الحدائق الناضرة - ج ١٠

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٩

لك ان شاء الله تعالى من الأخبار ـ عبارة عن أمر وجودي وصفة ثبوتية ولا سيما صحيح ابن ابى يعفور فإنه ظاهر في ذلك غاية الظهور لا مجرد أمر عدمي ، فإذا قيل «فلان عدل أو ذو عدالة» فإنما يراد به ان له أوصافا وجودية توجب صدق هذا العنوان عليه وهو كونه معروفا بالصلاح والتقوى والعفاف ونحو ذلك.

ويؤيد ما ذكرناه ما روى في تفسير الإمام العسكري (عليه‌السلام) بسنده عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (١) قال في قوله تعالى (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) (٢) قال «ليكونا من المسلمين منكم فان الله تعالى انما شرف المسلمين العدول بقبول شهاداتهم وجعل ذلك من الشرف العاجل لهم ومن ثواب دنياهم».

وعن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) (٣) في قوله عزوجل (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) (٤) قال : «ممن ترضون دينه وأمانته وصلاحه وعفته وتيقظه في ما يشهد به وتحصيله وتمييزه فما كل صالح مميز ولا كل محصل مميز».

وبالجملة فإطلاق العدالة على مجرد عدم ظهور الفسق أمر لا يفهم من حاق اللفظ ولا يتبادر الى فهم فاهم بالكلية فالحمل عليه انما هو من قبيل المعميات والألغاز الذي هو بعيد بمراحل عن الحقيقة بل المجاز ، ولو قامت هذه التأويلات السخيفة البعيدة في مقابلة الظواهر المتبادرة إلى الأفهام لم يبق دليل على حكم من الأحكام من أصول وفروع إذ لا لفظ إلا وهو قابل للاحتمال ولا قول إلا وللقائل فيه مجال ، فبما ذا يقيمون الحجج على المخالفين في الإمامة بل منكري التوحيد والنبوة إذا قامت مثل هذه التأويلات الغثة وعورض بها ما يتبادر من الأدلة؟

و (ثالثا) ان ما طعن به على الرواية المذكورة بضعف السند مردود ـ بناء على صحة هذا الاصطلاح ـ بأنه وان كان السند كذلك في التهذيب إلا ان الرواية المذكورة في الفقيه (٥) صحيحة وهي صريحة في رد ما ذهب اليه فتكون

__________________

(١ و ٣) الوسائل الباب ٤١ من الشهادات.

(٢ و ٤) سورة البقرة الآية ٢٨٢.

(٥) ستأتي ص ١٥.

٢١

من أقوى الحجج عليه.

و (رابعا) ان ما نقله ـ من القول بالإسلام عن هؤلاء الثلاثة الذين ذكرهم وان ما عداهم من المتقدمين لم يصرحوا في عباراتهم بأحد الأمرين ـ مردود بأن هؤلاء الثلاثة وان صرحوا بما ذكره في هذه الكتب التي أشار إليها إلا انهم صرحوا في غيرها بخلافه وقد تعارضت أقوالهم فتساقطت ، وإلا فإنه كما يتمسك هو بأقوالهم في هذه الكتب كذلك يتمسك خصمه بأقوالهم التي بخلافها في غير هذه الكتب. ودعوى ان غيرهم لم يصرحوا بأحد الأمرين مردود بما سيظهر لك ان شاء الله تعالى في البين.

وها نحن ننقل جملة من عبائر من وصل إلينا كلامهم لتقف على حقيقة الحال وتكون ممن يعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال.

فنقول : قال الشيخ في النهاية : العدل الذي يجوز قبول شهادته للمسلمين وعليهم هو ان يكون ظاهره ظاهر الإيمان ثم يعرف بالستر والصلاح والعفاف والكف عن البطن والفرج واليد واللسان ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار من شرب الخمر والزنا والربا وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وغير ذلك الساتر لجميع عيوبه ويكون متعاهدا للصلوات الخمس مواظبا عليهن حافظا لمواقيتهن متوفرا على حضور جماعة المسلمين غير متخلف عنهم إلا لمرض أو علة أو عذر.

وقال الشيخ المفيد : العدل من كان معروفا بالدين والورع عن محارم الله تعالى.

وقال ابن البراج : العدالة معتبرة في صحة الشهادة على المسلم وتثبت في الإنسان بشروط وهي البلوغ وكمال العقل والحصول على ظاهر الإيمان والستر والعفاف واجتناب القبائح ونفى التهمة والظنة والحسد والعداوة.

وقال أبو الصلاح : العدالة شرط في قبول الشهادة على المسلم ويثبت حكمها بالبلوغ وكمال العقل والايمان واجتناب القبائح اجمع وانتفاء الظنة بالعداوة والحسد والمنافسة وقال ابن الجنيد : فإذا كان الشاهد حرا بالغا مؤمنا عاقلا بصيرا معروف النسب

٢٢

مرضيا غير مشهور بكذب في شهادته ولا بارتكاب كبيرة ولا مقام على صغيرة حسن التيقظ عالما بمعاني الأقوال عارفا بأحكام الشهادة غير معروف بحيف على معامل ولا بتهاون بواجب من علم أو عمل ولا معروف بمباشرة أهل الباطل ولا الدخول في جملتهم ولا بالحرص على الدنيا ولا بساقط المروة بريئا من أقوال أهل البدع التي توجب على المؤمنين البراءة من أهلها فهو من أهل العدالة المقبولة شهادتهم.

وقال الشيخ في المبسوط : العدالة في اللغة أن يكون الإنسان متعادل الأحوال متساويا ، وفي الشريعة هو من كان عدلا في دينه عدلا في مروته عدلا في أحكامه ، فالعدل في الدين أن يكون مسلما لا يعرف منه شي‌ء من أسباب الفسق ، وفي المروة أن يكون مجتنبا للأمور التي تسقط المروة مثل الأكل في الطرقات ومد الأرجل بين الناس ولبس الثياب المصبغة ، والعدل في الأحكام أن يكون بالغا عاقلا ، فمن كان عدلا في جميع ذلك قبلت شهادته ومن لم يكن عدلا لم تقبل شهادته.

نقل جميع هذه الأقوال العلامة في المختلف ، قال : والتحقيق ان العدالة كيفية نفسانية راسخة تبعث المتصف بها على ملازمة التقوى والمروة وتتحقق باجتناب الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر. انتهى.

وأنت خبير بان هذه العبارات عدا عبارتي المبسوط والمختلف كلها ظاهرة الدلالة في القول الثالث الذي سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى وهو المختار من بين هذه الأقوال ، وبه يظهر لك صحة ما ذكرناه من تعارض أقوال هؤلاء الثلاثة الذين تقدم النقل عنهم وتصريح جملة من غيرهم بما ذكرناه من العدالة التي هي أمر زائد على مجرد الإسلام.

و (خامسا) ان ما استند اليه من الأخبار معارض بما هو أوضح وأصرح مع قبول ما ذكره للتأويل والرجوع الى الروايات الدالة على ما ادعيناه كما سيأتي ذكر ذلك ان شاء الله تعالى مشروحا مبرهنا.

(الثالث) من الأقوال في المسألة انها عبارة عن حسن الظاهر وهو قول أكثر متأخري المتأخرين مستندين فيه صحيح ابن ابى يعفور الآتي ان شاء

٢٣

الله تعالى (١) إلا انهم اكتفوا من حسن الظاهر بما هو القشر الظاهر ولم يعطوا التأمل حقه في الرواية المذكورة وما تدل عليه مما سنكشف عنه نقاب الإبهام ان شاء الله تعالى لكل ناظر.

وظاهر كلامهم أن المراد بحسن الظاهر هو ان لا يظهر منه ما يوجب الفسق من ارتكاب الكبائر والإصرار على الصغائر. وأنت خبير بان هذا المعنى لا يخرج عن القول الثاني فإن القائلين بالإسلام اعتبروا عدم ظهور الفسق.

ومن العجب انهم يستندون في هذا القول الى صحيح ابن ابى يعفور مع انه بالتعمق في معناه ـ كما سنوضحه لك ان شاء الله تعالى ـ بعيد عن هذا المعنى الذي ذكروه بمراحل.

ومن هذه الأقوال الثلاثة يظهر وجه الخلاف الذي ذكروه في أن الأصل في المسلم هل هو العدالة أو الفسق أو التوقف؟ فذهب بعضهم الى ان الأصل فيه العدالة ، وهذا مما يتفرع على تفسير العدالة بمجرد الإسلام كما هو القول الثاني ، ويعرف مستنده من الأخبار الواردة في ذلك وقد عرفت وستعرف ان شاء الله تعالى الجواب عنها ، وذهب آخرون الى ان الأصل فيه الفسق استنادا الى ان الأصل التكليف واشتغال الذمة بالعبادات والتكاليف ، والأصل عدم خروجه عن عهدتها حتى يعلم قيامه بها ، وهذا مناسب للقول الأول لأن الأصل عدم حصول الملكة المذكورة حتى يحصل الاطلاع عليها ولكنه بمحل من الضعف لدلالة الأخبار على حسن الظن بالمؤمن وحمل أفعاله على الصحة والمشروعية.

والتحقيق في المسألة هو القول الثالث وهو التوقف حتى يعلم أحد الأمرين من عدالة أو فسق ، وهذا هو الأنسب بالقول الثالث الذي اخترناه.

وكيف كان فلنشتغل بنقل الأخبار الواردة في المقام ليظهر لك صحة ما ذكرناه من هذا الكلام فنقول :

__________________

(١) ص ٢٥.

٢٤

المقام الثالث ـ في نقل الأخبار الواردة ، وها نحن ننقل ما وصل إلينا منها مبتدئين بما يدل على ما اخترناه وينادى بما قلناه عاطفين الكلام على نقل الأخبار التي استند إليها أولئك الأعلام مذيلين لها بما يقتضيه المقام من نقض وإبرام بتوفيق الملك العلام وبركة أهل البيت (عليهم‌السلام) :

فنقول : من الأخبار الدالة على ما اخترناه صحيحة عبد الله بن ابى يعفور ، وهذه الرواية رواها الصدوق في الصحيح والشيخ في التهذيب بطريق غير صحيح (١) وفي المتن في الكتابين تفاوت بالزيادة والنقصان ونحن ننقلها كما نقلها في الوافي (٢) عن الكتابين معلما لموضع الاختصاص بعلامة وموضع الاشتراك بما يدل على ذلك :

فرويا بسنديهما عن عبد الله بن ابى يعفور قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال ان تعرفوه بالستر والعفاف وكف البطن والفرج واليد واللسان ، وتعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار من شرب الخمر والزنا والربا وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وغير ذلك ، والدلالة على ذلك كله ان يكون ساترا لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته في الناس ويكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن وحفظ مواقيتهن بحضور جماعة من المسلمين وان لا يتخلف عن جماعتهم في مصلاهم إلا من علة (فقيه) فإذا كان كذلك لازما لمصلاه عند حضور الصلوات الخمس فإذا سئل عنه في قبيلته ومحلته قالوا ما رأينا منه إلا خيرا مواظبا على الصلاة متعاهدا لأوقاتها في مصلاه فان ذلك يجيز شهادته وعدالته بين المسلمين (ش) (٣) وذلك ان الصلاة ستر وكفارة للذنوب (فقيه) وليس يمكن الشهادة على الرجل بأنه يصلى إذا كان لا يحضر مصلاه ويتعاهد جماعة المسلمين ، وانما جعل الجماعة والاجتماع إلى الصلاة

__________________

(١) الوسائل الباب ٤١ من الشهادات.

(٢) ج ٩ ص ١٤٩.

(٣) إشارة إلى مورد الاشتراك بين الكتابين.

٢٥

لكي يعرف من يصلى ممن لا يصلى ومن يحفظ مواقيت الصلاة ممن يضيع (ش) ولولا ذلك لم يكن لأحد أن يشهد على آخر بصلاح لان من لا يصلى لا صلاح له بين المسلمين (يب) لان الحكم جرى من الله تعالى ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالحرق في جوف بيته (فقيه) فان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) هم بان يحرق قوما في منازلهم لتركهم الحضور لجماعة المسلمين وقد كان فيهم من يصلى في بيته فلم يقبل منه ذلك وكيف تقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممن جرى الحكم من الله ومن رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فيه بالحرق في جوف بيته بالنار (ش) وقد كان (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يقول لا صلاة لمن لا يصلى في المسجد مع المسلمين إلا من علة (يب) وقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لا غيبة إلا لمن صلى في بيته ورغب عن جماعتنا ، ومن رغب عن جماعة المسلمين وجب على المسلمين غيبته وسقطت بينهم عدالته ووجب هجرانه وإذا رفع الى امام المسلمين أنذره وحذره فان حضر جماعة المسلمين وإلا أحرق عليه بيته ومن لزم جماعتهم حرمت عليهم غيبته وثبتت عدالته بينهم».

أقول : لا يخفى ان هذه الرواية قد اشتملت على شيئين في حصول العدالة وانها عبارة عنهما (الأول) ـ انه لا بد في ثبوتها من معرفته بالستر والعفاف وكف البطن والفرج. الى آخره ، والعطف هنا من قبيل عطف الخاص على العام تفصيلا للإجمال في المقام ، ولا ريب ان اشتراط معرفته بالكف عن هذه الأشياء يتوقف على نوع معاشرة واختبار مطلع على باطن الأحوال ، وذلك انك لا تقول «فلان معروف بالشجاعة» إلا بعد أن تعرف حاله في ميدان القتال ومنازلة الابطال فإذا كان ممن يقتل الرجال ولا يولى الدبر في موضع النزال ويقاوم الشجعان ويصادم الفرسان صح وصفه بالشجاعة وان تفاوتت إفرادها شدة وضعفا وهكذا لا تقول «فلان معروف بالطب والحكمة في الأبدان» إلا إذا كان ممن علم تأثير أدويته وجودة قريحته في شفاء المرضى والاطلاع على معرفة العلل والأدواء ونحو ذلك ، وحينئذ فلا يقال فلان معروف بكف البطن والفرج واليد واللسان ونحو ذلك إلا بعد اختباره بالمعاملات والمحاورات الجارية بين الناس كما لو وقع في

٢٦

يده مال لغيره أمانة أو تجارة أو نحو ذلك ، أو جرى بينه وبين غيره خصومة أو نزاع وان اعتدى عليه ، فان كان ممن لا يتعدى في ذلك الحدود الشرعية والنواميس المرعية فهو هو وإلا فلا ، واما من لم يحصل الاطلاع على باطن أحواله بوجه وان رؤي ملازما على الصلاة أو الدرس أو التدريس والإفتاء فضلا عن ان يكون من الغثاء فهو من قبيل مجهول الحال لا يصدق عليه انه يعرف بذلك بل يحتمل أن يكون كذلك وان لا يكون ، وكم قد رأينا في زماننا من هو ملازم للصلاة والدعاء وسائر العبادات بل التصدر للتدريس والفتوى وامامة الجماعة حتى إذا صار بينه وبين أحد معاملة الدرهم والدينار أو وقع في يده مال طفل أو مسجد أو وقف أو نحو ذلك انقلب الى حالة اخرى وصار همه التوصل بالغلبة والاستيلاء بكل وجه ممكن وان تفاوتت في ذلك افراد الناس باعتبار تفاوت المقامات ، ونحو ذلك فيما إذا اعتدى عليه معتد باللسان أو سلب المال فربما قابله بأزيد مما اعتدى عليه وربما استنكف عن ذلك حياء من الناس في الظاهر ولكن يتربص به الغوائل وينصب له شباك العداوة ولو انه قابل بالصفح والحلم والعفو لكان هو هو.

وبالجملة فإنه إنما تعرف أحوال الناس وما هم عليه من هذه الأشياء المذكورة في الخبر وحسن وقبح وعدالة وفسق بالابتلاء والامتحان في المعاملات والمحاورات والمخاصمات ، فيجب ان ينظر حاله لو كان له على غيره مال في الاقتضاء ولو كان لغيره عليه مال في القضاء وكيف حاله في الغضب ان اعتدى أحد عليه وما الذي يجري منه لو أساء أحد اليه ونحو ذلك ، فان كان في جميع ذلك انما يقابل بالرضا والانقضاء وحسن المعاملة في القضاء والاقتضاء والجري على قواعد الشريعة المحمدية ولا يستفزه الغضب في الخروج عن تلك الطريقة العلية فهو هو وإلا فليس بذلك.

وهذا هو الذي لحظه (عليه‌السلام) في الخبر وبه تشهد رؤية العيان وعدول الوجدان ولا سيما في هذا الزمان ، وهذا هو الذي يتبادر من العبارة المذكورة أعني قولنا ان العدالة عبارة عن حسن الظاهر أى حسن ما يظهر منه بعد الابتلاء والامتحان

٢٧

والاختبار بما ذكرنا ونحوه. واما مجرد رؤية الرجل على ظاهر الايمان عالما فاضلا أو جاهلا خاملا وان لم يظهر منه ما يوجب الفسق فهو مجهول الحال ولم يظهر منه ما يوجب وصفه بالعدالة المذكورة في هذا الخبر ، فان عدم ظهور ما يوجب الفسق لا يدل على العدم والشرط كما عرفت من الرواية ظهور العدم لا عدم الظهور والفرق بين المقامين واضح.

ومما يؤيد ما ذكرناه من الفحص والمعاشرة قوله (عليه‌السلام) «فإذا سئل عنه في قبيلته ومحلته. الى آخره» فإنه صريح كما ترى في وجوب السؤال ، وتخصيص القبيلة والمحلة من حيث انهم أقرب الى الاطلاع على أحواله بالمعاشرة والمخالطة كما لا يخفى.

(فان قيل) انه يصدق على من لم يظهر منه ما يوجب الفسق انه معروف بالتقوى والعفاف (قلنا) هذا كلام مجمل ، فإن أريد من لم يظهر منه في موضع تقضى العادة الجارية بين الناس بالإظهار فهو عين ما نقوله فمرحبا بالوفاق ، فان من اعتدى عليه بيد أو لسان أو سلب مال وكف لسانه ويده عن الاعتداء ولم يتجاوز الحدود الشرعية في الاقتضاء أو وقع في يده شي‌ء من الحطام الحرام فكف نفسه عنه فهذا هو الذي ندعيه ، واما من لم يكن كذلك بان لم تصل يده الى شي‌ء أو لم يحصل له من يعتدى عليه فلا يوصف بالكف لان الكف انما يقال في موضع يقتضي البسط ألا ترى انه لا يقال للزاهد في الدنيا من حيث انها زاهدة فيه انه زاهد حقيقة ويترتب عليه ما أعده الله للزاهدين وانما يقال لمن تمكن منها ووقعت في يده فكف يده عنها ومنع نفسه من الدخول فيها والتعرض لها؟ ثم ألا ترى ان شر خلق الله الكلاب والسباع وأنت إذا قابلتها باللطف والإكرام تكون معك في تمام الألفة والصحبة وإذا قابلتها بالتعدي ترى ما يظهر منها من الشر والجرأة؟

(فإن قيل) ان قوله (عليه‌السلام) في الخبر «والدلالة على ذلك أن يكون ساترا لجميع عيوبه» ظاهر في انه يكفى في الحكم بعدالته انه يظهر من حاله انه ساتر لعيوبه بمعنى انه لم يظهر منه فسق كما أشار إليه في المدارك ، قال (قدس‌سره) في الكتاب

٢٨

المذكور بعد ذكر الرواية : ويستفاد من هذه الرواية انه يقدح في العدالة فعل الكبيرة التي أوعد الله عليها النار وانه يكفى في الحكم بها ان يظهر من حال المكلف كونه ساترا لعيوبه ملازما لجماعة المسلمين. انتهى.

أقول : كما انه يستفاد من الرواية قدح فعل الكبيرة في العدالة كذلك يستفاد منها قدح فعل الصغيرة فلا وجه لتخصيص الكبيرة بالذكر بل ربما أوهم ان فعل الصغيرة غير مخل بالعدالة وهو وان وافق مذهبه في اكتفائه في معنى العدالة بمجرد الإسلام إلا ان الخبر ظاهر في ما قلناه من قدح فعل الصغيرة ، فإن قوله (عليه‌السلام) «ان تعرفوه بالستر والعفاف وكف البطن. الى آخره» راجع الى اجتناب الصغائر ثم عطف عليها اجتناب الكبائر ، وملخصه انه يجب ان يعرف بالتقوى والعفاف عن كل صغيرة وكبيرة ، ولا يخفى انه لا يمكن ذلك إلا بالمعاشرة والاطلاع على أحواله كما قدمنا ذكره.

واما ما ذكره ـ بقوله «ويكفي في الحكم بها ان يظهر من حال المكلف كونه ساترا لعيوبه» إشارة الى ما يدعونه من ان حسن الظاهر عبارة عن ان لا يظهر منه عيب للناس ولا فسق ـ فقد عرفت ما فيه وانه كلام مجمل ولكنه ليس هو المراد هنا من كلامه وانما كلامه (عليه‌السلام) هنا وقع من قبيل الإجمال بعد التفصيل ، فإنه بعد أن فسر العدالة بأنها عبارة عن ان يعرف بكذا وكذا الراجع إلى انه لا بد من العلم بتقواه وكفه عن هذه الأشياء أجمل ذلك فقال : ومجملة ان لا يقف أحد على عيب يذم به بل يكون صلاحه وتقواه وما علم منه ساترا لعيوبه بغلبته عليها واضمحلالها به فلا يجوز لهم بعد ذلك البحث والتفتيش عن انه هل له عثرات وعيوب أم لا؟

وأنت إذا أعطيت التأمل حقه في معنى هذه الرواية كما شرحناه وأوضحناه وجدتها قريبة من القول المشهور بين المتأخرين وانه لا فرق بينها وبين ما ذهبوا اليه إلا من حيث اعتبارهم كون التقوى ملكة وقد عرفت انه لا دليل عليه وإلا فاشتراط العلم بالصلاح والتقوى والعفاف وعدم الإخلال بالواجبات واجتناب

٢٩

المحرمات مما لا شك فيه وهو الذي صرحت به أيضا عبائر المتقدمين التي قدمنا نقلها الثاني ـ التعاهد للصلوات الخمس بالحضور مع جماعة المسلمين ، وهذا الشرط وان لم يذكره أحد من الأصحاب بل ربما صرحوا بأن الإخلال بالمندوبات لا يقدح في وصف العدالة واستثنى بعضهم ما إذا كان على وجه يؤذن بالتهاون وعدم المبالاة بكمالات الشرع فجعله قادحا ، إلا ان هذا الخبر كما عرفت قد تضمن هذا الشرط على أبلغ وجه واوكده فيجب القول به ويتعين العمل عليه ونحن تبع لأقوالهم (عليهم‌السلام) لا لأقوال الفقهاء إلا ان تعتضد بأخبارهم في المقام. وبذلك ايضا صرح شيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني (نور الله مرقده) في بعض أجوبته.

ثم ان الظاهر انه (عليه‌السلام) انما آثر الصلاة جماعة في كونها مظهرا للعدالة ودليلا عليها من حيث استفاضة الأخبار بان الصلاة عمود الدين (١). وان بقبولها تقبل سائر الأعمال وان كانت باطلة وبردها ترد سائر الأعمال وان كانت صحيحة (٢) وانها معيار الكفر والايمان (٣) وانها متى اتى بها في وقتها بحدودها كانت كفارة للذنوب الواقعة في ذلك اليوم (٤) وانها كما قال عزوجل «تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» (٥) واعتبار حضور الجماعة فيها ليعلم الإتيان بها ويمكن الحكم على الآتي بها بالعدالة كما صرح به في الخبر.

ومن الأخبار الدالة على ما اخترناه زيادة على هذه الصحيحة الصريحة في المراد العارية عن وصمة الاعتراض والإيراد ما ذكره الإمام العسكري (عليه‌السلام)

__________________

(١) الوسائل الباب ٦ و ٨ من أعداد الفرائض ونوافلها.

(٢) الوسائل الباب ٨ من أعداد الفرائض ونوافلها.

(٣) الوسائل الباب ١١ من أعداد الفرائض ونوافلها.

(٤) الوسائل الباب ٢ و ٧ من أعداد الفرائض ونوافلها.

(٥) سورة العنكبوت الآية ٤٤.

٣٠

في تفسيره (١) في تفسير قوله تعالى «مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ» (٢) قال : «يعنى ممن ترضون دينه وأمانته وصلاحه وعفته وتيقظه في ما يشهد به وتحصيله وتمييزه فما كل صالح مميز ولا محصل ولا كل محصل مميز صالح ، وان من عباد الله لمن هو أهل لصلاحه وعفته ولو شهد لم تقبل شهادته لقلة تمييزه ، فإذا كان صالحا عفيفا مميزا محصلا مجانبا للعصبية والهوى والميل والتحامل فذلك الرجل الفاضل. الحديث». وهو جار على ما تقدم في جملة من عبارات أصحابنا المتقدمين التي قدمناها والخبر المذكور ظاهر الدلالة واضح المقالة في ما ادعيناه.

ويعضد ذلك جملة من الأخبار وان لم تكن مثل هذين في الوضوح والظهور السالم من الإنكار :

منها ـ ما رواه الشيخ الصدوق في الخصال عن الرضا عن آبائه عن على (عليهم‌السلام) (٣) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من عامل الناس فلم يظلمهم وحدثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروته وظهرت عدالته ووجبت اخوته وحرمت غيبته».

وما رواه فيه ايضا بسنده عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٤) قال «ثلاث من كن فيه أوجبت له أربعا على الناس : من إذا حدثهم لم يكذبهم وإذا وعدهم لم يخلفهم وإذا خالطهم لم يظلمهم ، وجب أن تظهر في الناس عدالته وتظهر فيهم مروته وان تحرم عليهم غيبته وان تجب عليهم أخوته».

أقول : لا يخفى عليك ما في دلالة هذين الخبرين على ما ادعيناه زيادة على الصحيحة المتقدمة من اعتبار المعاشرة والمخالطة في معرفة العدالة لتصريحهما بأن العدالة تثبت بهذه الأمور المعدودة فيهما ومن الظاهر ان هذه الأمور لا تحصل إلا

__________________

(١) تفسير الصافي في تفسير الآية وفي الوسائل في الباب ٤١ من الشهادات.

(٢) سورة البقرة الآية ٢٨٢.

(٣ و ٤) الوسائل الباب ٤١ من الشهادات.

٣١

بالمخالطة والمعاشرة حسبما قدمنا تحقيقه ، وبالجملة فإنهما واضحان كالخبرين السابقين في المراد عاريان عن وصمة الإيراد إلا عند من أعمى الله بصر بصيرته بالعناد واللداد.

ومنها ـ ما رواه أبو بصير في الموثق عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفا صائنا».

ومنها ـ رواية العلاء بن سيابة عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٢) «في المكاري والملاح والجمال؟ قال : وما بأس بهم تقبل شهادتهم إذا كانوا صلحاء».

ورواية عمار بن مروان (٣) «في الرجل يشهد لابنه والابن لأبيه والرجل لامرأته؟ قال : لا بأس بذلك إذا كان خيرا».

ورواية سماعة (٤) قال : «سألته عن رجل مات وله بنون وبنات صغار وكبار من غير وصية وله خدم ومماليك وعقد كيف يصنع الورثة بقسمة ذلك الميراث؟ قال أن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله فلا بأس».

والتقريب فيها ـ كما ذكره الأصحاب ـ ان هذا من الأمور الحسبية الراجعة إلى الحاكم الشرعي أو عدول المؤمنين وهو (عليه‌السلام) قد ناط ذلك بالثقة خاصة لا من اتصف بمجرد الإسلام.

ورواية هشام بن سالم عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٥) في حديث في الوكالة قال (عليه‌السلام) «والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافه بالعزل عن الوكالة».

والتقريب بنحو ما تقدم حيث ان الوكيل لا ينعزل عن الوكالة إلا بعد العلم بالعزل كما صرح به الأصحاب (رضوان الله عليهم) وهو (عليه‌السلام) قد جعل خبر الثقة قائما مقام المشافهة ، ولفظ الثقة هنا يساوق لفظ العدل في الأخبار المتقدمة فهي بمعنى العدل.

__________________

(١ و ٣) الوسائل الباب ٤١ من الشهادات.

(٢) الوسائل الباب ٣٤ من الشهادات. وأبو عبد الله يروى عن ابى جعفر (ع).

(٤) الوسائل الباب ٨٨ من الوصايا. وفي نسخ الحدائق (رفاعة).

(٥) الوسائل الباب ٢ من الوكالة.

٣٢

وصحيحة محمد بن مسلم عن ابى جعفر (عليه‌السلام) (١) قال : «لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس».

ورواية محمد بن مسلم (٢) قال : «قدم رجل الى أمير المؤمنين (عليه‌السلام) بالكوفة فقال انى طلقت امرأتي بعد ما طهرت من محيضها قبل ان أجامعها؟ فقال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) أشهدت رجلين ذوي عدل كما قال الله تعالى؟ فقال : لا. فقال اذهب فإن طلاقك ليس بشي‌ء».

ورواية جابر عن ابى جعفر (عليه‌السلام) (٣) قال : «شهادة القابلة جائزة على انه استهل أو برز ميتا إذا سئل عنها فعدلت».

الى غير ذلك من الأخبار الدالة على اعتبار عدالة الشاهد كما لا يخفى على من راجعها من مظانها مثل مسألة رؤية الهلال والطلاق والشهادات والدين ونحوها وان اختلفت في تأدية ذلك إجمالا وتفصيلا ، فربما عبر في بعضها بالشاهدين بقول مطلق وربما عبر بالعدلين وربما عبر بالأوصاف التي هي شرط في حصول العدالة إجمالا أو تفصيلا.

ولا ريب ان ضم الأخبار بعضها الى بعض وحمل مطلقها على مقيدها ومجملها على مفصلها يقتضي ان العدالة أمر زائد على مجرد الإسلام أو الايمان.

ولا يخفى ايضا ان مقتضى العمل بتلك الأخبار التي استندوا في الاكتفاء بمجرد الإسلام إليها طرح هذه الأخبار مع اعتضادها بالآية الشريفة حسبما قدمناه وعمل جملة من متقدمي الأصحاب كما قدمنا من نقل عباراتهم ، على ان تلك الأخبار التي استندوا إليها غير واضحة الدلالة كما سنكشف عنه ان شاء الله تعالى نقاب الإبهام في المقام بتوفيق الملك العلام وبركة أهل الذكر (عليهم‌السلام).

__________________

(١) الوسائل الباب ١٤ من كيفية الحكم و ٤١ من الشهادات.

(٢) الوسائل الباب ١٠ من مقدمات الطلاق وشرائطه.

(٣) الوسائل الباب ٢٤ و ٤١ من الشهادات.

٣٣

وها نحن نسوقها لك على التفصيل مذيلين لها بما لا يخفى صحته وقوته على ذوي الفهم من ذوي التحصيل فنقول :

(الاولى والثانية) صحيحة حريز عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (١) «في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا فعدل منهم اثنان ولم يعدل الآخران؟ قال إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور أجيزت شهادتهم جميعا وأقيم الحد على الذي شهدوا عليه ، انما عليهم ان يشهدوا بما أبصروا وعلموا وعلى الوالي ان يجيز شهادتهم إلا ان يكونوا معروفين بالفسق».

وما رواه الصدوق في كتاب المجالس بإسناده عن صالح بن علقمة عن أبيه (٢) قال : «قال الصادق جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) وقد قلت له يا ابن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أخبرني عن من تقبل شهادته ومن لا تقبل؟ فقال يا علقمة كل من كان على فطرة الإسلام جازت شهادته. قال فقلت له تقبل شهادة المقترف للذنوب؟ فقال يا علقمة لو لم تقبل شهادة المقترفين للذنوب لما قبلت إلا شهادة الأنبياء والأوصياء لأنهم هم المعصومون دون سائر الخلق ، فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا أو يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة والستر وشهادته مقبولة وان كان في نفسه مذنبا. الحديث».

وهذان الخبران أظهر ما استدل به للقول المذكور وأنت خبير بان الخبر الثاني ضعيف باصطلاحهم فلا يصلح للاستدلال ولا يمكنهم الاحتجاج به إلا انه حيث كان الأمر عندنا خلاف ما اصطلحوا عليه أوردناه دليلا لهم وتكلفنا الجواب عنه حسما لمادة الشبهة.

والجواب عنهما (أولا) انهما لا يبلغان قوة في معارضة الأخبار التي قدمناها المترجحة بالآية المتقدمة ، وقد ورد عنهم (عليهم‌السلام) في القواعد المقررة والضوابط المعتبرة التي قرروها انه مع اختلاف الأخبار يجب عرضها على كتاب

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ٤١ من الشهادات.

٣٤

الله تعالى والأخذ بما وافقه ورمى ما خالفه ، ولا ريب ان الروايات المتقدمة موافقة للآية في اشتراط العدالة التي هي أمر زائد على مجرد الإسلام كما تقدم إيضاحه ، وهذان الخبران على خلاف ما دلت عليه الآية فيجب طرحهما وردهما إلى قائلهما بمقتضى القاعدة المذكورة.

و (ثانيا) ـ بالحمل على التقية التي هي في الأحكام الشرعية أصل كل بلية ، ويعضده ما ذكره بعض أصحابنا من أن بعض العامة يذهب الى ان الأصل في المسلم العدالة (١) ويعضده ايضا ما ذكره الشيخ في الخلاف من ان البحث عن عدالة الشهود ما كان في أيام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ولا أيام الصحابة ولا أيام التابعين وانما هو شي‌ء أحدثه شريك بن عبد الله القاضي (٢) ولو كان شرطا لما أجمع أهل الأمصار على تركه. فإنه دال بأوضح دلالة على ان قضاة العامة من وقت الصحابة إلى وقت شريك المذكور كانوا على الحكم بالعدالة بمجرد الإسلام ، ومن الظاهر ان القضاء والحكم بعد موت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إنما كان في أيديهم ومتى ثبت ذلك اتجه حمل ما دل من

__________________

(١) في المغني ج ٩ ص ٦٤ في مسألة قبول شهادة مجهول الحال عن احمد ان ظاهر المسلمين العدالة فيحكم بشهادتهما إذا عرفت إسلامهما بظاهر الحال ، وقال عمر : المسلمون عدول بعضهم على بعض. ثم ذكر ان أعرابيا جاء إلى النبي «ص» فشهد برؤية الهلال فقال له النبي «ص» أتشهد ان لا إله إلا الله؟ فقال نعم. فقال أتشهد انى رسول الله؟ قال نعم فصام وأمر الناس بالصيام. ثم اختار ابن قدامة كون العدالة شرطا فيجب البحث عنها وبه قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد. وفي بدائع الصنائع ج ٦ ص ٢٧٠ ان أبا حنيفة يعتبر العدالة الظاهرة لا الحقيقية ودليله قوله تعالى «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» اى عدلا فوصف سبحانه مؤمني هذه الأمة بالوساطة وهي العدالة وقال عمر «عدول بعضهم على بعض» فصارت العدالة أصلا في المؤمنين وزوالها بعارض. وفي البحر الرائق ج ٧ ص ٦٩ عن أبي حنيفة يقتصر الحاكم على ظاهر العدالة في المسلم ولا يسأل حتى يطعن الخصم لقوله «ص» الناس عدول بعضهم على بعض.

(٢) ارجع الى التعليقة ٣ ص ١٨ و ١ ص ١٩.

٣٥

أخبارنا على مجرد الاكتفاء بالإسلام على التقية. واما ما يوجد في كلام متأخري علمائهم من تفسير العدالة بالملكة فلعله حدث أخيرا من زمن شريك ونحوه كما حدث ذلك لمن تبعهم من متأخري أصحابنا (رضوان الله عليهم) مع عدم وجوده في كلام متقدميهم.

و (ثالثا) انه متى قيل بما دل عليه الخبران المذكوران ونحوهما من ان العدالة عبارة عن مجرد الإسلام فاللازم من ذلك طرح تلك الأخبار الصحيحة الصريحة في أن العدالة عبارة عن أمر زائد على مجرد الإسلام من التقوى والصلاح والعفاف ونحو ذلك من تلك الأوصاف وكذا مخالفة الآية وهو مما يلتزمه محصل ، فالواجب حمل الخبرين المذكورين على ما ذكرناه من التقية وإلا فطرحهما بموجب تلك القاعدة المتقدمة الواضحة.

و (رابعا) انه يحتمل تقييد الخبرين المذكورين بما قدمنا من الأخبار وذلك فإن غاية هذين الخبرين أن يكونا مطلقين بالنسبة إلى اشتراط العدالة وطريق الجمع في مثل هذا المقام حمل المطلق على المقيد ، والى ذلك يشير كلام المحدث الكاشاني في الوافي حيث انه نقل في أول الباب صحيحة ابن ابى يعفور المتقدمة (١) ثم نقل بعدها رواية اللاعب بالحمام المتضمنة لنفي البأس عن قبول شهادته إذا لم يعرف بفسق (٢) ثم نقل خبر حريز المذكور ومرسلة يونس الآتية ان شاء الله تعالى ثم قال ما صورته : والجمع بين هذه الأخبار يقتضي تقييد مطلقها بمقيدها اعنى تقييد ما سوى الأول بما في الأول من التعاهد للصلوات والمواظبة على الجماعات إلا من علة وانه الميزان في معرفة العدالة. إلخ.

(الثالثة) مرسلة يونس عن بعض رجاله عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «خمسة أشياء يجب على الناس ان يأخذوا فيها بظاهر الحكم : الولايات والتناكح والمواريث والذبائح والشهادات ، فإذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته ولا يسأل عن باطنه».

__________________

(١) ص ٢٥.

(٢) الوسائل الباب ٤١ من الشهادات.

(٣) الوسائل الباب ٢٢ من كيفية الحكم.

٣٦

والجواب (أولا) بضعف السند الذي به يضعف عن معارضة ما قدمنا من الآية والأخبار.

و (ثانيا) بان قوله (عليه‌السلام) في آخر الخبر «فإذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته» بالدلالة على ما ندعيه أشبه ، ولعله استدراك منه (عليه‌السلام) بالنسبة إلى الشهادة دون تلك الأشياء المعدودة ، وذلك فإنه إنما يحكم على ظاهره بالمأمونية مع العلم بما يوجب ذلك من الصفات المتقدمة في تلك الروايات المكنى بها عن العدالة وإلا فمجهول الحال الذي إنما رؤي حال الحضور عند الحاكم الشرعي للشهادة مثلا كيف يوصف بكون ظاهره مأمونا وهو مجهول ، إذ مجرد الإسلام لا يكفي في المأمونية لأن الظاهر الذي يوجب الحكم عليه بالمأمونية إنما هو معرفته في عباداته ومعاملاته ونحو ذلك لا الظاهر الذي هو عبارة عن رؤية شخصه وكونه مسلما.

ولو قيل : ان المراد إنما هو ظاهر الإسلام لأن الأصل في المسلم الستر والعفاف (قلنا) هذا الأصل ممنوع وضرورة العيان وعدول الوجدان في أبناء نوع الإنسان ولا سيما في هذه الأزمان أعدل شاهد في البيان بل الأصل انما هو مجهولية الحال حتى يظهر أحد الأمرين من العدالة والفسق.

و (ثالثا) ما ذكره المحدث الكاشاني في معنى الخبر المذكور حيث قال في كتاب الوافي بعد نقله ما صورته : بيان ـ يعنى ان المتولي لأمور غيره إذا ادعى نيابته مثلا أو وصايته والمباشر لامرأة إذا ادعى زواجها والمتصرف في تركة الميت إذا ادعى نسبه وبائع اللحم إذا ادعى تذكيته والشاهد على أمر إذا ادعى العلم به ولا معارض لأحد من هؤلاء تقبل أقوالهم ولا يفتش عن صدقهم حتى يظهر خلافه بشرط ان يكون مأمونا بحسب الظاهر. انتهى. وحاصله الرجوع الى قبول قول من ادعى شيئا ولا معارض له وهي مسألة أخرى خارجة عن ما نحن فيه.

(الرابعة) موثقة عبد الله بن ابى يعفور عن أخيه عبد الكريم عن ابى جعفر (عليه‌السلام) (١) قال : «تقبل شهادة المرأة والنسوة إذا كن مستورات من أهل البيوتات معروفات

__________________

(١) الوسائل الباب ٤١ من الشهادات.

٣٧

بالستر والعفاف مطيعات للأزواج تاركات للبذاء والتبرج الى الرجال في أنديتهم».

والجواب ان هذه الرواية لما ندعيه أقرب وبما ذهبنا إليه انسب فإنه (عليه‌السلام) قد شرط في صحة شهادتهن أمورا زائدة على الإسلام لا بد ان يعرف اتصافهن بها وهي العفاف والتقوى وترك المعاصي والمحرمات التي ربما صدر منهن في تلك المقامات

(الخامسة والسادسة) رواية عبد الرحيم القصير (١) قال : «سمعت أبا جعفر (عليه‌السلام) يقول إذا كان الرجل لا تعرفه يؤم الناس فقرأ القرآن فلا تقرأ خلفه واعتد بصلاته».

ومرسلة ابن ابى عمير عن بعض أصحابه عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٢) «في قوم خرجوا من خراسان أو بعض الجبال وكان يؤمهم رجل فلما صاروا إلى الكوفة علموا أنه يهودي؟ قال لا يعيدون».

والجواب ان هذين الخبرين معارضان عموما بما تقدم من صحيحة ابن ابى يعفور وغيرها الدالة على اشتراط العدالة وموردها وان كان الشاهد إلا ان الظاهر كما صرح به جملة من الأصحاب ان العدالة المعتبرة بأي معنى أخذت فإنه لا فرق فيها بين الشاهد والامام ونحوهما ، وخصوصا بجملة من الأخبار : منها رواية ابى على بن راشد ورواية خلف بن حماد ورواية إبراهيم بن على المرافقي وابى أحمد عمرو بن الربيع البصري ونحوها من الروايات المتقدم جميع ذلك في المقام الأول.

وبالجملة فما ذكرناه من الروايات عموما وخصوصا ان لم يكن أرجح ولا سيما مع اعتضادها بعمل الطائفة المحقة سلفا وخلفا في الإمامة فلا أقل أن يكون معارضا لهما فلا يمكن التعلق بهما ، وحملهما على التقية أقرب قريب لاتفاق العامة على جواز الصلاة خلف كل بر وفاجر (٣) فكيف المجهول الحال.

__________________

(١) الوسائل الباب ١٢ من صلاة الجماعة.

(٢) الوسائل الباب ٣٧ من صلاة الجماعة.

(٣) في المغني ج ٢ ص ١٨٩ «الجمع والأعياد تصلى خلف كل بر وفاجر وقد كان احمد يشهدهما مع المعتزلة وكذلك العلماء الذين في عصره ، ولان هذه الصلاة من شعائر

٣٨

وبهذين الخبرين مع رواية عمر بن يزيد الآتية ان شاء الله تعالى استدل شيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني (قدس‌سره) في أجوبة المسائل الشوشترية على ما اختاره من أن العدالة عبارة عن حسن الظاهر ، وهو مؤذن بصحة ما قدمنا نقله عنهم من انهم انما جمدوا على القشر الظاهر من هذا اللفظ ولم يعطوا التأمل حقه كما لا يخفى على الخبير الماهر ، وان قولهم بذلك يرجع الى مذهب المفسرين للعدالة بمجرد الإسلام ، مع انهم زعموا كونه قولا ثالثا في المقام والحال كما ترى مما هو ظاهر لذوي الأفهام ، على انه ايضا يمكن تأويل رواية عبد الرحيم بأن صلاة الناس خلفه بمنزلة الشهادة على عدالته سيما إذا كان فيهم من يعتقد عدالته وان كان ظاهر الأصحاب انه لا يجوز ذلك إلا بعد الفحص والسؤال وحمل مرسلة ابن ابى عمير على ان ذلك اليهودي أظهر لهم الصلاح حتى حصل لهم الاعتقاد بعدالته.

(السابعة) رواية عمر بن يزيد (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن امام لا بأس به في جميع أموره عارف غير انه يسمع أبويه الكلام الغليظ الذي يغيظهما اقرأ خلفه؟ قال لا تقرأ خلفه ما لم يكن عاقا قاطعا».

والجواب انه لا ريب ان هذا الخبر بظاهره دال على عدم ثبوت العقوق بإسماع أبويه الكلام الغليظ الذي يغيظهما ولا شك ولا إشكال في ثبوت العقوق بذلك لأن

__________________

الإسلام الظاهرة وتليها الأئمة دون غيرهم فتركها خلفهم يفضى الى تركها بالكلية» وفي بدائع الصنائع ج ١ ص ١٥٦ «تجوز الصلاة خلف الفاسق في قول العامة لما روى من قوله «ص» «صلوا خلف كل بر وفاجر» والحديث وان ورد في الجمع والأعياد لتعلقهما بالأمراء وأكثرهم فساق لكنه بظاهره حجة في ما نحن فيه إذ العبرة بعموم اللفظ لا خصوص السبب» وفي البداية لابن رشد ج ١ ص ١٢٣ طبع سنة ١٣٣٩ «اختلفوا في إمامة الفاسق فردها قوم بإطلاق وأجازها قوم بإطلاق وفرق قوم بين ان يكون فسقه مقطوعا به أو غير مقطوع به ففي مقطوع الفسق تعاد الصلاة خلفه واستحبت الإعادة في مظنون الفسق في الوقت.».

(١) الوسائل الباب ١١ من صلاة الجماعة.

٣٩

الآية الشريفة (١) دلت على تحريم التأفيف الذي هو كناية عن مجرد التضجر ، وفي الخبر عنه (عليه‌السلام) «لو علم الله شيئا هو أدنى من أف لنهى عنه» رواه في الكافي (٢). ورواه ايضا بطريق آخر (٣) وزاد فيه «وهو من ادنى العقوق ومن العقوق ان ينظر الرجل الى والديه فيحد النظر إليهما». وروى فيه ايضا عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٤) قال «من نظر الى أبويه نظر ماقت وهما ظالمان له لم يقبل الله له صلاة».

وحينئذ فيجب الحكم بفسق الامام المذكور ، وسيأتي ان شاء الله تعالى عد العقوق في الكبائر بل هو من أكبرها ، وبذلك يظهر ان الخبر المذكور على ظاهره لا يجوز الاعتماد عليه ولا الاستناد في حكم شرعي اليه. ويمكن تأويله بأن يكون المراد بقوله (عليه‌السلام) «ما لم يكن عاقا قاطعا» بمعنى مصرا على ذلك من غير توبة إلى أبويه وان يسترضيهما ويصلحهما ويعتذر إليهما بحيث يرضيان عنه. وبالجملة فإن الخبر المذكور لما عرفت مطرح ولا بأس بارتكاب التأويل فيه وان بعد تفاديا من طرحه.

(الثامنة والتاسعة) ما رواه الصدوق بإسناد ظاهره الصحة عن عبد الله بن المغيرة (٥) قال : «قلت للرضا (عليه‌السلام) رجل طلق امرأته واشهد شاهدين ناصبيين؟ قال كل من ولد على الفطرة وعرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته».

وحسنة البزنطي عن ابى الحسن (عليه‌السلام) (٦) انه قال له «جعلت فداك كيف طلاق السنة؟ فقال يطلقها إذا طهرت من حيضها قبل ان يغشاها بشاهدين عدلين كما قال الله في كتابه فإن خالف ذلك رد الى كتاب الله. فقلت فإن أشهد رجلين ناصبيين على الطلاق

__________________

(١) «فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ» سورة بني إسرائيل الآية ٢٤.

(٢) الأصول باب العقوق ولفظه هكذا «ادنى العقوق أف ولو علم الله شيئا أهون منه لنهى عنه» وفي آخر «أيسر» بدل «أهون».

(٣) الأصول باب العقوق واللفظ كما ذكر في المتن.

(٤) الأصول باب العقوق.

(٥) الوسائل الباب ٤١ من الشهادات.

(٦) الوسائل الباب ١٠ من مقدمات الطلاق وشرائطه.

٤٠