الحدائق الناضرة - ج ١٠

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٩

المشهور بين الأصحاب المتلقاة بينهم بالقبول المعتمد عليها في الفتوى ، وقد أجمعوا على ترك العمل بظاهر هذه الرواية ، وقد قال الصادق (عليه‌السلام) (١) «خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ الذي ليس بمشهور فان المجمع عليه لا ريب فيه». والله الهادي. انتهى كلامه زيد مقامه.

أقول : لا ريب ان الذي أوجب لهما (نور الله مرقديهما) ارتكاب هذه التأويلات البعيدة والتمحلات السخيفة الغير السديدة انما هو صعوبة المخرج من هذه الشروط المذكورة التي اشتمل عليها الخبر وعدم سهولة القيام بها كما أمر سيما مع قولهم بعموم ذلك في إمام الجماعة والشاهد ، وإلا فمع تخصيص الخبر بالنائب عنهم (عليهم‌السلام) في القضاء والفتوى لا استبعاد فيه عند من تأمل في غيره من الأخبار المؤيدة له كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى. وصعوبة الأمر بالنسبة إلى القضاء والفتوى اللذين هما من خواص النائب عنهم (عليهم‌السلام) لا يوجب طعنا في الخبر فإنه انما نشأ من المكلفين بإخلالهم بما أخذ عليهم في الجلوس في هذا المجلس الشريف والمحل المنيف فإنه مقام خطير ومنصب كبير كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى وأكد الشبهة المذكورة ما اشتهر بين الناس في أكثر الأعصار والأمصار من ان النائب عنهم (عليهم‌السلام) هو كل من كانت له اليد الطولى والمرتبة العليا في هذه العلوم الرسمية وان لم يتصف بشي‌ء من علم الأخلاق سيما ان هذا العلم اندرست مراسمه وانطمست معالمه كما أشرنا إليه آنفا.

والذي يدل على ما قلناه من خروج هذا الخبر بالنسبة إلى النائب عنهم (عليهم‌السلام) (أولا) ما ذكره الإمام العسكري (صلوات الله عليه) في التفسير المتقدم ذكره من الكلام قبل هذا الخبر ثم صب عليه هذا الخبر وصاحب الاحتجاج إنما أخذه من الكتاب المذكور :

__________________

(١) في مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في الوسائل الباب ٩ من صفات القاضي.

٦١

قال (عليه‌السلام) (١) : «حدثني ابى عن جدي عن أبيه عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ان الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء فإذا لم ينزل عالم الى عالم يصرف عنه طلاب حطام الدنيا وحرامها ويمنعون الحق أهله ويجعلونه لغير أهله واتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا. وقال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) يا معشر شيعتنا المنتحلين لمودتنا إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن تفلتت منهم الأحاديث ان يحفظوها وأعيتهم السنة ان يعوها فاتخذوا عباد الله خولا وماله دولا فذلت لهم الرقاب وأطاعهم الخلق أشباه الكلاب ونازعوا الحق اهله وتمثلوا بالأئمة الصادقين (عليهم‌السلام) وهم من الكفار الملاعين فسئلوا فأنفوا ان يعترفوا بأنهم لا يعلمون فعارضوا الدين بآرائهم فضلوا وأضلوا ، اما لو كان الدين بالقياس لكان باطن الرجلين اولى بالمسح من ظاهرهما. وقال الرضا (عليه‌السلام) قال على بن الحسين (عليهما‌السلام) : إذا رأيتم الرجل. الحديث الى آخره».

وهو كما ترى واضح في ما ادعيناه ، وسياق كلامه (عليه‌السلام) وان كان بالنسبة إلى علماء العامة إلا انه شامل لمن حذا حذوهم في الإخلال بتلك الشروط سيما مع ما في الرواية المذكورة والدخول في هذا الأمر الخطير مع الاتصاف بتلك الأمور المذكورة.

و (ثانيا) ما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن ابى عبد الله عن أمير المؤمنين (عليهما‌السلام) (٢) انه كان يقول «يا طالب العلم ان العلم ذو فضائل كثيرة فراسة التواضع وعينه البراءة من الحسد واذنه الفهم ولسانه الصدق وحفظه الفحص وقلبه حسن النية وعقله معرفة الأشياء والأمور ويده الرحمة ورجله زيارة العلماء وهمته السلامة وحكمته الورع ومستقره النجاة وقائده العافية ومركبة الوفاء وسلاحه لين الكلام وسيفه الرضا وقوسه المداراة وجيشه محاورة العلماء ومآله الأدب وذخيرته اجتناب الذنوب وزاده المعروف ومأواه الموادعة ودليله الهدى

__________________

(١) مستدرك الوسائل الباب ١٠ رقم ٦ والباب ٦ رقم ٣٣ من صفات القاضي.

(٢) الأصول ج ١ ص ٤٨.

٦٢

ورفيقه محبة الأخيار».

أقول : انظر أيدك الله تعالى الى ما دل عليه هذا الخبر الشريف من جعله هذه الأخلاق الملكوتية أجزاء من العلم وآلات له وأسبابا وأعوانا فكيف يكتفى في علم العالم والرجوع اليه والاعتماد في الأحكام الشرعية عليه بمجرد اتصافه بالعلوم الرسمية وعدم اتصافه بهذه الأخلاق الملكوتية.

قال المحقق المدقق ملا محمد صالح المازندراني في شرحه على الكتاب ما صورته : نبههم على ان العلم إذا لم تكن معه هذه الفضائل التي بها تظهر آثاره فهو ليس بعلم حقيقة ولا يعد صاحبه عالما. الى ان قال ـ بعد شرح الفضائل المذكورة ـ ما لفظه : وهي أربعة وعشرون فضيلة من فضائل العلم ، فمن اتصف بالعلم واتصف علمه بهذه الفضائل فهو عالم رباني وعلمه نور إلهى متصل بنور الحق مشاهد لعالم التوحيد بعين اليقين ، ومن لم يتصف بالعلم أو اتصف به ولم يتصف علمه بشي‌ء من هذه الفضائل فهو جاهل ظالم لنفسه بعيد عن عالم الحق وعلمه جهل وظلمة يرده إلى أسفل السافلين ، وما بينهما مراتب كثيرة متفاوتة بحسب تفاوت التركيبات في القلة والكثرة وبحسب ذلك يتفاوت قربهم وبعدهم عن الحق ، والكل في مشيئة الله تعالى ان شاء قربهم ورحمهم وان شاء طردهم وعذبهم. انتهى كلامه علت في الخلد اقدامه. وهو كما ترى صريح في ما قلناه واضح في ما ادعيناه.

وروى في الكتاب المذكور (١) بسنده الى ابى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «طلبة العلم ثلاثة فاعرفهم بأعيانهم وصفاتهم : فصنف يطلبه للجهل وصنف يطلبه للاستطالة والختل وصنف يطلبه للفقه والعقل ، فصاحب الجهل والمراء مؤذ ممار متعرض للمقال في أندية الرجال يتذاكر العلم وصفة الحلم قد تسربل بالخشوع وتخلى من الورع فدق الله تعالى من هذا خيشومه وقطع منه حيزومه ، وصاحب الاستطالة والختل ذو خب وملق يستطيل على مثله من أشباهه ويتواضع للأغنياء

__________________

(١) الأصول ج ١ ص ٤٩.

٦٣

من دونه فهو لحلوائهم هاضم ولدينه حاطم فأعمى الله على هذا خبره وقطع من آثار العلماء أثره ، وصاحب الفقه والعقل ذو كآبة وحزن وسهر قد تحنك في برنسه وقام الليل في حندسه يعمل ويخشى وجلا داعيا مشفقا مقبلا على شأنه عارفا بأهل زمانه مستوحشا من أوثق إخوانه فشد الله من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانة». الى غير ذلك من الأخبار المذكورة في الكتاب المذكور وغيره.

أقول : وحينئذ فإذا كانت العلماء كما ذكره (عليه‌السلام) من هذه الصفات الذميمة والأخلاق الغير القويمة فكيف يكتفى بمجرد ظاهر الاتصاف بهذه العلوم الرسمية وعدم استنباط أحوالهم وتمييز الفرد الذي يجوز الاقتداء به؟ وهل كلام الامام زين العابدين (عليه‌السلام) في ذلك إلا لاستعلام هذا الفرد المشار إليه في هذا الخبر من هذين الفردين المشابهين له في بادئ النظر؟ ولا ريب انه لاشتراكهم في بادئ الأمر في الخضوع والخشوع والاتصاف بهذه العلوم الرسمية يدق الفرق ويحتاج الى مزيد تلطف وتأمل.

ويؤيد ما قلناه ما ذكره المحدث الكاشاني في بعض رسائله حيث قال : ان من أهل الشقاء لمن يبطن شقاءه فيلتبس أمره على الذين لا يعلمون ، ثم انه ليتوغل في الخفاء لتوغله في الشقاء فيذهب على الألباء أولى الذكاء حتى انهم يحسبون انهم مهتدون ، لشدة الشبه بين الفريقين وكثرة الشبه بين النجدين ولبس النفاق بالإذعان لمكان النفاق في نوع الإنسان ، وكلما كان أحد المتقابلين من الآخر أبعد كان الاشتباه أكثر وأشد فإن أرباب الرئاسة الدينية أمرهم في الأغلب غير مبين لمكان المرائين ، وهذه هي المصيبة الكبرى في الدين والفتنة العظمى لبيضة المسلمين وهي التي أوقعت الجماهير في الحرج وامالتهم عن سبيل المخرج ، إذ من الواجب اتباع الأذناب للرأس والرأس قد خفي في نفاق الناس ولذلك تقاتل الفئة التي تبغي حتى تفي‌ء إلى أمر الله. انتهى.

وبالجملة فإنه لما كان علم الأخلاق الذي هو عبارة عن تحلية النفس بالفضائل

٦٤

وتخليتها من الرذائل أحد أفراد العلوم بل هو أصلها وأساسها الذي عليه مدارها بل هو رأسها وهو الممدوح في الآيات والأخبار بقوله تعالى «إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» (١) وقوله «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ). الآية» (٢) فإن الخشية والإنذار إنما يترتب على علوم الآخرة لا هذه العلوم الرسمية وكذلك الاخبار ، وقد عرفت من الأخبار وكلام جملة من علمائنا الأبرار ان من العلماء من هو خال من تلك العلوم أو متصف بأضدادها مع تلبسه بلباس العلماء الأبرار وإظهار الخشوع والخضوع والانكسار وقد دلت الأخبار على الحث والتأكيد على المنع عن الركون الى هؤلاء والانخداع بما يظهرونه والاغترار فالواجب حينئذ هو البحث والفحص عن أحوال العلماء والتمييز بين الفسقة منهم والأبرار كما نص عليه الخبر المشار اليه وغيره من الأخبار الجارية في هذا المضمار. وأيضا فإنه لا تتحقق نيابة هذا العالم وصحة تقليده ووجوب متابعته إلا بوجود شروطها ومن جملتها العلم باتصافه بتلك الصفات الجليلة والتخلي من كل منقصة ورذيلة

والأخبار التي دلت على الاكتفاء في العدالة بحسن الظاهر كما هو الأظهر أو الإسلام إنما موردها الشاهد والامام ولا دلالة فيها على التعرض للنائب عنهم (عليهم‌السلام) الذي هو محل البحث في المقام ، وحينئذ فلا معارض لهذا الخبر وأمثاله في ما ادعيناه ولا مناقض له في ما قلناه.

وبذلك يظهر لك ما في كلام ذينك الفاضلين من القصور لعدم اعطائهما التأمل حقه في الأخبار وما أطال ذلك الشيخ الصالح بعد نقل كلام أستاذه من المعارضة بصحيحة عبد الله بن ابى يعفور ونحوها وطعنه في الخبر المذكور بالشذوذ مع ما عرفت من تأيده بالأخبار الواضحة المنار وكلام جملة من علمائنا الأبرار.

ومن أراد الوقوف على صحة ما ذكرناه زيادة على ما رسمناه في هذا الكتاب فليرجع الى كتابنا الدرر النجفية (٣) فإنه قد أحاط بأطراف الكلام بإبرام النقض ونقض

__________________

(١) سورة الفاطر الآية ٢٥.

(٢) سورة التوبة الآية ١٢٣.

(٣) سيأتي في الاستدراكات ما يتعلق بالمقام ان شاء الله تعالى.

٦٥

الإبرام في هذا المقام ونقل جملة وافرة من اخبارهم (عليهم‌السلام) وجملة من كلمات علمائنا الأعلام الجارية على وفق تلك الأخبار المذكورة في المقام. والله الهادي لمن يشاء.

(المقام السادس) إذا علم المكلف من نفسه الفسق مع كونه على ظاهر العدالة بين الناس فهل يجوز له الدخول في الأمور المشروطة بالعدالة من الإمامة في الجمعة والجماعة والشهادة والحكم بين الناس والفتوى ونحو ذلك أم لا؟

ظاهر جملة من الأصحاب : منهم ـ شيخنا الشهيد الثاني في المسالك الأول ، قال في الكتاب المذكور ـ في الكلام على شاهدي الطلاق بعد ان ذكر انه لا يقدح فسقهما واقعا مع ظهور عدالتهما بالنسبة إلى غيرهما ـ ما صورته : وهل يقدح فسقهما في نفس الأمر بالنسبة إليهما حتى انه لا يصح لأحدهما أن يتزوج بها أم لا نظرا الى حصول شرط الطلاق وهو العدالة ظاهرا؟ وجهان ، وكذا لو علم الزوج فسقهما مع ظهور عدالتهما ففي الحكم بوقوع الطلاق بالنسبة إليه حتى تسقط عنه حقوق الزوجية ويستبيح أختها والخامسة وجهان ، والحكم بصحته فيهما لا يخلو من قوة.

وظاهر شيخنا أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني موافقته في ذلك حيث انه في بعض أجوبة المسائل سئل عن ذلك فأجاب بعد الاستشكال وقال بالنسبة إلى الحكم الأول الذي تقدم في عبارة المسالك : واما بالنسبة إليهما ففيه كلام والحكم بالصحة لا يخلو من قوة. وقال بعد الحكم الثاني : وللتوقف في المسألة مجال وان كانت الصحة غير بعيدة. وظاهر الفاضل المولى محمد باقر الخراساني في الكفاية موافقته في الأول دون الثاني.

وأنت خبير بان مقتضى كلامهم هنا جواز الإمامة في الجمعة والجماعة والفتوى والحكم وجواز اقتداء من علم الفسق مع ظهور العدالة لأن الجميع من باب واحد.

وظاهر المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح حيث انه من رؤوس الأخباريين

٦٦

التوقف في المقام حيث قال : ولو نواها ـ يعني الإمامة ـ وعد نفسه من أحد الشاهدين وكان تائبا عن المعاصي جاز له ذلك اما لو كان مصرا على المعاصي مرتكبا للكبائر فإشكال وللأصحاب فيه قولان : أحدهما الجواز لان المدار انما هو على اعتقاد المؤتم أو المطلق وبناء الأمور على الظاهر دون الباطن ، ومن حيث انه إغراء بالقبيح لأنه عالم بفسق نفسه فكيف يتقلد ما ليس له خصوصا في الجماعة الواجبة كالجمعة. والأحكام الشرعية انما جرت على الظاهر إذا لم يكن الاطلاع على الباطن وهو مطلع على حقيقة الأمر. والأول أوفق بالقواعد الأصولية إلا انه لما لم يكن نص في المسألة واعتقادنا ان لا مناط في الأحكام الشرعية سواه وجب الوقوف عن الحكم والعمل بالاحتياط في العلم والعمل ورد ما لم يأتنا به علم من أهل العصمة (عليهم‌السلام) لقول الصادق (عليه‌السلام) (١) «ارجه حتى تلقى إمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات». انتهى.

أقول ـ وبالله سبحانه الاستعانة ومنه التوفيق لبلوغ كل مأمول ـ لا يخفى ان ما ذكروه (قدس الله أسرارهم) من جواز تقلد العالم بفسق نفسه للأمور المشروطة بالعدالة وان كان مما يتراءى في بادئ النظر صحته بناء على ما ذكره المحدث المذكور من ان المدار في الصحة والبطلان انما هو على اعتقاد المؤتم أو المطلق وان الأمور انما بنيت على الظاهر ، ويؤيده أيضا تحريم أو كراهة إظهار الإنسان عيوب نفسه للناس ووجوب أو استحباب سترها ووجوب ستر غيره عليه لو اطلع على معصية منه ، إلا ان الذي ظهر لي من التأمل في المقام ومراجعة أخبارهم (عليهم‌السلام) خلاف ذلك وتوضيح ذلك ان ظاهر الآية (٢) والأخبار الدالة على النهى عن قبول خبر الفاسق (٣) والنهى عن الصلاة خلفه (٤) انما هو من حيث الفسق لان التعليق على

__________________

(١) في مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في الوسائل الباب ٩ من صفات القاضي.

(٢) قوله تعالى «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ...» في سورة الحجرات الآية ٦.

(٣) الوسائل الباب ٣٠ من الشهادات.

(٤) الوسائل الباب ١١ من صلاة الجماعة.

٦٧

الوصف يشعر بالعلية وهو مشعر بان الفاسق ليس أهلا لهذا المقام ولا صالحا لتقلد هذه الأحكام ، وإذا كان الشارع لم يره أهلا لذلك ولا صالحا لسلوك هذه المسالك فهو في معنى منعه له عن ذلك فادخاله نفسه في ما لم يره الله أهلا له وتعرضه له موجب لمخالفته له (عزوجل) ومجرد تدليس وتلبيس حمله عليه إبليس. وجواز اقتداء الناس به وقبول شهادته من حيث عدم ظهور فسقه لهم لا يدل على جواز الدخول لان حكم الناس في ذلك على حده وحكمه هو في نفسه على حدة والكلام انما هو في الثاني وأحدهما لا يستلزم الآخر. ونظيره في الأحكام الشرعية غير عزيز فان لحم الميتة حكمه في حد ذاته الحرمة وعدم جواز أكله وبالنسبة الى من لا يعلم بكونه ميتة جواز اكله.

ويؤيد ما قلناه ظواهر جملة من الأخبار مثل صحيحة أبي بصير عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «خمسة لا يؤمون الناس على كل حال : المجذوم والأبرص والمجنون وولد الزنا والأعرابي». ونحوها صحيحة محمد بن مسلم عن ابى جعفر (عليه‌السلام) وقد تقدمت (٢).

والتقريب فيهما ان ظاهرهما توجه النهي إلى هؤلاء عن الإمامة بالناس لأنهم ليسوا من أهلها باعتبار ما هم عليه من الأمور المذكورة المانعة من أهلية الإمامة ، وبعض الأخبار وان ورد أيضا في نهى الناس عن الائتمام بهم إلا انه انما يتوجه إلى المؤتمين واما في هذين الخبرين الصحيحين فإنما هو متوجه الى الامام بان لا يكون من أحد هؤلاء ، فلو فرضنا عدم علم الناس بما هم عليه من هذه الصفات المانعة من الائتمام مع اعتقادهم العدالة فيهم فإنه يجوز لهم الاقتداء بهم بناء على الظاهر إلا انه بمقتضى هاتين الصحيحتين لا يجوز لهم الإمامة لما هم عليه من الموانع المذكورة وان خفيت على الناس ، ولا أظن أحدا يخالف في ما قلناه. وهذا بعينه جار في الفاسق الذي هو محل البحث بان كان عالما بفسق نفسه وان خفي على الناس.

__________________

(١) الوسائل الباب ١٥ من صلاة الجماعة.

(٢) ص ٦.

٦٨

ويؤيد ما ذكرنا ما ورد في اخبار الفتوى والحكم مثل ما تقدم قريبا من قول أمير المؤمنين (عليه‌السلام) (١) لشريح «يا شريح جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي». وقول ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٢) «اتقوا الحكومة فإن الحكومة انما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين كنبي أو وصى نبي». والأخبار المانعة من تقليد العلماء واتباعهم إلا بعد معرفة عدالتهم كحديث على بن الحسين (عليه‌السلام) المتقدم ذكره (٣) ونحوه ، فان الجميع ظاهر في النهي عن من لم يكن مستكملا لأسباب النيابة وشرائطها وأهلية الحكم والفتوى ، ولا ريب ان من أعظم الأسباب المانعة الفسق فهي ظاهرة في منع الفاسق من الجلوس في هذا المقام وان كان ظاهر العدالة بين الأنام وعدم جواز تقلده للاحكام. وجواز تقليد الناس له من حيث عدم ظهور فسقه لهم لا يدل على جوازه له لانه عالم بان الشارع قد منع الناس من اتباع الفاسق وتقليده وليس الا من حيث فسقه ، فالفسق صفة مانعة من تقلد هذه الأمور عند الله جل شأنه فكيف يجوز له مخالفة ذلك وتقلد الأمور بناء على ظن الناس العدالة فيه؟ وقد عرفت ان حكم الناس غير حكمه في حد ذاته.

وكلام من قدمنا كلامه وان كان مخصوصا بمسألة الشهادة والإمامة إلا ان الحكم في المواضع الثلاثة واحد ، فان مبنى الكلام هو انه هل يكتفى بظهور العدالة في جواز التقلد للأمور المشروطة بها وان لم يكن كذلك واقعا أم لا بد من ثبوتها واقعا؟ فالإشكال والكلام جار في جميع ما يشترط فيه العدالة وهذا أحدها ، وحينئذ فما ذكروه انما جرى مجرى التمثيل لا الحصر.

ومن أظهر الأدلة على ما قلناه ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب السياري (٤) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) قوم من مواليك

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٣ من صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به.

(٣) ص ٥٨.

(٤) الوسائل الباب ١١ من صلاة الجماعة.

٦٩

يجتمعون فتحضر الصلاة فيقدم بعضهم فيصلي بهم جماعة؟ فقال ان كان الذي يؤم بهم ليس بينه وبين الله طلبة فليفعل».

وهو كما ترى ظاهر الدلالة صريح المقالة في انه لا يجوز الإمامة لمن علم من نفسه الفسق حتى يتوب توبة نصوحا ويقلع عنه إقلاعا صحيحا. ومورد الخبر وان كان الإمامة إلا انه جار في غيرها بالتقريب الذي تقدم ذكره.

(فان قلت) انكم قد فسرتم العدالة في ما سبق بحسن الظاهر المجامع للفسق باطنا وكلامكم هنا يشعر بأن العدالة لا يجوز مجامعتها للفسق باطنا لمنعكم له من الدخول في الأمور المشروطة بالعدالة إذا علم من نفسه الفسق؟

(قلت) لا يخفى ان العدالة بالنسبة إلى المكلف المتصف بها غيرها بالنسبة إلى غيره ممن يتبعه ، فإنها بالنسبة إليه عبارة عن عدم اتصافه بما يوجب الفسق والخروج عن العدالة وهو الذي أشار إليه صحيح ابن ابى يعفور من اتصافه بالستر والعفاف الى آخر تلك الأوصاف كما تقدم إيضاحه ، وبالنسبة إلى غيره عبارة عن عدم ظهور ما يوجب الفسق منضما الى معرفته بتلك الأوصاف المذكورة في الخبر ، وعلى هذا فمن ظهر منه ذلك مع كونه واقعا ليس كذلك يكون عدلا في الظاهر يجوز قبول شهادته والائتمام به وامتثال أوامره وأحكامه وفتاويه وان كان فاسقا في الباطن يحرم عليه الدخول في تلك الأمور ويأثم ويؤاخذ بالدخول فيها وان صح اتباع الناس له فهو له حكم في حد ذاته وللناس معه حكم آخر ، نظير من صلى بالناس على غير طهارة متعمدا مع اعتقاد الناس فيه العدالة فإن صلاتهم تكون صحيحة لحصول شرطها المذكور وصلاته هو تكون باطلة لفوات شرطها بالنسبة اليه ، وصحة صلاتهم خلفه لا توجب له جواز الإمامة بهم بناء على اعتقادهم فيه العدالة فكذا ما نحن فيه. ومنشأ الوهم في كلام الجماعة المتقدم ذكرهم انهم رتبوا العدالة والاتصاف بها على اعتقاد الغير من مطلق مثلا ومؤتم ومستفت ونحوهم وغفلوا عنها بالنسبة الى من يتصف بها ، وقد عرفت من ما حققناه ان لها اعتبارا بالنسبة الى من يتصف بها غيره

٧٠

بالنسبة إلى غيره من هؤلاء المذكورين ونحوهم.

ومما يؤيد ما ذكرنا أيضا صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع (١) قال : «مات رجل من أصحابنا ولم يوص فرفع امره الى قاضي الكوفة فصير عبد الحميد القيم بماله وكان الرجل خلف ورثة صغارا ومتاعا وجواري فباع عبد الحميد المتاع فلما أراد بيع الجواري ضعف قلبه في بيعهن إذ لم يكن الميت صير اليه وصية وكان قيامه بهذا بأمر القاضي لأنهن فروج ، قال فذكرت ذلك لأبي جعفر (عليه‌السلام) فقلت له يموت الرجل من أصحابنا ولم يوص الى أحد ويخلف جواري فيقيم القاضي رجلا منا ليبيعهن أو قال يقوم بذلك رجل منا فيضعف قلبه لأنهن فروج فما ترى في ذلك القيم؟ فقال إذا كان القيم به مثلك ومثل عبد الحميد فلا بأس». فإن المراد منه المماثلة في الوثاقة والعدالة.

ورواية سماعة (٢) قال : «سألته عن رجل مات وله بنون وبنات صغار وكبار من غير وصية وله خدم ومماليك وعقد كيف يصنع الورثة بقسمة ذلك الميراث؟ قال ان قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله فلا بأس».

ولا ريب ان ما تضمنه هذان الخبران من جملة المواضع المشترط فيها العدالة باتفاق الأصحاب لأن هذا من الأمور الحسبية التي صرحوا بأنها ترجع الى الفقيه الجامع للشرائط وهو النائب عنهم (عليهم‌السلام) ومع تعذره يقوم بها عدول المؤمنين ، وهما ظاهران في اشتراط عدالة القائم بذلك في نفسه وحد ذاته لا بالنظر الى الغير فإنه إنما رخص له الدخول بشرط اتصافه بذلك.

ويؤيد ذلك بأوضح تأييد ويشيده بأرفع تشييد ان الظاهر المتبادر من الآية والأخبار المصرح فيها بالعدالة واشتراطها في الشاهد مثل قوله عزوجل «وَأَشْهِدُوا

__________________

(١) الوسائل الباب ١٦ من عقد البيع وشروطه.

(٢) الوسائل الباب ٨٨ من الوصايا. والراوي في نسخ الحدائق (رفاعة) والصحيح ما هنا كما تقدم في ص ٣٢.

٧١

ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ» (١) وقولهم (عليهم‌السلام) (٢) «يطلقها بحضور عدلين» و «إذا أشهد عدلين». ونحو ذلك هو اتصاف الشاهد بالعدالة في حد نفسه وذاته لا بالنظر الى غيره ، إذ لا يخفى ان قولنا فلان عدل وفلان ثقة مثل قولنا فلان عالم وشجاع وجواد ونحو ذلك ، ومن المعلوم ان المراد في جميع ذلك انما هو اتصافه بهذه الصفات في حد ذاته غاية الأمر انه قد يتطابق علم المكلف والواقع في ذلك وقد يختلفان بان يكون كذلك في نظر المكلف وان لم يكن واقعا وحينئذ فيلزم كلا حكمه ، فيلزم من اعتقد عدالته بحسب ما يظهر من حاله جواز الاقتداء به مثلا وقبول شهادته ويلزمه هو عدم جواز الدخول في ذلك وكذا يلزم من اطلع على فسقه عدم جواز الاقتداء به ، وحينئذ فإذا كان المراد من الآية والأخبار المشار إليها انما هو اتصافه في حد ذاته فكيف يجعل المناط في حصول العدالة باعتبار الغير كما توهموه وبنوا عليه ما بنوا من الفروع المذكورة؟ ولا ريب انه متى كان ذلك انما هو بالنسبة إليه في حد ذاته فإنه لا يجوز له الدخول في ما هو مشروط بالعدالة البتة.

وبذلك يظهر لك ما في كلام صاحب المسالك ومن تبعه من الوهن والقصور ولا سيما في فرضه الثاني وهو ما إذا علم الزوج فسقهما فطلق بحضورهما مع ظهور عدالتهما بين الناس فإنه أوهن من بيت العنكبوت وانه لأوهن البيوت ، ومقتضى تجويزه الطلاق هنا جواز اقتداء من علم فسق الامام به في الصلاة مع ظهور عدالته بين الناس وهكذا قبول فتواه وأحكامه ، والجميع في البطلان أوضح من أن يحتاج الى بيان عند ذوي الأفهام والأذهان. والعجب من شيخنا الشيخ سليمان المتقدم ذكره في تردده أولا ثم ميله الى ما في المسالك من غير إيراد دليل معتمد ولا بيان مستند إلا مجرد التقليد لما في المسالك ، ونحوه الفاضل الآخر. وبالجملة فالطلاق في الصورتين المفروضتين مما لا إشكال في بطلانه ولا سيما الثانية. والله العالم بحقائق أحكامه.

(المقصد الثاني) في العدد ، لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم)

__________________

(١) سورة الطلاق الآية ٢.

(٢) الوسائل الباب ١٠ من مقدمات الطلاق وشرائطه.

٧٢

كما نقله غير واحد من معتمديهم ـ في اعتبار العدد واشتراطه في صحة صلاة الجمعة ووجوبها ، انما الخلاف في أقله وفيه قولان (أحدهما) ـ وهو المشهور انه خمسة الامام وأربعة معه من المتصفين بالصفات الآتية ان شاء الله تعالى ، وهو قول الشيخ المفيد والمرتضى وابن الجنيد وابن ابى عقيل وابن إدريس والمحقق والعلامة وغيرهم ، و (ثانيهما) ـ أنه سبعة في الوجوب العيني وخمسة في الوجوب التخييري ذهب اليه الشيخ وابن البراج وابن زهرة وهو المنقول عن الصدوق وإليه مال الشهيد في الذكرى.

واستدل للقول الأول بالآية (١) والتقريب فيها ان الأمر للوجوب ثبت الاشتراط بالخمسة بالاتفاق عليها والأخبار الكثيرة (٢) والزائد منتف لفقد الدليل

وعندي ان الاستدلال بالآية في هذا المقام محل نظر ؛ فإن الآية مطلقة وليس فيها اشارة فضلا عن التصريح باشتراط العدد ولا كميته ، وتقييدها بأخبار الخمسة يرجع الى الاستدلال بأخبار الخمسة لا الى الآية من حيث هي.

والتحقيق ان المرجع في الاستدلال انما هو الأخبار وهي مختلفة أيضا كما ستقف عليها ان شاء الله تعالى :

ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن منصور بن حازم عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «يجمع القوم يوم الجمعة إذا كانوا خمسة فما زاد فان كانوا أقل من خمسة فلا جمعة لهم».

وما رواه الكليني والشيخ في الصحيح أو الحسن عن زرارة (٤) قال : «كان أبو جعفر (عليه‌السلام) يقول : لا تكون الخطبة والجمعة وصلاة ركعتين على أقل من خمسة رهط : الامام وأربعة».

__________________

(١) قوله تعالى في سورة الجمعة الآية ٩ «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ).».

(٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٢ من صلاة الجمعة.

٧٣

وما رواه الشيخ في الموثق عن ابن ابى يعفور عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «لا تكون جمعة ما لم يكن القوم خمسة».

وعن الفضل بن عبد الملك في الصحيح (٢) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول إذا كان قوم في قرية صلوا الجمعة أربع ركعات فان كان لهم من يخطب بهم جمعوا إذا كانوا خمسة نفر. الحديث».

وما رواه الصدوق في الصحيح عن الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال في صلاة العيدين : «إذا كان القوم خمسة أو سبعة فإنهم يجمعون الصلاة كما يصنعون يوم الجمعة».

وعن زرارة في الصحيح (٤) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) على من تجب الجمعة؟ قال تجب على سبعة نفر من المسلمين ولا جمعة لأقل من خمسة من المسلمين أحدهم الإمام فإذا اجتمع سبعة ولم يخافوا أمهم بعضهم وخطبهم».

وما رواه في الخصال في الصحيح عن عاصم بن حميد عن ابى بصير عن ابى جعفر (عليه‌السلام) (٥) قال : «لا تكون الجمعة بأقل من خمسة».

وما رواه الشيخ عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر (عليه‌السلام) (٦) قال : «تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين ولا تجب على أقل منهم : الامام وقاضيه والمدعى حقا والمدعى عليه والشاهدان والذي يضرب الحدود بين يدي الامام».

وعن عمر بن يزيد في الصحيح عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٧) قال : «إذا كانوا سبعة يوم الجمعة فليصلوا في جماعة».

وما رواه الكشي في كتاب الرجال عن على بن محمد بن قتيبة عن الفضل بن شاذان عن ابن ابى عمير عن غير واحد من أصحابنا عن محمد بن حكيم وغيره عن محمد بن مسلم عن محمد بن على عن أبيه عن جده عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٨) في الجمعة قال : «إذا اجتمع خمسة أحدهم الإمام فعليهم ان يجمعوا».

أقول : الظاهر من مجموع هذه الأخبار باعتبار ضم بعضها الى بعض هو ما ذهب

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦ و ٧ و ٨) الوسائل الباب ٢ من صلاة الجمعة.

٧٤

إليه الشيخ فإنه الذي تجتمع عليه الأخبار ، واما العمل بالقول المشهور فهو موجب لطرح أخبار السبعة من البين مع ما يشير اليه بعضها من أن أخبار الخمسة إنما أريد بها التخيير مثل قوله (عليه‌السلام) في رواية محمد بن مسلم «تجب على سبعة نفر ولا تجب على أقل منهم» يعنى انها تجب عينا على السبعة ولا تجب عينا على أقل منهم ، لان هذا المعنى هو الذي يجتمع به مع الأخبار المتقدمة الدالة على الخمسة ، وقوله في صحيحة زرارة «تجب على سبعة نفر ولا جمعة لأقل من خمسة» فان النفي هنا متوجه الى كل من العيني والتخييري بمعنى ان الأقل من خمسة لا وجوب عليهم مطلقا ومفهومه ان الخمسة تجب عليهم مع حكمه أولا وأخيرا بتخصيص الوجوب بالسبعة ولا وجه للجمع إلا باعتبار جعل الوجوب في جانب السبعة عينيا وفي جانب الخمسة تخييريا ، ونحو ذلك التخيير بين الخمسة والسبعة في صحيحة الحلبي فإنه لا وجه له إلا باعتبار ما ذكرناه. وصحيحة عمر بن يزيد قد اختصت بالسبعة ومفهوم الشرط فيها يدل على نفى الوجوب عن الأقل من سبعة مع دلالة الأخبار المتقدمة على الوجوب بالخمسة ولا وجه للجمع إلا ما ذكرناه. ولو جعل شرط الوجوب الخمسة خاصة كما هو المشهور لكان ذكر السبعة في جميع هذه الأخبار لغوا بل مفسدا لمعنى الأخبار المذكورة ، على ان اخبار الخمسة لا ظهور فيها فضلا عن الصراحة في الوجوب العيني كما لا يخفى.

قال المحقق (قدس‌سره) في المعتبر ـ بعد نقل رواية محمد بن مسلم دليلا لقول الشيخ بالسبعة وصحيحة زرارة الاولى وموثقة ابن ابى يعفور دليلا للقول المشهور ـ ما صورته : ونحن نرى العمل على الوجوب مع الخمسة لأنها أكثر ورودا ونقلة ومطابقة لدلالة القرآن. ولو قال ـ اخبار الخمسة لا تتضمن الوجوب وليس البحث في الجواز بل في الوجوب ورواية محمد بن مسلم تتضمن سقوط الوجوب عن من قل عددهم عن سبعة فكانت أدل على موضع النزاع ـ قلنا ما ذكرته وان كان ترجيحا لكن روايتنا دالة على الجواز ومع الجواز تجب للآية فلو عمل

٧٥

برواية محمد بن مسلم لزم تقييد الأمر المطلق المتيقن بخبر الواحد ولا كذا مع العمل بالأخبار التي اخترناها ، على انه لا يمكن العمل برواية محمد بن مسلم لانه خص السبعة بمن ليس حضورهم شرطا فسقط اعتبارها. انتهى.

وأنت خبير بما فيه بعد ما عرفت فان دليل السبعة غير منحصر في رواية محمد ابن مسلم المذكورة بل قد عرفت دلالة جملة من الروايات على ذلك بالتقريب الذي ذكرناه واللازم من ما ذهب اليه هو طرحها على كثرتها وصحة بعضها وهو بعيد عن جادة الإنصاف والصواب سيما مع إمكان الجمع بين الجميع بما ذكرناه. وأما دعواه مطابقة أخبار الخمسة لظاهر القرآن فهو ممنوع لأن الآية كما عرفت لا اشعار فيها باشتراط عدد فضلا عن كونه خمسة وانما هي مطلقة ، وتقييدها بالأخبار يتوقف أولا على النظر في اخبار المسألة والجمع بينها على وجه يرفع التنافي بينها وتجتمع عليه في البين فيخصص بها إطلاق الآية حينئذ ، وإلا فكما انه يدعى تقييدها بأخبار الخمسة فللخصم أن يقيدها باخبار السبعة على الوجه الذي يقوله وهو الحق الحقيق بالاتباع لانه هو الذي تجتمع عليه أخبار المسألة ويندفع به عنها التنافي والتدافع. واما طعنه في رواية محمد بن مسلم بأنه خبر آحاد فهو وارد عليه في اخبار الخمسة أيضا واما طعنه ـ بأنه خص السبعة بمن ليس حضورهم شرطا فسقط اعتبارها ـ فقد تقدم الجواب عنه بان ذكر هؤلاء انما وقع على سبيل التمثيل كما تقدم تحقيقه ، على ان ذلك ايضا وارد عليه في استناده الى هذه الرواية في اشتراط الوجوب العيني بحضور الإمام فإنه أحد السبعة أيضا كما تقدم تحقيقه.

وأجاب العلامة عن قوله (عليه‌السلام) في الرواية «ولا تجب على أقل منهم» تارة بالحمل على ما كان أقل من خمسة ولا يخفى تعسفه ، وتارة باستضعاف السند بالحكم بن مسكين. والله العالم.

قال شيخنا في الذكرى ـ ونعم ما قال ـ بعد نقل رواية زرارة وصحيحة منصور الدالتين على القول المشهور ورواية محمد بن مسلم الدالة على القول الآخر

٧٦

ما لفظه : وهذان الخبران كالمتعارضين فجمع الشيخ أبو جعفر بن بابويه والشيخ أبو جعفر الطوسي بالحمل على الوجوب العيني في السبعة والوجوب التخييري في الخمسة وهو حمل حسن ويكون معنى قوله (عليه‌السلام) «ولا تجب على أقل منهم» نفى الوجوب الخاص أي العيني لا مطلق الوجوب لئلا يتناقض الخبران المرويان بعدة أسانيد. والمحقق في المعتبر لحظ هذا ثم قال : هذا وان كان مرجحا لكن روايتنا دالة على الجواز ومع الجواز تجب لقوله تعالى «فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ ...» فلو عمل برواية محمد بن مسلم. الى آخر ما قدمناه من عبارته. ثم قال (قدس‌سره) قلت : الجواز لا يستلزم الوجوب وإلا لوجبت عينا حال الغيبة ، والاحتجاج بعموم القرآن وارد فيه ، والأمر المطلق مسلم ولكن الإجماع على تقييده بعدد مخصوص حتى قال الشافعي واحمد أربعون وأبو حنيفة أربعة أحدهم الامام (١) ومصير الأصحاب الى ذلك العدد مستند الى الخبر وهو من الطرفين في حيز الآحاد فلا بد من التقييد به. (فان قال) ـ صاحب السبعة موافق على الخمسة فاتفقا على التقييد بها فيؤخذ المتفق عليه ـ (قلنا) هذا من باب الأخذ بأقل ما قيل وقد توهم بعض الأصوليين انه حجة بل إجماع وقد بينا ضعفه في الأصول. انتهى. وهو جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه.

فروع

(الأول) مذهب الأصحاب (رضوان الله عليهم) من غير خلاف يعرف ان اشتراط العدد انما هو في الابتداء لا في الاستدامة فلو أحرموا جميعا ثم انفضوا إلا الإمام أو أحد العدد المعتبر أتمها جمعة.

وعللوه (أولا) بالنهي عن قطع العمل. و (ثانيا) بان اشتراط استدامة العدد منفي بالأصل وانه لا يلزم من اشتراطه ابتداء اشتراطه استدامة كالجماعة

__________________

(١) المغني لابن قدامة الحنبلي ج ٢ ص ٣٢٧ و ٣٢٨ والبحر الرائق لابن نجيم الحنفي ج ٢ ص ١٥٠.

٧٧

وكعدم الماء في حق المتيمم.

واعترف الشيخ في الخلاف بأنه لا نص لأصحابنا فيه ، قال لكنه قضية المذهب لأنه دخل في الجمعة وانعقدت بطريقة معلومة فلا يجوز ابطالها إلا بيقين.

أقول : لا ريب ان ما ذكروه هو مقتضى الاحتياط فينبغي أن يجعل الدليل هو ذلك لا ما ذكروه من هذه التعليلات الواهية التي لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية. وقد تقدم في مقدمات الكتاب ان الاحتياط في مثل هذا المقام واجب فإنه دليل شرعي كما دلت عليه جملة من الأخبار مؤيدا بأخبار الاحتياط العامة وتمام الاحتياط صلاة الظهر بعدها.

ثم ان ظاهر عبارة شيخنا في الذكرى اعتبار إحرام الجميع من الامام والمأمومين فلو حصل التفرق والانفضاض بعد ذلك وجب الإتمام جمعة على من بقي وان كان واحدا ، وهو ظاهر كلام المحقق في الشرائع أيضا ، وظاهره في المعتبر عدم اعتبار ذلك بل الاكتفاء بإحرام الإمام حيث قال : لو أحرم فانفض العدد المعتبر أتم جمعة لا ظهرا. ثم استدل بأن الصلاة انعقدت ووجب الإتمام لتحقق شرائط الوجوب ومنع اشتراط استدامة العدد. واليه مال في المدارك ، وهو جيد لانسحاب الدليل المتقدم في هذا الموضع ايضا من ما ذكروه (رضوان الله عليهم) وما ذكرناه.

واما اعتبار بقاء واحد مع الإمام أو اثنين أو انفضاضهم بعد صلاة ركعة تامة في وجوب الإتمام أو اعتبار بقاء جميع العدد فهو منسوب إلى الشافعي (١) إلا أن العلامة في التذكرة وافقه في اعتبار الركعة في وجوب الإتمام لقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٢).

__________________

(١) المغني ج ٢ ص ٣٣٣ وفتح الباري ج ٢ ص ٢٩٠.

(٢) في سنن ابن ماجة ج ١ ص ٣٤٦ «قال رسول الله «ص» من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى». وفي سنن البيهقي ج ٣ ص ٢٠٤ «إذا أدركت من الجمعة ركعة فأضف إليها أخرى.» ....

٧٨

«من أدرك ركعة من الجمعة فليضف إليها أخرى». ورده جملة ممن تأخر عنه بأنه لا دلالة له على المطلوب ، وهو جيد إذ لا دلالة فيه على ان من لم يدرك ركعة قبل انفضاض العدد يقطع الصلاة. نعم لا عبرة بانفضاض الزائد على العدد المعتبر مع بقاء ذلك العدد سواء شرعوا في الصلاة أم لا اتفاقا.

(الثاني) لو انفضوا قبل تلبس الإمام بالصلاة أو انفض ما يسقط به العدد المعتبر سقطت الجمعة سقوطا مراعى بعدم عودهم أو عدم حصول من تنعقد به سواء كان في أثناء الخطبة أو قبلها أو بعدها قبل الدخول في الصلاة ، فلو عادوا بعد انفضاضهم والوقت باق وجبت. قالوا ولو انفضوا في حال الخطبة بنى الامام على ما تقدم منها وأتمها إذا لم يطل الفصل ومعه في أحد الوجهين لحصول مسمى الخطبة وأصالة عدم اشتراط الموالاة ، ولو اتى غيرهم ممن لم يسمع الخطبة أعاد الخطبة من رأس. واستشكله في الذكرى بأنه لا يؤمن انفضاضهم ثانيا لو اشتغل بالإعادة فيصير ذلك عذرا في ترك الجمعة.

(الثالث) قال في الذكرى : لو حضر عدد آخر بعد التحريمة فتحرموا ثم انفض الأولون لم يضر لان الانعقاد قد تم بالواردين. قاله في التذكرة ، ويشكل بان من جملة الأولين الإمام فكيف تنعقد بدونه إلا أن يقال ينصبون الآن إماما أو يكون قد انفض من عدا الإمام أو يكون ذلك على القول باعتبار الركعة لأنه لو لم تعتبر الركعة في بقاء الصحة كان بقاء الامام وحده كافيا في الصحة ولا يكون في حضور العدد الآخر فائدة تصحح الصلاة. انتهى.

أقول : لا يخفى ان هذا الإشكال انما يتجه لو قلنا بأنه لو أحرم الإمام مع العدد المعتبر ثم انفض الامام مع بعض العدد فإنه لا يجب الإتمام جمعة لعدم الامام كما هو ظاهر الذكرى حيث قال في أول المسألة : العدد انما هو شرط في الابتداء لا في الاستدامة فلو تحرموا بها ثم انفضوا إلا الإمام أتمها جمعة للنهى عن إبطال العمل. الى آخره. ونحوها عبارته في الدروس ، وربما كان فيه إشعار

٧٩

بأنه لو انفض الامام مع بعض العدد فإنه لا يجب على الباقين الإتمام جمعة كما هو صريح كلامه هنا والفرق بين العدد الأول والثاني لا يظهر له وجه هنا. والمحقق في الشرائع قد صرح بوجوب الإتمام جمعة بعد انفضاض العدد وان لم يبق إلا واحد سواء كان إماما أو مأموما. وبالجملة فإن استشكاله هنا ان كان مبنيا على الفرق بين العددين فلا اعرف له وجها في البين ، وان كان لما يشعر به كلامه الذي ذكرناه من تخصيص الإتمام بالإمام أو من بقي معه دون بعض المأمومين فهو محتمل إلا ان كلام المحقق في الشرائع كما ترى صريح في خلافه وكذا ظاهر كلامه في البيان ، وكذلك شيخنا الشهيد الثاني في المسالك صرح بأنه مع انفضاض الامام وبقاء العدد كلا أو بعضا فإنهم يقدمون اماما يتم بهم ان أمكن والا أتموا فرادى. وهو صريح في جواز الإتمام بغير امام مع تعذره.

فائدة ـ يحسن التنبيه عليها في المقام بل هي من أهم المهام ، وهي انه متى كان العدد المذكور شرطا في وجوب الجمعة عينا وبدونه لا يحصل الوجوب فاللازم من ذلك هو سقوط الجمعة رأسا لأنه بموجب ذلك لا تجب على هؤلاء الخمسة أو السبعة الجمعة لعدم حصول الشرط المذكور ومتى لم تجب عليهم لم تجب على غيرهم لان الوجوب على غيرهم مشروط بحضورهم والحال ان الحضور غير واجب عليهم ، هذا خلف.

والجواب انه لا شك ان الوجوب العيني مشروط بحضورهم موضع الجمعة ولكن حضور العدد المذكور واجب وجوبا كفائيا على كافة المسلمين المتصفين بصفات المكلفين بوجوب الجمعة لا يختص به خمسة دون خمسة ولا سبعة دون سبعة فلو أخلوا جميعا بالحضور شملهم الإثم واستحقوا العقاب بترك الواجب المذكور ثم انه متى حضر العدد المذكور سقط بهم الوجوب الكفائي وتوجه الوجوب العيني إلى عامة المكلفين المتصفين بصفات التكليف بهذه الفريضة. وكذا القول في ما لو تعددت الأئمة فإنه يجب على واحد منهم الحضور في موضع إقامة الجمعة وجوبا كفائيا مع بقية العدد فإن أخلوا جميعا شملهم الإثم وان حضر واحد منهم صار

٨٠