الحدائق الناضرة - ج ١٠

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٩

أيكون طلاقا؟ فقال من ولد على الفطرة أجيزت شهادته على الطلاق بعد ان يعرف منه خير».

قال في المسالك بعد إيراد الخبر الثاني في كتاب الطلاق : وهذه الرواية واضحة الاسناد والدلالة على الاكتفاء بشهادة المسلم في الطلاق. ولا يرد ان قوله «بعد ان يعرف منه خير» ينافي ذلك لأن الخير قد يعرف من المؤمن وغيره وهو نكرة في سياق الإثبات لا يقتضي العموم فلا ينافيه مع معرفة الخير منه بالذي أظهره من الشهادتين والصلاة والصيام وغيرهما من أركان الإسلام ان يعلم منه ما يخالف الاعتقاد الصحيح لصدق معرفة الخير منه معه. وفي الخبر ـ مع تصديره باشتراط شهادة العدلين ثم الاكتفاء بما ذكر ـ تنبيه على ان العدالة هي الإسلام فإذا أضيف الى ذلك أن لا يظهر الفسق كان اولى. انتهى.

واقتفاه في هذه المقالة سبطه السيد السند في شرح النافع فقال بعد نقل كلامه المذكور وذكر الرواية الأولى ما صورته : وهو جيد والرواية الاولى مع صحة سندها دالة على ذلك أيضا فإن الظاهر ان التعريف في قوله (عليه‌السلام) فيها «وعرف بالصلاح في نفسه» للجنس لا للاستغراق ، وهاتان الروايتان مع صحتهما سالمتان من المعارض فيتجه العمل بهما. انتهى.

واقتفاهما في ذلك المحدث الكاشاني في المفاتيح والفاضل الخراساني كما هي عادتهما غالبا.

أقول : وهذا ما أشرنا إليه آنفا من انه قد انجر الأمر من القول بمجرد الإسلام إلى الحكم بعدالة النصاب وذوي الأذناب.

وكيف كان فهذا الكلام باطل ومردود من وجوه (الأول) ما قدمنا بيانه من الآية والأخبار المتقدمة الدالة على ان العدالة أمر زائد على مجرد الإسلام مع دلالة جملة منها على ان ذلك عبارة عن التقوى والصلاح والعفاف ونحوها. وبذلك يظهر لك ما في قول سبطه السيد السند انهما سالمتان من المعارض فيتجه العمل بهما.

٤١

(الثاني) انه لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) من هؤلاء القائلين بهذا القول وغيرهم في كفر الناصب ونجاسته وحل دمه وماله وان حكمه حكم الكافر الحربي ، وانما الخلاف في المخالف الغير الناصب هل يحكم بإسلامه كما هو المشهور بين المتأخرين أم بكفره كما هو المشهور بين المتقدمين؟ والروايتان قد اشتملتا على السؤال عن شهادة الناصبين على الطلاق فكيف يتم الحكم بالإسلام ثم صحة الطلاق فرعا على ذلك مع الاتفاق نصا وفتوى على الكفر كما عرفت؟ إلا ان يريدوا بالإسلام مجرد الانتحال للإسلام وحينئذ فتدخل فيه الخوارج والمجسمة والمشبهة فتكون ظلمات بعضها فوق بعض.

ثم لو تنزلنا عن ذلك وحملنا الناصب في الخبرين على المخالف كما ربما يدعيه الخصم حيث ان مذهبهم الحكم بإسلام المخالفين فانا نقول ان قبول شهادة المخالف مخالف للأدلة الشرعية كتابا وسنة الدالة على عدم قبول شهادة الفاسق والظالم (١) واى فسق وظلم أظهر من الخروج من الإيمان والإصرار على ذلك الاعتقاد الفاسد المترتب عليه ما لا يخفى من المفاسد.

واما ما أجاب به المحدث الكاشاني في المفاتيح تبعا للمسالك ـ من ان الفسق انما يتحقق بفعل المعصية مع اعتقاد كونها معصية لا مع اعتقاد كونها طاعة والظلم انما يتحقق بمعاندة الحق مع العلم به ـ فهو مردود بأنه لو تم هذا الكلام المنحل الزمام المموه الفاسد الناشئ من عدم إعطاء التأمل حقه في هذه المقاصد لاقتضى قيام العذر للمخالفين وعدم استحقاق العذاب في الآخرة ولا أظن هؤلاء القائلين يلتزمونه ، وذلك فان المكلف إذا بذل جده وجهده في طلب الحق وأتعب الفكر والنظر في ذلك واداه نظره الى ما كان باطلا في الواقع لعروض الشبهة له فلا ريب في انه يكون

__________________

(١) اما الكتاب فقوله تعالى في سورة الحجرات الآية ٦ «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا).» وقوله تعالى في سورة هود الآية ١١٥ «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» واما السنة فيرجع فيها الى الوسائل الباب ٣٠ من الشهادات.

٤٢

معذورا عقلا ونقلا لعدم تقصيره في السعي لطلب الحق وتحصيله الذي أمر به وكذا يقوم العذر لمنكري النبوات وأهل الملل والأديان وهذا في البطلان أظهر من ان يحتاج الى بيان. وبالجملة فإنه ان كان هذا الاعتقاد الذي جعله طاعة وعدم العلم بالحق الذي ذكره انما نشأ عن بحث ونظر يقوم بهما العذر شرعا عند الله فلا مناص عن ما ذكرناه وإلا فلا معنى لكلامه بالكلية كما هو الظاهر لكل ذي عقل وروية.

(الثالث) انه قد استفاضت الروايات والاخبار عن الأئمة الأبرار (عليهم‌السلام) ـ كما بسطنا عليه الكلام في كتاب الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب ـ بكفر المخالفين ونصبهم وشركهم وان الكلب واليهودي خير منهم (١). وهذا مما لا يجامع الإسلام البتة فضلا عن العدالة ، واستفاضت ايضا بأنهم ليسوا من الحنيفية على شي‌ء (٢). وانهم ليسوا إلا مثل الجدر المنصوبة (٣). وانه لم يبق في يدهم إلا مجرد استقبال القبلة (٤). واستفاضت بعرض الأخبار على مذهبهم والأخذ بخلافه (٥) واستفاضت ايضا ببطلان أعمالهم (٦) وأمثال ذلك مما يدل على خروجهم عن الملة المحمدية والشريعة النبوية بالكلية والحكم بعدالتهم لا يجامع شيئا من ذلك كما لا يخفى.

(الرابع) انه يلزم من ما ذكره ـ من ان الخير نكرة في سياق الإثبات فلا يعم وكذا قول سبطه : ان التعريف في قوله (عليه‌السلام) «وعرف بالصلاح في نفسه» للجنس لا للاستغراق ـ دخول أكثر الفسقة والمردة في هذا التعريف إذ ما من فاسق في الغالب إلا وفيه صفة من صفات الخير فإذا جاز اجتماع العدالة مع فساد العقيدة

__________________

(١) ارجع الى ج ٥ ص ١٨٥ و ١٨٧.

(٢ و ٥) الوسائل الباب ٩ من صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به.

(٣) الوسائل الباب ١٠ من صلاة الجماعة.

(٤) في الفصول المهمة للحر العاملي ص ٧٤ الباب ٢٩ عن ابى عبد الله «ع» قال «والله ما بقي في أيديهم شي‌ء من الحق الا استقبال القبلة» ....

(٦) الوسائل الباب ٢٩ من مقدمة العبادات.

٤٣

جاز مع شرب الخمر والزنا واللواط ونحو ذلك بطريق أولى ، بل يدخل في ذلك الخوارج والمرجئة وأمثالهما من الفرق التي لا خلاف في كفرها حيث ان الخير بهذا المعنى حاصل فيهم فتثبت عدالتهم بذلك وان كانوا فاسدي العقيدة نعوذ بالله من زلل الاقدام وطغيان الأقلام.

(الخامس) قوله «ان الخير يعرف من المؤمن. إلى قوله لصدق معرفة الخير منه» فان فيه زيادة على ما تقدم ان الأخبار الصحيحة الصريحة قد استفاضت ببطلان عبادة المخالفين لاشتراط صحة العبادة بالإقرار بالولاية بل ورد عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «سواء على الناصب صلى أم زنى». والمراد بالناصب هو مطلق المخالف كما حققناه في كتاب الشهاب الثاقب وحينئذ فأي خيرية في أعمال من قام الدليل على بطلانها وانها في حكم العدم ، وكونها في الظاهر بصورة العبادة لا يجدى نفعا لأن خيرية الخير وشرية الشر انما هو باعتبار ما يترتب على كل منهما من النفع والضرر كما ينادى به الحديث النبوي (٢) «لا خير بخير بعده النار ولا شر بشر بعده الجنة».

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الذي ظهر لي في معنى الخبرين المذكورين أنهما إنما خرجا مخرج التقية ، وتوضيح ذلك انه قد ظهر بما قدمناه من الوجوه ان المخالف ناصبيا كان بالمعنى الذي يدعونه أو غيره لا خير فيه بوجه من الوجوه فخرج من البين بذلك ، ولو حمل الخير في الخبر على مطلق الخير كما ادعاه في المسالك لجامع الفسق البتة إذ لا فاسق متى كان مسلما إلا وفيه خير وهو باطل إجماعا نصا وفتوى لدلالة الآية (٣) والرواية (٤) على رد خبر الفاسق ، فلا بد من حمل الخير على أمر

__________________

(١) روضة الكافي ص ١٦٠ «لا يبالي الناصب صلى أم زنى».

(٢) المفردات للراغب مادة «خير» وفي تاج العروس مادة «خير» نقلا من المفردات للراغب والبصائر لصاحب القاموس.

(٣) قوله تعالى في سورة الحجرات الآية ٦ «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ...».

(٤) الوسائل الباب ٣٠ من الشهادات.

٤٤

زائد على مجرد الإسلام ، ووجه الإجمال في هذه العبارة في الخبرين انما هو التقية التي هي في الأحكام الشرعية أصل كل بلية ، وذلك ان السائل في الخبر الثاني لما سأله عن كيفية طلاق السنة أجاب (عليه‌السلام) بالحكم الشرعي الواضح وهو ان يطلقها إذا طهرت من حيضها قبل ان يغشاها بشاهدين عدلين كما قال الله عزوجل في كتابه (١) فإن خالف ذلك رد الى الكتاب بمعنى انه يبطل ما اتى به من الطلاق لمخالفته الكتاب ، ولا ريب ان الطلاق بشهادة الناصب باطل بمقتضى هذا التقرير عند كل ذي انس باخبار أهل البيت ومعرفة مذهبهم (عليهم‌السلام) وما يعتقدونه في مخالفيهم من الكفر والشرك والعداوة والنصب فيجب رد من أشهدهما على طلاق الى كتاب الله الدال على بطلان هذا الطلاق لاشتراط عدالة الشاهد بنص الكتاب لكن لما سأل السائل بعد ذلك عن خصوص ذلك وكان المقام لا يقتضي الإفصاح بالجواب ب «لا أو نعم» أجمل (عليه‌السلام) في الجواب بما فيه إشارة إلى انه لا يجوز ذلك بعبارة موهمة للجواز فقال (عليه‌السلام) «كل من ولد على الفطرة الإسلامية وعرف فيه خير جازت شهادته». وهذا في بادئ النظر يعطى ما توهمه هؤلاء من كون الناصب تجوز شهادته لانه ولد على فطرة الإسلام وفيه خير إلا انه لما كان الناصب بمقتضى مذهبهم (عليهم‌السلام) من أخبارهم وتتبع سيرهم لا خير فيه ولا صلاح بالكلية لما أسلفنا ذكره وجب إخراجه في المقام وحمل العبارة المذكورة على من عداه. ومن ما ذكرنا يعلم الكلام في الرواية الاولى. وبذلك يظهر لك زيادة على ما قدمناه ما في كلام السيد السند وقوله ان الروايتين سالمتان من المعارض.

وبالجملة فان الواجب في الاستدلال بالخبر في هذا الموضع وغيره النظر الى انطباق موضع الاستدلال على مقتضى القواعد المعتبرة والقوانين المقررة في الأخبار فمتى كان الخبر مخالفا لها وخارجا عنها وجب طرحه وامتنع الاستناد اليه وان كان صحيح السند صريح الدلالة لاستفاضة أخبارهم (عليهم‌السلام) بعرض

__________________

(١) قوله تعالى في سورة الطلاق الآية ٢ «وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ».

٤٥

الأخبار على كتاب الله تعالى والسنة النبوية ولكن عادة أصحاب هذا الاصطلاح ولا سيما السيد صاحب المدارك الدوران مدار صحة السند فمتى كان السند صحيحا لم ينظر الى ما دل في متن الخبر من العلل كما قدمنا التنبيه عليه في غير موضع من ما تقدم. وبالجملة فكلام هؤلاء الأعيان في هذا المكان أظهر في البطلان من أن يحتاج إلى زيادة على ما ذكرنا من البيان. والله العالم.

(المقام الرابع) في الكبائر وعددها وانها عبارة عما ذا وانه هل جميع الذنوب كبائر أو بعضها صغائر وبعضها كبائر؟

والكلام هنا يقع في موضعين (الأول) في الكبائر وعددها ، اعلم انه قد اختلفت كلمة العلماء في تفسير الكبيرة على أقوال منتشرة ، فقال قوم هي كل ذنب توعد الله تعالى عليه بالعقاب في الكتاب العزيز ، وقال آخرون هي كل ذنب رتب عليه الشارع حدا أو صرح بالوعيد ، وقال طائفة هي كل معصية تؤذن بقلة اكتراث فاعلها بالدين ، وقال جماعة هي كل ذنب علمت حرمته بدليل قاطع ، وقيل كل ما توعد عليه توعدا شديدا في الكتاب أو السنة ، وقيل هي ما نهى الله عنه في سورة النساء من أولها إلى قوله تعالى «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ... الآية» (١) وقال قوم انها سبع : الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله وقذف المحصنة وأكل مال اليتيم والربا والفرار من الزحف وعقوق الوالدين ، وقيل انها تسع بزيادة السحر والإلحاد في بيت الله أى الظلم فيه ، الى غير ذلك من الأقوال الكثيرة المنسوبة إلى العامة (٢).

والمختار من هذه الأقوال الأول والظاهر انه المشهور بين أصحابنا بل قال

__________________

(١) الآية ٣٥.

(٢) في بدائع الصنائع ج ٦ ص ٢٦٨ «اختلف في ماهية الكبائر والصغائر فقال بعضهم ما فيه حد في كتاب الله فهو كبيرة وما ليس فيه حد فهو صغيرة ، وقال بعضهم ما يوجب الحد كبيرة وما لا يوجبه صغيرة ، وقال بعضهم كل ما جاء مقرونا بوعيد فهو كبيرة».

٤٦

بعض أفاضل متأخري المتأخرين بعد نسبة هذا القول إلى الشهرة بينهم : ولم أجد في كلامهم اختيار قول آخر.

ويدل على هذا القول جملة من الأخبار : منها ـ ما رواه ثقة الإسلام في الكافي في الصحيح عن الحسن بن محبوب (١) قال : «كتب معى بعض أصحابنا الى ابى الحسن (عليه‌السلام) يسأله عن الكبائر كم هي وما هي؟ فكتب الكبائر من اجتنب ما وعد الله عليه النار كفر عنه سيئاته إذا كان مؤمنا ، والسبع الموجبات : قتل النفس الحرام وعقوق الوالدين وأكل الربا والتعرب بعد الهجرة وقذف المحصنة وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف».

قال بعض مشايخنا المعاصرين قوله (عليه‌السلام) : «والسبع الموجبات» معناه أنها أكبر الكبائر وأشدها حتى انها أوجبت النار لفاعلها ، ومن المستبين ان الإيجاب والحتم أمر آخر فوق الإيعاد لا يتطرق اليه الإخلاف بخلاف الوعيد المطلق فان اخلافه حسن كما تقرر في الكلام ، فهذه السبع لعظمها كأنها أوجبت النار فلا ينافي ما تضمنه صدر الخبر من تفسيرها بما وعد الله عليه النار.

ومنها ـ ما رواه في الكتاب المذكور عن الحلبي عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٢) «في قول الله عزوجل (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً)؟ قال : الكبائر التي أوجب الله عزوجل عليها النار». ومثله في تفسير العياشي عن كثير النواء عن الباقر (عليه‌السلام) (٣).

وما رواه في الفقيه عن عباد بن كثير النواء (٤) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن الكبائر فقال كل ما أوعد الله عليه النار».

__________________

(١ و ٤) الوسائل الباب ٤٥ من جهاد النفس.

(٢) الوسائل الباب ٤٤ من جهاد النفس. وفي الطبعة القديمة ورد هذا الحديث بهذا اللفظ عن أبي جميلة أيضا وهو تكرار له بهذا العنوان إذ لا حديث لأبي جميلة في الكافي غير حديث الحلبي وانما يرويه أبو جميلة عن الحلبي.

(٣) مستدرك الوسائل الباب ٤٦ من جهاد النفس.

٤٧

ومنها ـ صحيحة ابن ابى يعفور المتقدمة (١) وقوله (عليه‌السلام) فيها «وتعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار من شرب الخمر. الى آخر ما تقدم».

وروى الثقة الجليل على بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الكبائر التي قال الله عزوجل (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً)؟ قال التي أوجب عليها النار».

واما ما اشتمل على الحصر في عدد معين ـ مثل ما رواه في الكافي عن محمد بن مسلم عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «سمعته يقول الكبائر سبع : قتل المؤمن متعمدا وقذف المحصنة والفرار من الزحف والتعرب بعد الهجرة وأكل مال اليتيم ظلما وأكل الربا بعد البينة وكل ما أوجب الله تعالى عليه النار».

وعن عبيد بن زرارة في الحسن (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الكبائر فقال هن في كتاب على (عليه‌السلام) سبع : الكفر بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وأكل الربا بعد البينة وأكل مال اليتيم ظلما والفرار من الزحف والتعرب بعد الهجرة. قال فقلت فهذا أكبر المعاصي؟ قال نعم. قلت فأكل درهم من مال اليتيم ظلما أكبر أم ترك الصلاة؟ قال ترك الصلاة. قلت : فما عددت ترك الصلاة في الكبائر؟ فقال اى شي‌ء أول ما قلت لك؟ قال قلت الكفر. قال فان تارك الصلاة كافر يعنى من غير علة».

وعن مسعدة بن صدقة (٥) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول الكبائر القنوط من رحمة الله واليأس من روح الله والأمن من مكر الله وقتل النفس التي حرم الله وعقوق الوالدين وأكل مال اليتيم ظلما وأكل الربا بعد البينة والتعرب بعد الهجرة وقذف المحصنة والفرار من الزحف».

أقول : هذا الخبر قد اشتمل على عشر من الكبائر واحتمل بعض المحدثين

__________________

(١) ص ٢٥.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) الوسائل الباب ٤٥ من جهاد النفس.

٤٨

ان عطف قوله : «اليأس» على القنوط عطف بيان ، قال : لعدم التغاير بينهما في المعنى إذ لا فرق بينا بين اليأس والقنوط ولا بين الروح والرحمة. انتهى.

وعن ابى بصير عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «سمعته يقول : الكبائر سبعة منها قتل النفس متعمدا والشرك بالله العظيم وقذف المحصنة وأكل الربا بعد البينة والفرار من الزحف والتعرب بعد الهجرة وعقوق الوالدين وأكل مال اليتيم ظلما قال : والتعرب والشرك واحد».

أقول : قوله «والتعرب والشرك واحد» لعله اعتذار عن ما يتراءى من المخالفة بين قوله «سبعة» والتفصيل لكونها ثمانية ـ فيمكن دفع المنافاة بينه وبين ما تقدم بان مراتب الكبائر مختلفة وان السبع المذكورة في هذه الأخبار أكبر من ما عداها ، ولا ينافي ذلك ان كل ما أوعد الله عليه النار كبيرة. ويحتمل حمل هذه الأخبار الأخيرة على التمثيل لا الحصر ويؤيده اختلافها في بعض الأفراد المعدودة فيها.

ويؤيد ما قلنا من أن ذكر هذه السبع ونحوها انما هو من حيث كونها أكبر ما رواه في التهذيب عن ابى الصامت عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «أكبر الكبائر سبع : الشرك بالله العظيم وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين وقذف المحصنات والفرار من الزحف وإنكار ما انزل الله عزوجل».

هذا ، وقد روى في الكافي والفقيه عن عبد العظيم بن عبد الله الحسنى (٣) قال : «حدثني أبو جعفر الثاني (عليه‌السلام) قال سمعت ابى (عليه‌السلام) يقول سمعت ابى موسى بن جعفر (عليه‌السلام) يقول : دخل عمرو بن عبيد على ابى عبد الله (عليه‌السلام) فلما سلم وجلس تلا هذه الآية «الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش» (٤) ثم أمسك فقال له أبو عبد الله (عليه‌السلام) ما أسكتك؟ قال أحب ان أعرف الكبائر من كتاب الله تعالى فقال نعم يا عمرو أكبر الكبائر الإشراك بالله يقول الله تعالى «مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ٤٥ من جهاد النفس.

(٤) النجم الآية ٣٣.

٤٩

الْجَنَّةَ» (١) وبعده الإياس من روح الله لان الله تعالى يقول «لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» (٢) ثم الأمن لمكر الله لان الله تعالى يقول «فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» (٣) ومنها عقوق الوالدين لان الله تعالى جعل العاق جبارا شقيا (٤) وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق لان الله تعالى يقول «فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ... الى آخر الآية» (٥) وقذف المحصنة لأن الله تعالى يقول «لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» (٦) وأكل مال اليتيم لان الله تعالى يقول «إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» (٧) والفرار من الزحف لان الله تعالى يقول «وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (٨) وأكل الربا لان الله تعالى يقول «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» (٩) والسحر لان الله تعالى يقول «وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ» (١٠) والزنا لان الله تعالى يقول «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً» (١١) واليمين الغموس الفاجرة لأن الله تعالى يقول : «الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ» (١٢) والغلول لان الله تعالى يقول «وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ» (١٣) ومنع الزكاة المفروضة لأن الله تعالى يقول «فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ» (١٤)

__________________

(١) سورة المائدة الآية ٧٦.

(٢) سورة يوسف الآية ٨٧.

(٣) سورة الأعراف الآية ٩٧.

(٤) سورة مريم الآية ٣٢.

(٥) سورة النساء الآية ٩٥.

(٦) سورة النور الآية ٢٣.

(٧) سورة النساء الآية ١١.

(٨) سورة الأنفال الآية ١٦.

(٩) سورة البقرة الآية ٢٧٦.

(١٠) سورة البقرة الآية ٩٦.

(١١) سورة الفرقان الآية ٦٨ و ٦٩.

(١٢) سورة آل عمران الآية ٧١.

(١٣) سورة آل عمران الآية ١٥٥.

(١٤) سورة التوبة الآية ٣٥.

٥٠

وشهادة الزور وكتمان الشهادة لأن الله يقول «وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» (١) وشرب الخمر لان الله تعالى نهى عنها (٢) كما نهى عن عبادة الأوثان (٣) وترك الصلاة متعمدا أو شيئا مما فرض الله تعالى لأن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «من ترك الصلاة متعمدا فقد بري‌ء من ذمة الله وذمة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)» ونقض العهد وقطيعة الرحم لان الله تعالى يقول «أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدّارِ» (٤) قال فخرج عمرو وله صراخ من بكائه وهو يقول هلك من قال برأيه ونازعكم في الفضل والعلم».

أقول : وهذه الرواية قد اشتملت من عدد الكبائر على احدى وعشرين والكلام فيها ينبغي أن يكون على نحو ما قدمناه من أن الكبائر كثيرة وإيثار هذه الاعداد بالذكر لكونها أكبر من البواقي أو يحمل على ان وقوعها أكثر فوق الاهتمام بذكرها ليحترزوا عنها وان تفاوتت هذه الأعداد أيضا في ذلك بالشدة والضعف ، مع ان في أكثرها إشارة إجمالية إلى غيرها لاشتراكها في العلة وهي الوعيد. ومن ما يعضده ما نقله جملة من أصحابنا عن ابن عباس ان الكبيرة ما نهى الله سبحانه عنه قيل ، هي سبع قال : هي إلى السبعين أقرب. وفي رواية إلى السبعمائة.

(الموضع الثاني) ـ قد اختلف أصحابنا (رضوان الله عليهم) في انه هل يكون كل معصية كبيرة وان إطلاق الصغيرة على بعضها انما هو مجاز بالإضافة الى ما فوقها أو انها حقيقة في القسمين فمنها ما يكون كبيرة ومنها ما يكون صغيرة؟ قولان ذهب الى الأول جمع من الأصحاب ونقل عن الشيخ المفيد وابن البراج وابى الصلاح والشيخ في العدة والشيخ ابى على الطبرسي وابن إدريس ، فكل ذنب عندهم كبيرة لاشتراكها في مخالفة أمر الله تعالى إلا انه ربما أطلق الصغيرة على بعض الذنوب بالإضافة الى ما فوقه كالقبلة مثلا بالنسبة إلى الزنا وان كانت كبيرة بالنسبة إلى مجرد النظر.

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٨٣.

(٢) سورة المائدة الآية ٩٢.

(٣) سورة الحج الآية ٣١.

(٤) سورة الرعد الآية ٢٥.

٥١

قال الشيخ أبو على المذكور في تفسيره مجمع البيان (١) بعد نقله هذا القول : والى هذا ذهب أصحابنا فإنهم قالوا المعاصي كلها كبيرة لكن بعضها أكبر من بعض وليس في الذنوب صغيرة وانما يكون صغيرا بالإضافة الى ما هو أكبر منه ويستحق العقاب عليه أكثر.

وظاهر عبارته ان ذلك اتفاقي بين من تقدم عليه من أصحابنا وربما ظهر ذلك ايضا من كلام الشيخ في العدة وابن إدريس.

قال شيخنا البهائي (زاده الله بهاء وشرفا) في كتاب الأربعين بعد نقل ذلك عنه : لا يخفى ان كلام الشيخ الطبرسي مشعر بان القول بان الذنوب كلها كبائر متفق عليه بين الإمامية وكفى بالشيخ ناقلا :

«إذا قالت حذام فصدقوها

فان القول ما قالت حذام»

قيل : ولهذا القول شواهد في الأخبار مثل ما دل على ان كل معصية شديدة (٢). وما دل على ان كل معصية قد توجب لصاحبها النار (٣) وما دل على التحذير من استحقار الذنب واستصغاره (٤) وأمثال ذلك.

ويؤيده ما رواه الكليني عن عبد الله بن سنان بإسناد يحتمل الصحة عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٥) قال : «لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار».

وما رواه ابن بابويه بإسناد ضعيف عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٦) قال : «لا تحتقروا شيئا من الشر وان صغر في أعينكم ولا تستكثروا شيئا من الخير وان كثر في أعينكم فإنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار».

وجه التأييد ان المراد بالإصرار الإقامة على الذنب لعدم التوبة والاستغفار كما قال جماعة من المفسرين في قوله تعالى «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا» (٧).

__________________

(١) ج ٣ ص ٣٨.

(٢) الوسائل الباب ٣٨ من جهاد النفس.

(٣) الوسائل الباب ٣٨ و ٣٩ من جهاد النفس.

(٤ و ٦) الوسائل الباب ٤٢ من جهاد النفس.

(٥) الوسائل الباب ٤٧ من جهاد النفس.

(٧) سورة آل عمران ١٢٩.

٥٢

أقول : يمكن تطرق النظر الى ما ذكره بان يقال (أولا) ان ما ذكره من هذه الأدلة معارض بما سيأتي ان شاء الله تعالى في أدلة القول الآخر مما هو أوضح دلالة.

و (ثانيا) انه يمكن ان يقال ان احتقار الذنب واستصغاره أمر زائد على أصل الذنب فلعله بانضمام ذلك الى أصل الذنب يكون كبيرة ، ويؤيده ما يظهر من كلام أهل اللغة ، قال الجوهري «أصررت على الشي‌ء أي أقمت ودمت» وقال ابن الأثير : «أصر على الشي‌ء إصرارا إذا لزمه وداومه وثبت عليه» وفي القاموس «أصر على الأمر لزمه» فان ظاهر هذا الكلام ان الإصرار عبارة عن العزم على المعاودة والمداومة على ذلك الذنب.

وقال شيخنا الشهيد في قواعده على ما نقله بعض الأصحاب بعد تقسيمه الإصرار إلى فعلى وحكمي : الفعلي هو الدوام على نوع واحد من الصغائر بلا توبة أو الإكثار من جنسها بلا توبة والحكمي هو العزم على تلك الصغيرة بعد الفراغ منها ، اما لو فعل الصغيرة ولم يخطر بباله بعدها توبة ولا عزم على فعلها فالظاهر انه غير مصر. انتهى. وهو ظاهر فيما قلناه وواضح في ما ادعيناه.

إلا انه قد روى في الكافي عن جابر عن ابى جعفر (عليه‌السلام) (١) «في قول الله تعالى (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٢) قال الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله ولا يحدث نفسه بتوبة فذلك الإصرار».

فإن ظاهره ان الإصرار يتحقق بالذنب مع عدم التوبة والاستغفار وهو ظاهر في ان من لا يخطر بباله بعد الذنب توبة ولا عزم على فعلها يكون مصرا ، وحينئذ تكون كبيرة بمقتضى الأخبار الدالة على انه لا صغيرة مع الإصرار (٣) ويكون دليلا ظاهرا لهذا القول.

__________________

(١ و ٣) الوسائل الباب ٤٧ من جهاد النفس.

(٢) سورة آل عمران الآية ١٢٩.

٥٣

وفيه انه وان كان الأمر كذلك إلا انه مع ضعف سنده معارض بما سيأتي ان شاء الله تعالى من الأدلة الدالة على القول الآخر الظاهرة في الرجحان عليه.

هذا ، ولهم في تفسير الإصرار أقوال مختلفة ، فقيل انه عبارة عن الإكثار من الصغائر سواء كان من نوع واحد أو من أنواع مختلفة ، وقيل انه عبارة عن المداومة على نوع واحد منها ، ونقل بعضهم قولا بان المراد به عدم التوبة ، قال في البحار بعد نقله : وهو ضعيف وقد تقدم في كلام شيخنا الشهيد في قواعده تقسيم الإصرار إلى فعلى وحكمي. إلى آخر ما قدمناه من كلامه ، قال في البحار وارتضاه جماعة من المتأخرين. وأنت خبير بان النصوص خالية من بيان خصوص ذلك صريحا إلا ما يفهم من رواية جابر وظاهر جملة من الأصحاب الاعراض عن ما دلت عليه والميل الى ما اخترناه من المعنى المذكور المأخوذ فيه العزم على العود.

قال بعض المحققين من متأخري المتأخرين : وبالجملة ظاهر الجمع بين الروايات والأخبار الواردة في هذا الباب ان العدل واقعا من يكون ارتكابه للمعاصي على سبيل الندرة بحيث يكون عامة أو قامة متجانبا عنها بحيث ان صدر منه شي‌ء تذكر واستغفر كما قال سبحانه «وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ» (١) فحينئذ ان صدر منه صغيرة ولو غير مرة وغفل عن توبته لا يضره ذلك ولم يصر بذلك مصرا. انتهى.

الثاني من القولين المذكورين هو ان الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر ، ونقل عن الشيخ في المبسوط وابن حمزة والفاضلين وجمهور المتأخرين ، والظاهر انه الأقرب ويشهد له قوله تعالى «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ» (٢) فإنها ظاهرة في ان اجتناب الكبائر مكفر للصغائر. واما على مذهب من ذهب الى ان الذنوب كلها كبائر فلا معنى للآية إذ ليس هنا ذنب غير الكبائر.

وأجيب عن ذلك بان من عن له ذنبان أحدهما أكبر من الآخر ودعت نفسه

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٢٩.

(٢) سورة النساء الآية ٣٥.

٥٤

إليهما بحيث لا يتمالك فترك الأكبر وفعل الأصغر فإنه يكفر عنه الأصغر لما استحقه من الثواب على ترك الأكبر كمن عن له التقبيل والنظر بشهوة فكف عن التقبيل وارتكب النظر.

وهذا الجواب ذكره في كنز العرفان وأورده البيضاوي في تفسيره ونقله شيخنا البهائي في كتاب الأربعين وأمر بالتأمل فيه ، ثم انه بين وجه التأمل في حاشية الكتاب بما هو ظاهر في بطلان هذا الجواب ، فحيث قال : انه يلزم منه ان من كف نفسه عن قتل شخص وقطع يده مثلا يكون مرتكبا للصغيرة وتكون مكفرة عنه ، اللهمّ إلا ان يراد بالأصغر ما لا أصغر منه وهو في هذا المثال أقل ما يصدق عليه الضرر لا قطع اليد. وفيه ما فيه فليتأمل. انتهى. وهو جيد وجيه.

ويدل على ذلك ايضا ما رواه الصدوق في الفقيه مرسلا (١) قال : «قال الصادق (عليه‌السلام) من اجتنب الكبائر كفر الله عنه جميع ذنوبه وذلك قول الله عزوجل (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً)» (٢).

ويشهد له ايضا قوله تعالى «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ» (٣) واللمم عبارة عن الصغائر أو نوع خاص منها :

ففي الكافي (٤) عن محمد بن مسلم في الصحيح عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «هو الذنب يلم به الرجل فيمكث ما شاء الله تعالى ثم يلم به بعد».

وعنه (عليه‌السلام) (٥) في تفسير الآية المذكورة قال : «الهنة بعد الهنة أي الذنب بعد الذنب يلم به العبد».

قال في كتاب مجمع البحرين ومطلع النيرين : قال ابن عرفة اللمم عند العرب ان يفعل الإنسان الشي‌ء في الحين لا يكون له عادة ، ويقال اللمم هو ما يلم به العبد من

__________________

(١) الوسائل الباب ٤٤ من جهاد النفس.

(٢) سورة النساء الآية ٣٥.

(٣) سورة النجم الآية ٣٣.

(٤ و ٥) الأصول ج ٢ ص ٤٤١ باب اللمم. والحديث «٥» عن أحدهما «ع».

٥٥

ذنوب صغار بجهالة ثم يندم ويستغفر ويتوب فيغفر له ، وفي الحديث (١) «اللمم ما بين الحدين حد الدنيا والآخرة». وفسر حد الدنيا بما فيه الحدود كالسرقة والزنا والقذف وحد الآخرة بما فيه العذاب كالقتل وعقوق الوالدين وأكل الربا ، فأراد أن اللمم ما لم يوجب عليه حدا ولا عذابا ، قيل والاستثناء منقطع. ويجوز ان يكون إلا اللمم صفة أى كبائر الإثم والفواحش غير اللمم. انتهى كلامه زيد إكرامه.

ويدل على هذا القول ايضا ما ورد في جملة من الأخبار في ثواب بعض الأعمال أنه يكفر الذنوب ما عدا الكبائر ، وتشهد له أيضا الأخبار الكثيرة الدالة على تفسير الكبائر وانها ما أوعد الله عليها النار وتفصيلها وعدها في أشياء مخصوصة (٢) وما ورد عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في حديث «انما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي». رواه الصدوق في الفقيه (٣) مرسلا عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الى غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المتتگبع.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه متى زالت العدالة بارتكاب بعض الذنوب فإنه لا خلاف في انها تعود بالتوبة وكذا من حد في معصية ثم تاب فإنه يرجع الى العدالة ونقل عن بعض الأصحاب دعوى الإجماع على ذلك.

وانما الخلاف في أن مجرد إظهار التوبة والندم هل يكفي في ذلك أم لا؟ فالمشهور على ما نقله بعض الأصحاب انه لا يكفي في ذلك مجرد إظهار التوبة إذ لا يؤمن ان يكون له في الإظهار غرض فاسد بل لا بد من الاختبار مدة يغلب معها الظن بأنه أصلح سريرته وانه صادق في توبته ، وقيل انه يعتبر إصلاح العمل وانه يكفى في ذلك عمل صالح ولو ذكر أو تسبيح ، وقيل انه يكفى في ذلك تكرير إظهار التوبة والندم ومجرد استمراره على التوبة.

وذهب الشيخ في المبسوط الى الاكتفاء في قبول الشهادة بإظهار التوبة عقيب

__________________

(١) نهاية ابن الأثير مادة «لمم».

(٢) الوسائل الباب ٤٥ من جهاد النفس.

(٣) الوسائل الباب ٤٦ من جهاد النفس.

٥٦

قول الحاكم له «تب أقبل شهادتك» لصدق التوبة المقتضي لعود العدالة. ورد بأن المقتضي لعود العدالة التوبة المعتبرة شرعا لا مطلق التوبة.

أقول : الظاهر من الأخبار الواردة في المقام هو قوة ما ذكره الشيخ :

منها ـ ما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن المحدود ان تاب تقبل شهادته؟ فقال إذا تاب ـ وتوبته أن يرجع من ما قال ويكذب نفسه عند الامام وعند المسلمين فإذا فعل ـ فان على الامام ان يقبل شهادته بعد ذلك».

وعن ابى الصباح الكناني بسند معتبر (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن القاذف بعد ما يقام عليه الحد ما توبته؟ قال يكذب نفسه. قلت أرأيت ان أكذب نفسه وتاب أتقبل شهادته؟ قال نعم».

وما رواه الشيخ عن ابى الصباح ايضا (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن القاذف إذا أكذب نفسه وتاب أتقبل شهادته؟ قال نعم».

وما رواه في التهذيب والكافي عن يونس عن بعض أصحابه عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٤) قال : «سألته عن الذي يقذف المحصنات تقبل شهادته بعد الحد إذا تاب؟ قال نعم. قلت وما توبته؟ قال يجي‌ء فيكذب نفسه عند الامام ويقول قد افتريت على فلانة ويتوب من ما قال».

وبالجملة فإن هذا القول هو الظاهر من هذه الأخبار كما ترى وان كان الاحتياط سيما بالنظر الى أحوال أبناء الزمان هو القول المشهور. وقول ذلك القائل ـ في رد كلام الشيخ «ان المقتضى لعود العدالة التوبة المعتبرة شرعا لا مجرد التوبة» مشيرا الى ان التوبة المعتبرة شرعا هي ما ذكروه في القول المشهور من انه لا بد من الاختبار مدة ـ جيد لو كان ما ذكروه مستندا الى دليل شرعي مع انا لم نقف في الأخبار على

__________________

(١) الوسائل الباب ٣٧ من الشهادات.

(٢ و ٣ و ٤) الوسائل الباب ٣٦ من الشهادات.

٥٧

ما يدل عليه بل الذي نقلناه من الأخبار بخلافه كما رأيت. والله العالم.

(المقام الخامس) ـ اعلم انه قد صرح جملة من أصحابنا : منهم ـ شيخنا العلامة المجلسي في كتاب البحار وشيخنا أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني وتلميذه المحدث الشيخ عبد الله بن صالح البحراني بأن العدالة المشترطة في الإمامة والشهادة والقضاء والفتوى أمر واحد بأي الأقوال الثلاثة المتقدمة فسرت كان جميع من ذكر مشتركين فيها ، وقد جرينا على هذا القول سابقا في جملة من زبرنا ورسائلنا ، والذي ظهر لنا الآن بعد التأمل في الأخبار بعين الفكر والاعتبار ان العدالة في الحاكم الشرعي من قاض ومفت أخص من ما ذكر من معنى العدالة بأي المعاني المتقدمة اعتبرت لأنه نائب عن الامام (عليه‌السلام) وجالس في مجلس النبوة والإمامة ومتصدر للقيام بتلك الزعامة فلا بد فيه من مناسبة للمنوب عنه بما يستحق به النيابة وذلك بان يكون متصفا بعلم الأخلاق الذي هو السبب الكلى المقرب من الملك الخلاق وهو تحلية النفس بالفضائل وتخليتها من الرذائل وان كان هذا العلم الآن قد عفت مراسمه وانطمست في هذه الأزمنة معالمه وانما المدار بين الناس الآن على العلم بهذه العلوم الرسمية المجامعة للفسق في جل من تسمى بها.

ويكفيك في صحة ما ذكرناه قول أمير المؤمنين (عليه‌السلام) لشريح (١) «يا شريح جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي».

ويدل على ما ذكرناه جملة من الأخبار ، ومنها ما رواه الثقة الجليل أبو منصور احمد بن ابى طالب الطبرسي في كتاب الاحتجاج (٢) بسنده الى الامام العسكري (عليه‌السلام) ـ وهو موجود أيضا في تفسيره ـ عن الرضا (عليه‌السلام) قال : «قال على بن الحسين (عليه‌السلام) إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه وتماوت في منطقه وتخاضع في حركاته فرويدا لا يغرنكم فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب المحارم منها لضعف

__________________

(١) الوسائل الباب ٣ من صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به.

(٢) ص ١٦٤.

٥٨

نيته ومهانته وجبن قلبه فينصب الدين فخا له فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فان تمكن من حرام اقتحمه ، فإذا وجدتموه يعف عن الحرام فرويدا لا يغرنكم فان شهوات الخلق مختلفة فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وان كثر ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرما ، فإذا وجدتموه يعف عن ذلك فرويدا لا يغرنكم حتى تنظروا ما عقله فما أكثر من ترك ذلك اجمع ثم لا يرجع الى عقل متين فيكون ما يفسده بجهله أكثر من ما يصلحه بعقله فإذا وجدتم عقله متينا فرويدا لا يغرنكم حتى تنظروا مع هواه يكون على عقله أم يكون مع عقله على هواه وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها فان في الناس من خسر الدنيا والآخرة يترك الدنيا للدنيا ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة فيترك ذلك أجمع طلبا للرئاسة حتى «إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ» (١) فهو يخبط خبط عشواء يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة ويمده ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه فهو يحل ما حرم الله تعالى ويحرم ما أحل الله لا يبالي بما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد شقي من أجلها «فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذابا مهينا» (٢) ولكن الرجل كل الرجل نعم الرجل هو الذي جعل هواه تبعا لأمر الله تعالى وقواه مبذولة في رضى الله يرى الذل مع الحق أقرب الى عز الأبد من العز في الباطل ويعلم ان قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد وان كثير ما يلحقه من سرائها ان اتبع هواه يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا زوال ، فذلكم الرجل نعم الرجل فيه فتمسكوا وبسنته فاقتدوا والى ربكم به فتوسلوا فإنه لا ترد له دعوة ولا تخيب له طلبة».

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٠٢.

(٢) يمكن ان يكون من تطبيق الآية ٨٣ و ٨٤ من سورة البقرة عليه وهي قوله تعالى (وَلَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ). الى قوله (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ).

٥٩

أقول : وقد اضطرب في التفصي عن هذا الخبر شيخنا الشيخ سليمان وتلميذه المحدث المتقدم ذكرهما بناء على ما قدمنا نقله عنهما من حكمهما باتحاد معنى العدالة في كل من اشترط اتصافه بها ، فقال المحدث الصالح المذكور ـ في كتاب منية الممارسين في أجوبة الشيخ ياسين بعد الكلام في العدالة وما به تتحقق ونقل هذا الخبر ـ ما صورته : انه محمول على تعريف الامام والولي ومن يحذو حذوهما من خواص الصلحاء وخلص أهل الإيمان الذين لا تسمح الأعصار منهم إلا بأفراد شاذة وآحاد نادرة ، ويرشد اليه قوله (عليه‌السلام) : «فذلكم الرجل نعم الرجل فبه فتمسكوا وبسنته فاقتدوا» بل لا يبعد أن يكون مراده الإمام خاصة ، ويرشد اليه قوله في آخر الحديث «فإنه لا ترد له دعوة ولا تخيب له طلبة» ويكون غرضه الرد على الزيدية ومن حذا حذوهم من القائلين بالاكتفاء في الإمام بظهور الصلاح والورع ، كيف وما ذكر لا يتحقق إلا في الأولياء الكمل فلو اعتبر ذلك لعظم الخطب واختل النظام وانسد باب القضاء والفتيا والتقليد والشهادات والجمعة والجماعات والطلاق وغير ذلك. هكذا حققه شيخنا في الكتاب المذكور وهو متين جدا. أقول : أشار بذلك الى ما نقله في أثناء كلامه المتقدم في المسألة عن شيخه المذكور في كتابه العشرة الكاملة.

ثم قال (قدس‌سره) وأقول : ان سياق الحديث دال بجملته على ان المراد تصعيب أمر الإمامة وتشديد أمرها وقرينة الرئاسة عليه شهادة كما لا يخفى ، وإلا فلا يستقيم حمله على غيره أصلا قطعا لما تقدم في رواية ابن ابى يعفور (١) من المعارضة الصريحة من قوله (عليه‌السلام) «حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته في الناس». وما تقدم في رواية علقمة وغيرها مما هو صريح في المعارضة واضح في المناقضة ، ولا يجوز التعارض في كلامهم (عليهم‌السلام) ولا التناقض ، مع ان هذه الرواية شاذة فالترجيح للأكثر

__________________

(١) ص ٢٥.

٦٠