستعمل في غير الحال.

وقال الفرزدق :

لو لا يوم يوم ما أردنا

جزاءك والقروض لها جزاء (١)

فأضاف. ولا يجوز غير الإضافة ومعنى يوم يوم كأنه قال : شدة يوم أو وقعة يوم ، وإنما يذكر هذا في شيء قد شهر وانتشر ، كما يقال أيام العرب في معنى الوقائع والأشياء التي تشهر. ومما جاء في الشعر في جعلهم ذلك اسما واحد قول الشاعر :

نحمي حقيقتنا وبعض القوم يسقط بين بينا (٢)

كأنه قال : يذهب بين هؤلاء وهؤلاء ، كأنه يدخل بين فريقين في أمر من الأمور فيسقط ولا يذكر فيه.

ومن ذلك همزة بين بين أي بين الهمزة والحرف الذي منه حركتها. وقال آخر :

ومن لا يصرف الواشين عنه

صباح مساء يبغوه خبالا (٣)

وقال حميد بن ثور :

ولم نقعد وأنت لنا ابن عمّ

ولم نلق النّوائب حين حينا (٤)

قال : وأما أيادي سبا ، وقالي قلا ، وبادي بدا ، فإنما هي بمنزلة خمسة عشر ، تقول : جاؤوا أيادي سبا. ومن العرب من يجعله مضافا وينوّن سبا. قال الشاعر وهو ذو الرمة :

فيالك من دار تحمّل أهلها

أيادي سبا بعدي وطال احتيالها (٥)

__________________

(١) البيت في ديوانه ٩ ، والكتاب ٣ / ٣٠٣ ، والخزانة ٢ / ٩٤ ، وشرح شذور الذهب ٧٦.

(٢) البيت لعبيد بن الأبرص في ديوانه ١٣٦ ، وابن يعيش ٤ / ١١٧.

(٣) البيت بلا نسبة في شرح شذور الذهب ٧٢ ، والهمع ١ / ١٩٦.

(٤) لم نعثر عليه في ديوان الشاعر.

(٥) البيت في ديوانه ٢٣ ، والكتاب ٣ / ٤٠٣ ، والمقتضب ٤ / ٢٦ ، واللسان (خول)

٦٩

قال أبو سعيد : اعلم أن سبأ مهموز في الأصل كما قال عزوجل : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ)(١) وكانوا باليمن فخافوا سيلا يهلكهم فتفرقوا في البلاد وتباعدوا ، فضرب المثل بهم للمتفرقين. ويقال : تفرق القوم أيادي سبا وأيدي سبا ، والأيدي عبارة عنهم ، كأنه قال : تفرقوا أولاد سبا ؛ أي تفرّق أولاد سبا ، فمنهم من جعلهما اسمين كاسم واحد ، فبناهما وجعلهما في موضع الحال ، فصار بمنزلة قولك هو جاري بيت بيت ، كأنه قال : وجاري ملاصقا. وإذا قال ذهبوا أيادي سبا ؛ فمعناه ذهبوا متفرقين. ويجوز أن تضيف فتنون (سبا) لأن سبأ يصرف ولا يصرف ، غير أنهم أجمعوا على ترك الهمز فيه من هذا المثل.

وقالي قلا بمنزلة حضر موت ، ولم تسمع فيه الإضافة ، والقياس لا يمنع منها ، وقد أنشد :

سيصبح فوقي أقتم الريش واقعا

بقالي قلا أو من وراء دبيل (٢)

وأما بادي بدا فهو في موضع الحال كقولك بيت بيت.

وقد أنشد قول أبي نخيلة :

وقد علتنى ذرأة بادي بدي

ورثية تنهض في تشدّدي (٣)

يقال بادي بدا وبادي بدي ومعناه فيما ذكر ظاهر الظهور من قولك : بدا يبدو إذا ظهر.

قال : " ومثل أيادي سبا وبادي بدا (شفر بفر) ولا بد من أن تحرّك آخره ، كما ألزموا التحريك الهاء في ذيّة ونحوها لشبه الهاء بالشيء الذي ضم إلى شيء"

قال أبو سعيد : بمعنى أن شفر بفر ، وإن كان مثل أيادي سبا وبادي بدا في أنهما جعلا كاسم واحد ، فإن آخر الأول منهما مفتوح ، وأيادي سبا وما جرى مجراه مما يكون في آخر الاسم الأول منهما ياء تكون الياء ساكنة ، وإنما سكنت لأن الياء أثقل من

__________________

(١) سورة سبأ ، من الآية ١٥.

(٢) البيت بلا نسبة في الكتاب ٣ / ٣٠٥ ، والمقتضب ٤ / ٢٤ ، واللسان (قلى)

(٣) البيتان من مشطور الرجز ، وهما في الكتاب ٣ / ٣٠٤ ، والمقتضب ٤ / ٢٧ ، والخصائص ٢ / ٣٦٤ ، واللسان (ذرأ).

٧٠

الحروف الصحيحة ، فلما كان الحرف الصحيح يجب فتحه فيما جعل الاسمان فيه اسما واحدا ، والفتح أخف الحركات لم يكن بعد الفتح في التخفيف إلا التسكين.

قال : " وشبهوا هذه الياء بألف مثنى حيث عريت من النصب ، وقد أجراها الشاعر مجرى الألف حيث سكنها في موضع النصب".

قال رؤبة :

سوّى مساحيهن تقطيط الحفق

تفليل ما قارعن من سمر الطّرق (١)

وقال آخر :

كأنّ أيديهنّ بالقاع القرق

أيدى جوار يتعاطين الورق (٢)

وقال بعض السّعديين :

يا دار هند عفت إلّا أثافيها (٣)

ومما يقوي ذلك أنهم لما جعلوا الشيئين شيئا واحدا صارت الياء غير حرف الإعراب فأسكنوها وشبهوها بياء زائدة ساكنة نحو ياء دردبيس (٤) ومفاتيح ولم يحركوها كتحريك الراء في شفر لاعتلالها.

فإن قال قائل : فإذا أضفت الاسم الأول إلى الثاني وفي آخره ياء هل تحرك الياء في النصب كقولك : رأيت قالي قلا وتفرقوا أيادي سبا يا هذا ، ورأيت معد يكرب ، قيل له لا تحرك الياء وإن أضفت ؛ لأن هذه الياء في حال جعلهم إياها اسما واحدا قد كانت مستحقة للفتح كشفر بفر وما أشبهه ، ولم تفتح ، فلما أضفنا ونصبنا فالنصب في الإعراب كالفتح في البناء فلما أسقطوا الفتح في البناء أسقطوا الفتح في الإعراب وليس ذلك بمنزلة حادي عشر وثماني عشرة ؛ لأن ثماني عشرة أمكن ؛ لأن الأصل رأيت ثمانيا وعشرة ، وكانت مفردة من عشرة مستعملا فيها الفتح. فلما حذفوا الواو لم يزيلوا الفتحة التي

__________________

(١) في ديوانه ١٠٦ ، والكتاب ٣ / ٣٠٦ ، وابن يعيش ١٠ / ١٠٣ ، والمقتضب ٤ / ٢٢ ، واللسان (قطط).

(٢) البيتان لرؤبة في ديوانه ١٧٩ ، والخصائص ١ / ٣٠٦ ، والخزانة ٨ / ٣٤٧.

(٣) صدر بيت للحطيئة ، عجزه : بين الطوى فصارت فوادتها

وهو في ديوانه ٢٤٠ ، والكتاب ٣ / ٣٠٦ ، والخصائص ١ / ٣٠٧ ، والمنصف ٢ / ١٨٥.

(٤) خرزة سوداء ، اللسان (دردبس).

٧١

كانت تكون في ثماني ولم يستثقلوها. ومعنى شفر بفر متفرقين ، وذلك أنه يقال للكلب إذا رفع إحدى رجليه للبول وفرّق بينهما وبين الأخرى شفر ، وأصل" بفر" من قوله : بفرت السماء إذا أكثرت مطرها. قال الشاعر :

بفرة نجم هاج ليلا فانكدر (١)

والبفر كثرة الشرب. فإذا قال : ذهب النوم شفر بفر فكأنه قال : تفرّقوا فأوسعوا في التّفرّق.

قال : " ومثل ذلك قول العرب : لا أفعل ذلك حبري الدهر ، وقد زعموا أن بعضهم ينصب الياء ومنهم من يثقل الياء"

قال أبو سعيد : وفى حبري ثلاث لغات ، منهم من يقول : لا أفعل ذلك حبري دهر وحبري دهر وحبريّ دهر ، وهو منصوب في الأصل ، فمن شدّده جاء بياء النسبة على أصلها ، ومن سكّن الياء حذف الثانية من ياءي النسبة وبقّى الأولى وهي ساكنة ، ومن فتح وخفض حذف الأولى من ياءي النسبة ، ومعناه لا أفعل ذلك ما حار الدهر ، أي لا أفعله أبدا. وحار رجع ، والدهر يرجع أبدا لأنه كلما مضى يوم وليلة عاد مثله ، فالدهر يرجع أبدا. ومثل ذلك قول العرب : لا أفعل ذلك ما اختلف الجديدان وماكر الليل والنهار.

قال : " وأما اثنا عشر فزعم الخليل أنه لا يغير عن حاله قبل التسمية وليس بمنزلة خمسة عشر ؛ لأن الاسم الأول مثنى وليس في الكلام اسم مثنى مبني ، بل يصير في الرفع ألفا وفي الجر والنصب ياء.

ألا ترى أنّك تقول الذي والذين فتبنيه ولا يتغير في النصب والجر. وإذا أضفت اثني عشر وهي عدد فلا يجوز ذلك كما يجوز في سائر العدد ، تقول في سائر العدد : هذه خمسة عشري ، وهذه عشريّ وهذه خمسة عشراه ، وهذه عشروك ، ولا تقول : هذه اثنا عشرك ؛ لأن عشر من اثني عشر جعل بمنزلة النون من (اثنان) ، فلو أضفت وجب حذف عشر كما يجب حذف النون ، فكان يلزم أن تقول : اثناك كما تقول غلاماك ، ولو قلت هذا لالتبس بإضافة الاثنين اللذين لا عشر معهما ، ولو سميت رجلا به جاز إضافته فقلت :

__________________

(١) البيت للعجاج في ابن يعيش ٤ / ١٢٨ ، واللسان (بفر).

٧٢

هذا اثناك ؛ لأنك لست تريد العدد ولا تريد أن تفرق بين عددين ، فإنما هو بمنزلة زيدين إذا أضفت تقول : رأيت زيدي بلدك.

وقال سيبويه : لا تجوز فيها الإضافة ـ يعني في اثني عشر ـ كما لا تجوز في مسلمين ، ولا تحذف في اثني عشر.

يعنى لو أضفنا اثني عشر لوجب حذف عشر كما يجب حذف النون في" مسلمين" إذا أضفناه ولا تجوز إضافته إلا بحذف النون.

قال سيبويه : " وأما أحول أحول فلا يخلو من أن ينون كشفر بفر أو كيوم يوم"

يعنى لا يخلو من أن يكون حالا كشفر بفر في معنى متفرقين أو ظروفا كيوم يوم ، ويقال أن أخول ما يتساقط من شرر الحديد المحمى.

قال ضابئ البرجميّ :

يساقط عنه روقه ضارياتها

سقاط حديد القين أخول أخولا (١)

هذا باب ما ينصرف وما لا ينصرف من بنات الياء والواو

التي الياءات والواوات منهن لامات

قال سيبويه : " اعلم أن كل اسم كانت لامه ياء أو واوا ثم كان قبل الياء والواو حرف مكسور أو مضموم فإنها تعتل وتحذف في حال التنوين ، واوا كانت أو ياء ، ويلزمها كسرة قبلها أبدا فيصير اللفظ بما كان من بنات الياء والواو سواء ، واعلم أن كل شيء من بنات الياء والواو وكان على هذه الصفة فإنه ينصرف في حال الجر والرفع ، وذلك أنهم حذفوها فخف عليهم فصار التنوين عوضا ، وإذا كان شيء منهما في حال النصب نظرت فإن كان نظيره من غير المعتل مصروفا صرفته وإن كان غير مصروف لم تصرف. ونظيره : هذا غاز وقاض وجوار وأدل وأظب. وفى ذلك ما تكون الياء منه أصلية ، وهى لام الفعل ، كقولنا : غاز ورام ، وقاض ومغاز وأدل وأظب ؛ لأن غازي" فاعل" ومغازي" مفاعل" وأدلي وأظب" أفعل" ومنها ما يكون زائدا نحو" ثمان" ومسلّق" ويجعب" الياء فيه زائدة ، وأصله" سلق"" وجعب" ،

__________________

(١) البيت في الأصمعيات ١٨٣ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ١٦٤٥ ، وشرح شذور الذهب ٧٥ ، والصحاح (خول).

٧٣

وكذلك الياء في" ثمان" زائدة ، ألا ترى أنك تقول : ثمنت القوم وأنا ثامنهم ، وكذلك صحار وعذار ومثل ذلك : هذه قلنس وعرق ، والعرق : جمع عرقوة الدّلو؟ وهى السّليب ، والقلنس جمع قلنسوة ، ولكنهم قلبوه ياء ؛ لأنه ليس في الأسماء اسم آخره واو والإعراب يقع عليه ، فتقرّ واوا بل تقلب ياء ويكسر ما قبلها ، ونحو ذلك ، دلو وأدل وحقو وأحق ، وكان الأصل أدلو وأحقو مثل كلب وأكلب وفلس وأفلس ، فلما وقعت الواو طرفا وقبلها ضمة قلبت ياء.

قال الشاعر :

حتّى تفضي عرقي الدّليّ (١)

وقال الآخر :

لا مهل حتّى تلحقي بعنس

أهل الربّاط البيض والقلنسي (٢)

وإنما القلنسي و" العرقي" جمع لقلنسوة ، وعرقوة على من جعل بين الواحد والجماعة الهاء كتمرة وتمر ، وشعيرة وشعير." وعنس" المذكور في البيت قبيلة من اليمن من مذحج ، منهم الأسود العنسي الذي ادعى النبوة. وفى هذه الجملة خلاف بين الخليل وسيبويه ، وبين يونس ، فأما الخليل وسيبويه فمذهبهما أن كل ما كان آخره ياء زائدة أو أصلية منقلبة من واو ، نكرة كان أو معرفة مما ينصرف نظيره ، أو لا ينصرف فإنه في حال الجر والرفع منون إلا أن يضاف أو تدخل عليه الألف واللام ، وأما في النصب فإن كان منصرفا حركته ونونته وإن كان غير منصرف فتحته ولم تنون.

فأما المنصرف فقولك رأيت غازيا وراميا ، وأما غير المنصرف فقولك : رأيت جواري وصحارى.

وأما يونس فإنه كان يوافقهم على ذلك في النكرات ويخالفهم في المعارف ، فيقول في جواري ، وصحارى وما جرى مجراه ، إذا لم يكن اسم شيء بعينه : هذه جوار وصحار ولا بد له من ذلك ؛ لأن القرآن قد جاء فيه تنوين ذلك بلا خلاف.

قال الله عزوجل : (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)(٣). ونظيره من الصحيح لا ينصرف ؛ لأن" غواشي" فواعل ، وفواعل لا ينصرف في معرفة ولا في

__________________

(١) بلا نسبة في الكتاب ٣ / ٣٠٩ ، وابن يعيش ١٠ / ١٠٨ ، والخصائص ١ / ٢٣٥ ، واللسان (عرق).

(٢) بلا نسبة في الكتاب ٣ / ٣١٧ ، وابن يعيش ١٠ / ١٠٧ ، والاقتضاب ١٣٦ ، واللسان (ربط).

(٣) سورة الأعراف ، من الآية ٤١.

٧٤

نكرة. وقال يونس : إذا سمي رجل أو امرأة بجواري قيل في الرفع" هذه جواري" بتسكين الياء بغير تنوين ، ومررت بجواري ورأيت جواري ، وكأن الأصل عنده ، هذه جواري ، ولكنهم استثقلوا الضمة على الياء ولا يدخل التنوين في شيء من ذلك ، وكذلك إذا سمي بشيء من ذوات الياء مما لا ينصرف نظيره عمل به ذلك ولم ينون.

وإن انصرف نظيره نون كامرأة سميت بقاض تقول بقول يونس : هذا قاضي يا فتى بغير تنوين ، وتثبت الياء وتسكنها ، ومررت بقاضي فاعلم ، فتجعل المجرور كالمنصوب ؛ لأن ما لا ينصرف يستوي لفظ المجرور فيه والمنصوب.

وإن سمي رجلا بقاض قال : هذا قاض يا فتى ومررت بقاض يا فتى ورأيت قاضيا يا فتى ، لأن فاعلا اسم رجل منصرف واسم امرأة غير منصرف.

ومذهب الخليل وسيبويه في امرأة" قاض" ، " هذه قاض" و" مررت بقاض" منونا ، و" رأيت قاضي" مفتوح غير منون. وقول الخليل هو الجيد ؛ لأن ما كان من الجمع على فواعل أو غير ذلك من بنية الجمع الذي ثالثه ألف وبعده حرفان لا ينصرف ، في معرفة ، ولا نكرة. فإذا دخل التنوين على" غواش" وهو لا ينصرف في معرفة ولا نكرة فدخوله على قاضي اسم امرأة أولى ؛ لأنها تنصرف في النكرة ، وهذا الذي به احتج الخليل ، وهو واضح. وأما التنوين الذي دخل المعتل وإن كان نظيره لا ينصرف فالذي ذكره سيبويه أنه بدل من الياء.

وكان ابن العباس المبرد يخالف في ذلك فيقول : إنه بدل من ذهاب حركة الياء ؛ لأن الأصل في جواري أن تقول جواري فتحذف التنوين ؛ لأنه لا ينصرف ثم تحذف حركة الياء لاستثقالها ؛ لأن الياء المكسور ما قبلها يستثقل عليها الضم والكسر فتبقى الياء ساكنة ، ولا تسقط حتى يدخل التنوين ؛ لأن سقوطها لاجتماع الساكنين ، فوجب من هذا أن يكون التنوين أتي به عوضا من ذهاب الحركة. ثم التقى ساكنان فأسقط الياء وأسقطها قول سيبويه ، فالذي ظهر من كلامهم أنهم جعلوا التنوين عوضا عن الياء. فإن قال قائل : وكيف تجعل التنوين عوضا من الياء ، ولا طريق إلى حذف الياء ، قبل دخول التنوين ؛ لأن سقوط الياء لاجتماع الساكنين هي والتنوين.

قيل له : تقدير هذا أن أصل" غواشي غواشي" ، وكذلك" جواري" جواري ويكون التنوين لما يستحقه الاسم من الصرف في الأصل ، ثم استثقلوا الضمة على الياء في الرفع

٧٥

والكسرة عليها في الجر فأسكنوها فاجتمع ساكنان الياء والتنوين فحذفوا الياء لاجتماع الساكنين ، ثم حذفوا التنوين لمنع هذا البناء الصرف ؛ لأن الياء منونة ، وإن أتت محذوفة ، ثم عوضوا من الياء المحذوفة تنوينا غير تنوين الصرف.

فهذا الذي يتوجه من لفظ سيبويه ونظيره أنا لو سمينا امرأة بكتف ، وكبد ، وعجز ، وجميع ما كان من الثلاثي أوسطه متحركا لم تصرفها لتحرك أوسط الحرف. ولو خففنا الحرف الأوسط لقلنا ، في كتف ، كتف وفى عجز ، عجز. لكنا نمنع الصرف ؛ لأن الحركة منونة. وبعض أصحاب سيبويه حمل قوله : " عوضا من الياء" على معنى عوضا من حركة الياء وهو مثل قول أبي العباس الذي ذكرناه وأجراه مجرى : (واسأل القرية). وإذا جعلنا مكان الياء ألفا وكان مثاله لا ينصرف لم يدخله التنوين ، ولم يكن حكمه حكم الياء كقولنا : صحارى ومدارى.

فإن قال قائل : هلا أدخلتم التنوين على الألف في مثل هذا البناء كما أدخلتموه على الياء؟ قيل له بينهما فروق من جهات منها :

أنا رأينا ما كان فيه الياء من النكرات منونا وإن كان نظيره لا ينصرف ، ورأينا النكرات التي فيها ألف التأنيث غير منونة كقولنا : حبلى وسكرى. وفرق آخر وهو أن الألف في مثل صحارى ومدارى وحبالى بدل من الياء ، فلا يدخل عليه التنوين ، فيصير بدلا من بدل.

وفرق ثالث : وهو أن الألف إذا كان بدلا ، فهو بمنزلة متحرك كقولنا قال ، وباع ، والألف في قال بدل من الواو المتحركة ، وفي باع بدل من الياء المتحركة ، فكأن الحرف قد حرك ، وصار كالصحيح ولم يدخله التنوين ، فيحذف لاجتماع الساكنين.

وقال سيبويه : عقيب ذكره قلب الواو ياء في أدل وعرق : " ولو سميت رجلا بقيل فيمن ضم القاف يعني فيمن أشمها الضم لا في قول من قال قول بواو محضة".

قال : تكسرها إذا سميت وتزيل الإشمام حتى يكون كبيض. وإنما أراد بهذا الفرق بين الاسم والفعل ؛ لأن الضم اختص به الفعل ، ليتبين معنى" فعل" وليس في الأسماء هذا وما كان في آخره واو قبلها ضمة ، فإنما اختص به الفعل ، فإذا صار في الاسم لعارض خولف بينه وبين الفعل ، فجعل ياء ، كما فعلوا ذلك" يقيل" حين سمي به.

وما كان من الياآت مشددة ، أو قبلها ساكن ، لم تعتل كقولنا : ظبي ودلو ؛ لأن

٧٦

سكون ما قبلها اضطر إلى تحريكها وزال أيضا عنه ثقل الحركة في الياء والواو.

ولو سميت رجلا ب (يفزو) لوجب أن تقول : يفز ، وهو منون على قول سيبويه والخليل في الرفع والجر. وفى قول يونس : هذا يفزي بسكون الياء ، ومررت بيفزي. وقد مضى الكلام في نحوه. وكذلك لو صغرنا" أعمى" وجب أن تقول : أعيم ومررت بأعيم ورأيت أعيمي في قول الخليل وسيبويه ولا تصرفه في النصب ؛ لأنه مثل أحيمر وكذلك تقول : مررت بأعيم منك إذا أردت التنكير ، كما تقول : مررت بخير منك ، ولا يمنع منك من تنوين" أعيم" ، كما لم يمنع من خير ، وقد تقدم قول يونس فيما كان من ذلك معرفة.

ومن أقوى الدليل على بطلان قوله عزوجل : (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ)(١) بالتنوين.

وقال الخليل : لو قلنا مررت بجواري في حال المعرفة للزمنا أن نقول : مررت بجواري في النكرة ؛ لأن هذا البناء يستوي فيه المعرفة والنكرة في الصحيح وأنشد سيبويه قول الهذلي :

أبيت على معاري فاخرات

بهن ملوّب قدم العياط (٢)

على أنه اضطر إلى تحريك الياء في" معاري" فإن قال قائل ليس فيه ضرورة ؛ لأن الشاعر لو قال :

" على معار فاخرات" لاستوى البيت فهو من الوافر فإن حرك الياء. صار مفاعلتن وإن حذفها ونون فهو" مفاعلن" والجميع جائز.

فالجواب أن الضرورة فيه أن الشاعر كره الزحاف ، فرد الكلمة إلى أصلها ، وجعل الياء كالصحيح ، كما قال :

لا بارك الله في الغواني هل

يصبحن إلّا لهنّ مطلب (٣)

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٤١.

(٢) البيت في الكتاب ٢ / ٥٨ ، ديوان الهذليين : ٢ / ٢٠ ، والخصائص : ١ / ٣٣٤ ، ٣ / ٦١ ، واللسان :

(عرا).

(٣) المقتضب : ١ / ١٤٢ ، ٣ / ٣٥٤ ، والخصائص : ١ / ٣٦٢ ، ٢ / ٣٤٧ ، وأمالي ابن الشجري : ٢ / ٢٢٦ ، شرح شواهد المغني : ٢١١.

٧٧

وكما قال (١) :

فيوما يوافين الهوى غير ماضي

ويوما ترى منهنّ غولا تفوّل

والشاهد في" ماضي" ؛ لأنه كسر الياء من" ماضي" للضرورة.

وهذا البيت فيما قرأته من شعر جرير : غير ماصبا وذلك لا شاهد فيه وهو أشبه عندي بمعنى البيت ؛ لأن المعنى أن هؤلاء النسوة في يوم نيلهن يبذلن اليسير ولا يوفين الصبا حقه ، ويوما يمنعن.

ومما أنشد فيه :

" سماء الإله فوق سبع سمائها" (٢)

فذكر المازني أن في هذا ضرورة من ثلاثة أوجه أحدها أنه جمع سماء على سماء وكان حقه أن يقول : سمايا كما نقول : مطية ومطايا ، فأتى بالهمزة على الأصل ، وكان عليها أن تكون ياء ، وأتى بالياء ، وكان حقها أن تكون ألفا ، فهذان وجهان ، والثالث أنه كان حقه ، أن يقول في الجر : فوق سبع سماء كما يقول ، هذه سبع غواش ففتح في الجر وهو ضرورة عنده. ومما أنشد سيبويه من الضرورة في تحريك الياء.

قد عجبت منّي ومن يعيليا

لما رأتني خلقا مقلوليا (٣)

وكان الوجه عندي يعيل ، وهذا بيت يحتج به يونس وهو عنده غير ضرورة ؛ لأن (يعيلي) تصغير" يعلي" وهو عنده معرفة وأنشد قول الكميت في الضرورة :

خريع دوادي في ملعب

تأزّر طورا وتلقي الإزارا (٤)

ومن الضرورة :

ألم يأتيك والأنباء تنمى

بما لاقت لبون بني زياد (٥)

__________________

(١) البيت لجرير ، الكتاب : ٣ / ٣١٤ ، المقتضب : ١ / ١٤٤ ، ٣ / ٣٥٤ ، وابن الشجري : ١ / ٨٦ ، وابن يعيش : ١٠ / ١٠١ ، ١٠٤ ، والعيني : ١ / ٢٢٧.

(٢) عجز بيت لأمية بن أبي الصلت ، انظر ديوانه : ٧٠ ، المقتضب : ١ / ١٤٤ ، والخزانة : ١ / ١١٨ ، والخصائص : ١ / ٢١١ ، ٢٢٣ ، والمنصف : ٢ / ٦٨.

(٣) نسب إلى الفرزدق : ٢ / ٢٢٨ ، المقتضب : ٢ / ١٤٢ ، الكتاب : ٣ / ٣١٥ ، والخصائص : ١ / ٦ ، ٣ / ٥٤ ، والمنصف : ٢ / ٦٨ ، ٧٩ ، والدرر اللوامع : ١ / ١١ ، والأشموني : ٣ / ٣٧٣.

(٤) استشهد به سيبويه : ٣ / ٣١٦ ، المقتضب : ١ / ١٤٤ ، الخصائص : ١ / ٣٣٤.

(٥) البيت لقيس بن زهير. انظر شواهد سيبويه : ١ / ٣٢.

٧٨

كأنه يقول في الرفع يأتيك في الضرورة فلما جزم أسقط الضمة.

قال : وتقول في رجل سميته ب" أرمه" هذا أرم قد جاء ، وتنون في قول الخليل وهو القياس ، وتقول رأيت أرمي ، وإنما فعلت هذا ؛ لأن الهاء تسقط ؛ لأنها دخلت للوقف وترد الياء التي هي لام الفعل في أدمي ؛ لأنها سقطت للأمر ، وتقطع ألف الوصل وعلى ما مر في قول يونس ينتصب في حال الجر فيقول :

مررت بأرمي كما ينتصب يعيلي وقد مضى الكلام فيه.

قال : وإذا أسميت رجلا يعه قلت : " هذا وع" قد جاء ؛ لأنك حذفت الهاء فبقيت العين وحدها وهي حرف واحد ورددت الياء ؛ لأن سقوطها كان للأمر وقد صار اسما مستحقا للإعراب فرددت الياء من أجل ذلك ، وبقي الاسم على حرفين ، الثاني منهما من حروف المد واللين فاحتجت إلى حرف آخر ، فرددت الواو التي هي فاء الفعل وفتحتها لأحد أمرين : إما لأن الفتحة أخف الحركات وإما لأن الواو لما ظهرت في الفعل كانت مفتوحة في قولك" وعي ، يعي" وكل ما اختل من الأسماء فاحتيج إلى حرف يزاد فيه وكان قد سقط منه حرف فالأولى رد الساقط الذي كان فيه.

كرجل كان اسمه عدة أو شية إذا صغرناه قلنا : وعيدة أو شية ، فهذا أصل لما كان على هذا ، وما لم يكن قد سقط منه حرف واحتيج له إلى زيادة كان له حكم آخر ستقف عليه إن شاء الله.

ولو سميت رجلا ب" ره" لأعدت الهمزة والألف فقلت هذا إرا قد جاء ؛ لأن (ره) أصله" ارءا" في الأمر فسقطت الألف الأخيرة التي بعد الهمزة للأمر ، كما نقول : اخش يا فتى ، ثم أسقطت ألف الوصل لتحرك الراء فبقيت الراء وحدها فوقفت بالهاء ، فإذا سميت به وجب له الإعراب ورددت البناء إلى أصله وقطعت ألف الوصل.

وإن سميت رجلا" قلّ" أو" خف" أو" بع" رددت ما سقط من أجل سكون الأواخر فقلت : " قول" و" خاف" و" بيع" و" اقيم" ؛ لأنك إذا سميت بشيء منها رجلا أعربته وحركت آخرة فرجع الحرف الساقط ؛ لأن سقوطه كان لاجتماع الساكنين وقد تحرك.

واحتج سيبويه فيه بأن قال : إذا قلت" قولا" أو" خافا" أو" بيعا" أو" أقيموا" أظهرت للتحريك فهو هاهنا إذا صار اسما أجدر أن يظهر.

قال أبو سعيد : لا يتوهم أن سيبويه أراد أن هذه الحروف رجعت لدخول ألف

٧٩

التثنية وواو الجمع وأنه لما تحرك وجب رد ما سقط لاجتماع الساكنين ؛ لأنا نقول : رمى زيد ، ورمت هند فتسقط الألف من رمى باجتماع الساكنين الألف والتاء ثم تدخل الألف للتثنية فتقول : " الهندان رمتا" ، ولا تقول : " رماتا" وإنما أصل" قولا"" قولان" ، إذا الأمر من المستقبل ، وكان في الأصل يقولان فلما وقع الأمر سقطت النون كما تسقط للجزم.

وإنما أراد بهذا أن الواو سقطت من قل حيث كانت اللام ساكنة لاجتماع الساكنين.

قال سيبويه : ولو سميت رجلا : (لم يردّ) أو (لم يخف) لوجب عليك أن تحكيه. فتقول : (جاءني لم يرد) و (رأيت لم يخف) وليس ذلك بمنزلته لو لم يكن معه العامل.

ولو سميته (يرد) مفردا و (يخف) لقلت : هذا يريد و (يخاف).

وتقول في رجل سميته ب (إن يردّد) : هذا إن يردد ، وجاءني إن يردّد فإن أفردت يردد ، وسميت به قلت : هذا يردّ ، وإن سميت ب" إن يخف" حكيت ، وإن أفردته قلت : " هذا يخاف" ؛ لأنك لما أفردته لم يتعلق به حكم غيره ووجب إعرابه بالتسمية فجئت به معربا على ما يستحقه كما فعلت في أرمه. في قطع ألف الوصل ورد الياء.

وإن سميت رجلا ب (اعضض) قلت : هذا أعضّ ؛ لأنه قد وجب عليك إعراب الضاد الثانية فلما وجب تحريكها وجب إدغام الأولى فيها كما تقول : أنا أعض وقطعت الألف.

وإن سميت رجلا ب (ألبّب) من قوله (١) :

قد علمت ذاك بنات ألببه

تركت على حاله ؛ لأن هذا الاسم جاء على الأصل كما قالوا رجاء بن حيوة وكما قالوا : ضيون فجاءوا به على الأصل ومجرى بابه على غير ذلك.

قال أبو سعيد : كان الأصل في بنات ألببه أن يقال : ألبّه ؛ لأنه أفعل من اللّب ويلزم إدغام" أفعل" مما عينه ولامه من جنس واحد كقولك : " هذا أجل من هذا" وأصله" أجلل" والقياس في" حيوة" و" ضيون" أن يقال حيّة وضيّن ؛ لأنه إذا اجتمع الواو والياء والأول

__________________

(١) البيت مجهول القائل ، وقد استشهد به سيبويه : ٣ / ١٩٥ ، انظر المقتضب : ١ / ١٧١ ، والخزانة : ٣ / ٢٩٢ ، والمنصف : ١ / ٢٠٠ ، ٣ / ٣٤.

٨٠