شرح كتاب سيبويه - ج ٤

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٤

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٢٠

وقال الشاعر :

فقال : امكثي حتى يسار لعلنا

نحج معا قالت أعام وقابله (١)

فهي معدولة عن الميسرة.

وقال الجعدي :

وذكرت من لبن المحلّق شربة

والخيل تعدو بالصعيد بداد (٢)

" فبداد" في موضع الحال ، وهو في معنى مصدر مؤنث معرفة ، وقد فسره سيبويه فقال : معناه تعدو بددا ، غير أن (بداد) ليست بمعدولة عن بددا ؛ لأن" بددا" نكرة وإنما هي معدولة عن البدة أو المبادة أو غير ذلك من ألفاظ المصادرة المعرفة المؤنثات.

قال : " والعرب تقول : لا مساس ، ومعناه لا تمسني ، ولا أمسك ، ودعني كفاف ، وتقديرها لا المماسة ودعني المكافة ، وإن كان ذلك غير مستعمل ، ألا تراهم قالوا : " ملامح" و" مشابه" و" ليال" وهن جمع ليس لها واحد من لفظه ؛ لأنهم لا يقولون : ملمحة ، ولا ليلاة ، ولا مشبهة.

وقال الشاعر :

جماد لها جماد ولا تقولي

طوال الدهر ما ذكرت حماد (٣)

وإنما يريد جمودا ، وحمدا ، غير أن الذي عدل عنه هذا اللفظ كأنه (الجمدة) ، و (الحمدة) أو ما جرى مجرى هذا من المؤنث المعرفة"

وقد جعل سيبويه" فجار" في قول النابغة من المصادر المعدولة ، وجرى على ذلك النحويون بعده ، والأشبه عندي أن تكون صفة غالبة ، والدليل على ذلك أنه قال :

فحملت برّة واحتملت فجار

فجعلها نقيض" برة" وبرة صفة. تقول : رجل بر ، وامرأة برة ، وجعلهما صفة

__________________

(١) البيت لحميد بن ثور الهلالي في ديوانه ١١٧ ، والرواية فيه :

فقلت امكثي حتى يسار لو أننا

نجح فقالت لي أعام وقابل

وهو في ابن يعيش ٤ / ٥٥ ، والخصائص ١٧ / ٦٤.

(٢) البيت في ديوانه ٢٤١ ، والكتاب ٣ / ٢٧٥ ، وابن يعيش ٤ / ٥٤ ، والمخصص ١٧ / ٦٤ ، واللسان (بدد).

(٣) البيت للمتلمس في الكتاب ٣ / ٢٧٦ ، وابن يعيش ٤ / ٥٥ ، والخزانة ٦ / ٣٤٥ ، واللسان (جمد).

٤١

للمصدر ، فكأنه قال : فحملت الخصلة البرة ، وحملت الخصلة الفاجرة ، كما تقول الخصلة القبيحة والحسنة ، وهما صفتان ، وجعل (برة) معرفة عرف بهما ما كان جميلا مستحسنا.

قال : سيبويه : " وأما ما جاء معدولا عن حده من بنات الأربعة فقوله :

قالت له ريح الصبا قرقار

وبعده من غير إنشاد سيبويه :

واختلط المعروف بالإنكار

فإنما يريد بذلك قالت له قرقر بالرعد للسحاب ، وكذلك عرعار ، وهي بمنزلة قرقار ، وهي لعبة وإنما هي من عرعرت ، ونظيرها من الثلاثة" خراج" ، أي أخرجوا وهي لعبة أيضا.

قال أبو العباس المبرد : غلط سيبويه في هذا ، وليس في بنات الأربعة من الفعل عدل ، وإنما قرقار وعرعار حكاية للصوت ، كما يقال : غاق غاق ، وما أشبه ذلك من الأصوات.

وقال : لا يجوز أن يقع عدل في ذوات الأربعة ؛ لأن العدل إنما وقع في الثلاثي ؛ لأنه يقال فيه" فاعلت" إذا كان من كل واحد من الفاعلين فعل مثل فعل الآخر ، كقولك : ضاربته وشاتمته ، ويقع فيه تكثير الفعل كقولك : ضرّبت وقتّلت وما أشبه ذلك.

وقال أبو إسحاق الزجاج : باب" فعال" في الأمر يراد به التوكيد ، والدليل على ذلك أن أكثر ما يجيء منه مبني مكرر كقوله :

حذار من أرماحنا حذار

وتراكها من إبل تراكها (١)

وذلك عند شدة الحاجة إلى هذا الفعل.

وحكى أبو العباس عن المازني مثل قوله.

وحكي عن المازني عن الأصمعي عن أبي عمرو مثل ذلك.

والأقوى عندي أن قول سيبويه أصح ، وذلك أن حكاية الصوت إذا حكوا ،

__________________

(١) سبق تخريج هذين الشاهدين.

٤٢

وكرروا أن لا يخالف الأول الثاني كما قالوا : غاق غاق (١) ، وحاي حاي (٢) ، وحوب حوب (٣).

وقد يصرفون الفعل من الصوت المكرر فيقولون : عرعرت ، وقرقرت ، وإنما الأصل في الصوت عار عار ، وقار قار ، فإذا صرفوا الفعل منه غيروا إلى وزن الفعل.

فلما قالوا : " قرقار" و" عرعار" فخالف اللفظ الأول الثاني علمنا أنه محمول على قرقر وعرعر لا على حكاية عار عار وقار قار.

وعرعار : لعبة للصبيان كما قال النابغة :

يدعو وليدهم بها عرعار (٤)

ومعنى قوله : واختلط المعروف بالإنكار : يريد أن المطر أصاب كل مكان مما كان يبلغه المطر ويعرف ، ومما كان لا يبلغه ، وينكر بلوغه إيّاه.

والوجه الرابع : إذا سميت بشيء من الأوجه الثلاثة امرأة فإن بنى تميم ترفعه ، وتنصبه وتجريه مجرى اسم لا ينصرف ، وهو القياس عند سيبويه ، واحتج بأن (تراك) في معنى" اترك".

ولو سمينا ب (انزل) امرأة لكنا نجعلها معربة ولا نصرفها ، فإذا عدلنا عنها" نزال" وهو اسم فهي أخف أمرا من الفعل الذي هو" افعل".

وقد رد أبو العباس هذا فقال : القياس قول أهل الحجاز ؛ لأنهم يجرون ذلك مجراه الأول فيكسرون ، ويقولون في امرأة اسمها (حذام) : هذه حذام ورأيت حذام ومررت بحذام.

وبنو تميم يقولون : هذه حذام ورأيت حذام ومررت بحذام ، وذكر أبو العباس أن التسمية ب (نزال) أقوى في البناء من التسمية ب (انزل) ؛ لأن" انزل" هو فعل ، فإذا سمينا به فقد نقلناه عن بابه فلزمه التغيير ، كما أنا نقطع ألف الوصل منه فتغيره عن حال الفعل ،

__________________

(١) الغاق طائر مائي ، القاموس المحيط (باب القاف فصل الغين).

(٢) كلمة زجر للإبل وغيرها من المواشي ، اللسان (حا).

(٣) كلمة زجر لذكور الإبل ، اللسان (حوب).

(٤) عجز بيت صدره : متكنّفي جنبي عكاظ كليهما

وهو في ديوانه ٣٥ ، وابن يعيش ٤ / ٥٢ ، والمخصص ١٧ / ٦٦ ،

٤٣

و" فعال" ، هي اسم فإذا سمينا بها لم نغيرها ؛ لأنا لم نخرجها عن الاسمية ، كما أنا لو سمينا بانطلاق لم نقطع الألف ؛ لأن انطلاق اسم ، فلمّا لم نخرجه عن الاسمية ، أجرينا عليه لفظه الأول.

فأما الكسر على لغة أهل الحجاز فعلّته فيه عند سيبويه أنه محمول على" نزال" ، و" تراك" للعدل ، والبناء ، والتعريف ، والتأنيث.

فلما اجتمعت فيه هذه الأشياء حمل عليه ، وقد أجرى زهير" نزال" هذا المجرى حين خبّر عنها وجعلها اسما فقال.

ولأنت أشجع من أسامة إذ

دعيت نزال ولجّ في الذّعر (١)

قال : " وأما ما كان آخره راء ، فإن أهل الحجاز ، وبني تميم فيه متفقون ، ويختار بنو تميم فيه لغة أهل الحجاز كما اتفقوا في" برى" والحجازية هي اللغة القدمى"

قال أبو سعيد : يعني أن بني تميم تركوا لغتهم في قولهم هذه" حضار" و" سفار" وتبعوا لغة أهل الحجاز بسبب الراء ، وذلك أن بني تميم يختارون الإمالة ، وإذا ضموا الراء ثقلت عليهم الإمالة ، وإذا كسروها خفت الإمالة أكثر من خفتها في غير الراء ؛ لأن الراء حرف مكرر والكسرة فيها مكررة ، كأنها كسرتان ، فصار كسر الراء أقوى في الإمالة من كسر غيرها ، وصار ضم الراء في منع الإمالة أشد من منع غيرها من الحروف ، فلذلك اختاروا موافقة أهل الحجاز ، كما وافقوهم في (برى).

وبنو تميم من لغتهم تخفيف الهمزة ، وأهل الحجاز يخففون فوافقوهم في تخفيف الهمز من" برى".

قال سيبويه : " وقد يجوز أن ترفع وتنصب ما كان في آخره الراء ، قال الأعشى :

ومر دهر على وبار

وهلكت جهرة وبار (٢)

__________________

(١) البيت ملفق من قول زهير في الكتاب ٣ / ٣٧١ :

ولنعم حشو الدرع أنت إذا

دعيت نزال ولج في الذعر

وبيت المسيب :

ولأنت أشجع من أسامة إذ

يقع الصراخ ولج في الذعر

والبيت في المقتضب ٣ / ٣٧٠ ، والمخصص ١٧ / ٦٧ ، وابن يعيش ٤ / ٢٦.

(٢) البيت في الكتاب ٣ / ٢٧٩ ، والمقتضب ٣ / ٥٠ ، وابن يعيش ٤ / ٦٤ ، وشرح شذور الذهب ٩٧ ،

٤٤

والقوافى مرفوعة ، وأول القصيدة

ألم تروا إرما وعادا

أودى بها اللّيل والنّهار

قال : فما جاء آخره" الراء" ك" سفار" وهو اسم ماء ، و" حضار" وهو اسم كوكب ولكنهما مؤنثان ، ك" ماويّة" والشّعرى ، كأن تلك اسم الماءة ، وهذه اسم الكوكبة.

قال أبو سعيد : أراد سيبويه أن" سفار" وإن كان اسم ماء ، والماء مذكر ، فإن العرب قد تؤنث بعض ما فيها فيقولون : ماءة بني فلان ، وهو كثير في كلامهم ، فكأن سفار اسم الماء ، و" حضار" وإن كان اسم كوكب ، والكوكب مذكر ، فكأنه اسم الكوكبة في التقدير ؛ لأن العرب قد أنثت بعض الكواكب فقالوا : " الشّعرى" ، و" الزهرة" إذ كان مبنى هذا الباب أن يكون معرفة مؤنثا معدولا. وأما قوله ، ك" ماويّة" ، فإنما أراد أن (سفار) و (حضار) مؤنثان ، كماوية ، والشعرى في التأنيث. والأغلب عندي أن التمثيل" ب (ماوية) غلط في الكتاب ، وإن كانت النسخ متفقة عليها وإنما هو كماءة وهو أشبه ؛ لأن" سفار" ماء والعرب قد تقول للماء المورود ماءة.

قال الفرزدق :

متى ما ترد يوما سفار تجد بها

أديهم يرمي المستجيز المعوّرا (١)

واستدل سيبويه على أن" نزال" وما جرى مجراها مؤنث بقوله : دعيت نزال ، ولم يقل دعي. وكان أبو العباس المبرد يحتج لكسر قطام وحذام ، وما أشبه ذلك ، إذا كان اسما علما مؤنثا أنها معدولة عن قاطمة ، وحاذمة علمين ، وأنها لم تكن تنصرف قبل العدل ، لاجتماع التأنيث والتعريف فيها ، فلما عدّلت ازدادت بالعدل ثقلا فحطت عن منزلة ما لا ينصرف ، ولم يكن بعد منع الصرف إلا البناء فبنيت ، وهذا قول يفسّد ؛ لأن العلل المانعة للصرف يستوي فيها أن تكون علتان أو ثلاث.

لا يزداد ما لا ينصرف بورود علة أخرى على منع الصرف ، ولا يوجب له ذلك

__________________

والمخصص ١٧ / ٦٧.

(١) ديوانه ٣٥٥ ، والمخصص ١٧ / ٦٨ ، والمقتضب ٣ / ٥٠ ، وشرح شذور الذهب ٩٦ ، واللسان (سفر).

٤٥

البناء ، لأنّا لو سمينا رجلا بأحمر لكنّا لا نصرفه لوزن أفعل والتعريف ، ولو سمينا به امرأة لكنا لا نصرفه أيضا ، وإن كنا قد زدناه ثقلا واجتمع فيه وزن الفعل ، والتعريف ، والتأنيث ، وكذلك لو سمينا امرأة بإسماعيل أو يعقوب لكنا لا نزيدها على منع الصرف وقد اجتمع فيها التأنيث والتعريف والعجمة.

قال سيبويه : " واعلم أن جميع ما ذكرنا في هذا الباب من" فعال" ما كان منه بالراء ، وغير ذلك إذا كان شيء منها اسما لمذكر لم ينجر أبد ، وكان المذكر في ذلك بمنزلته إذا سمي ب (عناق) لأن هذا البناء لا يجيء معدولا عن مذكر"

قال أبو سعيد : يريد أن" فعال" في الوجوه الأربعة التي ذكرنا مؤنثة.

وأنّا إذا سمينا به رجلا أو شيئا مذكرا كان غير منصرف ، ودخله الإعراب ، وكان بمنزلة رجل سمي ب (عناق) وهو لا ينصرف لاجتماع التأنيث والتعريف فيه.

قال سيبويه : " ولو جاء شيء على فعال ، ولا يدرى ما أصله أمعدول هو ، أم غير معدول ، أم مذكر ، أم مؤنث ؛ فالقياس فيه أن تصرفه ، لأن الأكثر من هذا الباب مصروف غير معدول ، مثل : الذهاب ، والصلاح ، والفساد ، والرّباب"

وذلك كله منصرف ؛ لأنه مذكر ، فإذا سميت به رجلا ، فليس فيه من العلل إلا التعريف وحده ، وهو أكثر في الكلام عن المعدول.

وعلة ذلك أنك لا تجعل شيئا من ذلك معدولا إلا ما قد قام دليله من كلام العرب.

وسيبويه يرى أن" فعال" في الأمر مطرد قياسها ، في كل ما كان فعله ثلاثيّا ، من فعل ، وفعل ، وفعل فقط.

ولا يجوز القياس فيما جاوز ذلك إلا فيما سمع من العرب ، وهو (قرقار) و (عرعار) وما كان من الصفات ، والمصادر ، فهو أيضا عنده غير مطرد ، إلا فيما سمع منهم ، نحو (حلاق) ، و (فجار) ، و (يسار). وتطّرد هذه الصفات في النداء كقولك : يا فساق ، ويا خباث.

وجميع ما يطّرد : الأمر من الثلاثي ، والنداء ، فيما كان أصله ثلاثة أحرف ، وبعض النحويين لا يجعل الأمر مطردا من الثلاثي.

٤٦

هذا باب تغيير الأسماء المبهمة إذا صارت علامات خاصة

قال سيبويه : " وذلك قولك : ذا ، وذي ، وتا ، وأولى ، وأولاء وتقديرها" ألاع" ، فهذه الأسماء لما كانت مبهمة تقع على كل شيء ، وكثرت في كلامهم ، خالفوا بها ما سواها من الأسماء في تحقيرها وغير تحقيرها ، فصارت عندهم بمنزلة (لا) و (في) ، ونحوها وبمنزلة الأصوات نحو" فاق" و" حاي".

ومنهم من يقول : فاق ، وأشباهها ، فإذا صار اسما عمل فيه ما عمل ب (لا) لأنك قد حولته إلى تلك الحال.

وهذا قول يونس والخليل ومن رأينا من العلماء ، إلا أنك لا تجري" ذا" اسم مؤنث ؛ لأنه مذكر ، إلا في قول عيسى ، فإنه كان يصرف امرأة سميتها بعمرو.

وأما" ذي" فبمنزلة" في" ، و" تا" بمنزلة لا"

قال أبو سعيد : اعلم أن الحروف متى سمّينا بها رجلا أو غيره أجريناها مجرى الأسماء في الإعراب ، وفي جعلها على بناء يكون مثله في الأسماء ؛ إن لم يكن كذلك ، كقولنا في رجل سميناه ب" قد" و" هل" : هذا قد ، ورأيت قدا ، ومررت بقد ، وإن سمينا ب" أو" ، أو" في" ، أو ، " لا" غيرناها ؛ لأنه ليس في الأسماء المتمكنة اسم مبهم مفرد على حرفين ، الثاني منهما حرف لين ، فجعلناها على ثلاثة أحرف ، فزدنا على الياء ياء وعلى الواو واوا وعلى الألف همزة ، فنقول في رجل سمي بفي : هذا" فيّ" ورأيت فيّا ومررت بفيّ.

وإن سميناه ب" أو" قلنا : هذا" أوّ" ورأيت" أوّا" ومررت" بأوّ".

وإن سميناه ب" لا" قلنا : هذا لاء ، كأنا زدنا ألفا من جنسها ، كما زدنا واوا على الواو ، وياء على الياء.

ولا يجتمع ألفان في اللفظ فجعلت همزة ؛ لأنها من مخرج الألف. وما كان من الأسماء المبهمة المبنية ، فإنها إذا سمي بها رجل أو غيره تجري مجرى الحروف ؛ لأن المبنيات كلها من الأسماء ، والأفعال والحروف إذا سمي بها أعربت.

فتقول في رجل سمي ب" ذا" للإشارة : هذا ذاء ، ومررت بذاء كما قلت ، في المسمى ب" لا" : هذا" لاء" ، ومررت ب" لاء" وتقول للمسمى ب" ذي" : هذا" ذيّ" بتقدير الياء كما قلت : هذا فيّ. وإن سميته ب" أولى" المقصورة قلت : هذا أولى ورأيت أولى ، ومررت بأولى ، فيجري مجرى هدى منونا ، وليس مثل" حجا" و" رمى" ؛ لأن هذين

٤٧

معدولان كعمر وزفر من حاجى ورأى.

والحاجي هو المتنحي ، يقال حجا عنه ناحية فهو حاج ، وتقول في أولاء إذا سميت به رجلا : هذا أولاء ، ورأيت أولاء ، ومررت بأولاء ، فتجريه مجرى حداء ، ودعاء ، وما أشبه ذلك.

والمد والقصر فيه لغتان بمنزلة البكى والبكاء.

وإن سميت امرأة بشيء من ذلك فهي تجري مجرى الرجل في الإعراب والتغيير ، غير أنها تخالف الرجل في منع الصرف. تقول في امرأة سميتها ب" ألا" المقصورة : هذه ألا ورأيت ألا ، ومررت بألا ، وفي الممدودة ، هذه ألاء ورأيت ألاء ، ومررت بألاء.

وإن سميتها بذا قلت : هذا ذاء ، ومررت بذاء ، لا يجيز سيبويه إلا ذلك ؛ لأنه اسم مذكر ، سمي به المؤنث كامرأة سميتها بعمرو ، وإن سميتها ب (ذي) ، أو (تا) ، كانت بمنزلة هند ، يجوز فيها الصرف ، ومنع الصرف تقول : هذه ذيّ ، وذيّ ، وتاء ، وتاء.

وكان عيسى بن عمر يرى تسمية المؤنث بالمؤنث والمذكر سواء ، إذا كان اسما على ثلاثة أحرف ، وأوسطها ساكن.

قال : " وإن سميت رجلا" بالذي" أو" التي" نزعت الألف واللام ، فقلت : هذا لذي ، و" لتي" ، ومررت بلذي ، ولتى ؛ لأن الألف واللام كانتا دخلتا للتعريف كما تدخلان على القائم ، وما أشبه ذلك.

لأن قولك مررت بالذي قام كقولك : مررت بالقائم ، فإذا أفردت الذي فسميت به نزعت الألف واللام ، لأن التعريف باللقب وتصييره علما قد أغنى عن الألف واللام وصار كتسميتك بالقائم والحسن ، والعباس ، والحارث ، وما أشبه ذلك ؛ لأن هذه صفات قائمة بأنفسها ، فإذا سمي بها فكأنها صفات غلبت على المسمى.

قال : " وأما اللائي واللاتي فبمنزلة شائي ، وساري ، وتخرج منه الألف واللام كالذي" فمن أثبت الياء جعله بمنزلة (قاضي) فقال : هذا لاء ، ولات ومررت بلاء ولات ، ورأيت لائيا ولاتيا ، ومن حذف الياء من اللاء ، واللات ، فسمى بهما ، قال : هذا لاء ولات ، ويقال" ألا" في معنى الذين ، فإذا سميت بها نونت فقلت : هذا ألا ومررت بألا مثل هدى. فاعرف ذلك إن شاء الله.

قال : " سألت الخليل عن" ذين" اسم رجل فقال : هو بمنزلة رجلين ولا أغيره ؛

٤٨

لأنه لا يختل الاسم أن يكون هكذا.

قال أبو سعيد : لو سميناه بذين لكنا نقول : هذا ذين ، ورأيت ذين ومررت بذين ، فيجري على لفظ التثنية.

وقد يجوز أن تقول : هذا ذان ، ورأيت ذان ، ومررن بذان فتجريه مجرى عثمان ، وقد مر نحو هذا.

قال : وسألته عن رجل سمي ب" ألي" أو ب" ذوي" فقال : أقول هذا ذوون ؛ لأن النون إنما سقطت في ألي ، وذوي للإضافة فلما أفردتها عادت النون.

وهو بمنزلة رجل سمي ب" ضاربو" من قولنا ضاربو زيد إذا أفردنا فيقال : هذا ضاربون ورأيت ضاربين ، ومررت بضاربين.

وقال الكميت :

ولا أعني بذلك أسفليكم

ولكني أريد به الذّوينا (١)

ويجوز أن تجعل الإعراب في النون كما جاز أن تقول : " سنين" ويكون ما قبل النون ياء وقد مضي الكلام في هذا.

وإن سميته ب" ذي مال" أجريته على لفظه قبل التسمية فقلت : هذا ذو مال ومررت بذي مال. ولو سميته ب" ذي" مفردا قلت : هذا ذوا ورأيت ذوا ومررت بذوا في قول سيبويه.

وقال الخليل : هذا ذو ورأيت ذوا ومررت بذو ؛ لأن الإضافة قد منعته من التنوين واستعمل اسما في الإضافة دون الإفراد.

قال : ألا تراهم قالوا : ذو يزن منصرف ، فلم يغيروه ، يعني لم يغيروا" ذو" عن لفظه بسبب الإضافة ، وجعلوه كأبي زيد ؛ لأنهم أمنوا التنوين ، وصار المضاف إليه منتهى الاسم.

قال : " واحتملت الإضافة ذا كما احتملت أبا زيد ، وليس مفرد آخره كذا ، فاحتملته كما احتملت الهاء عرقوة.

يعني أن الإضافة قد تغير لفظ المضاف ، حتى لا يكون لفظه في الإفراد كلفظه في الإضافة ، ألا ترى أن قولنا : أبو زيد وأبا زيد وأبي زيد ، لو أفردنا الأب لم تدخله

__________________

(١) البيت في الكتاب ٣ / ٢٨٢ ، والخزانة ١ / ٦٧.

٤٩

الألف والواو والياء ، كذلك أيضا إذا أضفنا" ذو" كان على حرفين ، الثاني منهما من حروف المد واللين ، وإذا أفردنا احتاج إلى ثلاثة ثم مثل المضاف إليه بهاء التأنيث في قولنا : عرقوة ؛ لأن عرقوة بالواو ، فإذا أفردنا وحذفنا الهاء قلنا عرقي ؛ لأنه لا يكون اسم آخره واو ، قال الشاعر :

حتى تفضّي عرقي الدّليّ (١)

وحكي عن الجرمي أنه قال : كما احتملت" أبو زيد" مكان" أبا زيد" وكذا في نسخة أبي بكر مبرمان ، إنما هو كما احتملت" أبو زيد" وليس بينهما فرق في التحصيل ؛ لأن المعنى كما احتملت الإضافة أبا زيد ، وإذا قال : كما احتملت" أبو زيد" فالمعنى كما احتملت هذه الكلمة التغيير في الإفراد والإضافة.

والذي في نسختي ذو يزن منصرف ، في نفس الكتاب" منصرف" يعني" يزن" ولم أره في النسخ كلها.

وحكي عن الجرمي أنه قال : ذو يزن غير منصرف بمنزلة" يسع" اسم رجل. قال : " وسألته عن" أمس" اسم رجل ، فقال : مصروف ؛ لأن" أمس هاهنا ل يست على الحد ، ولكنه لما كثر في كلامهم وكان من الظروف تركوه على حال واحدة ، كما فعلوا ذلك بأين وكسروه كما كسروا" غاق" إذ كانت الحركة تدخله لغير إعراب ، كما أن حركة غاق لغير إعراب ، فإذا صار اسما لرجل انصرف ؛ لأنك قد نقلته عن ذلك الموضع ، كما إنك إذا سميته ب" غاق" صرفته فهذا يجري مجرى هذا كما يجري" ذا" مجرى" لا"

قال أبو سعيد : اعلم أن الأصل في المبنيات كلها إذا سمي بشيء منهن رجل أعرب ولم يغير حكمه ، أن أصله مبني على الكسر ، فإذا سمينا به رجلا أعربناه كما نعربه إذا سميناه ب" أين" وإنما بني لأنه ظرف في الأصل ، وصار فيه معنى الإشارة ؛ لأنك إذا قلت : أمس فإنما تشير إلى اليوم الذي تاليه يومك ، فإذا انقضى اليوم لم يلزمه هذا الاسم فصار بمنزلة شيء حاضر تشير إليه فتقول ذا ، فإذا زال عن الحضرة لم تقل" ذا".

__________________

(١) البيت بلا نسبة في الكتاب ٣ / ٣٠٩ ، والمقتضب ١ / ١٨٨ ، والخصائص ١ / ١٣٥ ، وابن يعيش ١٠ / ١٠٨ ، والمنصف ٢ / ٧٠ ، واللسان (عرق).

٥٠

ويجوز أن يكون بمنزلة الضمير ؛ لأنه لا يعرف ولا يسمى إلا باليوم الذي أنت فيه ، فأشبه الضمير الذي لا يسمى إلا بأن يجري ذكره أو يحضر فيكون متكلما أو مخاطبا ، فعمل بأمس إذا سمي به ما عمل بغاق إذا سميت به رجلا تقول : هذا أمس وغاق ، ورأيت أمسا وغاقا ، ومررت بأمس وغاق ولا يختلفان ، وإن كان أمس اسما ، وغاق صوتا ، كما لا يختلف" ذا" الذي هو اسم ، و" لا" الذي ليس باسم إذا سمينا بهما فتقول : ذاء ، ولاء وقد مر نحو هذا.

قال سيبويه : " واعلم أن بني تميم يقولون في موضوع الرفع : ذهب أمس بما فيه ، وما رأيته مذ أمس ، فلا يصرفون في الرفع ؛ لأنهم عدلوه عن الأصل الذي هو عليه في الكلام لا عما ينبغي له أن يكون عليه في القياس ، ألا ترى أن أهل الحجاز يكسرونه في كل المواضع ، وبنو تميم يكسرونه في أكثر المواضع في النصب والجر"

قال أبو سعيد : (أمس) مصروف إذا سمينا به رجلا ، من لغة أهل الحجاز ، وبني تميم جميعا ، فكأن قائلا قال لسيبويه لم تصرفه على اللغتين جميعا ، وبنو تميم لا يصرفونه إذا قالوا : ذهب أمس؟

ففرّق بين ترك الصرف في لغة بني تميم إذا قالوا : ذهب أمس الذي هو اليوم الماضي وبين أن تسمى به رجلا فتقول : ذهب أمس بالتنوين ؛ لأن أمس إذا أرادوا به الوقت وأعربوه فهم يريدون أحد أمرين :

إما أن يكون على تقدير ذهب الأمس فيعدلونه عن الألف واللام فيجتمع فيه العدل والتعريف فيمنع الصرف.

أو عن لغة أهل الحجاز ، ولغتهم في المجرور والمنصوب فكأنهم عدلوا عن المبني ، وهو معرفة ، فاجتمع فيه العدل ، والتعريف ، فإذا سمينا به رجلا فقد زال عنه العدل ، فلذلك انصرف.

ومعنى قول سيبويه : لأنهم عدلوه عن الأصل الذي هو عليه في المعنى ، يريد عن معنى نفسه ، ولم ينقلوه إلى شيء آخر ، والأصل الذي هو عليه في الكلام أن يكون بالألف واللام إذا عرّفوه ، أو يكسر للعلة التي ذكرنا.

والذي ينبغي أن يكون عليه في القياس أنّا متى لقبنا شيئا بلفظ ، جعلناه علما له لم نحتج إلى الألف واللام وصار معرفة. هذا هو القياس فيما نجعله معارف ، فهم لم يجعلوا

٥١

هذا اللفظ على جهة العلم وإنما جعلوه على معنى الألف واللام ، وصار خروجه عن القياس وعدله عن الألف واللام ، كما عدل" سحر" ظرفا ، لأن" سحر" إذا كان مجرورا أو مرفوعا أو منصوبا غير ظرف لم يكن معرفة إلا بالألف واللام.

يعني إذا كان ظرفا وأردت تعريفه جاز ألا تدخل عليه الألف واللام والنية فيه الألف واللام كقولك : " جئتك سحر" إذ أردت سحر يومك ؛ لأنه ظرف ، فإن قلت استطبت السحر أو طاب السحر أو عجبت من السحر ، لم يجز أن تخرج الألف واللام ؛ لأنه يصير غير معرفة.

فاستعمل بنو تميم في منع الصرف من أمس تقدير الألف واللام وعدله عنهما ، كما استعمل الناس ذلك في سحر ظرفا.

قال : " وإن سميت رجلا" بأمس" في هذا القول ، يعني قول بني تميم قبل أن تسمي به ، صرفته ؛ لأنه لا بد لك من أن تصرفه في الجر والنصب ؛ لأنه في الجر والنصب مكسور في لغتهم فإذا انصرف في هذين الموضعين انصرف في الرفع ؛ لأنك تدخله في الرفع ، وقد جرى له الصرف في القياس في الجر والنصب ؛ لأنك لم تعدله عن أصله في الكلام مخالفا للقياس ، ولا يكون أبدا في الكلام اسم منصرف في الجر والنصب ولا ينصرف في الرفع"

قال أبو سعيد : يريد أنك إذا سميت رجلا بأمس في لغة بني تميم فلا بد من صرفه في الجر والنصب ؛ لأنه مبني مكسور في الجر والنصب على لغتهم.

وقد تقدم أن المبني إذا سمي به انصرف ، فإذا صرفته في النصب والجر فلا بد من صرفة في الرفع لئلا يختلف.

وإنما ذكر هذا ؛ لأن بني تميم قد تركوا صرفه في الرفع ، ولئلا يظن ظان أنه في الرفع غير مصروف على لغتهم إذا سمي به ، ومعنى قوله : لأنك لم تعدله عن أصله في الكلام مخالفا للقياس ، يعني لم تعدل الرجل عن أصله في الكلام كما عدلت بنو تميم أمس الذي تاليه اليوم عن أصله في الكلام ، وكذا سحر إذا سميت به رجلا تصرفه.

قال سيبويه : " وهو في الرجل أقوى ؛ لأنه لا يقع ظرفا ، ولو وقع اسم شيء فكان ظرفا صرفته ، وكان كأمس لو كان أمس منصوبا غير ظرف مكسور كما كان"

يعني لو سمينا وقتا من الأوقات أو مكانا من الأمكنة التي تكون ظرفا" بسحر"

٥٢

وجعلناه لقبا له لانصرف ؛ لأنه ليس هو بالشيء المعدول ، وكان كأمس لو سميت به.

وقوله : وهو في الرجل أقوى يعني في باب الصرف ، لأن الرجل لا يكون ظرفا فهو أقوى.

قال : " وقد فتح قوم أمس في (مذ) ، وهم بعض بني تميم وإنما فعلوا ذلك ؛ لأنهم تركوا صرفه"

وما بعد" مذ" يرفع ويخفض ، فلما ترك بعض من يرفع صرفه بعد" مذ" ترك أيضا من يجر صرفه بعدها ، فكانت مشبهة بنفسها ، وقال الراجز :

لقد رأيت عجبا مذ أمسا

عجائز مثل الأفاعي خمسا

يأكلن ما في رحلهن همسا

لا ترك الله لهن ضرسا (١)

قال : وهذا قليل ؛ لأن الخفض بعد مذ قليل.

وإذا سمي رجل بذه من قولنا" هذه" قلت : هذا ذه قد جاء ، ومررت بذه قد جاء ، ورأيت ذها ، والهاء بدل من الياء في هذي أمة الله ، كما أن ميم" فم" بدل من الواو ، والياء التي في قوله هذي أمة الله إنما هي ياء ليست من الحروف ، وإنما هي لبيان الهاء ، فإذا صارت اسما لم يحتج إلى ذلك لما لزمتها الحركة والتنوين ، والدليل على أن الياء ليست من الكلمة أنها لا تثبت في الوقف نقول : هند هذه أو ذه.

ومن العرب من يقول : ذه أمة الله ، فيسكن الهاء في الوصل كما يقول" به" في الوصل ، وقد مضي نحو هذا.

هذا باب الظروف المبهمة غير المتمكنة

وذلك لأنها لا تضاف ولا تصرّف تصرّف غيرها ولا تكون نكرة

قال سيبويه : " وذلك أين ، ومتى ، وكيف ، وحيث ، وإذ ، وإذا ، وقبل وبعد"

قال أبو سعيد : اعلم أن سيبويه ذكر في هذا الباب ظروفا وغير ظروف من المبنيات وقد ذكرت جملتها في أول الكتاب وزدت على ما ذكره سيبويه حروفا ذكرها غيره بما يغني عن الشرح في هذا الموضع ، إلا أني أسوق كلام سيبويه وأذكر ما يحتاج إلى إبانة

__________________

(١) الرجز للعجاج بن رؤبة في الكتاب ٣ / ٢٨٥ ، وابن يعيش ٤ / ١٠٦ ، والخزانة ٣ / ٢١٩ ، وشرح شذور الذهب ٩٩.

٥٣

مراده وشرح يسير لبعض ما لم أذكره هناك.

قال سيبويه : " فهذه الحروف ، وأشباهها لما كانت مبهمة وغير متمكنة شبهت بالأصوات وما ليس باسم ولا ظرف.

فإذ التقى في آخر شيء منها حرفان ساكنان حركوا الآخر منهما وإن كان الحرف الذي قبل الأخير متحركا أسكنوه كما قالوا : هل ، وبل ، وأجل ، ونعم ، وقالوا : جير ، فحركوه لئلا يسكن حرفان.

فإن قال قائل : لم كسروا جير ، وقد فتحوا أين وكيف؟ ففي ذلك جوابان : أحدهما أن" جير" جاء على قياس اجتماع الساكنين في الأصل وهو موجب للكسر.

والجواب الثاني أن" جير" قد يحلف به ، فيقال : جير لأفعلن فيقع موقع الاسم المحلوف به ، وهو مفتوح كقولك : الله لأفعلن ، فحركوه بحركة للبناء غير حركة الإعراب لو أعرب.

قال : ويدلك على أن" قبل" و" بعد" غير متمكنين أنه لا يكون فيهما مفردين ما يكون فيهما مضافين. لا تقول : هذا قبل كما تقول : هذا قبل القيامة.

اعلم أن" قبل" ، و" بعد" يكونان خبرين للجثث وغيرها إذا كانا مضافين كقولك : زيد قبل عمرو ، وبعد عمرو ، والقتال قبل يوم الجمعة وبعد يوم الجمعة ، فإذا حذفت ما أضفتهما إليه لم يجز أن يكونا خبرين.

لا تقل : زيد قبل ، والقتال بعد ، وإن لم أر أحدا من أصحابنا اعتل لهذا بشيء يقنع.

وقد حكاه سيبويه ولا أعلم له مخالفا ، ورأيت من احتج فقال لأنه لا فائدة فيه ؛ لأن الفائدة في التوقيت بما قد أضيف إليه في غير الخبر.

والصلة في ذلك عندي أن" قبل" و" بعد" إذا كانا خبرين فقد حذف من الكلام ما يعمل في الظرف كقولنا : زيد قبل عمرو ، فالتقدير فيه استقر قبل عمرو ، فإذا حذفنا المضاف إليه فقد حذفنا ما قبله في التقدير وما بعده فصار ذلك إجحافا فاجتنبوه.

قال : وجزمت" لدن" ولم تجعل ك" عند" لأنها لا تقع في جميع مواضع" عند" فضعفت.

وذلك أن" عند" اتسعوا فيها فقالوا : عندي مال وإن كان غائبا ، ولا يقولون ذلك في" لدن" فجعلت بمنزلة" قط" إذا أردت ليس إلا. وحسب في البناء مثل قط ، إلا أنهم

٥٤

بنوه على حركة.

وإذا أردت" قطّ" المشددة ، التي هي لما مضي من الدهر كانت مبنية على الضم ، لاجتماع الساكنين ، ومشبهة بمنذ ؛ لأنها في معنى منذ ، فإذا قلت ما رأيته قط ، فكأنك قلت ما رأيته منذ كنت.

وقولهم" لد" بضم الدال محذوفة من" لدن" والضمة تلك الضمة ، والدليل على ذلك أنك إذا أضفت" لدن" إلى مني رددت النون ؛ لأن الإضافة قد ترد الأشياء الذاهبة ، فتقول : هذا من لدنك ولا تقول : من لدك ، كما تقول : من لد زيد.

قال : وسألت الخليل عن" معكم" ، " ومع" لأي شيء نسبتها ولم لم تبن على السكون؟ فقال : لأنها استعملت غير علم كجميع ووقت نكرة ، وذلك قولك : جاءا معا ولا تضاف" مع" في هذا الموضع ، فلما أعرب معا للموضع المنكور المفرد وجب تحريكه في الإضافة.

قال أبو سعيد : وإنما وجب إفراده في هذا الموضع ؛ لأنّا إذا أضفنا ، فقلنا : ذهب زيد مع عمرو فقد ذكرنا اجتماعه مع عمرو وأضفنا" مع" إلى غير الأول ، وإذا قلنا : ذهبا معا ، فليس في الكلام غيرهما تضيف" مع" إليه ولا يجوز أن تضيف" مع" إليهما. كما تقول : ذهب زيد مع نفسه ، ونصب" معا" على الحال في قولك ذهبا معا ، كأنك قلت : ذهبا مجتمعين ، ويجوز أن يكون على الظرف كأنه قال : ذهبا في وقت اجتماعهما.

وقد يسكن في الشعر يشبه ب" لدن" وب" هل" وما أشبه ذلك من المسكنات.

قال الشاعر :

وريشي منكم وهواي معكم

وإن كانت زيارتكم لماما (١)

قال : وأما" منذ" فضمّت ، لأنها للغاية ، ومع ذا أن من كلامهم أن يتبعوا الضم الضم كما قالوا : ردّ يا فتى.

قال أبو سعيد : إن سأل سائل لم سمّى سيبويه" منذ" غاية؟ وقد فسر أبو العباس المبرد الغاية في قبل وبعد ، أنها لما حذف المضاف إليه ، وقد كان غاية الاسم واقتصروا على المضاف صار هو المنتهى والغاية.

__________________

(١) البيت لجرير في ديوانه ٥٠٦ ، وابن يعيش ٥ / ١٣٨ ، وشرح الأشموني ٢ / ٢٦٥.

٥٥

ودخل" منذ" ، " وحيث" في هذا ؛ لأنه كان من حق" حيث" أن يضاف لما بعده في حال. وقد يرفع ما بعده كقولك : ما رأيته منذ يوم الجمعة ، ومنذ يوم الجمعة ، فإذا رفعت ما بعدها فقد منعتها الإضافة ، فوجب بناؤها على الضم للغاية ، ثم أجروا الخافضة مجراها ، وقد يجوز أن يكون الضم للاتباع ، اتبعوا حركة الذال حركة الميم كما قالوا : " ردّ" ، وذكر في" عل" ما تقدم مما ذكرناه في أول الكتاب.

قال : وسألت الخليل عن قولهم : مذ عام أول ، ومذ عام أول فقال : " أول" هاهنا صفة ، وهو أفعل من عامك ، ولكنهم ألزموه هاهنا الحذف استخفافا ، فجعلوا هذا الحرف بمنزلة أفعل منك.

قال أبو سعيد : اعلم أن" أفعل" إذا جعل نعتا وليس أنثاه فعلاء ، فإنه يلزمه منك كقولك : مررت برجل أفضل منك.

وأول نعت لعام ، والتقدير فيه أول من عامك ، كما تقول : أقدم من عامك ، فحذفوا" من" ، كما قالوا : زيد أفضل ، ويحذفون" من" إلا أنه يكثر في زيد أفضل منك إظهار منك ، وإن كان يجوز الحذف ، ويكثر في عام أول حذف" من" وإن كان يجوز الإظهار ، والدليل على جواز إظهاره أنك تقول : ما رأيتك منذ أول من أمس ، وفيه مع هذا حذف آخر ، وذلك أنك إذا قلت : ما رأيته منذ عام أول ؛ فالمعنى أنه منذ عام أول يلي عامك هذا ؛ لأن كل ما مضي من السنين فهو أول لتقدمها ، ولو لا هذا التقدير لم يكن العام الذي قيل عامنا أولى به من السنين الماضية.

وكذلك قولنا : ما رأيته منذ أول من أمس ، يريد من اليوم الذي يليه أمس ، والكلام على ظاهره يحتمل أن يكون كل يوم تقدم أمس.

قال سيبويه : " وقد جعلوا" أول" بمنزلة" أفعل" وذلك قول العرب ما تركت له أولا ولا آخرا.

فهذا ليس يقدر فيه" من" وهو بمنزلة قولك : ما رأيت له قديما ولا حديثا ، فقد جاز في" أول" أن يكون صفة واسما وعلى أي الوجهين سميت به رجلا فهو لا ينصرف لاجتماع وزن الفعل والتعريف فيه.

قال : وسألته عن قول بعض العرب وهو قليل : مذ عام أول فقال : جعلوه ظرفا في هذا الموضع ، وكأنه قال : مذ عام قبل عامك.

٥٦

وسألته عن قولهم : زيد أسفل منك فقال : هذا ظرف كقوله عزوجل : (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ)(١)

كأنه قال : زيد في مكان أسفل من مكانه ، ومثل هذا الحذف في" أول" لكثرة استعمالهم إياه قولهم : لا عليك فالحذف في هذا الموضع كهذا.

ومثله : هل لك في ذلك ، ومن له في ذلك ، ولا يذكروا له حاجة ولا لك حاجة ، ونحو هذا أكثر من أن يحصى. وقال الشاعر :

يا ليتها كانت لأهلي إبلا

أو هزلت في جدب عام أولا (٢)

" فأولا" يكون على الوصف والظرف ؛ لأنه لا ينصرف.

وقد كان الزجاج يجيز أن يكون منع" أول" الصرف كما منع" أمس" الصرف في لغة بني تميم ؛ لأنه استعمل في الكلام بغير إضافة ، فصار كالمعدول ، كأخر وأمس في لغة بني تميم.

قال سيبويه : وسألته عن قوله من دون ، ومن تحت ، ومن فوق ، ومن قبل ، ومن بعد ، ومن دبر ، ومن خلف. فقال : أجروا هذا مجرى الأسماء المتمكنة لأنها تضاف وتستعمل غير ظرف ، ومن العرب من يقول : من فوق ومن تحت يشبهها ب" قبل" و" بعد".

وقال أبو النجم :

أقبّ من تحت عويض من عل (٣)

وقال آخر :

لا يحمل الفارس إلا الملبون

المحض من أمامه ومن دون (٤)

وكذلك من أمام ، ومن قدام ، ومن وراء ، ومن قبل ومن دبر ، وزعم الخليل أنهن نكرات كقول أبي النجم.

__________________

(١) سورة الأنفال ، من الآية ٤٢.

(٢) البيت بلا نسبة في الكتاب ٢٢٩ ، وابن يعيش ٦ / ٣٤ ، واللسان (وأل).

(٣) البيت في الكتاب ٣ / ٢٩٠ ، وشواهد المغني للسيوطي ١٥٤ ، واللسان (علا).

(٤) البيت بلا نسبة في الكتاب ٣ / ٢٩٠ ، والتصريح ٢ / ٥٢ ، واللسان (لبن).

٥٧

يأتي لها من أيمن وأشمل (١)

وزعم أنهن نكرات إذا لم يضفن إلى معرفة ، كما يكون أيمن وأشمل نكرة ، وسألنا العرب فوجدناهم يوافقونه ، يجعلونه كقولك : من يمنة وشأمة ، وكما جعلت ضحوة نكرة وبكرة معرفة.

وإنما ذكر سيبويه الشاهد في قوله : " ومن دون" ؛ لأنه لم يضف ، وليس فيه دليل على التنكير والتعريف ؛ لأنه يحتمل أن يقال : من دون فيكون نكرة ، ويحتمل أن يكون من دون بالضم ويكون معرفة ، إلا أن الشعر موقوف ، ويحتمل أن يقال المحض بالنصب على معنى إلا الملبون المحض ، أي المسقى اللبن المحض.

قال : وأما يونس فكان يقول : من قدّام لا يصرفه لاجتماع التأنيث والتعريف فيه.

قال : وهذا مذهب في القياس ، إلا أنه ليس يقوله أحد من العرب.

قال : وسألنا العلويين والتميميين فرأيناهم يقولون : من قديديمة ، ومن ورّيئة ، على حد قولك : من دون ، ومن أمام ، قال النابغة الجعدي"

لها فرط يكون ولا تراه

أماما من معرّسنا ودونا (٢)

وذكر" هيهات" وما فيها ، وقد تقدم شرحنا له وكذلك" ذية" وقد بني على فتحة ، وقبلها متحرك ، وما كان من المبنيات من هذا النحو أسكن آخره إذا كان قبل آخره حركة ، فالسبب في حركة آخر" ذية" أنا لو سكناها لوجب أن نجعلها هاء ؛ لأن ما كان من المؤنث بالهاء جعلت في الدرج" تاء" وفي الوقف" هاء" ، فلو سكناها لوجب أن نجعلها أبدا هاء ، فكانت تذهب التاء وهي أصل التأنيث.

ويجوز أن يكون أيضا أن لو تركوها هاء على كل حال لتوهم أنها هاء أصلية.

على أن سيبويه جعلها بمنزلة" عشر" في خمسة عشر ، وأنه كشيئين جعلا كشيء واحد ففتح آخره ، وإذا خففت ففيها ثلاث لغات ذيت : بالفتح والضم والكسر.

فمن يقول : ذيت فهو بمنزلة حيث وأين.

__________________

(١) البيت في الكتاب ٣ / ٢٩٠ ، وابن يعيش ٥ / ٤١ ، والخصائص ٢ / ١٣٠ ، والخزانة ١ / ١٠٤ ، واللسان (شمل).

(٢) ديوانه ٢١٠ ، والكتاب ٣ / ٣٩١ ، واللسان (دون).

٥٨

ومن يضم فهو بمنزلة منذ ، ومن يكسر فهو بمنزلة أولاء.

قال : وسألت الخليل عن شتان فقال فتحها كفتحة هيهات ، يعني أنها مبنية على الفتح كما بنيت هيهات على الفتح ، وقد احتج أصحابنا في ذلك بحجج.

منهم من قال : أن شتان وقع موقع الفعل الماضي ، فإذا قالوا شتان ما زيد وعمرو فكأنا قلنا افترقا وتباعدا ومعنى شتّ يشتّ شتّا أي تفرق وتباعد.

وقال بعضهم : " شتّان" مصدر على فعلان ، وقد خالف المصادر ؛ لأنه ليس في المصادر" فعلان" بتسكين العين وفتح الفاء.

وإنما يجيء في المصادر فعلان أو فعلان أو فعلان ، فلما خالف المصادر أشبه باب ، " فعال" ، وهو مصدر في موضع فعل على غير مصدر ذلك الفعل ، كقولنا نزال ، وحذار ودراك ، ومصدر هذه الأفعال : النزول والحذر والإدراك.

وقال بعضهم : اجتمع في" شتان" خروجه عن وزن المصادر وهو مصدر والتعريف ، والدليل على تعريفه أنه لا تدخله الألف واللام ، وزيادة الألف والنون في آخره ، وأنه ظرف ، فبني ، وكان حق النون أن تكون ساكنة ، وفتح اتباعا للألف والفتحة التي قبلها ، وقد مضي نحو هذا.

وقال المازني" شتان" و" سبحان" إذا نكرتهما صرفتهما اسمين كانا أو في موضعهما.

هذا باب الأحيان في الانصراف وغير الانصراف

قال سيبويه : " اعلم أن" غدوة" و" بكرة" جعلت كل واحدة منهما اسما للحين على جهة التعريف له ، ومذهب التلقيب والعلم ، كما جعلوا" أم حبين" اسما للدابة معرفة"

وكما فعل" أسامة" اسما للأسد ، والدليل على أنهم يذهبون بهما هذا المذهب أن الاسم الموضوع للنكرة هو" غداة" ، تقول : هذه غداة باردة ، ونحن في غداة طيبة ، ثم غيروا لفظ" غداة" إلى غدوة ؛ لأن يوضع للتعريف ، لتغيير اللفظ ، فيكون أول أحوال هذا اللفظ التعريف ، ثم يجوز أن ينكر بعد ذلك. والدليل على ذلك أنّا رأيناهم قد يضعون أسماء مشتقة موضوعة لمعارف لم تستعمل في شيء من النكرات ولا تعرف معانيها منكورة نحو : سعاد ، وزينب وغير ذلك. مما لا يحصر ، وإن كنا نعرف ما قد اشتقت

٥٩

منه ، ف (غدوة) قد اشتقت للتعريف من (غداة) ، كما أن (سعاد) قد اشتقت من (السعادة) لأن توضع لمعرفة.

والأصل في هذين الاسمين (غدوة) ، و (بكرة) محمولة عليها لاجتماعهما في المعنى وفي البنية.

كما أن" يذر" محمولة على" يدع" ، وكان القياس في" يذر" أن يقال (يذر) ، لأن أصله يوذر ، فسقطت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة وليس في موضع عين الفعل ، ولامه حرف من حروف الحلق فيفتح.

وأصل" يدع" أيضا" يدع" بكسر الدال ثم فتح من أجل العين التي هي لام الفعل وهي من حروف الحلق.

قال سيبويه : " ومثل ذلك قول العرب : هذا يوم إثنين مباركا فيه ، وأتيتك يوم إثنين مباركا فيه. جعل إثنين اسما له معرفة ، كما تجعله اسما لرجل"

وقد رد أبو العباس المبرد هذا ، وذكر أن" إثنين" اسم اليوم لا يكون معرفة أبدا إلا بالألف واللام ، وأن قولهم مباركا فيه على الحال من النكرة.

وزعم يونس عن أبي عمرو ، وهو قوله أيضا ، وهو القياس ، أنك إذا قلت : لقيته العام الأول ، أو يوما من الأيام ، ثم قلت غدوة أو بكرة وأنت تريد المعرفة لم ينون ، يريد أنه يجوز أن ينكر اليوم ، وتعرف" غدوة" و" بكرة" فتقول" رأيته يوما غدوة ؛ لأن" غدوة" وقتها في اليوم معروف ، فكأنك قلت : رأيته يوما في هذا الوقت منه ، وأما" ضحوة" وعشية وغيرهما من ساعات اليوم والليلة فكله نكرات إلا سحر يومك. هذا هو المعروف الكثير في كلام العرب.

قال سيبويه إن بعض العرب يدع التنوين في" عشية" كما ترك في غدوة.

قال أبو العباس : وليس هذا بشيء ، وعشية نكرة على كل حال. وأرى حكاية سيبويه لا ترد.

قال : وزعم الخليل أنه يجوز أن تقول : آتيك اليوم غدوة وبكرة تجعلهما بمنزلة" ضحوة" وزعم أبو الخطاب أنه سمع من يوثق به من العرب يقول آتيك بكرة وهو يريد الإتيان في يومه أو في غده ، ومثل ذلك قول الله عزوجل : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً

٦٠