الحدائق الناضرة - ج ١٠

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٩

واستدل عليه في التذكرة بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (١) «من سافر من دار إقامته يوم الجمعة دعت عليه الملائكة لا يصحب في سفره ولا يعان على حاجته». قال : والوعيد لا يترتب على المباح.

أقول : لا يخفى على من راجع الأخبار ما وقع لهم (عليهم‌السلام) من التأكيد في المكروهات بما يكاد يلحقها بالمحرمات وفي المستحبات بما يكاد يدخلها في حيز الواجبات ، هذا مع تسليم ثبوت الخبر المذكور.

ثم انهم استدلوا على ذلك أيضا بأن ذمته مشغولة بالفرض والسفر مستلزم للإخلال به فلا يكون سائغا.

وفيه ان صحة هذا الدليل مبنية على ان الأمر بالشي‌ء يستلزم النهى عن ضده الخاص وهو مما لم يقم عليه دليل بل الأدلة على خلافه واضحة السبيل كما أوضحناه في بعض المباحث المتقدمة.

وأورد عليه ايضا انه على هذا التقدير يلزم من تحريم السفر عدم تحريمه وكل ما أدى وجوده الى عدمه فهو باطل ، أما الملازمة فلانه لا مقتضى لتحريم السفر إلا استلزامه لفوات الجمعة كما هو المفروض ، ومتى حرم السفر لم تسقط الجمعة كما تقدم فلا يحرم السفر لانتفاء المقتضى ، واما بطلان اللازم فظاهر. كذا ذكره في المدارك.

وفيه ان هذا الإيراد مختص بصورة إمكان الجمعة في الطريق كما ذكره جده في كتاب الروض لا تحريم السفر مطلقا كما ذكره حيث قال في الروض : ولا فرق في التحريم بين أن يكون بين يديه جمعة اخرى يمكن إدراكها في الوقت وعدمه لإطلاق النهي مع احتمال عدم التحريم في الأول لحصول الغرض. ويضعف بان السفر ان ساغ أوجب القصر فتسقط الجمعة حينئذ فيؤدي إلى سقوطها فيحرم فلا تسقط عنه فيؤدى التحريم الى عدمه وهو دور. انتهى.

__________________

(١) المغني ج ١ ص ٣٦٢.

١٦١

وبالجملة فإن كلام السيد (قدس‌سره) وإيراده ما ذكره على تحريم السفر مطلقا خلاف ما صرح به غيره كما سمعت من كلام جده ، فإنهم إنما أوردوا ذلك على من جوز السفر إذا كان بين يدي المسافر جمعة يدركها قبل فوات الوقت كما هو ظاهر سوق الكلام المذكور.

هذا وقد أجاب الفاضل الخراساني في الذخيرة عن الإيراد المذكور بانا لا نسلم ان علة حرمة السفر استلزام السفر للفوات ولا ان علتها حصول الفوات في الواقع أو على تقدير السفر بل علة حرمة السفر استلزام جوازه لجواز تفويت الواجب وجواز تفويت الواجب منتف فيكون ملزومه وهو جواز السفر منتفيا فحرمة السفر ليست مستلزمة لانتفاء العلة المقتضية لحرمته. انتهى.

وكلامه هذا متجه على تقدير ما اختاره في مسألة استلزام الأمر بالشي‌ء النهي عن ضده الخاص من القول بذلك ، اما على ما اخترناه وهو اختيار جملة من المحققين : منهم ـ شيخنا الشهيد الثاني وسبطه صاحب المدارك وغيرهما فلا وجه له

وبالجملة فإن المسألة خالية من النص الصريح في ذلك والركون الى التعليلات العقلية قد عرفت ما فيه في غير موضع مما تقدم.

نعم يمكن الاستدلال على ذلك بفحوى قوله تعالى «وَذَرُوا الْبَيْعَ» (١) والتقريب ان الظاهر ان النهى عن البيع انما وقع لمنافاته السعي إلى الجمعة كما يشعر به التعليل المستفاد من قوله سبحانه «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ» (٢) فيكون السفر المنافي كذلك ايضا.

ويعضد ذلك ما رواه الصدوق في الصحيح عن ابى بصير عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «إذا أردت الشخوص في يوم عيد فانفجر الصبح وأنت في البلد فلا تخرج حتى تشهد ذلك العيد». وإذا حرم السفر الموجب لتفويت صلاة العيد

__________________

(١ و ٢) سورة الجمعة الآية ٩.

(٣) الوسائل الباب ٣٧ من صلاة العيد.

١٦٢

حرم السفر الموجب لتفويت صلاة الجمعة بطريق اولى.

ويؤكده أيضا قول أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في كتابه للحارث الهمداني على ما نقله الرضى (قدس‌سره) في كتاب نهج البلاغة (١) «لا تسافر في يوم الجمعة حتى تشهد الصلاة إلا ناضلا في سبيل الله أو في أمر تعذر به». وأصل المناضلة المراماة يقال ناضله إذا راماه (٢) والمراد هنا الجهاد والحرب في سبيل الله.

وما رواه الكفعمي في كتاب المصباح (٣) عن الرضا (عليه‌السلام) قال : «ما يؤمن من سافر يوم الجمعة قبل الصلاة ان لا يحفظه الله تعالى في سفره ولا يخلفه في أهله ولا يرزقه من فضله».

وما رواه في الفقيه والخصال عن السري عن ابى الحسن على بن محمد (عليهما‌السلام) (٤) قال : «يكره السفر والسعى في الحوائج يوم الجمعة بكرة من أجل الصلاة فاما بعد الصلاة فجائز يتبرك به». بحمل الكراهة فيها على التحريم كما هو شائع في الأخبار بقرينة خبري المصباح ونهج البلاغة ، والإطلاق في يوم الجمعة محمول على ما بعد الزوال مع احتمال العموم ايضا وان كان المشهور الكراهة بالمعنى الاصطلاحي الأصولي في اليوم.

ومما يزيد ذلك تأكيدا ما ذكره شيخنا الشهيد الثاني في رسالة إكمال الجمعة كما نقله عنه في كتاب البحار (٥) قال : وعن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «من سافر يوم الجمعة دعا

__________________

(١) ج ٣ ص ١٤٣ مطبعة الاستقامة وبهامشه شرح محمد عبده.

(٢) قال المجلسي في البحار ج ١٨ الصلاة ص ٧٢٦ بعد نقل الخبر : بيان ـ فاصلا أى شاخصا قال تعالى «وَلَمّا فَصَلَتِ الْعِيرُ» فضبطه بالفاء والصاد المهملة كما في نهج البلاغة ج ٣ ص ١٤٣ المطبوع بمطبعة الاستقامة حيث ضبط كذلك وقال المعلق في الهامش : أي خارجا ذاهبا.

(٣) ص ١٨٤.

(٤) الوسائل الباب ٥٢ من صلاة الجمعة.

(٥) ج ١٨ الصلاة ص ٧٣١ وفي المستدرك في الباب ٤٤ من صلاة الجمعة إلى قوله : «ولا تقضى له حاجة».

١٦٣

عليه ملكاه ان لا يصاحب في سفره ولا تقضى له حاجة». قال : وجاء رجل الى سعيد بن المسيب يوم الجمعة يودعه فقال لا تعجل حتى تصلى فقال اذن تفوتني أصحابي ثم عجل فكان سعيد يسأل عنه حتى قدم قوم فأخبروه أن رجله انكسرت فقال سعيد انى كنت لأظن أن يصيبه ذلك. وروى ان صيادا كان يخرج في يوم الجمعة لا يمنعه مكان الجمعة من الخروج فخسف به وببغلته فخرج الناس وقد ذهبت بغلته في الأرض فلم يبق منها إلا أذناها وذنبها. وروى ان قوما خرجوا في سفر حين حضرت الجمعة فاضطرم عليهم خباؤهم نارا من غير نار يرونها. انتهى ما ذكره في الرسالة المذكورة.

وبالجملة فإجماع الأصحاب قديما وحديثا على الحكم المذكور ـ حيث لم ينقل فيه مخالف مع تأيده بما ذكرناه من هذه الأخبار واعتضاده بالاحتياط في الدين ـ دليل قوى متين كما لا يخفى على الحاذق المكين ، فلا ضرورة الى ما ذكروه من تلك التعليلات العليلة مع ما عرفت فيها من المناقضات والمعارضات. والله العالم.

بقي في المقام فوائد يجب التنبيه عليها (الاولى) قال شيخنا الشهيد الثاني في الروض : ومتى سافر بعد الوجوب كان عاصيا فلا يترخص حتى تفوت الجمعة فيبتدئ السفر من موضع تحقق الفوات ، قاله الأصحاب وهو يقتضي عدم ترخص المسافر الذي يفوت بسفره الاشتغال بالواجب من تعلم ونحوه أو يحصل في حال الإقامة أكثر من حالة السفر لاستلزامه ترك الواجب المضيق فهو اولى من الجمعة خصوصا مع سعة وقتها ورجاء حصول جمعة أخرى أو لا معه واستلزامه الحرج ، وكون أكثر المكلفين لا ينفكون عن وجوب التعلم فيلزم عدم تقصيرهم وفوات أغراضهم التي يتم بها نظام النوع غير ضائر والاستبعاد غير مسموع ، ولان الكلام في السفر الاختياري الذي لا يتعارض فيه وجوبان. انتهى.

واعترضه المحقق الأردبيلي على ما نقل عنه تلميذه السيد السند في المدارك قال : واعترضه شيخنا المحقق بان هذا كله مبنى على ان الأمر بالشي‌ء يستلزم النهى عن

١٦٤

ضده الخاص وهو لا يقول به بل يقول ببطلانه. ثم أجاب عن هذا الاقتضاء مع تسليم تلك المقدمة بمنع منافاة السفر غالبا للتعلم إذ التعلم في السفر متيسر غالبا بل ربما كان أيسر من الحضر ، وبأنه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على وجوب التعلم على الوجه الذي اعتبره المتأخرون بل المستفاد منهما خلاف ذلك كما يرشد اليه تيمم عمار (١) وطهارة أهل قبا (٢) ونحو ذلك ، ثم أطال الكلام في ذلك وقوى عدم الوجوب والاكتفاء في الاعتقادات الكلامية بإصابة الحق كيف اتفق وان لم يكن عن دليل. ثم قال في المدارك بعد نقله : وهو قوى متين.

وقال الفاضل الخراساني في الذخيرة بعد نقل ذلك عنهما ، وهو عند التأمل لا يوافق القواعد الصحيحة العدلية على ما أظن.

أقول : اما ما اعترض به المحقق المذكور ـ من ان كلام شيخنا المتقدم ذكره مبنى على تلك القاعدة وهو لا يقول بها ـ فيمكن الجواب عنه بان هذا الكلام منه إنما

__________________

(١) الوسائل الباب ١١ من التيمم رقم ٢ و ٤ و ٥ و ٨ و ٩.

(٢) في الدر المنثور للسيوطي ج ٣ ص ٢٧٨ في تفسير قوله تعالى في سورة التوبة الآية ١٠٩ «لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ» ذكر تسعة عشر حديثا ـ عن أبي هريرة وابن عباس ومجمع بن يعقوب بن مجمع وعويم بن ساعدة الأنصاري وعبد الله بن سلام والشعبي وابى امامة وعبد الله بن الحارث بن نوفل وعطاء وخزيمة بن ثابت وابى أيوب الأنصاري وابن عمر وسهل الأنصاري وقتادة ـ ان الطهور في هذه الآية الغسل بالماء من البول والغائط ، ونص الحديث ان رسول الله (ص) قال لأهل قبا ان الله قد اثنى عليكم خيرا ـ وذكر الآية ـ فما هذا الطهور؟ فقالوا انا نغسل بالماء مخرج البول والغائط. وفي رواية أبي أيوب وجابر بن عبد الله وانس بن مالك قالوا له نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة. قال فهل مع ذلك غيره؟ قالوا لا غير ان أحدنا إذا خرج الى الغائط أحب أن يستنجى بالماء قال (ص) هو ذاك فعليكموه. وذكر الشيخ الطوسي في التبيان ج ١ ص ٨٥٨ طبع إيران الرواية عن النبي (ص) وزاد عليه في مجمع البيان انه مروي عن السيدين الباقر والصادق (عليهما‌السلام).

١٦٥

وقع إلزاما للأصحاب القائلين بذلك مع قولهم بهذه القاعدة فلا يرد عليه ما أورده. واما قوله في جواب منع السفر عن التعلم ـ بان التعلم في السفر متيسر غالبا بل ربما كان أيسر ـ ففيه انه ان أراد تيسره في السفر بل ربما كان أيسر حال الاشتغال بالسفر والسير والسري في الطريق فهو ممنوع كما هو ظاهر ، وان أراد بعد الوصول والاستقرار في البلدة التي قصدها فهو كما ذكره إلا ان مراد شيخنا المذكور انما هو الأول فلا يرد عليه ايضا ما أورده. واما قوله ـ انه ليس في الكتاب والسنة. إلى آخر ما ذكره مما يدل على الاكتفاء بإصابة الحق كيف اتفق ـ فهو جيد. وقول الفاضل الخراساني من انه عند التأمل لا يوافق القواعد الصحيحة العدلية مردود بما حققناه في مقدمة الأوقات من هذا الكتاب في مسألة ما لو صلى جاهلا بالوقت فانا نقلنا كلامه في المسألة المذكورة وما أورده على المحقق المذكور مما يوضح ما ذكره هنا من هذا الإجمال وبينا ما فيه من الضعف والاختلال.

وبالجملة فإن ثبوت العصيان بالسفر المذكور الموجب لعدم الترخص انما يتم بناء على ثبوت القاعدة المذكورة والحق عندي عدم ثبوتها كما تقدم تحقيقه في بعض مباحث هذا الكتاب. والله العالم.

(الثانية) لو كان بين يدي المسافر جمعة اخرى يعلم إدراكها في محل الترخص فهل يكون السفر سائغا أم لا؟ قد تقدم في كلام شيخنا الشهيد في الروض ما يدل على العدم لقوله : لا فرق في التحريم بين ان يكون بين يديه جمعة اخرى يمكن إدراكها في الوقت وعدمه. ونحوه كلامه في المسالك ايضا ، واختاره سبطه السيد السند في المدارك. ونقل عن المحقق الشيخ على في شرح القواعد القول بالجواز ، قال لحصول الغرض وهو فعل الجمعة بناء على ان السفر الطارئ على الوجوب لا يسقطه كما يجب الإتمام في الظهر على من خرج بعد الزوال. قال في المدارك : ويضعف بإطلاق الأخبار المتضمنة لسقوط الجمعة عن المسافر وبطلان القياس مع ان الحق تعين القصر في صورة الخروج بعد الزوال كما سيجي‌ء بيانه ان شاء الله تعالى. انتهى

١٦٦

أقول : قد عرفت ان شيخنا الشهيد في الروض ومثله في المسالك أيضا إنما استند في تحريم السفر في هذه الصورة الى ما ذكره من لزوم توقف وجود الشي‌ء على عدمه وان عبر عنه بالدور تجوزا ، فان السفر ان ساغ أوجب القصر فتسقط الجمعة حينئذ لعدم وجوبها على المسافر ، وحاصل كلام المحقق الشيخ على يرجع الى منع هذه المقدمة أعني قوله «إذا وجب القصر سقطت الجمعة» بتخصيص السقوط بما إذا لم يكن السفر طارئا على الوجوب اما لو كان السفر طارئا على الوجوب فلا كما في المثال الذي نظر به.

وأما ما أجاب به في المدارك ـ من الاستناد إلى إطلاق الأخبار بسقوط الجمعة عن المسافر ـ فيمكن الجواب عنه بأن الإطلاق انما ينصرف الى الافراد المتكررة المتكثرة الشائعة وهو السفر قبل حصول الوجوب دون هذا الفرد النادر الوقوع وأما ما طعن به من بطلان القياس فالظاهر ان المحقق المذكور إنما قصد بذلك التنظير لدفع الاستبعاد. واما قوله ـ ان الحق تعين القصر في صورة الخروج بعد الزوال ـ ففيه انه وان كان ذلك هو الذي اختاره لكن الرواية الدالة عليه لا تخلو من العلة كما سيأتي توضيحه ان شاء الله تعالى في محله مع شهرة القول بما ذكره المحقق المذكور وتأيده بظواهر كثير من الأخبار كما سيأتي ان شاء الله تعالى بيان ذلك.

والى القول بالجواز كما ذهب اليه المحقق المذكور ذهب الفاضل الخراساني في الذخيرة أيضا ونقله عن بعض الأصحاب غير المحقق المذكور آنفا قال لنا ـ ان مقتضى التحريم تفويت الجمعة وهو غير لازم في صورة التمكن إذ لا مانع من اقامة الجمعة في السفر (فان قلت) فعلى هذا يلزم أن تكون الجمعة في السفر واجبة عليه مع انه خلاف النصوص (قلت) التخصيص لازم في النصوص الدالة على عدم وجوب الجمعة على المسافر بان تخص بمسافر لم يتوجه اليه التكليف قبل السفر ، بيان ذلك ان ههنا حكمين عامين (أحدهما) ان كل حاضر تجب عليه صلاة الجمعة. و (ثانيهما) ان كل مسافر لا تجب عليه صلاة الجمعة ، والمكلف قبل إنشاء السفر داخل في موضوع

١٦٧

الحكم الأول ومقتضاه إيجاب الجمعة عليه سواء أوقعه في حال الحضور أو في حال السفر إذ لا تقييد بشي‌ء منهما فإذا تركها في حال الحضور ثم سافر وجب عليه الإتيان بها في هذه الحالة ، فالحكم الأول بعمومه اقتضى وجوب الجمعة عليه في حال السفر على أن يكون القيد قيدا للوجوب ، ومقتضى عموم الحكم الثاني عدم الوجوب عليه في الصورة المذكورة ، فلا بد من إبقاء أحدهما على العموم والتخصيص في الآخر ، والترجيح للتعميم الأول للإجماع على وجوب الجمعة على الحاضر مطلقا من غير أن يكون مشروطا بعدم صدق السفر عليه لاحقا. انتهى.

أقول : ملخص كلامه قد رجع الى ما ادعاه من الإجماع على التعميم الأول مع أنه معارض بالإجماع أيضا على التعميم الثاني كما عرفت مما قدمنا نقله عن الفاضلين والشهيد من دعوى الإجماع على اشتراط الحضر وانها لا تجب على المسافر ، وهو أعم من أن يدخل عليه وقت الوجوب في الحضر أم لا ، بل قد اعترف هو بذلك في صدر هذا الكلام حيث قال : ولو كان بين يدي المسافر جمعة اخرى يعلم إدراكها في محل الترخص جاز سفره كما ذهب اليه بعض الأصحاب واختاره المدقق الشيخ على ، وذهب جماعة إلى عموم التحريم في الصورتين ، والإجماع المنقول سابقا يعم الجميع. ثم قال : لنا. الى آخر ما قدمنا نقله. وبذلك يظهر لك ان ما أطال به الكلام تطويل بغير طائل وكلام لا يرجع الى حاصل.

ويبقى ما ذكره من تعارض العمومين المذكورين كتعارض الإجماعين المنقولين والأظهر في الجواب انما هو ما قدمنا ذكره من منع شمول إطلاق الأخبار الدالة على سقوط الجمعة عن المسافر لهذا الفرد.

وكيف كان فالمسألة لخلوها عن النص الواضح لا تخلو من الإشكال والاحتياط فيها واجب على كل حال. والله العالم.

(الثالثة) لو كان بعيدا عن الجمعة بفرسخين فما دون فخرج مسافرا في صوب الجمعة ، فقيل يجب عليه الحضور عينا وان صار في محل الترخص ، لأنه لولاه

١٦٨

لحرم عليه السفر ، ولأن من هذا شأنه يجب عليه السعى قبل الزوال فيكون سبب الوجوب سابقا على السفر كما في الإتمام لو خرج بعد الزوال.

واحتمل الشهيد في الذكرى عدم كون هذا المقدار محسوبا من المسافة لوجوب قطعه على كل تقدير ويجرى مجرى الملك في أثناء المسافة. ثم قال : ويلزم من هذا خروج قطعة من السفر عن اسمه بغير موجب مشهور.

قال في المدارك بعد نقله عنه ذلك : ويضعف بان وجوب قطعه على كل تقدير لا يخرجه عن كونه جزء من المسافة المقصودة. ثم قال : ولو قيل باختصاص تحريم السفر بما بعد الزوال وان وجوب السعي إلى الجمعة قبله للبعيد انما يثبت مع عدم إنشاء المكلف سفرا مسقطا للوجوب لم يكن بعيدا من الصواب. انتهى.

وقال الفاضل الخراساني في الذخيرة : والظاهر عندي ان إنشاء السفر إذا كان قبل زمان تعلق وجوب السعى وهو زمان لا يدرك الجمعة ان أخر السعي سقطت الجمعة وإلا وجبت عليه وان صدق عليه اسم المسافر ، ووجهه يعلم مما حققناه سابقا. انتهى.

أقول : لا يخفى ان ظاهر القول الأول هو انه متى سافر قبل الزوال وجب عليه حضور الجمعة لما ذكره من التعليلين وهو راجع الى المسألة السابقة حتى بالغ في الذكرى في نفى السفر عنه ما دام في هذه المسافة.

وظاهر ما ذكره في المدارك اختصاص تحريم السفر بما بعد الزوال كما هو المفروض في أصل المسألة واما قبله فلا. وأجاب عن التعليلين المذكورين في القول الأول بالمنع في هذه الصورة وتخصيص ذلك بما إذا لم ينشئ المكلف سفرا مسقطا للوجوب دون ما نحن فيه من إنشاء السفر المسقط. وفيه ان عموم الأدلة والروايات الواردة في وجوب الحضور على من كان على رأس فرسخين فما دون شامل لموضع البحث فإنها أعم من ذلك كما اعترف به في المسألة المتقدمة.

وظاهر كلام الذخيرة انه ان أنشأ السفر قبل زمان تعلق وجوب السعي

١٦٩

بالذمة وهو الزمان الذي يدرك فيه الجمعة بحيث لو أخر عنه فاتت فإنه يسقط عنه وجوب حضورها وان وقع في ذلك الزمان وجب عليه الحضور. ووجهه بالنسبة إلى الأول انه حال إنشاء السفر غير مكلف ولا مخاطب بالجمعة فيكون سفره مشروعا كما لو سافر قبل الزوال في المسألة المتقدمة. ووجهه بالنسبة الى الثاني ما قدمنا نقله عنه من انه لا مانع من اقامة الجمعة في السفر لانه قد تعلق به الخطاب فيجب عليه إقامتها وليس ثمة مانع إلا السفر وهو لا يمنع من ذلك بالتقريب الذي قدمه ، وقد عرفت ما فيه.

وبالجملة فإن المسألة لما كانت عارية من النص كثرت فيها الاحتمالات ، وقد عرفت مما ذكرنا في غير موضع مما تقدم عدم صلوح أمثال هذه التعليلات لتأسيس الأحكام الشرعية ، فالوقوف على جادة الاحتياط في أمثال هذه المقامات عندنا من الواجبات. والله العالم.

(الرابعة) قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو كان السفر واجبا كالحج والغزو أو مضطرا اليه انتفى التحريم ، قال في الروض : وانما يحرم مع الاختيار وعدم وجوبه فلو كان مضطرا اليه بحيث يؤدى تركه الى فوات الغرض أو التخلف عن الرفقة التي لا يستغنى عنها أو كان سفر حج أو غزو يفوت الغرض منهما مع التأخر فلا يحرم. وعلى هذا المنوال كلام جملة منهم.

ويدل عليه ما قدمنا نقله (١) عن كتاب نهج البلاغة من قول أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في كتابه للحارث الهمداني «لا تسافر يوم الجمعة حتى تشهد الصلاة إلا ناضلا (٢) في سبيل الله أو في أمر تعذر به».

واما ما ذكره في الذخيرة هنا ـ حيث قال : لو كان السفر واجبا كالحج والغزو مع التضيق أو مضطرا اليه ارتفع التحريم على اشكال في السفر الواجب. انتهى ـ فلعل الوجه في هذا الإشكال الذي ذكره هو تعارض الواجبين من السفر والجمعة

__________________

(١) ص ١٦٣.

(٢) ارجع الى التعليقة ٢ ص ١٦٣.

١٧٠

فتقديم وجوب السفر على وجوب الجمعة يحتاج الى دليل.

(الخامسة) قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يكره السفر يوم الجمعة بعد طلوع الفجر ، والظاهر انه مجمع عليه بينهم بل وأكثر العامة على ذلك أيضا (١) كما نقل عن التذكرة ، وذكر فيها انه لا يكره ليلة الجمعة إجماعا.

ويدل عليه مضافا الى الاتفاق المذكور ما قدمنا نقله (٢) من خبر السري المنقول في الفقيه والخصال عن الهادي عليه‌السلام قال : «يكره السفر والسعى في الحوائج يوم الجمعة بكرة من أجل الصلاة فاما بعد الصلاة فجائز يتبرك به». مع احتمال حمل الكراهة فيه على التحريم كما قدمنا ذكره.

ولم أقف على من استدل على الحكم المذكور بهذا الخبر وانما استندوا فيه الى إطلاق الخبر النبوي الذي قدمنا نقله عن التذكرة (٣) ونبهنا على ان الظاهر انه عامي وهو قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «من سافر من دار إقامته يوم الجمعة دعت عليه الملائكة. إلخ». مع ان هذا الخبر الذي ذكرناه أوضح دلالة وسندا.

واحتمل المحدث الكاشاني في المفاتيح التحريم في هذا المقام وهو ظاهر إطلاق ما قدمناه من رواية مصباح الكفعمي عن الرضا (عليه‌السلام) وخبر الحارث الهمداني (٤) واحتمال حمل الكراهة على التحريم في الخبر المتقدم ، وتعضده الرواية التي قدمنا نقلها عن رسالة شيخنا الشهيد الثاني وان كان الظاهر انها من طرق العامة. وعلل الحكم المذكور في المفاتيح قال : لأنه مأمور بالسعي إلى الجمعة من فرسخين فكيف يسعى عنها. وبذلك يظهر ان ما احتمله (طاب ثراه) قريب لا استبعاد فيه إلا من حيث مخالفة

__________________

(١) في شرح الزرقانى على مختصر ابى الضياء في فقه مالك ج ٢ ص ٦٤ «يكره السفر يومها لمن تلزمه بعد الفجر وجاز قبله وحرم بالزوال قبل النداء» ونقل الشوكانى في نيل الأوطار ج ٣ ص ١٩٥ عن مالك واحمد والشافعي في القديم والأوزاعي جواز السفر من طلوع الفجر الى الزوال ، وحكاه ابن قدامة عن أكثر أهل العلم.

(٢ و ٤) ص ١٦٣.

(٣) ص ١٦١.

١٧١

الشهرة وإلا فظواهر الكتاب ما ذكرناه من الأدلة تقتضيه. والله العالم.

المسألة الثانية ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في تحريم البيع بعد النداء للصلاة يوم الجمعة بل نقل الإجماع عليه في المنتهى والتذكرة

ويدل عليه قوله عزوجل «إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ» (١) فان مفاده الأمر بترك البيع بعد النداء فيكون حراما.

وروى في الفقيه مرسلا (٢) قال : «وروى انه كان بالمدينة إذا أذن المؤذن يوم الجمعة نادى مناد «حرم البيع حرم البيع» لقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ). الآية».

والظاهر ان المراد بالبيع في الآية ما هو أعم منه ومن الشراء لإطلاقه شرعا عليه ، وبذلك صرح جملة من الأصحاب.

وانما الخلاف والإشكال في هذا المقام في مواضع الأول ـ المفهوم من كلام جملة من الأصحاب : منهم ـ العلامة في المنتهى والشيخ في الخلاف اناطة التحريم بالأذان وان تأخر عن الزوال أخذا بظاهر الآية فالبيع بعد الزوال وقبل الأذان غير محرم ، قال في المنتهى : وإذا صعد الخطيب المنبر ثم أذن المؤذن حرم البيع وهو مذهب علماء الأمصار. الى ان قال : ولا يحرم بزوال الشمس ذهب إليه علماؤنا أجمع بل يكون مكروها. ونسبه الى جملة التابعين وأكثر أهل العلم (٣)

__________________

(١) سورة الجمعة الآية ٩.

(٢) الوسائل الباب ٥٣ من صلاة الجمعة.

(٣) في المغني ج ٢ ص ٢٩٧ «النداء الذي كان على عهد رسول الله (ص) هو النداء عقيب جلوس الامام على المنبر فتعلق الحكم به دون غيره ، ولا فرق بين أن يكون ذلك قبل الزوال أو بعده» وفي عمدة القارئ ج ٣ ص ٢٨٢ قال صاحب الهداية : المعتبر في وجوب السعى وحرمة البيع هو الأذان الأصلي الذي كان على عهد رسول الله (ص) بين يدي المنبر ، وفي فتاوى العتابي هو المختار وبه قال الشافعي واحمد وأكثر فقهاء الأمصار.

١٧٢

ونسب الى مالك وأحمد تحريم البيع بعد الزوال (١). وظاهره كما ترى دعوى الإجماع على الحكم المذكور مع انه في الإرشاد علق الحكم على الزوال.

وقال في الخلاف : يحرم البيع إذا جلس الامام على المنبر بعد الأذان ويكره بعد الزوال قبل الأذان. انتهى.

أقول : والأقرب عندي ما ذكره شيخنا في الروض من اناطة ذلك بالزوال فان الظاهر ان التعليق في الآية على الأذان إنما خرج مخرج الغالب المتكرر من وقوع الأذان متى تحقق الزوال.

قال (قدس‌سره) بعد ذكر عبارة المصنف الدالة على تعليق الحكم على الزوال : وانما علقه المصنف على الزوال لأنه السبب الموجب للصلاة ، والنداء اعلام بدخول الوقت فالعبرة به فلو اتفق تأخير الأذان عن أول الوقت نادرا لم يؤثر في التحريم السابق لوجود العلة ووجوب السعى المترتب على دخول الوقت وان كان في الآية مترتبا على الأذان ، إذ لو فرض عدم الأذان لم يسقط وجوب

__________________

(١) في المغني ج ٢ ص ٢٩٧ «حكى القاضي رواية عن احمد ان البيع يحرم بزوال الشمس وان لم يجلس الامام على المنبر» وحكاه في عمدة القارئ ج ٣ ص ٢٧٢ عن الضحاك والحسن وعطاء ، وفي المدونة ج ١ ص ١٤٣ «قال أبو القاسم قال مالك إذا قعد الامام يوم الجمعة على المنبر فاذن المؤذن فعند ذلك يكره البيع والشراء وان اشترى رجل أو باع في تلك الساعة فسخ ذلك البيع» وفي ص ١٤٤ «قال مالك إذا أذن المؤذن وقعد الامام على المنبر منع الناس من البيع والشراء» وفي كفاية الطالب الرباني لرسالة القيرواني في مذهب مالك ج ١ ص ٢٨٢ «يحرم حين الأذان بين يدي الإمام البيع بين اثنين تلزمهما الجمعة أو أحدهما فإن وقع فسخ» وفي تفسير القرطبي ج ١٨ ص ١٠٨ «في وقت تحريم البيع قولان : الأول ـ من بعد الزوال الى الفراغ منها قاله الضحاك والحسن وعطاء. الثاني ـ من وقت أذان الخطبة إلى وقت الصلاة قاله الشافعي ، ومذهب مالك أن يترك البيع إذا نودي للصلاة ويفسخ عنده ما وقع من البيع في ذلك الوقت» فالقول المذكور لم ينسب الى مالك بل نسب اليه القول المشهور.

١٧٣

السعي فإن المندوب لا يكون شرطا للواجب ، وأكثر الأصحاب علقوا التحريم على الأذان لظاهر الآية بل صرح بعضهم بالكراهة بعد الزوال قبل الأذان وهو أوضح دلالة وان كان ما هنا أجود. انتهى. وهو جيد.

ويميل إليه أيضا كلام المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد حيث قال : والظاهر ان النداء كناية عن دخول الوقت فلو لم يناد يحرم ايضا ويجب السعى ، فقول المصنف «بعد الزوال» إشارة إلى تفسير الآية أحسن من كلام غيره «بعد النداء» إذ دليل التحريم ظاهر الآية فإنه إذا كان ترك البيع واجبا كما يدل عليه «وذروا البيع» يكون الفعل حراما لأن الأمر بالسعي للفور لترتبه على «إذا». إلى آخر كلامه زيد في مقامه

وبذلك يظهر لك ما في كلام الفاضل الخراساني في الذخيرة حيث قال : ثم لا يخفى ان المذكور في عبارات الأصحاب تحريم البيع بعد الأذان حتى ان المصنف في المنتهى والنهاية نقل إجماع الأصحاب على عدم تحريم البيع قبل النداء ولو كان بعد الزوال. ثم نقل ما قدمنا نقله عن المنتهى الى أن قال فما اختاره في هذا الكتاب من إناطة التحريم بالزوال واختاره الشارح الفاضل محل تأمل. انتهى ، فان فيه انه لا مجال للتأمل هنا إلا ان كان باعتبار مخالفة الإجماع المنقول وفيه ما قد عرفت ولا سيما ما شرحناه آنفا من أحوال هذه الإجماعات وبه صرح هو أيضا في كتابه في غير موضع ، إلا أن مقتضى النظر في الأدلة وتحقيق ما هو الحق المستفاد منها إنما هو في ما ذكره هذان الفاضلان المحققان كما لا يخفى على من أعطى التأمل حقه في ما ذكراه فإنه جيد متين وجوهر ثمين كما لا يخفى على الحاذق المكين.

الثاني ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في غير البيع من العقود والإيقاعات كالصلح والإجارة والنكاح والطلاق ونحوها ، فألحقها العلامة (قدس‌سره) وجماعة بالبيع للمشاركة في العلة المومأ إليها في قوله سبحانه تعالى «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ» (١) وإنما خص البيع بالذكر لان فعله كان أكثريا لأنهم كانوا يهبطون إلى

__________________

(١) سورة الجمعة الآية ٩.

١٧٤

المدينة من سائر القرى لأجل البيع والشراء. وأيضا فإن ظاهر الآية يقتضي وجوب السعى بعد النداء على الفور لا من جهة الأمر لعدم دلالته على الفورية كما تقرر في الأصول بل من جهة ان الأمر بترك البيع والسعى إلى الصلاة قرينة إرادة المسارعة فيكون كل ما نافاها كذلك.

أقول : ويعضد ذلك رواية السري المتقدمة (١) وان كانت بلفظ الكراهة إلا انك قد عرفت ان حملها على التحريم غير بعيد وقد دلت على كراهة السعى في الحوائج الذي هو أعم من العقود أيضا كما ذهب اليه بعضهم في المقام.

وقال المحقق في المعتبر : وهل يحرم غير البيع من العقود؟ الأشبه في المذهب لا خلافا لطائفة من الجمهور (٢) لاختصاص النهى بالبيع فلا يتعدى الى غيره

واستشكله العلامة في جملة من كتبه نظرا إلى العلة المومأ إليها في الآية كما قدمنا ذكره ومن ثم مال في جملة من كتبه إلى الإلحاق بالبيع ، وظاهره في المدارك الميل الى ذلك ، والظاهر انه هو المشهور بين المتأخرين.

وقال في الذكرى : ولو حملنا البيع على المعاوضة المطلقة الذي هو معناه الأصلي كان مستفادا من الآية تحريم غيره. ويمكن تعليل التحريم بان الأمر بالشي‌ء يستلزم النهى عن ضده ولا ريب ان السعى مأمور به فيتحقق النهى عن كل ما ينافيه من بيع وغيره وهذا أولى ، وعلى هذا يحرم غير العقود من الشواغل عن السعى. انتهى

وأورد عليه أما بالنسبة إلى الأول فإن حمل البيع على مطلق المعاوضة على الأعيان والمنافع خلاف المعنى الشرعي والعرفي. وعلى الثاني انه خلاف ما ذهب إليه في مواضع من كتابه من أن الأمر بالشي‌ء لا يقتضي النهي عن ضده الخاص.

أقول : والحق في المقام أن يقال ان المسألة لما كانت خالية من النص الصريح كان الاحتياط فيها واجبا وهو في جانب القول بالتحريم ويخرج ما ذكرناه من الوجوه

__________________

(١) ص ١٦٣.

(٢) المغني ج ٢ ص ٢٩٨ وعمدة القارئ ج ٣ ص ٢٨٢.

١٧٥

المتقدمة الدالة على التحريم شاهدا. والله العالم.

الثالث ـ لو كان أحد المتعاقدين ممن لا يجب عليه السعي ففي التحريم عليه خلاف فذهب جمع من المتأخرين إلى التحريم وآخرون الى الجواز بالنسبة اليه وان حرم بالنسبة إلى الآخر ، والى الثاني ذهب المحقق وفاقا للشيخ حيث انه كرهه.

حجة الأولين أنه معاونة على الحرام وقد نهى سبحانه عنها بقوله : «وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ» (١).

وقال في الذكرى : لو كان أحد المتبايعين ممن لا يخاطب بالسعي كان سائغا بالنظر اليه حراما بالنظر الى من يجب عليه السعى ، وقال الشيخ : يكره للأول لأنه اعانة على الفعل المحرم. وقال الفاضل التعليل يقتضي التحريم لقوله تعالى «وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ» (٢) ثم قوى التحريم عليه ايضا وهو قوى. انتهى.

أقول : والكلام في هذه المسألة كما في سابقتها فإنها عارية عن النص والاحتياط فيها مطلوب لما عرفت.

الرابع ـ لو أوقع البيع في الحال المنهي عنه فهل ينعقد البيع وان أثم أو يبطل؟ قولان مبنيان على ان النهى في غير العبادات هل يقتضي الفساد أم لا؟ فذهب العلامة وجملة من الأصحاب ـ والظاهر انه المشهور بين المتأخرين ـ إلى انعقاده بناء على ما تقرر عندهم في الأصول من أن النهى في غير العبادات لا يقتضي الفساد ونقله الشيخ عن بعض الأصحاب ، وذهب جمع من الأصحاب : منهم ـ الشيخ في المبسوط والخلاف وابن الجنيد الى عدم الانعقاد بناء على ان النهى مفسد مطلقا.

أقول : والتحقيق عندي في هذا المقام كما أودعناه في جملة من زبرنا سابقا على هذا الكتاب هو أن يقال لا يخفى ان القاعدة التي بنوا عليها الكلام في المقام من ان النهى في غير العبادات لا يقتضي الفساد وان اشتهرت وتكررت في كلامهم وتداولتها رؤوس أقلامهم إلا انا نرى كثيرا من عقود المعاملات قد حكموا ببطلانها

__________________

(١ و ٢) سورة المائدة الآية ٣.

١٧٦

من حيث النهى الوارد عنها في الروايات ، ومن تتبع كتاب البيع وكتاب النكاح عثر على كثير منها وذلك كبيع الخمر والخنزير والعذرة وبيع الغرر ونحو ذلك ، والعقد على أخت الزوجة وابنتها وأمها ونحو ذلك ، وما ذكروه من القاعدة المشار إليها اصطلاح أصولي لا تساعد عليه الأخبار بحيث يكون أصلا كليا وقاعدة مطردة بل المفهوم منها كون الأمر كذلك في بعض وبخلافه في آخر كما أشرنا اليه.

ويخطر بالبال في الجمع بين الأخبار المتصادمة في هذا المجال ان يقال ان النهى الواقع في الأخبار ان كان باعتبار عدم قابلية المعقود عليه للدخول تحت مقتضى العقد فإنه يبطل العقد رأسا كالأشياء التي ذكرناها ، فان الظاهر ان النهى عنها إنما وقع من حيث عدم قابليتها للانتقال الى ما أريد نقلها اليه. وان كان لا كذلك بل باعتبار أمر خارج من زمان أو مكان أو قيد خارج أو نحو ذلك مما لا مدخل له في أصل العوضين فالحكم فيه ما ذكروه من صحة العقد وان حصل الإثم باعتبار مخالفة النهى ، ومنه البيع وقت النداء فإن النهي عنه وقع من حيث الزمان فيقال بصحة البيع حينئذ لعدم تعلق النهى بذات شي‌ء من العوضين باعتبار عدم قابليته للعوضية وإنما وقع باعتبار أمر خارج عن ذلك وان أثم باعتبار إيقاعه في ذلك الزمان المنهي عن الإيقاع فيه.

ويؤيد هذا التفصيل بعد أن هجر بالفكر الكليل والذهن العليل ما وقفت عليه في كلام شيخنا الشهيد الثاني (أعلى الله مرتبته ونور تربته) في كتاب المسالك في مسألة العقد على بنت الأخ أو الأخت وإدخالهما على العمة والخالة واختيارهما في فسخه حيث انه قال : قيل في المسألة المذكورة ببطلان العقد. وقيل بالصحة وان للعمة والخالة الخيار في فسخه وعدمه. وقد استدل القائل بالبطلان بالنهي عنه ورده في المسالك بأن النهي لا يدل على الفساد في المعاملات. ثم قال بعد ذلك : (فان قيل) النهي في المعاملات وان لم يدل على الفساد بنفسه لكنه إذا دل على عدم صلاحية المعقود عليها للنكاح فهو دال على الفساد من هذه الجهة كالنهي عن

١٧٧

نكاح الأخت وكالنهي عن بيع الغرر ، والنهى في محل النزاع من هذا القبيل (قلنا) لا نسلم دلالته هنا على عدم صلاحية المعقود عليها للنكاح فإنها عند الخصم صالحة له ولهذا صلحت مع الاذن بخلاف الأخت وبيع الغرر فإنهما لا يصلحان أصلا ، وصلاحية الأخت على بعض الوجوه كما لو فارق الأخت لا يقدح لأنها حينئذ ليست أخت الزوجة بخلاف بنت الأخت ونحوها فإنها صالحة للزوجية مع كونها بنت أخت الزوجة ، والاخبار قد دلت على النهى عن تزويجها وقد عرفت انه لا يدل على الفساد ، فصار النهى عن هذا التزويج من قبيل ما حرم لعارض كالبيع وقت النداء لا لذاته ، والعارض هو عدم رضا الكبيرة فإذا لحقه الرضا زال النهى. انتهى وقد ظهر منه ما ذكرناه من التفصيل باعتبار رجوع النهي تارة إلى المعقود عليه من حيث عدم صلاحيته للدخول تحت مقتضى العقد فيكون العقد لذلك فاسدا وتارة من حيث أمر خارج فلا يلزم الفساد ، ومنه ما نحن فيه من مسألة البيع بعد النداء ومسألة بنت الأخ والأخت كما اختاره (قدس‌سره) فإن النهى إنما وقع باعتبار أمر خارج وهو الزمان في الأول وعدم رضا العمة والخالة في الثاني ، وحينئذ فيكون العقد صحيحا في الأول وان أثم وفي الثاني صحيحا مراعى بالرضا وعدمه. والله العالم.

(المسألة الثالثة) ـ قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأن الأذان الثاني يوم الجمعة بدعة.

وقد وقع الخلاف هنا في موضعين : الأول ـ في انه هل يكون حراما لكونه بدعة أو مكروها؟ فقال الشيخ في المبسوط انه مكروه وتبعه المحقق في المعتبر ، وذهب ابن إدريس إلى الأول وهو المشهور بين المتأخرين.

احتج القائلون بالتحريم بان الاتفاق واقع على ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لم يفعله ولا أمر بفعله وهو عبادة يتوقف فعلها على المشروعية وإذا لم يشرع كان بدعة كالأذان

١٧٨

للنافلة ، وروى ان أول من فعله عثمان (١) ونقل عن الشافعي أنه قال ما فعله النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأبو بكر وعمر أحب الى (٢) وقيل ان أول من فعله معاوية (٣).

واحتجوا أيضا برواية حفص بن غياث عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) (٤) قال : «الأذان الثالث يوم الجمعة بدعة». وسمى ثالثا بالنسبة إلى الأذان والإقامة الموظفين.

قال في المعتبر : الأذان الثاني بدعة وبعض أصحابنا يسميه الثالث لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) شرع للصلاة أذانا واقامة فالزيادة ثالث على ترتيب الاتفاق ، وسميناه ثانيا لانه يقع عقيب الأذان الأول وما بعده يكون اقامة والتفاوت لفظي ، فمن قال بأنه بدعة احتج برواية حفص بن غياث ، ثم ذكر الرواية ثم قال لكن حفص المذكور ضعيف وتكرار الأذان غير محرم لأنه ذكر يتضمن التعظيم للرب لكن من حيث لم يفعله النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ولم يأمر به كان أحق بوصف الكراهية وبه قال الشيخ في المبسوط. وقيل أول

__________________

(١) في البخاري باب الأذان يوم الجمعة عن السائب بن يزيد «كان النداء يوم الجمعة اوله إذا جلس الامام على المنبر على عهد النبي (ص) وابى بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء» وفي عمدة القارئ ج ٣ ص ٢٩٠ عن سليمان بن موسى أول من زاد الأذان بالمدينة عثمان وعن ابن عمر الأذان الأول بدعة وعن الزهري أول من أحدث الأذان الأول عثمان يؤذن لأهل السوق وعن معاذ بن عمر لما كانت خلافة عمر وكثر المسلمون أمر مؤذنين أن يؤذنا للناس بالجمعة خارجا عن المسجد حتى يسمع الناس الأذان وأمر أن يؤذن بين يديه كما كان يفعل المؤذن بين يدي رسول الله (ص) وبين يدي أبي بكر ثم قال عمر أما الأذان الأول فنحن ابتدعناه لكثرة المسلمين فهو سنة من رسول الله (ص) ماضية. وقيل أول من أحدث الأذان الأول بمكة الحجاج وبالبصرة زياد ، وانما سمى ثالثا باعتبار عدد الإقامة لأنها اعلام مثله.

(٢) في الأم للشافعي ج ١ ص ١٧٣ «الأمر الذي على عهد رسول الله «ص» أحب الى».

(٣) الأم للشافعي ج ١ ص ١٧٣.

(٤) الوسائل الباب ٤٩ من صلاة الجمعة.

١٧٩

من فعل ذلك عثمان ، وقال عطاء أول من فعله معاوية (١) قال الشافعي : ما فعله النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأبو بكر وعمر أحب الى (٢) انتهى كلامه زيد مقامه.

وأنت خبير بما فيه من الوهن الذي لا يخفى على الفطن النبيه فان مجرد كون الأذان ذكرا يتضمن التعظيم لا يوجب المشروعية فإن الصلاة أيضا كذلك مع انه لو صلى انسان فريضة أو نافلة زائدة على الموظف شرعا بقصد انها مستحبة أو واجبة في هذا الزمان أو المكان أو على كيفية مخصوصة لم يرد بها الشرع فإنه لا خلاف في البدعية والتشريع وانه فعل محرما ، ولهذا خرجت الروايات بتحريم صلاة الضحى (٣) مع انها عبادة تتضمن التعظيم لكن لما اقترنت بقصد التوظيف في هذا الوقت مع عدم ثبوته شرعا حصلت البدعية والتحريم فيها ، وحينئذ فهذا الأذان الثاني كذلك ، وعدم فعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ولا أمره به مما يوجب التحريم كما قدمنا ذكره لا الكراهة ، وبالجملة فإن كلامه (قدس‌سره) هنا غير موجه كما عرفت.

واما رده رواية حفص بضعف الراوي فقال في الذكرى بأنه لا حاجة الى الطعن في السند مع قبول الرواية للتأويل وتلقى الأصحاب لها بالقبول ، بل الحق ان لفظ البدعة غير صريح في التحريم فان المراد بالبدعة ما لم يكن في عهد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ثم تجدد بعده وهو ينقسم الى محرم ومكروه. انتهى.

وفيه ان الظاهر المتبادر من لفظ البدعة سيما بالنسبة إلى العبادات إنما هو المحرم ، ولما رواه الشيخ عن زرارة ومحمد بن مسلم والفضيل عن الصادقين (عليهما‌السلام) (٤) «ان كل بدعة ضلالة وكل ضلالة سبيلها الى النار».

وبالجملة فالأظهر كما عرفت هو التحريم ، واما رواية حفص فإنه يحتمل حمل الثالث فيها على الأذان الواقع للعصر كما ذكره بعض أفاضل متأخري المتأخرين.

__________________

(١ و ٢) الأم للشافعي ج ١ ص ١٧٣.

(٣) الوسائل الباب ٣١ من أعداد الفرائض ونوافلها.

(٤) الوسائل الباب ١٠ من أبواب نافلة شهر رمضان.

١٨٠