شرح كتاب سيبويه - ج ٤

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان

شرح كتاب سيبويه - ج ٤

المؤلف:

أبي سعيد السّيرافي الحسن بن عبدالله بن المرزبان


المحقق: أحمد حسن مهدلي و علي سيّد علي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5251-0

الصفحات: ٥٢٠

فقيل له أو للمحتج عنه : فما وجه دخول (ذا) قسمي ، وقد حصل القسم بقوله : (والله) وهو المقسم به ، فقال : (ذا قسمي) عبارة عن قوله : (والله) وتفسير له.

وكان أبو العباس المبرد يرجح قول الأخفش ويجيز قول الخليل.

ومثل ذلك أيضا قولهم : (ألله لتفعلن) صارت ألف الاستفهام بدلا هاهنا بمنزلة" ها" ألا ترى أنك لا تقول : (أو الله) كما لا تقول : (ها والله) فصارت ألف الاستفهام : " ها" يعاقبان واو القسم ومن ذلك أيضا قولهم : (أفألله لتفعلن) بقطع ألف الوصل في اسم الله ، وقبل الفاء ألف الاستفهام ، والفاء للعطف وقطع ألف الوصل في اسم الله عزوجل عوض من الواو ، ولو جاء بالواو سقطت ألف الوصل وقال : (أفو الله) ، وإنما يكون هذا إذا قال قائل لآخر : (أبعد دارك) فقال له : نعم ، فقال له السائل : (أفألله) لقد كان ذلك فالألف للاسفهام والفاء للعطف ، وقطع ألف الوصل للعوض ولو أدخل الفاء من غير استفهام لجاز أن تقول : (فالله لقد كان ذلك) إذ لم تستفهم.

وهذه المواضع الثلاثة التي ذكرناها تسقط واو القسم فيها للعوض كما وصفت ولا تسقط في غير ذلك لعوض.

وتقول : (أي والله) و (نعم) و (الله") ومعنى" أي" معنى" نعم" فإذا أسقطت الواو نصبت فقلت : (نعم) (الله لأفعلن) و (أي الله لأفعلن) وفي لفظه ثلاثة أوجه منهم من يقول : (أي الله لأفعلن) فيفتح الياء لاجتماع الساكنين ومنهم من يقول : (أي لله لأفعلن) فيثبت الياء ساكنة وبعدها اللام مشددة كما قالوا : (ها لله).

ومنهم من يسقط الياء فيقول : (الله لأفعلن) بهمزة مكسورة بعدها لام مشددة. وقال الخليل في قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى * وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى)(١) وما أشبه ذلك من القسم في القرآن الذي عطف عليه بالواو أن الواو الثانية للعطف لا للقسم ، ولو كانت لبقي الأول بلا جواب ، واستدل على ذلك أنه قد يدخل في مثله ثم كقولك : (والله ثم الله) فثم للعطف لا غير ، ويكون الجواب لهما جميعا ولو كانا قسمين لاحتاج كل واحد منهما إلى جواب لأنهما قسمان منفصلان ، ثم يشارك أحدهما الآخر في العطف ولا يجوز ذلك إلا مستكرها يعني بتأويل ضعيف بأن يضمر للأول مقسم عليه محذوف يدل عليه الثاني.

ويجوز أن يكون القسم بالباء والتاء فيقع العطف عليه بالواو وثم ، والفاء كقولك : (بالله ، والرحمن ، وتالله ثم الله لقد كان كذا وكذا).

__________________

(١) سورة الليل ، الآيتان : ١ ، ٢.

٢٤١

ولو قلت : (والله لآتينك ، ثم الله لأضربنك) كنت بالخيار في الثاني إن شئت قطعت ونصبت لأن الأول قد تم بجوابه ، وإن شئت عطفت ما بعد ثم على الأول فخفضته ، وجئت له بجواب آخر ، وإن شئت نصبته على أنه قسم آخر مستأنف ، ويكون عطف جملة على جملة.

وشبه سيبويه هذا إذا قطعه من الأول بقولك : (مررت بزيد وعمرو خارج) وإذا لم تقطع وجب أن يقال : (والله لآتينك ثم والله لأضربنك) كقولك : (مررت بزيد ثم بعمرو).

وإن أخرت القسم عن حرف العطف كان نصبا لا غير كقولك : (والله لآتينك ثم لأضربنك الله.).

ولا يجوز فيه الخفض لأن حرف العطف قد ناب عن الخافض ، وكان الخافض معه ولا يجوز الفصل بين الخافض والمخفوض ، وشبهه بقولك : " مررت بزيد أول من أمس" و" أمس عمرو" وهذا قبيح خبيث للفصل بين الخافض والمخفوض. ولو قال قائل : (وحقك وحق زيد) على وجه النسيان والغلط جاز وتكون الواو الثانية واو القسم ، وإن قال : (وحقك حق زيد) على الغلط كانت الواو هي واو القسم. وألغى حقك الذي بعد الواو وكأنه لم يلفظ به ، ولو قال : (وحقك وحقك) على التوكيد جاز وكانت الواو واو الجر.

هذا باب ما عمل بعضه في بعض وفيه معنى القسم

قال أبو سعيد : قد تقدم من كلامي أن القسم إنما هو جملة من ابتداء وخبر أو فعل وفاعل تؤكد بها جملة أخرى فمن الابتداء والخبر قولهم : (لعمر الله) (وأيم الله) (وأيمن الله) (وأيمن الكعبة) ، كأنه قال : (لعمر الله) المقسم به ، فعمرو مبتدأ والمقسم به المقدر خبره ، ولأفعلن هو جوابه ، وهو المقسم عليه ، ومن ذلك قولهم : (على عهد الله) ، فعهد الله مبتدأ وعلى خبره.

وألف (أيم) و (أيمن) ـ فيما حكاه سيبويه عن يونس ـ ألف موصولة وحكاها يونس عن العرب.

وأنشد :

وقال فريق القوم لما نشدتهم

نعم وفريق ليمن الله ما ندري (١)

__________________

(١) البيت لنصيب بن رباح في ابن يعيش ٩ / ٩٢ ، والدرر اللوامع ٢ / ٤٤.

٢٤٢

وقال أن" أيم" لم يوجد مضافا إلا إلى اسم الله تعالى وإلى الكعبة.

وفي النحويين من يقول : أنه جمع يمين وألفه ألف قطع في الأصل. وإنما حذف تخفيفا لكثرة الاستعمال.

وقد كان يذهب الزجاج إلى هذا ، وهو مذهب الكوفيين ، وقد ذكرناه في غير هذا الموضع مستقصي.

قال : سمعت فصحاء العرب يقولون في بيت امرئ القيس :

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي (١)

برفع اليمين كما رفع (لعمر الله) ، وأضمر ، يمين الله قسمي.

ومن روى (يمين الله) بالنصب أراد (أحلف بيمين الله) وحذف الباء فنصب.

ورفعه كقولهم : (أيمن الله) ، و (أيمن الكعبة) و (أيم الله) وفيه معنى القسم وكذلك قولهم : (أمانة لله).

قال : " ومثل ذلك قولهم : يعلم الله لأفعلن وعلم الله لأفعلن

وإعرابه كإعراب (يذهب زيد) ، والمعنى (والله لأفعلن) وذا بمنزلة يرحمك الله.

وفيه معنى الدعاء. أراد أن قولنا : (يعلم الله) و (علم الله) لفظه الإخبار بذلك ومعناه معنى القسم كما أن (يرحمك الله) لفظه لفظ الإخبار بان الله يرحمه وفيه معنى الدعاء وكذلك (اتقى الله امرؤ عمل خيرا) لفظه لفظ الخبر ومعناه ليفعل وليعمل وفي نسخة أخرى (ليتق الله).

قال : وحدثني هارون القارئ أنه سمع

فذاك أمانة الله الثّريد

بالرفع على ما فسرنا.

هذا باب ما يذهب التنوين فيه من الأسماء بغير إضافة ، ولا دخول ألف ،

ولام ولا لأنه لا ينصرف

وكان القياس أن يثبت التنوين فيه

__________________

(١) البيت في ديوانه ٣٢ ، والخزانة ٤ / ٢٠٩ ، والعيني ٢ / ١٣ ، والخصائص ٢ / ٢٨٤.

٢٤٣

وذلك كل اسم غالب وصف بابن ، ثم أضيف إلى اسم غالب ، أو كنية ، أو أم وذلك قولك : (هذا زيد بن عمرو) ، وكان القياس أن تقول : (هذا زيد بن عمرو) كما تقول : (هذا زيد الظريف) " وتحريك التنوين لاجتماع الساكنين ، وإنما حذفوا التنوين من هذا النحو حيث كثر في كلامهم ، لأن التنوين حرف ساكن وقع بعده حرف ساكن. ومن كلامهم أن يحذفوا الأول إذا التقى ساكنان.

قال أبو سعيد : اعلم أن حروف المد واللين إذا كان ما قبلها منها ، وهي ساكنة (ثم) لقيها ساكن حذفت وهو القياس" والتنوين وما جرى مجراه من النونات السواكن في أصل البنية كنون" من" و" لدن" ، ولكن" قد يحذفن إذا كان بعدهن ساكن وليس ذلك بالقياس فيهن ، ولكن العرب قد تحذفهما لاجتماع الساكنين والأجود فيهما التحريك ، لأن النون لا تثقل فيها الحركة ، ولأنّا إذا حذفنا النون الساكنة والتنوين لم يكن ما قبلهما يدل عليهما كما يدل ما قبل الواو من الضمة ، وما قبل الياء من الكسرة وما قبل الألف من الفتحة عليهن ، فالاختيار في التنوين التحريك ، لاجتماع الساكنين.

وقد يحذف ، وحذفه لاجتماع الساكنين أكثر من حذف نون (لكن) و (لدن) ، و (من). وإذا كانتا النون الخفيفة في الفعل فلفظها لفظ التنوين في الوقف والوصل لأنك إذا وصلت قلت : " اضربن زيدا" وإذا وقفت قلت اضربا كما تقول : (رأيت زيدا عندك) ، وإذا وقفت قلت : (رأيت زيدا) وهي تخالف التنوين إذا لقيها ساكن ، لأنها تحذف لاجتماع الساكنين ، كقولك : " يا عمرو اضرب بن زيد" وأنت تعني" اضربن" وألزموها الحذف لأنها أضعف من التنوين من قبل أن الفعل أضعف من الاسم ، ولأن النون لا تلزم ما تدخل عليه ، والتنوين لازم لما يدخل عليه لعلامة الصرف ، ألا ترى أنك تقول : (اضرب زيدا) بلا نون ولا تقول : (رأيت زيد) بلا تنوين ، فإذا قالوا : (هذا زيد بن عمرو) تركوا القياس الذي ذكرنا لكثرة ذلك في كلامهم فصار المختار ترك التنوين ولزوم التخفيف على منهاج ما جرى عليه كلام العرب.

قال سيبويه : فإذا اضطر الشاعر فيه أجراه على القياس. سمعنا فصحاء العرب أنشدوا هذا البيت :

هي ابنتكم وأختكم زعمتم

لثعلبة بن نوفل بن جسر (١)

__________________

(١) البيت للقارعة بنت معاوية في الأعلم ٢ / ١٤٧ ، وأمالي الشجري ٢ / ٤٧.

٢٤٤

وقال الأخطل :

جارية من قيس بن ثعلبة

كأنها حلية سيف مذهبة (١)

والكنى في ذلك بمنزلة الأسماء ؛ لأنها وضعت علما وهي كالاسم الغالب ، وذلك قولك (هذا أبو عمرو ابن العلاء) ، و (هذا زيد بن أبي عمرو) فهو للرجل ولابنه كالاسم وقد قالت العرب : هذا رجب من بني أبي بكر بن كلاب) فحذف التنوين من (أبي بكر).

وقال الفرزدق :

ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها

حتّى أتيت أبا عمرو بن عمّار (٢)

وقال الآخر :

فلم أجبن ولم أنكل ولكن

يممت بها أبا صخر بن عمرو (٣)

واختلفوا في السبب الذي حسن حذف التنوين من قولك : (هذا زيد بن عمرو) ، فكان سيبويه يذهب في ذلك إلى أن السبب فيه كثرته في الكلام واجتماع الساكنين فإذا لم يجتمع ساكنان لم يحذف. وكان يونس يذهب إلى أن العلة فيه" اجتماع الساكنين ولم يذكر غير ذلك وكان أبو عمرو" يذهب إلى أن العلة فيه كثرته في الكلام. واختلفوا في قولهم : (هذه هند بن زيد) فيمن صرف (هندا) فقال سيبويه ويونس : (هذه هند بنت زيد) بالتنوين لأنه لم يجتمع ساكنان.

وقال أبو عمرو : (هذه هند بنت عبد الله) فحذف لكثرته في كلامهم لا لاجتماع الساكنين كما حذفوا (لا أدر) و (لم أبل) ، و (لم يك) و (خذ) و (كل) بأشباه ذلك وهذا كثير وقولهم : " هذا فلان ابن فلان" لا خلاف بينهم ـ فيما ذكره أبو العباس المبرد ـ أنه يجري مجرى زيد بن عمرو ، ومثله ، (طامر بن طامر) ، و (ضل بن ضل) لأنها جعلت أعلاما للأناسي وهي معارف ، وإن كانت كنايات ، لأن (فلان ابن فلان) كناية عن العلم الذي لم

__________________

(١) البيتان من الرجز المشطور وهما في الخصائص ٥ / ٤٩١ ، وابن الشجري ١ / ٣٨٢ ، وابن يعيش ٢ / ٦ ، والخزانة ٢ / ١٧٠.

(٢) البيت في ديوانه ٣٨٢ ، وابن يعيش ١ / ٢٧.

(٣) البيت من شواهد سيبويه ٣ / ٥٠٦ ، وشرح الشواهد للأعلم ٢ / ١٩٨ ، والدرر اللوامع ٢ / ٢٤٠.

٢٤٥

يذكر و (طامر بن طامر) و (ضل بن ضل) يعبر به عمن لا يعرف وإن كان يدخل في ذلك كل من كان بهذه الصفة كالأسماء الأعلام للأجناس (كأم عمرو للضبع) و (أبي الحارث للأسد). وإذا كنيت من غير الآدميين أدخلت الألف واللام فقلت : الفلان بالفلانة والهن والهنة جعلوه كناية عن الناقة التي تسمى بكذا والفرس الذي يسمى بكذا ليفرقوا بين الآدميين والبهائم.

هذا باب تتحرك فيه النون في الأسماء الغالبة

وذلك قوله : (هذا زيد ابن أخيك) ، و (زيد الطويل) ، و (زيد ابن عمرك) وما جرى مجراه مما لم يصف فيه الاسم إلى اسم الأب الذي هو علم.

والاختيار في ذلك كله التنوين لأنه لم يكثر ويجوز فيه حذف التنوين لالتقاء الساكنين وليس ذلك بالمختار. وجوازه كجواز ما روي في (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ) وأنشد في ذلك :

لو كنت من هاشم أو من بني أسد

أو عبد شمس أو أصحاب اللّوا الصّيد

أو في الذّؤابة من تيم مضيت بهم

أو من بني خلف الخضر الجلاعيد (١)

وقال آخر :

لتجدني بالأمير برّا

وبالقناة مدعسا مكرّا

إذا غطيف السّلميّ فرّا (٢)

وقوله : (هذا زيد ابن عمرك) ، و (زيد ابن زيدك) القياس فيه التنوين. وهو الاختيار لأن زيدا وعمرك ليسا باسم العلم وإنما تعرفا بإضافتهما إلى الكاف بعد أن كان اسميهما زيدا وعمرا ف (ابن زيدك بمنزلة (ابن أخيك).

ولو قلت : (مررت بزيد ابن عمرو) ولم تجعله نعتا ولكن جعلته بدلا لنونت لأن

__________________

(١) البيتان من البسيط ، ولم نستدل على قائلهما.

(٢) هذه أبيات من الرجز المشطور أنشدها ابن الشجري في أماليه ١ / ٣٤٥ ، وأبو زيد في النوادر ٩١.

٢٤٦

حذف التنوين إنما هو في الصفة لكثرتها ، ولأن الصفة والموصوف كشيء واحد وإذا قلت : (زيد ابن عمرو) فجعلت" زيدا" مبتدأ وجعلت" ابن عمرو" خبرا فلا خلاف بين النحويين أن الاختيار التنوين ؛ لأن الخبر منفصل من المبتدأ ولم يكثر الكلام به ، وإنما يكون خبرا إذا خاطبت (به) من لا يدري ، أزيد ابن عمرو أم ابن غيره فأردت إعلامه نسب زيد من أبيه وهو لا يعرفه.

وأما قوله عزوجل : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ)(١) فقد اختلف القراء في تنوين" عزير" وترك تنوينه ، فأما من نون فالحجة له أن هذا خبر وليس بنعت لأن (عزيرا) مبتدأ وابن خبره.

وأما من ترك التنوين فله ثلاثة أوجه ، الأول منها أنه جعله صفة وأضمر الخبر أو المبتدأ فيكون تقديره : (هذا عزير ابن الله) أو" (عزير بن الله معبودنا) أو (عزير بن الله مرشدنا) ونحو هذا من التقدير.

والوجه الثاني أن يكون حذف التنوين لاجتماع الساكنين كما ذكرنا في الأبيات آنفا.

والوجه الثالث وهو أجودها أن يكون" عزير" اسما عجميّا منع الصرف لعجمته.

وتقول : (هذا زيد بنيّ عمرو) ولا خلاف بينهم ، وأبو عمرو أيضا يقوله ؛ لأنه لم تكثر إضافته بالتصغير كما كثر هند بنت عبد الله في قول أبي عمرو.

هذا باب النون الثقيلة والخفيفة

اعلم أن كل شيء دخلته الخفيفة فقد تدخله الثقيلة ، وزعم الخليل إنها توكيد ك (ما) التي تكون فضلا فإذا جئت بالخفيفة فأنت مؤكد ، وإذا جئت بالثقيلة فأنت أشد توكيدا.

قال أبو سعيد : اعلم أن النون الخفيفة لا تدخل إلا على الفعل المستقبل والفعل المستقبل فيها على ثلاثة أقسام.

قسم يلزم دخول النون فيه ، وقسم يجوز دخولها فيه ، وخروجها عنه وقسم لا تدخل فيه إلا ضرورة.

فأما القسم الذي تلزم النون فيه فهو أن يكون الفعل في أوله اللام جوابا للقسم

__________________

(١) سورة التوبة ، آية : ٣٠.

٢٤٧

كقولك : (والله لأضربن زيدا) ولا يجوز (والله لأضرب زيدا).

إنما لزمته النون ، لئلا يتوهم إنها اللام التي في خبر إن لغير قسم فيزول اللبس بدخول النون تقول : (إن زيدا ليقوم ، ولينطلق) فيكون قيامه وانطلاقه يجوز أن يكون للحال ، ويجوز أن يكون للمستقبل بمنزلة الفعل الذي لا لام فيه ، كقولك : (زيد يقوم ، وينطلق) وقد يدخل بعد هذه (اللام) عليه (السين وسوف) كما تدخل على ما لا (لام) فيه كقولك : (إن زيدا لسوف يقوم ولسيقوم) ، فإذا قلت : (إن زيدا ليقومن ولينطلقن) كان هذا جوابا لليمين ولم يكن إلا للمستقبل. لا يجوز أن تقول : (إن زيدا لينطلقن الآن) كما جاز أن تقول : (إن زيدا لينطلق الآن) فكان دخول النون لازما مع اللام للفصل.

وأما ما يجوز دخول النون فيه للتوكيد وخروجها عنه فالأمر والنهي والاستفهام كقولك : (اضربن زيدا) و (أضربن زيدا) و (لا تضربن زيدا) و (لا تضربن زيدا) ، و (هل تضربن زيدا) ، و (هل تضربن زيدا) وإن شئت لم تدخلها في شيء من ذلك.

وأما ما لا تدخل فيه النون إلا في ضرورة فالخبر.

قال سيبويه : ويجوز للمضطر : (أنت تفعلن ذاك).

شبهوه بما بعد الاستفهام وبجواب اليمين وكان الفعل فيه مرفوعا مثله في الاستفهام واليمين وأنشد قول جذيمة بن الأبرش ، وقد ذكرناه في الباب.

ومما جاء فيه النون في كتاب الله عزوجل : (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(١) ، (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً)(٢) ، والخفيفة منها (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً)(٣) خفيفة ، وقوله : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ* ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ)(٤)

وقال الأعشى :

فإيّاك والأنصاب لا تقربنّها

ولا تعبد الشّيطان والله فاعبدا (٥)

فلا تقربنها نون ثقيلة ، وفاعبدا نون خفيفة وقف عليها بالألف. وقال زهير :

__________________

(١) سورة يونس ، الآية : ٨٩.

(٢) سورة الكهف ، الآية ٢٣.

(٣) سورة يوسف ، الآية : ٣٢.

(٤) سورة العلق ، الآيتان : ١٥ ، ١٦.

(٥) البيت في ديوان الأعشى ١٠٣ ، وروايته :

وذا النصب المنصوب لا تنسكه

ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا

٢٤٨

تعلمّن ها لعمر الله ذا قسما

فاقصد بذرعك وانظر أين تنسلك (١)

فهذه الخفيفة في تعلمن.

وقال الأعشى :

أبا ثابت لا تعلقنك رماتنا

أبا ثابت واقعد وعرضك سالم (٢)

وهو كثير في الشعر

ومما جاء في جواب اليمين ، قول النابغة الجعدي :

فمن يك لم يثأر بأعراض قومه

فإنّي وربّ الرّاقصات لأثأرا

وهذه النون الخفيفة ولم يقل : (لأثأرن)

وقالت ليلى الأخيلية :

تساور سوارا إلى المجد والعلى

وفي ذمّتي لئن فعلت ليفعلا

ودخول هذه النون في كل موضع دخلت فيه للاستقبال.

ولا تدخل على فعل للحال.

وكان الأصل في دخولها على الأمر والنهي للتوكيد ، والاستفهام مضارع للأمر النهي ، لأنه غير واجب وفيه معنى الأمر ؛ لأنك إذا قلت : (هل تفعلن كذا؟) فإنك تستدعي منه تعريفك ، ولو لا ذلك ما صار جواب الاستفهام كجواب الأمر والنهي ، فمن ذلك : (هل تقولنّ ذلك؟) و (أتقولنّ ذاك؟) و (كم تمكثن؟) و (انظر متى تفعلن؟) وكذلك جميع حروف الاستفهام. قال الأعشى :

__________________

(١) البيت سبق تخريجه.

(٢) ديوان الأعشى ٥٨.

٢٤٩

فهل يمنعنيّ ارتيادي البلا

د من حذر الموت أن يأتين

والشاهد في يمنعني

وقال :

فأقبل على رهطي ورهطك نبتحث

مساعينا حتّى ترى كيف تفعلا

وزعم يونس أنك تقول : هلا (تقولن) وألا تقولن وهذا أقرب ؛ لأنك تعوض فكأنك قلت (أفعل) لأنه استفهام وفيه معنى العرض ومثل ذلك : " لو لا تقولن" ذاك لأنك تعوض.

فصار بمنزلة الأمر والنهي ؛ لأنه استدعاء كما نستدعي بالأمر ، وقد تقدم الكلام في موافقة حروف الاستفهام في الأمر والنهي في باب الجزاء بما أغنى عن إعادته.

ومن مواضع النون (حروف الجزاء) إذا دخلت" ما" على حروف المجازاة ، لأن" ما" تدخل للتوكيد فشبهوها باللام التي في" لتفعلن" إلا أن اللام تلزمها النون ، وأنت مخير في المجازاة ، وذلك قولك : (أما تأتيني آتك) وأيهم ما يقولن ذاك يحبه وتصديق ذلك قوله عزوجل : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ)(١) وقال : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً)(٢).

وقد تدخل النون بغير" ما" في الجزاء وذلك قليل في الشعر شبهوا الجزاء بالنهي حيث كانا مجزومين غير واجبين وقال الشاعر :

نبتم نبات الخيزرانيّ في الثّرى

حديثا متى ما يأتك الخير ينفعا (٣)

الشاهد في" ينفعا" وهو جواب ولم يل" ما"

وقال ابن الخوع : (٤)

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ٢٨.

(٢) سورة مريم ، الآية : ٢٦.

(٣) البيت للنجاشي وهو من بحر الطويل انظر الخزانة : ٤ / ٥٦٣ ، العيني : ٣ / ٣٤٤ ، الدرر اللوامع : ٢ / ٩٧.

(٤) هو عوف بن عطية بن الخوع ويروى أيضا للكميت بن معروف ، انظر الخزانة : ٤ / ٥٥٩ ، العيني : ـ ـ ٤ / ٣٣٠ ، الأشموني : ٣ / ٢٢٠.

٢٥٠

فمهما تشأ منه فزارة تعطكم

ومهما تشأ منه فزارة تمنعا

وقال آخر :

من يثقفن منهم فليس بآئب

أبدا وقتل بني قتيبة شافي

وقد يدخلون (ما) بعد" لم" حيث كانت" لم" جازمة لشبهها بالنهي والجزاء كقول الشاعر :

يحسبه الجاهل ما لم يعلما (١)

شيخا على كرسيّه معمّما

وقد يقولون : " أقسمت لما لم تفعلن" لأن هذا طلب فصار كالأمر والنهي كأنه قال : (لا تفعلن).

وقد أدخلوها في أفعال مستقبلة في الخبر ، وقبلها" ما" زائدة ، وهو قولهم (بجد ما تبلغنّ) و (بجهد ما تنقلنّ) وفي مثل من أمثال العرب :

" في عضة ما ينبتنّ شكيرها" (٢)

وقولهم في مثل آخر :

" بآلم ما تختننّه" (٣)

وقالوا أيضا : " بعين ما أرينك"

فشبهوا دخول ما في هذه الأشياء بدخولها في الجزاء ، وجعلوا قوله :

__________________

(١) البيت من الكامل وقد نسبه البغدادي لبنت مرة بن عاهان الحارثي وهو من شواهد الكتاب : ٣ / ٥١٦ ، الخزانة : ٤ / ٥٦٥ ، العيني : ٤ / ٣٣٠ ، الأشموني : ٢ / ٣١٠ ، الهمع : ٢ / ٧٩.

(٢) شكرت الشجرة تشكر أي خرج منها الشكير وهو ما ينبت حول الشجرة من أصولها. والعضة : شجرة لها شوك. يضرب في تشبيه الولد بأبيه.

ويروى صدر بيت من الطويل لا يعلم قائله هو :

ومن عضة ما ينبتن شكيرها

قديما ويقتط الزناد من الزند

انظر الأمثال للميداني : ٢ / ٣١ ، المغني : ٣٤٠ ، ابن يعيش : ٧ / ١٠٣.

(٣) الأمثال للميداني : ١ / ١٤٧ ، المقتضب : ٣ / ١٥.

٢٥١

" بجهد ما تبلغنّ" لما كان لا يبلغ إلا بجهد صار كأنه غير واجب ؛ لأنه لم يبلغ على كل حال وكذا بألم ما تختننه أي لا تختن إلا بشرط الألم وهذا المثل يضرب لمن يطلب أمرا لا يناله إلا بمشقة.

وقوله : (في عضة ما ينبتن شكيرها) يضرب مثلا لما كان له أصل وأمارة تدل على كون شيء آخر.

وقوله بعين" ما أرينك" كأنه يقول : أتحقق الذي أراه ولا أشك فيه فهو توكيد : ودخلت" ما" لأجل التوكيد في الأشياء فشبهت باللام.

وقد تدخل في الضرورة وليس معها لام.

قال الشاعر وهو جديمة الأبرش :

ربّما أوفيت في علم

ترفعن ثوبي شمالات (١)

وإنما حسن هذا لأن" ما" قد زيدت في" رب" و" ترفعن" من حملتها

وزعم يونس أنهم يقولون : (ربما تقولن ذاك) ، و (كثر ما تقولن ذاك) لأنه فعل غير واجب و" ما" لازمة.

ولا تقل : (رب تقولن) ، ولا (كثر تقولن) فأشبهت عندهم لام القسم فجاز دخول النون وليس بمنزلته في القسم ؛ لأن اللام إنما ألزمت اليمين ولا يجوز إطراحها. ولزمت النون اللام للعلة التي ذكرتها من الفصل لأن اللام إنما لزمت اليمين كما لزمت النون اللام وليس مع المقسم به بمنزلة حرف واحد ، ولو لم تلزم اللام لالتبس بالنفي إذا حلف أنه لا يفعل ف (ما) تجيء لنسهّل الفعل بعد (رب) فلا يشبه ذا القسم.

وذلك : " حيث ما تكونن آتك" ، لأنها سهلت الفعل أن يكون مجازاة.

وإنما كان ترك النون في هذا أجود ، لأن (ما) و (رب) بمنزلة حرف واحد نحو (قد) و (سوف) و (ما) و (حيث) بمنزلة (أين) واللام ليست مع المقسم به كحرف واحد وليست ك (ما) التي في : (بألم ما تختننه) لأنها ليست مع ما قبلها بمنزلة حرف واحد ؛ لأن اللام لا تسقط كما تسقطها من هذا إن شئت.

أما قوله : " فما" تجيء لتسهل الفعل ، بعد (رب) ، يريد أن (رب) لا تدخل على الفعل. فإذا دخلت ما عليها وليها الفعل وكذلك (حيث) لا يجازى بها فإذا دخلت عليها

__________________

(١) انظر ابن يعيش : ٩ / ٤٠ ، العيني : ٣ / ٣٤٤ ، المغني : ١٣٥ ، المؤتلف والمختلف : ٣٩.

٢٥٢

ما جوزي بها.

وإنما يريد بذلك الفرق بين (ربما) و (كثر ما) وبين لام القسم ، لأن لام القسم تلزم فيه النون وربما لا تلزم بعد ما النون ومعنى قوله : واللام ليست مع المقسم به كحرف واحد إلى آخر الباب.

يعني أن لام القسم ليست كما في (ربما) لأن (ما) و (رب) شيء واحد ولا كما ب (ألم ما تختننه) لأن (ما) بعد (ألم) زائدة لغو واللام لازمة للفعل ومنفصلة من المقسم به.

هذا باب أحوال الحروف التي قبل النون الخفيفة والثقيلة

قال أبو سعيد : أما فعل الواحد فإن ما قبل النون فيه مفتوح خفيفة وثقيلة وسواء كان الفعل في موضع جزم أو في موضع رفع كقولك في الجزم : (لا تضربن زيدا) و (لا تضربن زيدا) وإنما فتحوا لأن النون الخفيفة ساكنة والشديدة نونان الأولى منهما ساكنة فاجتمع ساكنان الحرف المجزوم والنون الساكنة فكرهوا ضمه وكسره لأنه لو كسر لالتبس بفعل المؤنث كقولك : (لا تضربنّ زيدا) ، وإن ضم التبس بالجمع كقولك للجماعة : (لا تضربنّ زيدا) ، وأما في الرفع فقولك : (هل تضربنّ زيدا) (والله لأضربن زيدا) والعلة فيه كالعلة في المجزوم ؛ لأنهم لو تركوا الضمة لالتبس بفعل الجماعة فأبطلوا الإعراب في الرفع كما أبطلوه في الجزم ثم فتحوه لاجتماع الساكنين وتقول في الاثنين إذا أدخلت النون الشديدة : (اضربان زيدا) أو (لا تضربان زيدا) كما قال الله : (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(١).

فإن قال قائل : فهلا حذفوا الألف لاجتماع الساكنين هي والنون الساكنة بعدها كما حذفوا الواو في (لا تضربن) والياء في (لا تضربن) والأصل (لا تضربوا) و (لا تضربي)؟ قيل له لو حذفوا الألف للزم أن يقال : (لا تضربن يا زيدان) ، فأشبه فعل الواحد المذكر فاجتنبوا اللبس وأثبتوا الألف وشبهوها بدابة فالنون المشددة بعد الألف كالباء المشددة بعد الألف في دآبة ، فإذا كان في موضع رفع في تثنية أو جمع أو فعل مؤنث حذفت النون التي هي علامة الرفع لبطلان الإعراب مع دخول نون التوكيد ، ولأن فعل الواحد المذكر إنما دخلت عليه النون وانفتح ما قبلها من الفعل ، صار بالفتح كأنه منصوب والفعل المنصوب لا تدخل عليه النون التي هي علامة الرفع ، ومن أجل اجتماع النونات أيضا ؛

__________________

(١) سورة يونس ، الآية : ٨٩.

٢٥٣

لأنك لو أثبت النون التي هي للإعراب لقلت : (هل تتّبعاننّ) ، و (هل تضربوننّ زيدا) فتجتمع ثلاث نونات فحذفوها استثقالا لها ثم أسقطوا الواو في الجمع لاجتماع الساكنين وأسقطوا الياء في المؤنث لذلك فقالوا : (هل تضربنّ زيدا يا قوم) ، و (هل تضربنّ زيدا يا هند) واحتج سيبويه لاستثقالهم النونات أنهم حذفوها فيما هو أشد من ذا.

قال : بلغنا أن بعض القراء قال : (" أَتُحاجُّونِّي")(١) وكان يقرأ" فبم تبشروني" (٢) وهي قراءة أهل المدينة لأنهم استثقلوا التضعيف وقال عمرو بن معد يكرب :

تراه كالثّغام يعل مسكا

يسؤ الغاليات إذا فليني (٣)

والأصل (أتحاجّونني) ، و (فبم تبشّرونني) وإذا فلينني ، فأسقط أحد النونين فإذا كن ثلاثا فهي أثقل ، وينبغي أن تكون النون المحذوفة النون (التي مع الياء الثانية) لا التي مع الياء الأولى في (فلينني) فهي ضمير الفاعلات والنون الثانية لغير معنى لا يخل سقوطها بالكلام والنون الأولى في (أتحاجونني) و (تبشرونني) للرفع فتسقط الثانية.

وإنما تسقط لدخول النون الواو المضمومة ما قبلها والياء المكسور ما قبلها كما تسقط هذه الواو والياء إذا لقيهما ما فيه ألف الوصل أو الألف واللام كقولك : " أضربوا ابن زيد يا قوم" تسقط الواو في اللفظ ، و" اضربي ابن زيد يا هند" فتسقط الياء و" اضربوا القوم" و" اضربي القوم" فإن كان الواو والياء مفتوحا ما قبلهما لم يسقطا لدخول النون وحركتهما لاجتماع الساكنين كما تحركهما إذا كان بعدهما ألف وصل أو الألف واللام تقول إذا أدخت النون على (أرضوا واخشوا وارضي واخشي) (أرضونّ زيدا واخشونّ زيدا وأرضين زيدا وأخشين زيدا) كما تقول : (اخشوا القوم) و (اخشوا ابن زيد) و (أرض القوم) و (أرض ابن زيد).

قال المازني : فإن قال قائل : (هلا رددتم الساكن الذاهب في اخشوا وأخشى) حين تحركت الواو والياء في اخشون و (اخشين) والساكن الذاهب كان ألف" أخشى".

وإنما سقطت لسكونها وسكون الواو ، والياء ، في (اخشوا واخشى) فإذا تحركت الواو والياء ، فردوها ، كما قلتم قل ، فأسقطتم الواو لاجتماع الساكنين فإذا قيل : (قولن) رددتم الواو ولما تحركت اللام.

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ٨٠.

(٢) سورة الحجر ، الآية : ٥٤.

(٣) انظر ابن يعيش : ٣ / ٩١ ، الخزانة : ٢ / ٤٤٥ ، العيني : ١ / ٣٧٩ ، واللسان : (فلا).

٢٥٤

فأجاب بأن اللام في (قولن) أصلها الحركة فإذا تحركت فكأنها في الأصل متحركة فرددنا الواو من أجل ذلك ، وليست الواو في الجمع ولا الياء في التأنيث بمتحركتين في الأصل ، فإذا حركتا لاجتماع الساكنين فكأن الحركة فيهما عارضة.

فعورض هذا الجواب بأنا نقول : " قل الحق" فتحرك اللام ولا نرد الواو ، وأقول أنا في هذه المعارضة : إنها تسقط لأن الساكن في" قل الحق" من كلمة أخرى ، وليس يلزم لام (قل) أن يلقاها الساكن في كل حال لأنه يجوز أن يوقف عليها ثم يبتدأ ما بعدها.

هذا باب الوقف عند النون الخفيفة

قال أبو سعيد : اعلم أنك إذا وقفت عليها في فعل الواحد المذكر قلبتها ألفا لانفتاح ما قبلها فصار بمنزلة التنوين في الاسم المنصوب وذلك قولك : (اضربا) و (قوما) إذا وقفت كما تقول : (رأيت زيدا) و (ضربت بكرا) ، وليس بينها وبين التنوين في الاسم فرق ؛ لأنهما زائدان وقبلهما مفتوح وهما نونان وليست إحداهما بمنزلة حروف الأصل ، كما أن نون" رعشن" و" ضيفن" ألحقتا الاسمين بجعفر.

وإذا وقفت على النون الخفيفة وقبلها ضمة أو كسرة فقط سقط من بعد الضمة واو الجمع لاجتماع الساكنين وبعد الكسرة ياء التأنيث لاجتماع الساكنين ، فإذا وقفت عليها لم تبدل منها عند سيبويه والخليل ، وذلك أنا إنما أبدلنا الألف منها ، إذا كان قبلها فتحة تشبيها بالاسم المنصوب المنون إذا وقفنا عليه فإذا كان قبلها ضمة ، أو كسرة ، فالاسم المضموم أو المكسور إذا كانا منونين لم يبدل جل العرب من التنوين شيئا في الوقف كقولك : " جاءني زيد" و" مررت بزيد" وهو لغة أهل الحجاز وعليه القراءة فلما لم يبدل من التنوين في المرفوع والمجرور المنونين في الوقف (كانت النون الخفيفة في الفعل أبعد من البدل في الوقف).

لأنها أضعف ، وذلك قولك في (اضربن زيدا يا رجال) و (اضربن زيدا يا هند) وإذا وقفت لزم أن تقول : (اضربوا واضربن) ؛ لأنك حذفت النون فاحتجت أن ترد ما سقط من أجلها لاجتماع الساكنين ، وهو واو الجمع وياء المؤنث.

قال سيبويه ـ وهو يريد المعنى الذي ذكرته ـ وإذا وقفت عندهما ـ وقد أذهبت علامة الإضمار التي تذهب إذا كان بعدها ألف خفيفة أو ألف ولام ـ رددتها كما ترد الألف في مثنى كما ترى إذا سكت وذلك قولك للمرأة وأنت تريد الخفيفة (أضربي) والجمع (أضربوا) و (أرموا) وللمرأة (أرمي) و" (أغزي) فهذا تفسير الخليل وهو قول

٢٥٥

العرب ويونس.

قال أبو سعيد : أما قوله : وقد أذهبت علامة الإضمار يعني واو الجماعة في (اضربن) وياء التأنيث في (أضربن) وقوله : الذي تذهب إذا كان بعدها ألف خفيفة أو ألف ولام يعني بالألف الخفيفة ألف وصل في مثل ابن واسم تقول : (اضربي ابنك) ، و (واضربوا ابن زيد) وفي الألف واللام : (أضربي الرجل) و (أضربوا الرجل) فتسقط الواو والياء في اللفظ لألف الوصل التي بعدها فإذا وقفت عليها عادت الواو والياء اللتان كانتا يسقطان لألف الوصل.

وكذلك إذا قلت : (هذا مثنى يا هذا) ثم وقفت قلت : (مثنى) جئت بالألف وهي عند سيبويه الألف التي كانت في أصل (مثنى) وسقطت لسكونها وسكون التنوين وإذا وقفت زال التنوين فعادت الألف.

وقد اختلف النحويون في الألف التي تكون في كل اسم مقصور منصرف إذا وقف عليها هل هي الألف التي كانت في أصل المقصور أو هي بدل من التنوين؟

فقال الخليل وسيبويه ومن ذهب مذهبهما : إن الألف الموقوف عليها هي ألف الأصل.

وروي عن المازني وهو قول أبي العباس المبرد : إن الألف في (مثنى) و (مغزى) و (مرمى) إذا وقفت عليها هي بدل من التنوين وشبهوا ذلك بقولك : (رأيت زيدا وعمرا) لأن الألف بدل من التنوين.

قال أبو سعيد : والقول ما قاله سيبويه وقد حكى أيضا عن الكسائي ، والدليل على ذلك أن التنوين إنما يبدل ألفا في الوقف إذا كان قبله فتحة يليها التنوين ونحن إذا قلنا (مثنى) و (مغزى) فالفتحة قبل ألف" مثنى" و" مغزى" ثم دخل التنوين فسقطت الألف التي بين الفتحة والتنوين فإذا وقفنا لم يجز أن تبدل من التنوين ألفا وليس الشرط المسلم في بدل التنوين ألفا أن يكون بعد ألف.

ومما يدل على صحة قوله أنّا إذا وقفنا على" مثنى" وغيره مما يجوز أن تمال ألفه كان لنا أن نميلها كقولك : (هذا فتى ومرمى وغيرهما).

وقد قال بعض أصحابنا إنه يحتمل على مذهب سيبويه أن تبدل من التنوين ألفا فيجتمع ألفان : الألف الأصلية والألف البدل من التنوين فتسقط الألف التي هي بدل من التنوين لأنها زائدة ومن مذهبه إذا اجتمع حرفان من حروف المد واللين والثاني زائد حذف الزائد كقولك : (مصوغ ومبيع) وذلك مذكور في موضعه.

٢٥٦

وإذا وقفت على (اخشون) و (اخشين) فمن مذهب سيبويه والخليل أن نقول (اخشى) و (أخشوا) لانهما لا يعوضان من النون لضمة ما قبلهما وكسرته فإذا حذفوا النون عاد اللفظ كما كان قبل دخولها فقلنا : (اخشى) و (أخشوا).

وكان يونس يقول : أبدل من النون واوا إذا كان قبلها ضمة ، وياء إذا كان قبلها كسرة فأقول : (أخشووا) و (أخشيي) فقال الخليل : لا أرى ذلك إلا على قول من قال : (هذا عمرو) و (مررت بعمري) إذا وقفت عليه.

قال أبو عثمان : أهل اليمن يقولون : (هذا زيدو) وليسوا فصحاء.

قال سيبويه : وقول العرب على قول الخليل وإذا وقفت عند النون في فعل مرتفع لجمع رددت النون التي تثبت في الرفع.

وكذلك في المؤنث ، وذلك قولك : (هل تضربن زيدا يا رجال) ، و (هل تضربن زيدا يا هند) فإذا وقفت قلت : (هل تضربين) و (هل تضربون) فرددت الذاهب من أجل النون لما سقط النون لانضمام ما قبلها وانكساره ولا تقول : (هل تضربونا) ، ولا (هل تضربينا) إذا وقفت ، لأن الألف (إنما) تنقلب من النون في موضع النون ولا تقع نون التوكيد بعد نون الرفع ، لأنه لا يجوز أن تقول : (هل تضربونن زيدا) ولا (هل تضربينن زيدا) ولو جاز ذلك لجاز أن يكون بالنون الشديدة ، لأن موقعهما واحد فقلت : (هل تضربونن زيدا) و (هل تضربينن زيدا) ولا يقوله أحد.

وقال سيبويه : ينبغي لمن قال بقول يونس في (أخشيى) و (أخشووا) إذا وقف على النون الخفيفة أن يقول : (هل تضربوا) فيجعل الواو مكان النون كما فعل ذلك في (أخشيى) ويسقط نون الرفع وأما النون الثقيلة فلا عمل فيها في الوقف ولا تغير لها ؛ لأنها لا تنقلب في الوقف إلى غير النون.

وإذا كان بعد النون الخفيفة ألف وصل أو ألف ولام سقطت ولم تحرك لاجتماع الساكنين كما يحرك التنوين وذلك قولك : (يا زيد اضرب الرجل) و (اضرب ابنك) ، وإنما سقطت ولم تثبت كثبوت التنوين وتحريكه في قولك : (مررت بزيد الطويل) و (هذا زيد ابنك) لأن الاسم أقوى من الفعل وأشد تمكنا ، ولأن التنوين في الاسم واجب لا يخير المتكلم بينه وبين تركه في الأسماء المنصرفة وأنت مخير في النون ، إن شئت جئت بها في الفعل وإن شئت تركتها.

٢٥٧

هذا باب النون الثقيلة والخفيفة من فعل الاثنين وفعل جميع النساء

قال أبو سعيد : أما الثقيلة فإنها تدخل في فعل الاثنين وفعل جميع النساء ، فالاثنان كقولك : (اضربان زيدا) ، وكقوله : (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(١) و (هل تفعلانّ ذلك) وتذهب نون الرفع هاهنا كما ذهبت في فعل الجميع.

وإنما تثبت الألف في (تذهبانّ) ولا تسقط لاجتماع الساكنين لأنها لو سقطت لأشبه فعل الاثنين فعل الواحد ؛ ولأن الذي بعد الألف حرف مشدد فجاز ذلك فيه ، كما جاز في (دابّة) و (الضّالّين) وجعل الحرف المشدد كالحرف الواحد المتحرك ، وجعل المد في الألف كالعوض من الحركة ولم يسقطوا الألف لاجتماع الساكنين كما أسقطوا الواو في (أضربنّ زيدا) و (اضربنّ زيد يا امرأة). ولو قال : (" اضربون زيدا) و (اضربين يا امرأة) لما كان خارجا عن القياس لأنهم يقولون : " تمود الثّوب" و" أصيمّ" و" مديقّ" في تصغير" أصم" و" مدق" غير أن الحذف أولى وأخف فيما لم يشكل وإذا أشكل كان الإثبات أولى فقالوا : " لا تتبعان" فأثبتوا الألف ، لأنهم لو حذفوها لاجتماع الساكنين صار : " لا تتبعنّ" (ووقع لبس) وفي (اضربنّ) و (اضربنّ) لا يقع لبس.

وحذفوا نون الرفع مع نون التوكيد ؛ لأن الواحد في" تضربن" مبني على الفتح ونظير الفتح الذي هو النصب في المعرب حذف النون كقولك : (زيد لن يقوم يا هذا) و (الزيدان لن يقوما) ، و" (الزيدون لن يقوموا) فصار حذف النون بمنزلة النصب وكذلك يصير حذف النون في المثنى بمنزلة الفتح.

ومما احتج به سيبويه أنه بمنزلة (راد ويراد) جعل النون المشددة بمنزلة الدال المشددة في (يراد) ولم تسقط الألف.

وقال : " ولم يكن لحاق الآخر بعد استقرار الأول".

يعني أنه لو كان إحدى النونين أو إحدى الدالين من (راد) وقعت ساكنة بعد الألف وجب حذف الألف كما وجب في (" لم يخف) و (لا تخف) ولو تحركت الفاء بعد ذلك الساكن كقولك : (لم يخف الرجل) لم ترد الألف الذاهبة بعد الفاء.

فإن قال قائل : فلم تثبت الواو في (تمودّ) و (تحوّد) فيما لم يسم فاعله من قوله : (مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ)(٢) ولم تثبت الواو والياء في (اضربنّ) و (أضربنّ)؟

قيل له : لأن الواو في (تمودّ) وما جرى مجراه منقلبة من ألف" ماددت" فكأنها ألف

__________________

(١) سورة يونس ، الآية : ٨٩.

(٢) سورة التوبة ، الآية : ٦٣.

٢٥٨

وياء التصغير إذا حذفت لم يكن قبلها شيء يدل عليها لأن ما قبلها مفتوح فلم يحذفا لذلك والضمة والكسرة في (أضربنّ) و (أضربنّ) دليل على الواو والياء المحذوفتين.

وقد اختلف النحويون في إدخال النون الخفيفة على التثنية وجمع المؤنث.

فكان الخليل وسيبويه لا يريان ذلك.

وكان يونس وناس من النحويين سواه يرون ذلك وهو قول الكوفيين.

والذي احتج به سيبويه أنّا لو أدخلنا النون الخفيفة على الاثنين لوجب أن تقول : (اضربان زيدا) و (لا تضربان عمرا) فيجتمع حرفان ساكنان في وصل الكلام ، الأول من حروف المد واللين والثاني غير مدغم في مثله ولم نر ساكنين اجتمعا في الوسط إلا على أن الأول منهما للمد واللين والثاني مدغم في مثله كقولك : (ضالة) و (دابة) و (تمودّ) و (أصيمّ) فلم يجز إدخال النون الخفيفة ، ولسنا بمضطرين إليها على صورة تخرج بها عن كلام العرب.

فإن قال قائل فقد يلحقه ما يوجب إدغامه فيه فأجيزوا دخوله كقولك : (اضربا نّعمان) و (اضربانّي) النون الأولى من المشددة : النون الخفيفة ، والأخرى : نون نعمان والنون التي في قولنا (ني) للمتكلم.

فإن قال قائل : أجيزوا هذا على هذا الوجه لأنها تقع وبعدها نون مشدد ، كما قال : " لا تتبعان" وأنتم تجيزون الحرف المشدد إذا كان بعد ألف ، فلا يجوز (اضربا نّعمان) و (اضربانيّ) على مذهب سيبويه وأصحابه ؛ لأنا لو أجزنا هذا في (اضربا نّعمان) لوجب إجازته في غيره من الأسماء التي لا نون في أولها ويكون الحكم فيها واحدا. ألا ترى أنك تقول : (هذان عبدا الله) فتسقط ألف التثنية في اللفظ دون الخط من" عبدا" للساكن الذي بعدها.

ولو قال لنا قائل قولوا : (عبدا الله) فأثبتوا الألف ، لأن بعدها لاما مشددة لقلنا له قد يجوز أن نقول : (عبد الواحد) و (عبد الكريم) ولا يقع بعدها لام مشددة فلا تثبت الألف وتحذف لاجتماع الساكنين ، فحمل الباب على طريق واحد.

وكذلك جعل (اضربا نعمان) بإسقاط النون الخفيفة كقولك : (اضربا سعدان) و (اضربا داود) وما أشبه ذلك.

ولو جاز إدخال النون في التثنية لكنا نحتاج أن نحذف ألف التثنية لاجتماع الساكنين فيصير الاثنان كالواحد.

قال سيبويه : ولو أدخلنا النون على الاثنين فاتصل بها نون أخرى لكانت تعتل : تدغم

٢٥٩

أو تحذف" في قولك : " اضرباني" لأنهم قد خففوا من مثل : " تبشّروني" و" فليني" على ما تقدم القول فيه ، وليسوا بمضطرين إليه كما اضطروا إلى علامة الرفع وضمير المؤنث في قوله : " أتحاجّوني" وفي قولك : (هل تضربيني) و (فليني) وما أشبه ذلك.

وما قاله سيبويه أنه لو جاز أن تقول : (اضربا نعمان) من أجل الإدغام لجاز أن تقول : (اضربا نباكما) " وأنت تريد (أضربان أباكما).

وإذا ألقيت حركة الهمزة من" الأب" على النون ؛ لأن النون تتحرك ويقع المتحرك بعد الألف وسيبويه يبطل هذا أيضا ، لأن ذا التحريك ليس بلازم كما أن الإدغام ليس بلازم.

فلا يجوز إدخال النون الخفيفة على الاثنين بوجه ولا سبب.

ويذهب سيبويه إلى أن النون الخفيفة ، ليست بمخففة عن الثقيلة ، وكل واحدة منهما أصل في نفسها ، لأنها لو كانت مخففة من الثقيلة لكانت بمنزلة نون لكن وأن المخففتين من (لكنّ) و (أنّ) وليست كذلك ، لأن حكمها في الوقف يخالف حكم النون تقول : (اضربن زيدا) وإذا وقفت قلت : (اضربا) ونون (أن ولكن) لا تتغير في الوقف وأيضا فإن النون الخفيفة في الفعل إذا لقيها ألف وصل سقطت ، ونون (لكن وأن) لا تسقط فعلم إنها غير مخففة من الثقيلة.

قال الخليل : إذا أردت النون الخفيفة في فعل الاثنين كان بمنزلته إذا لم ترد الخفيفة فقال قائل : وكيف يجوز أن تريد الخفيفة وأنت لا تجيز دخولها بوجه على فعل الاثنين؟ فإن الجواب في ذلك على ما ذكره بعض أصحابنا أن رجلا لا يكون من عادته إدخال النون في فعل الواحد والجماعة بضرب مما ينويه من التوكيد إذا أمر ، فإذا عرف له فعل الاثنين فأراد ذلك التوكيد لم يتجاوز لفظ الاثنين بلا توكيد ، وإن أراد التوكيد الذي جرت عادته به ، وما قد عرف منه يغني عن إظهار ذلك في هذا الفعل ، إن كان لا يجوز إدخاله فيه.

ثم اجتمع سيبويه في إبطال ذلك وإبطال (اضربا نّعمان) بأنه لو جاز (اضربا نعّمان) لما وقع التشديد بعد الألف فيما لم يكن يجوز في غير نعمان لجاز أن تقول : (جيئوني) و (جيئون نعمان) إذا أردت النون الخفيفة ، وذلك أنا ندخل النون الخفيفة على (جيئوا) فتقول : " جيئون يا قوم" فتحذف الواو التي كانت في (جيئوا) لاجتماع الساكنين الواو والنون فإذا وصلنا به نون المتكلم ونون نعمان اندغمت فيه النون الخفيفة ولا ترد الواو وإن كان بعدها نون مشددة ، لأنها قد سقطت لاجتماع الساكنين والتشديد غير لازم.

٢٦٠