شرح كتاب سيبويه - ج ٤

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٤

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٢٠

الدابة المعروفة ، والتّمساح : الرجل الكذّاب وتجفاف وتمثال وتمراد بيت للحمام ، (وتلفاق) هو ثوبان يلفقان ، وتلقام : سريع اللّقم ، ويقال : أتت الناقة على تضرابها ، أي الوقت الذي ضربها الفحل فيه ، وتلعاب : كثير اللّعب ، وتقصار : وهي المخنقة ، وتنبال : وهو القصير.

هذا باب مصادر بنات الأربعة

" فالزم لها الذي لا ينكسر عليه أي يجيء على مثال فعللة ، وكذلك كل شيء ألحق من بنات الثلاثة بالأربعة ، وذلك نحو : دحرجته دحرجة ، وزلزلته زلزلة ، فهذا الأصلي ، والملحق نحو : " حوقلته حوقلة ، وزحولته زحولة" ، وهو من الزّحلة ، وإنما ألحقوا الهاء عوضا من الألف التي تكون قبل آخر حرف ، وذلك ألف زلزال ، وقالوا : زلزلته زلزالا ، وقلقلته قلقالا ، وسرهفته سرهافا ، كأنهم أرادوا مثال الإعطاء والكذّاب ؛ لأن مثال دحرجت وزنتها على أفعلت وفعّلت"

قال أبو سعيد : قد كنت ذكرت ما يلزم المصدر في أكثر ما جاوز الثلاثة من ألف تزاد قبل آخره بما أغني عن إعادته ، ولفعللت مصدران : أحدهما فعللة والآخر فعلان ، كقولك : سرهفته سرهفة وسرهافا ، والأغلب فيه الألزم الفعللة ؛ لأنها عامة في جميعها ، وربما لم يأت فعلال ، نحو : دحرجته دحرجة ، ولم يسمع دحراج. وألزموا فعللة الهاء عوضا من الألف التي قبل آخر فعلال ، فإذا كان فعللته مضاعفا جاز الفعلال.

" وتقول : الزّلزال والقلقال ، ففتحوا كما فتحوا أول التّفعيل".

كأنهم حذفوا الهاء من فعللة وزادوا الألف عوضا منها ، وفي غير المضاعف لا يفتحون أوله ، لا يقولون السرهاف.

" والفعللة هاهنا بمنزلة المفاعلة في فاعلت ، والفعلال بمنزلة الفعال في فاعلت ، تمكّنهما هاهنا كتمكّن ذينك هناك"

قال أبو سعيد : قد ذكرنا في مصدر فاعلت أنه مفاعلة ، وفعال ، فإن الأصل مفاعلة ، وكذلك مصدر فعللت فعللة وفعلال ، والأصل فعللة.

قال : " وأما ما لحقته الزيادة من بنات الأربعة وجاء على مثال استفعلت وما لحق من بنات الثلاثة ببنات الأربعة فإن مصدره يجيء على مثال استفعلت ، وذلك : احرنجمت احرنجاما ، واطمأننت اطمئنانا ، والطّمأنينة والقشعريرة ليس واحد منهما بمصدر على اطمأننت واقشعررت ، كما أن النبات ليس بمصدر على أنبت ، فمنزلة

٤٦١

اقشعررت من القشعريرة ، واطمأننت من الطمأنينة بمنزلة أنبت من النّبات"

يريد أن القشعريرة والطّمأنينة اسمان وليسا بمصدرين لهذين الفعلين ، وإن كانا قد يوضعان في موضع المصدر ، فيقال : اطمأننت طمأنينة ، واقشعررت قشعريرة ، كما أن النبات ليس بمصدر لأنبتّ ، وإن كان يوضع في موضعه ، قال الله عزوجل : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً)(١) ، والمسرهف : المنعّم الذي قد أحسن غذاؤه.

هذا باب نظير ضربته ضربة ورميته رمية من هذا الباب

قال أبو سعيد : اعلم أن حكم المرة الواحدة من مصدر ما تجاوز الثلاثة أن تزيد على مصدره الهاء ، فإن كان المصدر تلزمه الهاء اكتفيت بما يلزمه من الهاء ، وإن كان للفعل مصدران جعلت الواحد من لفظ المصدر الذي هو الأصل والأكثر.

وتقول : أعطيت إعطاءة ، وأخرجت إخراجة" إذا أردت المرة الواحدة.

وقولك : احترزت احترازة ، وانطلقت انطلاقة واحدة ، واستخرجت استخراجة واحدة ، واقعنست اقعنساسة ، واغدودنت اغديدانة ، وفعلّت بهذه المنزلة ، تقول : عذّبته تعذيبة ، وروّحته ترويحة. والتفعّل كذلك ، وذلك قولهم : تقلّب تقلّبة واحدة. وكذلك التفاعل ، تقول : تغافل تغافلة ، وتعاقل تعاقلة واحدة ، وأما فاعلت فإنك إن أردت الواحدة قلت : قاتلته مقاتلة ، وراميته مراماة".

ولا تقول قاتلته قتالا ؛ لأن أصل المصدر في فاعلت مفاعلة لا فعال ، وإنما تجعل المرة على لفظ المصدر الذي هو الأصل ، وأغنتك الهاء عن هاء تجلبها للمرة.

فالمقاتلة بمنزلة الإقالة والاستغاثة ؛ لأنك لو أردت الفعلة في هذا لم تجاوز لفظ المصدر للهاء التي في المصدر.

قال : " ولو أردت الواحدة من اجتورت فقلت تجاورة جاز ؛ لأن المعنى واحد ، فكما جاز تجاورا كذلك يجوز هذا".

يعني في مصدر اجتور جاز تجاورة في الواحدة من مصدر اجتور.

ومثل ذلك : يدعه تركة واحدة ، كما يقال في غير الواحد : يدعه تركا.

هذا باب نظير ما ذكرنا من بنات الأربعة وما ألحق ببنائها من بنات الثلاثة

" تقول : دحرجته دحرجة واحدة ، وزلزلته زلزلة واحدة ، تجيء بالواحدة على

__________________

(١) سورة نوح ، الآية : ١٧.

٤٦٢

المصدر الأغلب الأكثر"

يريد أنك لا تقول زلزلة ؛ لأن الأصل والأكثر في مصدر فعللت فعللة.

" وأما ما لحقته الزوائد فجاء على مثل استفعلت ، فإن الواحدة تجيء على مثال استفعالة ، وذلك قولك : احرنجمت احرنجامة ، واقشعررت اقشعرارة. وقد مضى الكلام في نحوه.

هذا باب اشتقاقك الأسماء لمواضع بنات الثلاثة التي ليست

فيها زيادة من لفظها

" أما ما كان من فعل يفعل فإن موضع الفعل مفعل ، وذلك قولك : هذا مجلسنا ومضربنا ومحبسنا ، كأنهم بنوه على بناء يفعل ، وكسروا العين كما كسروها في يفعل ، فإذا أردت المصدر بنيته على مفعل ، وذلك قولك : إن في ألف درهم لمضربا ، أي لضربا ، قال الله عزوجل : (أَيْنَ الْمَفَرُّ)(١) ، يريد أين الفرار ، فإذا أراد المكان قال : المفر ، كما قال : المبيت حين أراد المكان ؛ لأنها من بات يبيت ، وقال الله عزوجل : (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً)(٢) ، أي جعلناه عيشا. وقد يجيء المفعول يراد به الحين ، فإذا كان من فعل يفعل بنيته على مفعل ، يجعل الحين الذي فيه الفعل كالمكان الذي فيه الفعل ، وذلك قولك : أتت الناقة على مضربها ، وأتت على منتجها ، إنما تريد الحين الذي فيه النّتاج والضّراب ، وربما بنوا المصدر على المفعل كما بنوا المكان عليه والقياس المفعل ، فما بنوا فيه المصدر على المفعل المرجع ، قال الله عزوجل : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ)(٣) "

ومن ذلك فيما ذكره سيبويه المطلع في معنى الطلوع ، وقد قرأ الكسائي : (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)(٤) ومعناه حتى طلوع الفجر ، وقال بعض الناس : المطلع الموضع الذي يطلع فيه الفجر ، والمطلع المصدر ، والقول ما قاله سيبويه ؛ لأنه لا يجوز إبطال قراءة من قرأ بالكسر ، ولا يحتمل إلى الطّلوع ؛ لأن (حتى) إنما يقع بعدها في التوقيت ما يحدث ، والطلوع هو الذي يحدث ، والمطلع ليس بحادث في آخر الليل ؛ لأنه الموضع.

__________________

(١) سورة القيامة ، الآية : ١٠.

(٢) سورة النبأ ، الآية : ١١.

(٣) سورة المائدة ، الآية : ٤٨ و ١٠٥ ـ وسورة هود ، الآية : ٤.

(٤) سورة القدر ، الآية : ٥.

٤٦٣

وقال الله عزوجل : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ)(١) أي الحيض ، وقالوا : المعجز ، يريدون العجز ، وقالوا : المعجز على القياس ، وربما ألحقوا هاء التأنيث فقالوا : المعجزة ، كما قالوا : المعيشة. وكذلك يدخلون الهاء في المواضع ، قالوا : المزلّة ، أي موضع الزّلل وقالوا : المعذرة والمعتبة ، فألحقوا الهاء وفتحوا على القياس ، وقالوا : المصيف ، كما قالوا : أتت الناقة على مضربها ، أي على زمان ضرابها ، والمصيف زمان ، وقالوا : المشتاة فأنثوا وفتحوا ؛ لأنه من يفعل.

وما كان على فعل يفعل فاسم المكان منه مفعل ، كما يقال : مقتل ؛ لأنه من قتل يقتل ، وقالوا : في هذا : شتا يشتو.

وقالوا : المعصية والمعرفة كقولهم : المعجزة ، وربما استغنوا بالمفعلة عن غيرها ، وذلك قولك : المشيئة والمحمية ، وقالوا : المزلّة. وقال الراعي :

بنيت مرافقهنّ فوق مزلّة

لا يستطيع بها القراد مقيلا

يريد قيلولة.

قال : " وأما ما كان على يفعل مفتوحا فإن اسم المكان مفعل ، وذلك قولك : شرب يشرب ، وتقول للمكان مشرب ، ولبس يلبس والمكان الملبس ، وإذا أردت المصدر فتحته أيضا ، كما فتحته في يفعل ، فإذا كان ، مفتوحا في المكسور فهو في المفتوح أجدر أن يفتح. وقد كسر المصدر كما كسر في الأول ، قالوا : علاه المكبر ، وتقول : المذهب للمكان ، وأردت مذهبا ، أي ذهابا فتفتح ؛ لأنك تقول : يذهب. وقالوا : مشربة فأنثوا ، كما أنثوا الأول ، وكسروا كما كسروا الأول".

فإذا جاء المفعل في مصدر فعل يفعل كان في فعل يفعل أولى ، وكذلك في فعل يفعل ، وقد مضى الكلام في نحو ذلك.

" وأما ما كان يفعل منه مضموما فهو بمنزلة ما كان يفعل منه مفتوحا ، ولم يبنوه على مثال يفعل ؛ لأنه ليس في الكلام مفعل ، فلما لم يكن إلى ذلك سبيل وكان مصيره إلى إحدى الحركتين ألزموه أخفهما ، وذلك : قتل يقتل ، وهذا المقتل ، وقام يقوم ، وهذا المقام ، وقالوا : أكره مقال الناس وملامهم ، وقالوا : الملامة والمقالة فأنثوا. وقالوا : المردّ والمكرّ ، يريدون الرّدّ والكرور. وقالوا : المدعاة والمأدبة ، يريدون

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٢٢.

٤٦٤

الدّعاء إلى الطعام ، وقد كسروا المصدر كما كسروا في يفعل ، فقالوا : أتيتك عند مطلع الشمس ، أي عند طلوع الشمس ، وهذه لغة بني تميم. وأما أهل الحجاز فيفتحون ، وقد كسروا الأماكن أيضا في هذا ، كأنهم أدخلوا الكسر أيضا كما أدخلوا الفتح"

قال أبو سعيد : اعلم أن مذهب العرب في الأماكن والأزمنة كأنهم يبنونها على لفظ المستقبل ، فقالوا فيما كان المستقبل منه يفعل : المفعل للمكان والزمان ، كقولهم : المحبس والمجلس والمضرب. وقالوا فيما كان المستقبل منه يفعل : الملبس والمشرب والمذهب ، وكان يلزم على هذا أن يقال فيما كان المستقبل منه يفعل مفعل ، فيقال في المكان من قتل يقتل : المقتل ، ومن قعد يقعد : مقعد ، غير أنهم عدلوا عن هذا ؛ لأنه ليس في الكلام مفعل إلا بالهاء ، كقولك : مكرمة وميسرة ومقبرة ومسربة ، فعدلوا إلى أحد اللفظين الآخرين ، وهما مفعل أو مفعل ، فاختاروا مفعل حرفا ؛ لأن الفتح أخف ، وقد جاءت عن العرب أحد عشر حرفا على مفعل مما فعله على فعل يفعل ، وهي منسك ومحزر ومنبت ومطلع ومشرق ومغرب ، ومفرق ومسقط ومسكن ومرفق ومسجد ، كأنهم حملوا يفعل على يفعل ؛ لأنهما أخوان.

وقد ذكر بعض الكوفيين أنه قد جاء مفعل ، وأنشد في ذلك :

ليوم روع أو فعال مكرم (١)

وأنشد أيضا :

بثين الزمي لا ، إنّ لا إن لزمته

على كثرة الواشين أيّ معون (٢)

فقال بعضهم : معون في معنى معونة ، وأصله معون ، وقال بعضهم : معون جمع معونة ، وليس في شيء من ذلك ما يمنع ما قاله سيبويه ؛ لأن أصل الكلام مكرمة ومعونة وإنما اضطر الشاعر إلى حذف الهاء ، والنية الهاء ، ومثل هذا كثير في الشعر ، كقوله :

أما تريني اليوم أمّ حمز

يريد حمزة ، وقول الآخر :

أمال بن حنظل

يريد حنظلة.

قال سيبويه : " وأما المسجد فإنه اسم للبيت ، ولست تريد به موضع السجود

__________________

(١) منسوب لأبي الأخزر الحماني (راجز إسلامي) في شرح شواهد الشافية ٦٨ ، واللسان (كرم).

(٢) البيت في ديوانه ص : ٢١٢.

٤٦٥

وموضع جبهتك ، ولو أردت ذلك لقلت مسجد ، ويقوي ذلك ما روي عن الحجاج أنه قال : " ليلزم كل رجل مسجده" أراد مواضعهم من المسجد ؛ لئلا يكون لهم تجمع في المسجد للفتن".

قال : " ونظير ذلك المكحلة والمحلب والميسم ، لم ترد موضع الفعل ، ولكنه اسم لوعاء الكحل ، وكذلك المدق صار اسما كالجلمود ، وكذلك المقبرة والمشرقة" ، يريدون الموضع الذي تجمّع فيه القبور ، ويقع فيه (التشريق).

ولو أرادوا موضع الفعل لقالوا : مقبر ، ولكنه اسم بمنزلة المسجد ، ومثل ذلك المشربة ، وإنما هو اسم لها (كالغرفة) وكذلك : المدهن والمظلمة بهذه المنزلة ، إنما هي اسم ما أخذ منك ، ولم ترد مصدرا ولا موضع فعل. وقالوا : مضربة السيف ، جعلوه اسما للحديدة ، وبعض العرب يقول : مضربة كما تقول : مقبرة ومشربة ، فالكسر في مضربة كالضم في مقبرة ، والمنخر بمنزلة المدهن ، كسروا الحرف كما ضمّ ثمّة"

قال أبو سعيد : ولقائل أن يقول : إن منخر هو من باب منسك ؛ لأنه هو موضع النّخور ، وفعله نخر ينخر ، ومنهم من يكسر الميم اتباعا للخاء.

قال : " وأما المسربة ، وهو الشّعر الممدود في الصدر وفي السّرّة فبمنزلة المشرقة ، لم ترد مصدرا ولا موضعا لفعل ، وإنما هو اسم مخطّ الشّعر الممدود في الصدر ، وكذلك المأثرة والمكرمة. وقد قال قوم : معذرة كالمأدبة ، ومثله : (فنظرة إلى ميسرة".

ويقرأ : ميسره ، وهو منكر ليس في الكلام مفعل على ما ذكرناه.

قال : " ويجيء المفعل اسما ، كما جاء في المسجد والمنكب ، وذلك المطبخ والمربد. كل هذه الأبنية تقع أسماء للتي ذكرنا من هذه الفصول لا لمصدر ولا لموضع عمل".

هذا باب ما كان اسما من هذا النحو من بنات الياء

والواو التي الياء والواو فيهن لام

" فالموضع والمصدر فيهن سواء ؛ لأنه معتل ، وكان الألف والفتح أخف عليهم من الكسرة من الكسرة مع الياء ، ففروا إلى مفعل ، وقد كسروا في نحو : معصية ومحمية ولا يجيء مكسورا أبدا بغير الهاء ؛ لأن الإعراب يقع على الياء ، ويلحقها الاعتلال ، فصار هذا

٤٦٦

بمنزلة الشّقاء والشّقاوة ، وتثبت الواو مع الهاء وتبدل مع ذهابها.

يريد أن الشّقاء أصله الشقاو ، فوقعت الواو طرفا بعد ألف واستثقل الإعراب عليها ، فقلبت همزة ، فإذا كان بعد هاء يقع الإعراب عليها جاز أن لا تقلب كالشقاوة فكذلك معصية ومحمية لا تجيء إلا بالهاء إذا بنيته على مفعل ، والباب فيه مفعل ، مثل المومى والمقضى وما أشبه ذلك وبنات الواو أولى بذلك ، لأن فعلها على يفعل ، كقولك : دعا يدعو ودنا يدنو ، والموضع المدعى والمدنى.

وذكر الفراء أنه قد جاء في ذلك مأوي الإبل ، وذكر غيره مأوي الإبل ومآقي العين ، والذي ذكر مآقي العين غالط عندي ، لأن الميم أصلية في قولنا : مأق وآماق وموق وأمواق.

هذا باب ما كان من هذا النحو من بنات الواو التي الواو فيهن فاء

" فكل شيء من هذا كان فعل فإن المصدر منه والمكان والزمان يبنى على مفعل ، وذلك قولك للمكان : الموعد والموضع والمورد وفي المصدر الموجدة والموعدة.

" يعني أنه قد تزاد في المصدر الهاء للتأنيث ، وإنما جاء على مفعل ؛ لأن ما كان على فعل وأوله واو يلزم مستقبله بفعل ، ويلزمه الإعلال وهو حذف الواو من المستقبل ، كقولك : وعد يعد ووجد يجد ووصل يصل ، ثم حملوا ما كان منه على فعل يفعل على ذلك ، " فقالوا في وجل يوجل ووحل يوحل موجل وموجل".

قال سيبويه : " وذلك أن يوجل وأشباههما في هذا الباب من فعل يفعل قد يعتل ، فتقلب الواو مرة ياء ومرة ألفا ، وتعتل لها الهاء التي قلبها حتى تكسر ، فلما كانت كذلك شبهوها بالأول لأنها في حال اعتلال ولأن الواو منها في موضع الواو من الأول ، فهم ما يشبهون الشيء بالشيء وإن لم يكن مثله في جميع حالاته".

ومعنى قول سيبويه : " تقلب الواو ياء" أنه يجوز في يوجل ويوحل ييجل وييحل ، وقوله" مرة" يعني قولهم : ياجل وياحل ، وقوله : " تعتل لها الياء"

يريد أنهم يقولون : ييجل وييحل ، فيكسرون الياء الأولى ، وحقها الفتح ومما يقوى كسر الموجل" والموحل وإن كان من وجل يوجل (إنهم قالوا) : علاه المكبر في الصحيح ، وهو من كبر يكبر.

قال : " وحدثنا يونس وغيره أن ناسا من العرب يقولون في" وجل"" يوجل" ونحوه : " موجل" و" موحل" ، وكأنهم الذين يقولون : " يوجل" ، فسلّموه ، فلما سلّم من

٤٦٧

الإعلال وكان يفعل ك" يركب" شبه به".

قال : " وقالوا : مودّة ، لأن الواو تسلّم ولا تقلب"

يعني في قولهم : وديود ، ولا يقال : ييد ، كما يقال : ييجل ، فصار بمنزلة الصحيح إذا قلت : شرب يشرب ، والمشرب المصدر والمكان ، وقد جاء على مفعل من هذا الباب أسماء ليست بمصادر ولا أمكنة للفعل ، فمن ذلك : موحد ، وهو اسم معدول في باب العدد ، يقال : موحد وأحاد ، ومثنى وثناء ، ومثلث وثلاث ، ومربع ورباع ، وهذا قد ذكر في بابه ، وجاء معدولا كما عدل عمر عن عامر ، وموهب اسم رجل ، وموألة اسم رجل ، ومورق اسم وقالوا : فلان بن مورق ، والموهبة الغدير من الماء ، ومؤكل اسم موضع أو رجل.

" وبنات الياء بمنزلة غير المعتل لأنها تتم ولا تعتلّ ، وذلك لأن الياء مع الياء أخف عليهم ، ألا تراهم قالوا : ميسرة ، وقال بعضهم : ميسرة".

ومعنى قوله : " الياء مع الياء أخف عليهم" أنك تقول : يسر ييسر ، ويعر ييعر فتثبت الياء التي هي فاء الفعل وقبلها ياء الاستقبال. وتقول : وعد يعد فتسقط الواو ، فصارت الواو مع الياء أثقل من الياء مع الياء.

هذا باب ما يكون مفعلة لازمة لها الهاء والفتحة

" وذلك إذا أردت أن تكثر الشيء بالمكان" والباب فيه مفعلة ، وذلك قولك : أرض مسبعة ومأسدة ومذأبة إذا أردت أرضا كثر بها السباع والذئاب والأسد ، وليس في كل شيء يقال ، يعني لم تقل العرب في كل شيء من هذا" فإن قست على ما تكلمت به العرب كان هذا لفظه.

قال : " ولم يجيئوا بنظير هذا فيما جاوز ثلاثة أحرف من نحو : الضفدع والثعلب كراهية أن يثقل عليهم ؛ لأنهم قد يستغنون بأن يقولوا : كثيرة الثعالب ونحو ذلك : وإنما اختصوا بها بنات الثلاثة لخفتها ، ولو قلت من بنات الأربعة نحو قولك : مأسدة ، لقلت : مثعلبة ، لأن ما جاوز الثلاثة يكون نظير المفعل منه بمنزلة المفعول"

يريد أن لفظ المصدر والمكان والزمان الذي في أوله الميم زائدة جعل ثلاثة أحرف يجيء على لفظ المفعول سواء ، وفي الثلاثة على غير لفظ المفعول ، ألا ترى أنك تقول : في الثلاثة للمصدر : المضرب والمقتل ، والمفعول مضروب ومقتول. وتقول فيما جاوز الثلاثة : المقاتل في معنى القتال ، والمسرح في معنى التسريح ، والموقّى في معنى التّوقية

٤٦٨

ولفظ المفعول أيضا كذلك ، تقول : قاتلت زيدا فهو مقاتل ، وسرحته فهو مسرّح ، ووّقيته فهو موقّى ، فقالوا على ذلك : أرض مثعلبة ، وأرض معقربة.

ومن قال : ثعالة قال : مثعلة" لأن ثعالة من الثلاثي والألف زائدة.

وقالوا : أرض محياة ومفعاة فيها أفاع وحيّات ، ومقثاة فيها القثّاء.

مذهب سيبويه أن عين الفعل من حية ياء ، ولذلك قالوا : " أرض محياة" ، وقال غيره : هي واو. وقال صاحب كتاب العين : أرض محواة ، وقالوا : رجل حوّاء صاحب حيات ، وفي ذلك دليل على أن عين الفعل واو.

هذا باب ما عالجت به

ذكر في هذا الباب ما كان في أوله ميم زائدة من الآلات ، فالباب في ذلك إذا كان شيء يعالج به وينقل وكان الفعل ثلاثيا أن تكون الميم مكسورة ، ويكون على مفعل أو مفعلة ، وربما على مفعال. وقد تجتمع اللغتان في شيء واحد ، قالوا : مقص للذي يقص به ومحلب للإناء الذي يحلب فيه ومنجل ومكسحة ومسلّة ومصفاة ومخرز ومخيط ، وقد يجيء على مفعال نحو مقراض ومفتاح ومصباح.

" وقالوا : المفتح ، كما قالوا : المخرز ، وقالوا : المسرجة ، كما قالوا : المكسحة ، وقد جاء منه أحرف بضم الميم ، قالوا : مكحلة ومسعط ومنخل ومدق ومدهن ، لم يذهبوا بها مذهب الفعل ، ولكنها جعلت أسماء لهذه الأوعية ، كما جعل المغفور والمغرود والمعلوق والمغثور ، وهذه أربعة أحرف جاءت على مفعول لا نظير لها في كلام العرب ، وليست مأخوذة من فعل ، فعلى ذلك جرت مكحلة والأربعة التي معها ، أما المغفور والمغثور فلضرب من الصمغ الذي يقع على الشجر وفيه حلاوة ، والمغرور ضرب من الكمأة ، والمعلوق المعلاق.

هذا باب نظائر ما ذكرنا مما جاوز بنات الثلاثة بزيادة أو غير زيادة

" فالمكان والمصدر يبنى من جميع هذا بناء المفعول ، وكان بناء المفعول أولى به (لأن المصدر مفعول والمكان مفعول فيه ، فيضمون أوله كما يضمون المفعول) لأنه قد خرج من بنات الثلاثة ، فيفعل بأوله ما يفعل بأول مفعوله ، كما أن أول ما ذكرت لك من بنات الثلاثة كأول مفعوله مفتوح"

يعني أن اشتراك المصدر والمكان والمفعول في وصول الفعل إليهن ونصبه إياهن يوجب اشتراكهن في اللفظ ، فيجب أن يكون بناء المصدر الذي في أوله الميم وبناء

٤٦٩

المكان والزمان كبناء المفعول فيما جاوز ثلاثة أحرف ، وجعل في الثلاثة علامة المفعول واو قبل آخره كواو مضروب.

قال سيبويه : " وإنما منعك أن تجعل قبل آخر حرف من مفعوله" يعني فيما جاوز الثلاثة." واو كواو مضروب ، أن ذلك ليس من كلامهم ولا مما بنوا عليه"

يعني زيادة الواو فيما جاوز الثلاثة ، ولأن ذلك يثقل أيضا فيما تكثر حروفه والثلاثة أخف.

يقولون للمكان : هذا مخرجنا ومدخلنا (ومصبحنا ومسانا ، وكذلك إذا أردت المصدر.

قال أمية بن أبي الصّلت :

(الحمد لله مسانا ومصبحنا

بالخير صبّحنا ربي ومسانا) (١)

ويقولون للمكان : هذا متحاملنا ويقولون : ما فيه متحامل ، أي ما فيه تحامل ، ويقولون : " مقاتلنا" ، وتعني المكان ، وكذلك تقول إذا أردت المقاتلة ، قال أبو كعب بن مالك" ، قال أبو سعيد : في نسختي قال مالك بن أبي كعب :

أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلا

وأنجو إذا غمّ الجبان من الكرب (٢)

وقال زيد الخيل :

أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلا

وأنجو إذا لم ينج إلا المكيّس (٣)

وقال في المكان : هذا موتانا ، وقال :

(أن الموقى مثل ما وقّيت)

يريد التّوقية ، وكذلك هذه الأشياء ، وأما قوله : دعه إلى معسوره وإلى ميسوره دع معسوره ، ودعه إلى ميسوره ، فإنما يجيء هذا على المفعول ، كأنه قال : دعه إلى أمر يوسر عليه أو يعسر فيه ، وكذلك المرفوع والموضوع ، كأنه يقول : له ما يرفعه هو وله ما يضعه ، وكذلك المعقول ، كأنه قال : عقل له شيء ، أي حبس له لبه وشدّ ، ويستغنى بهذا عن

__________________

(١) الشاهد فيه استعمال" الممسى" ، " المصبح" مصدرين بمعني الإمساء ، والإصباح فحذف الوقت وأقام المصدر مقامه.

(٢) الشاهد فيه استعمال" مقاتل" مصدرا ميميا بمعنى القتال ، انظر شرح المفصل ٦ / ٥٥.

(٣) انظر ديوانه ٧٣ والنوادر ٧٩

٤٧٠

المفعل الذي يكون مصدرا ، لأن في هذا دليلا عليه.

قال أبو سعيد : اعلم أن المفعول عند بعض النحويين يجوز أن يكون مصدرا ، وجعلوا هذه المفعولات التي ذكرها سيبويه مصادره ، فالميسر عندهم بمنزلة اليسر ، والمعسور كالعسر ، والمرفوع والموضوع والمعقول كالرفع والوضع والعقل. وقالوا في قوله عزوجل : (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) ،) أي بأيكم الفتنة.

وكلام سيبويه يدل على أنها غير مصادر وأنها مفعولات ، فجعل الميسور والمعسور زمانا يعسر فيه ويوسر فيه ، كما تقول : هذا وقت مضروب فيه زيد ، وعجبت من زمان مضروب فيه زيد ، وجعل المرفوع والموضوع هو الشيء الذي يضعه ويرفعه ، وتقول : هذا مرفوع ما عندي وموضوعه ، أي ما أرفعه وأضعه ، وجعل المعقول مشتقا من قولك : عقل له ، أي شدّ له وحبس ، فكأن عقله قد حبس وشد ، واستغن بهذه المفعولات التي ذكرها عن المفعل الذي يكون مصدرا ، ولأن فيها دليلا على المفعل ، وقال بعض أهل العلم في قوله عزوجل : (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) :) إن الباء زائدة ، ومعناه أيكم المفتون.

ومثله في زيادة الباء قوله عزوجل في بعض الأقاويل : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ)(١) (أي تنبت الدّهن) وقال الشاعر :

هنّ الحرائر لا ربات أحمرة

سود المحاجر لا يقرأن بالسّور (٢)

أي لا يقرأن السّور ، ويجوز في قوله : " بأيكم المفتون"

قول آخر وهو : أن الكفار ادّعوا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجنون وأن به جنيا فردّ الله عزوجل ذلك عليهم وتوعدهم فقال : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ* بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ)(٣) ، يعني الجنّي فيما يحتمل التأويل لأن الجنّي مفتون.

هذا باب ما لا يجوز فيه ما أفعله

" وذلك ما كان أفعل لونا أو خلقة ، ألا ترى أنك لا تقول ما أحمره ولا ما أبيضه ، ولا تقول في الأعرج ما أعرجه ، ولا في الأعشى ما أعشاه ، إنما تقول : ما أشد عشاه ، وما لم يكن فيه ما أفعله لم يكن فيه أفعل به رجلا ، ولا هو أفعل منه لأنك تريد أن ترفعه من

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٠

(٢) الشاهد فيه زيادة الباء في قوله" بالسور" يريد : يقرأن السور وفي ديوان الراعي واللسان : أحمرة ، بالحاء المعجمة.

(٣) سورة القلم : ٥ ، ٦

٤٧١

غاية دونه كما أنك إذا قلت ما أفعله فأنت تريد أن ترفعه عن الغاية الدنيا ، والمعنى في أفعل به وما أفعله واحد ، وكذلك أفعل منه"

وقد ذكرنا فيما تقدم أن التعجب يشترك فيه أربعة أشياء على لفظ ، فما جاز في واحد منها جاز في الباقي ، وذلك أنها مشتركة في رفع الشيء عن منزلة إلى ما فوقها ، وهو قولك : ما أفعله وأفعل به وهو أفعل منه وأفعل الناس.

تقول : " ما أظرف زيدا" و" أظرف بزيد" ، " وزيد أظرف من عمرو" ، " وزيد أظرف الناس" ، ولا يجوز أن تقول : " ما أبيض زيدا ولا أبيض بزيد" ، " ولا هو أبيض من عمرو ولا أبيض الناس" ، فما جاز في واحد منها جاز في الباقي ، وما لم يجز فيه لم يجز في الباقي وإنما اشتركت في البناء لاشتراكها في المعنى ، لأن التعجب والتفضيل إنما هو رفع الشيء عن منزلة ما دونه. فأما ما أفعل زيدا وأفعل به ففعلان ، وأما هو أفعل الناس وهو أفعل منه فاسمان.

قال : " وإنما دعاهم إلى ذلك أن هذا البناء داخل على الفعل ، ألا ترى قلّته في الأسماء وكثرته في الصفة لمضارعتها الفعل ، فلما كان مضارعا للفعل موافقا له في البناء كره فيه ما لا يكون في فعله"

يريد : إنما دعاهم إلى أن لا يقولوا : " أفعل منه فيما لا يقولون فيه ما أفعله أن أفعله فعل ، فإذا كان يمتنع في الفعل فهو في الاسم أشد امتناعا ؛ لأن أصل هذا البناء للفعل ، ومما يدل على أن أصله للفعل أن كل فعل مستقبله على" يفعل" فهو للمتكلم على أفعل مثل" أذهب" و" أصنع" ، وإنما لم يجز" ما أحمره" و" لا ما أبيضه" لعلتين :

إحداهما أن الخليل قال هذه خلق يخلق عليها الإنسان في لونه كما تخلق أعضاؤه كاليد والرجل ، فكما لا يقال ما (أيداه) ولا ما (أرجله) ، فكذلك لا يقال ما أبيضه ولا ما أحمره وإنما يقال ما أشدّ بياضه وما أشدّ حمرته ، والعلة الثنية أن فعل هذه الأشياء على أكثر من ثلاثة أحرف وإنما تدخل الهمزة زائدة في أول الفعل الثلاثي تنقل الفعل عن فاعله إلى فاعل آخر كقولك : " علم زيد" و" أعلم عمرو زيدا" ، وكذلك" دخل زيد" و" أدخل عمرو زيدا" ، وكذلك" حسن زيد" و" أحسن عمرو زيدا" ، أي صيّره حسنا. قال :

" ولا تكون هذه الأشياء في مفعال ولا فعول ، كما تقول : ضروب ورجل محسان ، لأن هذا في معنى ما أحسنه ، وإنما تريد أن تبالغ ولا تريد أن تجعله بمنزلة كل من وقع عليه ضارب وحسن."

٤٧٢

يعني سيبويه أن مفعالا وفعولا إن كان فيهما معنى المبالغة فليس يجري مجرى أفعل في تصرفه في المواضع الأربعة التي ذكرناها وإنما هي في معنى ما أفعله في المبالغة. قال :

" وأما قولهم في الأحمق ما أحمقه وفي الأرعن ما أرعنه ، وفي الأنوك ما أنوكه ، وفي الألد ما ألدّه ، فإنما هذا عندهم من العلم ونقصان العقل والفطنة ، فصارت" ما ألدّه" بمنزلة ما أمرسه وما أعلمه ، وصارت" ما أحمقه" بمنزلة ما أبلده ، وما أشجعه وما أجنّه ، لأن هذا ليس بلون ولا خلقة في جسد ، وإنما هو كقولك ما ألسنه وما أذكره وما أعرفه وأنظره ، تريد نظر التفكّر ، وما أشنعه ؛ لأنه عندهم من القبح وليس بلون ولا خلقة من الجسد ولا نقصان فيه ، فألحقوه بباب القبح كما ألحقوا ألدّ وأحمق بما ذكرت لك ؛ لأن أصل بناء أحمق ونحوه أن يكون على غير بناء أفعل ، نحو : بليد وعظيم وجاهل وعاقل وفهم وحصيف ، وكذلك الأهوج ، تقول : " ما أهوجه" كقولك" ما أجنّه".

قال أبو سعيد : اعلم أن سيبويه لما ذكر أحمر وأبيض وما كان من أفعل لونا وخلقة فأبطل فيه التعجب ذكر ما كان على أفعل مما لا يجوز فيه التعجب ، وفصل بينه وبين ما كان لونا وخلقة ونقصا وشينا في الأعضاء كالعرج والعشا والعمى والعور ، فذكر الأحمق والأنوك والأرعن فجعل ذلك بمنزلة الجهل ، وأنه كان حقه في الأصل أن يجيء مثل بليد وجاهل.

وما كان من العقل نحو ألد وهو الشديد الخصومة بمنزلة العقل واللسن وما أشبه ذلك ، فأجاز فيهما التعجب كما تقول : ما أبلده وما أجهله ، وما جرى مجرى الفعل ما أشجعه وألسنه ، وشبه قولهم ما هو أهوجه بقولك : ما أجنّه.

ولقائل أن يقول : وكيف جاز أن يقال : ما أجنّه وأصل فعله ما لم يسمّ فاعله كقولك : جنّ ولا يتعجب مما لم يسمّ فاعله؟

فالجواب أن ذلك جائز في أشياء تذكر وتشرح في الباب الثالث من هذا إن شاء الله تعالى.

هذا باب ما يستغنى فيه عن ما أفعله بما أفعل فعله

وعن أفعل منه بقولهم هو أفعل منه فعلا كما استغني بتركت عن ودعت ،

وكما استغني بنسوة عن أن يجمعوا المرأة على لفظها

" وذلك في الجواب ، ألا ترى أنك لا تقول ما أجوبه ، إنما تقول : ما أجود جوابه ، ولا تقول" هذا أجوب منه جوابا" ونحو ذلك ، وكذلك لا تقول أجوب به ولكن

٤٧٣

تقول : أجود بجوابه ، ولا يقولون في قال يقيل ما أقيله ، استغنوا بما أكثر قائلته ، وما أنومه في ساعة كذا كما قالوا تركت ولما يقولوا ودعت"

قال أبو سعيد : اعلم أن ظاهر كلام سيبويه أنه جعل هذا الباب خارجا عن القياس الذي ينبغي ، والفعل الذي يستعمل من هذا" أفعل يفعل" وهو" أجاب يجيب" ، والذي يذكره كثير من النحويين أن ما زاد من الفعل على ثلاثة أحرف فليس الباب أن يتعجب به ، وجعلوا قولهم ما أعطاه وما أولاه على غير قياس وظاهر كلام سيبويه يدل على أن التعجب بما فعله أفعل كثير مستمر وأنه لم يستعمل فيه هذا الحرف على طريق الاستغناء بالشيء عن الشيء كما قالوا : ما أكثر قائلته ، ولم يقولوا ما أقيله وإن كان الفعل منه قال يقيل ، وهذا مما استدل به بعض النحويين أن سيبويه يرى الباب في أفعل يفعل مما يجوز فيه التعجب ويستمر وأنه تحذف منه الهمزة الأصلية ، وتلحق همزة التعجب.

ومثله مما جاء فيه التعجب وفعله على أفعل قولك : ما أيسر زيدا ، وهو من" أيسر يوسر" ، وما أعدمه وهو معدم في معنى الإعدام الفقر ، والفعل منه" أعدم يعدم" ، " وما أسنه" وقد أسن وهو مسن ، " وما أوحش الدار" وقد أوحشت وهي موحشة ، وما أمتعه وقد أمتع وهو ممتع ، وما أسرفه وقد أسرف وهو مسرف ، وما أفرط جهله وهو مفرط ، وفلان أفلس من طست ، وقد أفلس وهو مفلس. وتقول : هو أسرع من الريح قد أسرع وهو مسرع ، وهو أبطأ منك ، وهو مبطئ. وقد يقال : سرع الرجل وبطؤ ، ومنه : أنت أكرم لي من زيد على معنى" أنت تكرمني أكثر منه" ، وقد أقفر المكان ، وهذا أقفر من غيره.

هذا باب ما أفعله على معنيين

" تقول : ما أبغضني له ، وما أمقتني له ، وما أشهاني لذلك ، إنما تريد أنك ماقت وأنك مبغض وأنك مشته ، فإن عنيت غيرك قلت : ما أفعله ، وإنما تعني به هذا المعنى ، وتقول : ما أمقته إليّ وما أبغضه إليّ وإنما تريد أنه مقيت وأنه مبغض ، كما تقول : ما أقبحه وإنما تريد أنه قبيح في عينيك ، وما أقذره وإنما تريد أنه قذر عندك. وتقول : ما أشهاها إليّ ، أي هي شهية عندي" كما قال أبو كبير :

أم لا سبيل إلى الشباب وذكره

أشهى إليّ من الرحيق السّلسل (١)

__________________

(١) الشاهد في قوله" أشهى إليّ على معنى هو شهي عندي أي هو مشتهى فجاءت" إليّ" بمعنى" عندي" انظر ديوان الهذليين ٢ / ٨٩.

٤٧٤

" وتقول : ما أحظاها عندي ، أي حظيت عندي ، فكأن ما أمقته وما أشهاها على" فعل" وإن لم يستعمل ، كما تقول : ما أبغضه إليّ على بغض إليّ فيجيء على" فعل" و" فعل" وإن لم يستعمل كأشياء فبما مضى وأشياء ستراها".

قال أبو سعيد : اعلم أن سيبويه قد ذكر التعجب من المفعول في هذا الباب في أشياء تتكلم بها العرب ، والأصل أن المفعول لا يتعجّب منه لعلتين : إحداهما أن دخول الهمزة لنقل الفعل إنما تدخل على الفاعل كقولك : " لبس زيد وألبسه عمرو" ، و" دخل زيد وأدخله غيره" ، وقعد وأقعده غيره ، ولو قلت" ضرب زيد" لم تدخل عليه الهمزة لنقل الفعل ، وباب التعجب باب نقل فيه الفعل عن فاعله إلى فاعل آخر ، والوجه الآخر أنه لو تعجب من المفعول لوقي اللبس بينه وبين الفاعل ،

فقال سيبويه : ما تعجب منه من المفعول كأنه يقدّر له فعل فإذا قال : " ما أبغضه إليّ" فكأن فعله" بغض" ، وإذا قال : " ما أمقته عندي" فكأنه قال" مقت" ، وإذا قال : " ما أشهاه إليّ" كأنه قال" شهي" وإن لم يستعمل ، ويكون معنى شهى في هذا التقدير ، أي دعا إلى أن يشتهى بالأحوال التي تظهر فيه ، ويفرق بين الفاعل والمفعول في ذلك أنه يدخل مع الفعل حرف ومع المفعول حرف آخر ، فمن ذلك اللام التي تدخل مع الفاعل ، تقول : " ما أبغضني لزيد وما أمقتني له" ، وأنت المبغض والماقت ، وتقول للمفعول : " ما أبغضه إليّ وما أمقته عندي". ومثله هو" أكرم لي منك للفاعل" ، أي يكرمني أكثر من إكرامك ، وهو أكرم علي منك بمعنيين ، وما آنسك لي وما آنسك بي بمعنيين مختلفين. ومما لم يأت في هذا الباب" ما أجنّ زيدا" من الجنون وهو أجنّ من غيره ، وإنما الفعل المستعمل منه" جنّ" ، وكذلك ما أشغله وهو أشغل من غيره وهو أعذر من غيره وألوم من غيره وأعنى بالشيء من غيره ، وأعرف منه وأنكر منه. والفعل من ذلك كله يستعمل على ما لم يسمّ فاعله ، كقولك" شغل وعذر وليم وعني وأنكر" ، ولكنه يقدّر له فعل ينظّم به التعجب. وقد قال سيبويه في أول الكتاب : (وهم ببيانه) أعني على هذا الذي ذكرناه. وتقول : " ما أعجبني به وأعجبه إليّ" ، " وأسرني به وأسّره إليّ". وقولهم : " ما أبغضني له" يقوّي قول من يرى التعجب من أفعل ، لأن الفعل منه" أبغض"" يبغض" ، وروي ابن الإعرابي عن العرب عنيت به فأنا معني به ، وعنيت به فأنا به عن ، فإذا حمل قول سيبويه : (وهم ببيانه) ، أعني على هذه اللغة ، فهو على القياس المطرد.

٤٧٥

هذا باب ما تقول العرب ما أفعله ، وليس فيه فعل وإنما يحفظ

هذا حفظا ولا يقاس عليه

" قالوا : " أحنك الشاتين" و" أحنك البعيرين" ، كما قالوا : " أكل الشاتين" كأنهم قالوا : حنك ونحو ذلك ، فإنما جاءوا بأفعل على نحو هذا وإن لم يتكلموا به ، وقالوا : آبل الناس كلهم ، كما قالوا : أرعى الناس كلهم ، كأنهم قالوا : أبل يأبل. وقالوا : رجل آبل وإن لم يتكلموا بالفعل. وقالوا : آبل الناس بمنزلة آبل منه ، لأن ما جاز فيه أفعل الناس جاز فيه هذا ، وما لم يجز فيه ذلك لم يجز فيه هذا. وهذه الأشياء التي ليس فيها فعل ليس القياس فيها أن يقال أفعل منه ونحو ذلك. وقد قالوا : فلان آبل منه كما قالوا : أحنك الشاتين"

قال أبو سعيد : اعلم أن الأصل في التعجب أن يدخل على ما له فعل ، لأنه نقل الفعل بدخول الهمزة في أوله ، كقولك : قعد وأقعده غيره ، وذهب وأذهبه غيره ، ولم يستعمل حنك ولا أبل. وقد قالوا : أحنك الشاتين وآبل الناس كأنهم قدروا له فعلا. وقد قالوا : آبل وإن لم يكن له فعل ، كما قالوا : رابح ونابل وإن لم يكن له فعل ، وآبل فاعل ، وبناء فاعل يجري على الفعل ، فصار كأن له فعلا. ومثله مما ليس في الباس فارس ، وما أفرسه ، وهو أفرس وإن لم يستعملوا منه فعلا ، فأجروه على ما ذكرت لك.

هذا باب ما يكون" يفعل" من" فعل" فيه مفتوحا

" وذلك إذا كانت الهمزة أو الهاء أو العين أو الغين أو الحاء أو الخاء لاما أو عينا ، وذلك قولك : قرأ يقرأ ، وبدأ يبدأ ، وخبأ يخبأ ، وجبه يجبه ، وقلع يقلع ، ونفع ينفع ، وقرع يقرع ، وسبع يسبع ، وضبع يضبع ، وذبح يذبح ، ومنح يمنح ، وسلخ يسلخ ، ونسخ ينسخ"

ولم يذكر سيبويه الغين لاما ، وقد جاء منه دمغ يدمغ ، وثلغ رأسه يثلغه" فهذه الحروف في هذه الأفعال لامات ، وأما ما كانت فيه عينات فهو كقولك : سأل يسأل ، وثأر يثأر ، وذأل يذأل ، والذألان : المرّ الخفيف ، وذهب يذهب ، وقهر يقهر ، ومهر يمهر ، وبعث يبعث ، وفعل يفعل ، ونحل ينحل ، ونخر ينخر ، وشحج يشحج ، ومغث يمغث ، وفغر يفغر ، وشغر يشغر" والشّغر : أن يرفع الكلب إحدى رجليه ليبول ، والمغث : تقلّب النفس وغثيانها ، والفغر : فتح الفم.

" وإنما فتحوا هذه الحروف لأنها سفلت في الحلق ، وكرهوا أن يتناولوا حركة ما

٤٧٦

قبلها بحركة ما ارتفع من الحروف ، فجعلوا حركتها من الحرف الذي في حيزها وهو الألف ، وإنما الحركات من الألف والياء والواو إذ كنّ عينات ، وكذلك حّركوهنّ.

قال أبو سعيد : اعلم أن هذه الحروف التي من الحلق هي مستفلة عن اللسان ، والحركات ثلاث : الضم والكسر والفتح ، وكل حركة منها مأخوذة من حرف من الحروف ، فالضمة مأخوذة من الواو ، والكسرة من الياء ، والفتحة من الألف ، ومخرج الواو من بين الشفتين ، والياء من وسط اللسان ، والألف من الحلق ، فإذا كانت حروف الحلق عينات أو لامات ثقل عليهم أن يضموا أو يكسروا ، لأنهم إذا ضموا فقد تكلّفوا الضمة من بين الشفتين ؛ لأن منه مخرج الواو ، وإن كسروا فقد تكلّفوا الكسرة من وسط اللسان ، وإن فتحوا ، فالفتحة من الحلق ، فثقل الضم والكسر ، لأن حرف الحلق مستعل والحركة عالية متباعدة منه ، فحركوه بحركة من موضعه وهي الفتح ، لأن ذلك أخف عليهم وأقل مشقة. وكان الأصل فيما كان الماضي منه على فعل أن يجيء مستقبله على يفعل أو يفعل ، نحو : ضرب يضرب ، وقتل يقتل ، وإنما يجيء مفتوحا فيما كان في موضع العين واللام منه حرف من حروف الحلق لما ذكرته لك من العلة. وقد يجيء ما كان في موضع العين واللام منه حرف من حروف الحلق على الأصل ، فيكون على فعل يفعل ، وفعل يفعل. وقد ذكر سيبويه منه أشياء ، فمن ذلك قولهم : برأ يبرؤ. ويقال : برأ الله الخلق يبرؤهم ويبرؤهم ، ولم يأت مما لام الفعل منه همزة على فعل يفعل غير هذا الحرف.

وقالوا : هنأ يهنئ ، كما قالوا : ضرب يضرب تجيء هذه الأفعال على فعل يفعل ويفعل في الهمز أقل ، " لأن الهمز أقصر الحروف وأشدها سفولا ، وكذلك الهاء ، لأنه ليس في الستة أقرب إلى الهمزة منها وإنما الألف بينهما. وقالوا : نزع ينزع ورجع يرجع ، ونضح ينضح ، ونبح ينبح ، ونطح ينطح ومنح يمنح" ، كل ذلك على مثال ضرب يضرب.

وقالوا : جنح يجنح ، وصلح يصلح ، وفرغ يفرغ ، ومضغ يمضغ ، ونفخ ينفخ ، وطبخ يطبخ ، ومرخ يمرخ" ، كل ذلك على مثال قتل يقتل.

وما كان من ذلك فيه الخاء والغين فيفعل ويفعل فيه أكثر منه في غيرهما ، لأنهما أشد الستة ارتفاعا وأقربها إلى حروف اللسان. ومن أجل ذلك أخفى بعض القراء النون الساكنة قبلهما في مثل قوله عزوجل : (مِنْ خَوْفٍ)(١) ، وما أشبه ذلك.

__________________

(١) سورة قريش ، الآية : ٤ ، وهي قراءة نافع انظر روح المعاني ٣٠ / ٢٤١.

٤٧٧

قال : " ومما جاء على الأصل مما فيه هذه الحروف عينات قولهم : زأر يزئر ، ونأم ينئم من الصوت ، كما قالوا : هتف يهتف ، وقالوا : نهق ينهق ، ونهت ينهت ، " والنّهيت : الصوت.

" وقالوا : نعر ينعر ، ورعدت ترعد كما قالوا : هتف يهتف ، وقعد يقعد. وقالوا : شحج يشحج ، ونحت ينحت مثل ضرب يضرب.

" وقالوا : شحب يشحب مثل قعد يقعد ، ونغرت القدر تنغر" ونحز ينحز ، والنّحاز : السّعال.

" وقالوا : لغب يلغب ، وشعر يشعر ، ونخل ينخل ، كل ذلك مثل" قتل يقتل".

قال سيبويه بعد ذكره فتح ما يفتح من أجل حرف الحلق :

" ولم يفعل هذا بما هو من موضع الواو ولا الياء ، لأنها من الحروف التي ارتفعت ، والحروف المرتفعة حيزّ على حدة ، فإنما يتناول المرتفع حركة من مرتفع ، وكره أن يتناول للذي قد سفل حركة من هذا الحيز".

يريد أن ما كان من موضع الواو والياء من الحروف لا يلزمه أن تكون الحركة مأخوذة من الواو ولا من الياء ، بل يجيء على قياسه ، ولا تغيّر الواو ولا الياء حكم القياس فيه ، يعني بالواو من الشفة ، وبالياء من وسط اللسان ، والذي هو من مخرج الواو الباء والميم ، والذي من مخرج الياء الجيم والشين ، تقول : ضرب يضرب ، وصبر يصبر ، وبسم يبسم ، وحمل يحمل ، فكسر هذه الحروف وإن كانت من مخرج الواو ، وتقول : شجب يشجب ، ومجن يمجن ، ومشق يمشق ، ولم يكسر ذلك من أجل الياء ، لأن موضع الواو والياء بمنزلة ما هو من مخرج واحد لاجتماعهما في العلوّ عن الحلق وتقارب ما بينهما.

قال أبو سعيد : واعلم أن فعل يفعل إنما جاز فيه الخروج عن قياس نظائره في حروف الحلق ، لأن فعل لا يلزم في مستقبله شيء واحد ، لأنه يجيء على يفعل ويفعل ، كقولك : ضرب يضرب ، وقتل يقتل ، فاستجازوا أن يخرجوا منه إلى يفعل لما ذكرت لك من العلة. وإذا كان الفعل يلزمه وزن لا يتغير لم يحفلوا بحرف الحلق ، ولزموا القياس الذي يوجبه الفعل ، فمن ذلك ما زاد ماضيه على ثلاثة أحرف ، كقولهم : " استبرأ يستبرئ ، وأبرأ يبرئ ، وانتزع ينتزع" وأجرأ يجرئ ، واطلنفأ بالأرض يطلنفئ إذا لصق بها ، وانتزع ينتزع والتحم يلتحم ، وقالوا فيما كان ماضيه على فعل يفعل ، ولا يغيره حرف الحلق ، لأن ما كان على فعل لزم فيه يفعل مما ليس فيه حرف الحلق ، كقولك : (ظرف يظرف ، وصلب

٤٧٨

يصلب ، فجرى عليه ما كان فيه حرف الحلق) " صبح" يصبح ، وقبح يقبح ، وضخم يضخم ، وقالوا : ملؤ يملؤ" من قولنا : رجل مليء" وقمؤ يقمؤ" من القماءة وهي الدّمامة ، " وضعف يضعف".

قال سيبويه : " وقالوا : ملؤ ، فلم يفتحوها ، لأنهم لم يريدوا أن يخرجوا فعل من هذا الباب ، وأرادوا أن تكون الأبنية الثلاثة : فعل وفعل وفعل في هذا الباب ، فلو فتحوا لالتبس فخرج فعل من البناء ، وإنما فتحوا يفعل من فعل لأنه يختلف ، فإذا قلت فعل ثم قلت يفعل علم أن أصله الكسر أو الضم ، ولا تجد في حيز ملؤ هذا"

قال أبو سعيد : كأن سائلا سأل فقال : لم لم ينقل فعل إلى فعل من أجل حرف الحلق ، فيقال مكان ملؤ : ملأ ، ومكان قبح ، قبح ، فأجيب عنه بجوابين : أحدهما أنا لو فعلنا ذلك لأخرجنا فعل من باب فعل لحروف الحلق ، وأسقطناه ، فكرهوا إخراجه من ذلك لاشتراك هذه الأبنية ، والجواب الآخر أنا لو فتحناه لم نعلم هل أصله فعل أو فعل ، لأن مستقبله يجيء على يفعل أو يفعل ، فلو جاء على يفعل لكان من باب صبغ يصبغ ، فلم يلزم أن يقدّر ماضيه على فعل.

ولو جاء على يفعل لكان بمنزلة رجع يرجع ، وإنما جاز أن يفتح في المستقبل فتقول : ذبح يذبح ، وقرأ يقرأ ، لأن فعل قد دل على أن المستقبل يفعل أو يفعل كما يوجبه القياس ، وأن المفتوح أصلح يفعل أو يفعل.

قال : " ولا يفتح فعل لأنه بناء لا يتغير ، وليس ك" يفعل" من" فعل" ؛ لأنه يجيء مختلفا ، فصار بمنزلة يقرئ ويستبرئ ، وإنما كان فعل كذلك لأنه أكثر في الكلام ، وصار فيه ضربان ، ألا ترى أن فعل فيما تعدى أكثر من فعل ، وهي فيما لا يتعدى أكثر ، نحو جلس وقصد"

قال أبو سعيد : يريد أن فعل إذا كان فيه حرف الحلق لم يقلب إلى فعل ، لأنه يلزم مستقبله أن يكون على يفعل ، وما كان مستقبله في الأصل على يفعل لزم ماضيه أن يكون على فعل ، فصار بمنزلة يقرئ ويستبرئ الذي لا يغيّره حرف الحلق ، وليس مثل فعل الذي يكون مستقبله يفعل أو يفعل ، وعلى أن فعل في الكلام أكثر ، فجاز فيه من التصرف لكثرته ما لا يجوز في غيره.

هذا باب ما هذه الحروف فيه فاءات

" تقول : أمر يأمر ، وأبق يأبق ، وأكل يأكل ، وأفل يأفل ، لأنها ساكنة وليس ما

٤٧٩

بعدها بمنزلة ما قبل اللامات ، لأن هذا إنما هو مثل الإدغام ، والإدغام إنما يدخل فيه الأول في الآخر ، والآخر على حاله ، ويقلب الأول فيدخل في الآخر حتى يصير هو والآخر من موضع واحد ، ويكون الآخر على حاله ، فإنما شبه هذا بهذا الضرب من الإدغام ، ولا يتبعون الآخر الأول في الإدغام ، فعلى هذا أجري هذا.

قال أبو سعيد : ذكر سيبويه في الباب الذي قبل هذا أن حروف الحلق إذا كانت عينا أو لاما جاز أن يأتي الفعل على يفعل ، وماضيه فعل وذكر في هذا الباب أنه إذا كان حرف الحلق فاء الفعل ، وكان الماضي على فعل لم يأت مستقبله على يفعل ، وإنما يأتي على يفعل أو يفعل بمنزلة ما ليس فيه حرف من حروف الحلق وفرق بينهما بأنه إذا كان حرف الحلق فاء من الفعل فهو يسكن في المستقبل ، وأن هذا الساكن لا يوجب فتح ما بعده لضعفه بالسكون ، كما أوجب لام الفعل إذا كان من حروف الحلق فتح ما قبله ، لأن اللام متحركة ، ثم شبه ذلك بالإدغام بأن الأول يتبع الثاني ، يريد أن عين الفعل يجوز أن تتبع لام الفعل إذا كان لام الفعل من حروف الحلق ، كما أن الحرف الأول يدغم فيما بعده ، ولا تتبع عين الفعل فاءه ؛ لأن الفاء قبل العين.

قال : " ومع هذا أن الذي قبل اللام فتحته اللام حيث قرب جواره منها ؛ لأن الهمز وأخواته لو كنّ عينات فتحن ، فلما وقع موضعهن الحرف الذي كنّ يفتحن به لو قرب فتح ، وكرهوا أن يفتحوا هنا حرفا لو كان في موضع الهمزة لم يحرّك ، ولزمه السكون ، فحالهما في الفاء واحدة ، كما أن حال هذين في العين واحدة"

يريد أن لام الفعل إذا كان من حروف الحلق فتحت العين ، كما أن العين إذا كانت من حروف الحلق فتحت نفسها ، فلما كانت تفتح نفسها إذا كانت من حروف الحلق وجب أن يفتحها ما يجاورها لاشتراكهما في الحركة ، لأن العين واللام متحركتان جميعا ، وليست كذلك الفاء والعين ، لأن الفاء ساكنة في المستقبل والعين متحركة ، فهما مختلفان ولو جعلت العين مكان الفاء سكنت وخالفت حالها الأولى في الحركة ، ولو جعلت اللام مكان العين لم تخرج عن الحركة التي كانت تلزمها ، هذا كلام سيبويه.

وعندي فيه وجه آخر يقوّي ما قال ، وهو أن الفتحة التي تجتلبها حروف الحلق إنما هي على العين ، والحركة في الحرف المتحرك يقدر أنها بعده ، فهي بعد العين وقبل اللام ، فتوسّطها بينهما ومجاورتها لهما واحدة ، فمن أجل ذلك جاز أن تكون الفتحة تجتلبها العين واللام ، وليست الفاء كذلك ، لأن الفتحة بعيدة من الفاء إذا كانت تقع بعد الحرف

٤٨٠