الحدائق الناضرة - ج ١٠

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٩

الوجوب عينيا بالنسبة إلى كافة المكلفين.

(المقصد الثالث) في الخطبتين ، وتحقيق الكلام في المقام يتوقف على بسطه في موارد (الأول) ـ أجمع الأصحاب (رضوان الله عليهم) وأكثر العامة (١) على ان الخطبتين شرط في انعقاد الجمعة ، قال في المدارك : لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) خطب خطبتين امتثالا للأمر المطلق فيكون بيانا له ، وقد ثبت في الأصول ان بيان الواجب واجب.

أقول : فيه (أولا) انا لم نقف على هذا الأمر المطلق إذ ليس إلا القرآن العزيز وهو غير مشتمل على الأمر بالخطبة كما لا يخفى ، إلا أن يكون مراده الأمر بالسعي في الآية والمراد السعي إلى الصلاة. وفيه ان دخول الخطبتين تحت الصلاة غير ظاهر واحتمال إطلاقها عليهما مجاز لا يترتب عليه البيان إذ البيان انما يرجع الى ما دل عليه اللفظ حقيقة ويتبادر منه فهما.

والأظهر الاستدلال على ذلك بما رواه المحقق في المعتبر نقلا من جامع البزنطي عن داود بن الحصين عن ابى العباس عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «لا جمعة إلا بخطبة وانما جعلت ركعتين لمكان الخطبتين».

و (ثانيا) ان هذا الكلام ينقض ما تقدم منه في باب الوضوء في مسألة وجوب غسل الوجه من الأعلى حيث قد ذهب الى الاستحباب ثمة مع دلالة الوضوءات البيانية واشتمالها على الغسل من الأعلى فهي مفسرة لإجمال الآية ومبينة له مع انه منع من ذلك ثمة ، وقد تقدم تحقيق الكلام معه في ذلك في المسألة المذكورة.

__________________

(١) في شرح النووي على صحيح مسلم ج ٦ ص ١٥٠ «قال القاضي ذهب عامة العلماء الى اشتراط الخطبتين لصحة الجمعة وعن الحسن البصري وأهل الظاهر ورواية ابن الماجشون عن مالك انها تصح بلا خطبة» وفي المهذب للشيرازي الشافعي ج ١ ص ١١١ «ولا تصح الجمعة حتى يتقدمها خطبتان».

(٢) الوسائل الباب ٦ من صلاة الجمعة.

٨١

والتحقيق الرجوع في ذلك الى الأخبار فإنها ظاهرة الدلالة واضحة المقالة في المطلوب ، ومنها الرواية المذكورة وهي صريحة في المطلوب ويعضدها ما تقدم في الروايات التي قدمناها دليلا على وجوب صلاة الجمعة وهي الثالثة والخامسة والسادسة والثالثة عشرة والخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة (١).

وقد صرح الأصحاب بأنه يجب فيهما أمور (الأول) التقديم على الصلاة فلو بدأ بالصلاة لم تصح الجمعة ، قال في المدارك : هذا هو المعروف من مذهب الأصحاب بل قال في المنتهى انه لا يعرف فيه مخالفا ، والمستند فيه فعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والأئمة (عليهم‌السلام) والصحابة والتابعين والأخبار المستفيضة الواردة بذلك كرواية أبي مريم عن ابى جعفر (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن خطبة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أقبل الصلاة أو بعدها؟ فقال قبل الصلاة ثم يصلى». انتهى.

أقول : العجب منه ومن صاحب المنتهى في دعواهما عدم الخلاف في المسألة مع ان الصدوق قد صرح في جملة من كتبه مثل الفقيه وعيون الأخبار والعلل بالخلاف في ذلك فأوجب تأخير الخطبة عن الصلاة وادعى ان تقديمها بدعة عثمانية.

ومن كلامه في ذلك ما ذكره في كتاب عيون الأخبار (٣) بعد ان نقل حديث علل الفضل بن شاذان الدال على وجوب تقديمهما في الجمعة وتأخيرهما في العيدين وبيان العلة في ذلك حيث قال : قال مصنف هذا الكتاب جاء هذا الخبر هكذا ، والخطبة في الجمعة والعيدين بعد الصلاة لأنهما بمنزلة الركعتين الأخيرتين وأول من قدم الخطبتين عثمان بن عفان. الى آخر كلامه.

وفي كتاب من لا يحضره الفقيه (٤) روى حديثا عن الصادق (عليه‌السلام) بهذه الصورة قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) أول من قدم الخطبة على الصلاة يوم الجمعة عثمان لانه كان إذا صلى لم يقف الناس على خطبته وتفرقوا وقالوا ما نصنع بمواعظه

__________________

(١) ج ٩ ص ٤٠٩ الى ٤١٣.

(٢) الوسائل الباب ١٥ من صلاة الجمعة.

(٣) ص ٢٥٨.

(٤) ج ١ ص ٢٧٨ وفي الوسائل الباب ١٥ من صلاة الجمعة.

٨٢

وهو لا يتعظ بها وقد أحدث ما أحدث فلما رأى ذلك قدم الخطبتين على الصلاة».

وقال المحدث الكاشاني في الوافي بعد نقل هذا الخبر : كذا وجدنا الحديث في نسخ الفقيه وكأنه قد وقعت لفظة الجمعة مكان لفظة العيد سهوا ثم صار ذلك سببا لا يراد الصدوق الحديث في باب الجمعة وزعمه وروده فيه كما يظهر من بعض تصانيفه الأخر ، وذلك لما ثبت وتقرر ان الخطبة في الجمعة قبل الصلاة وهذا من ما لم يختلف فيه أحد في ما أظن وقد مضت الأخبار في ذلك. وأيضا انما ورد حديث عثمان في العيدين كما مر في هذا الباب مرتين. انتهى.

وكيف كان فما ذكره الصدوق وهم صرف وغفلة محضة عن تدبر الأخبار المستفيضة بتقديمهما في صلاة الجمعة.

ومنها زيادة على الروايتين المتقدمتين ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن محمد بن مسلم (١) قال : «سألته عن الجمعة فقال أذان واقامة يخرج الامام بعد الأذان فيصعد المنبر فيخطب ولا يصلى الناس ما دام الامام على المنبر ثم يقعد الامام على المنبر قدر ما يقرأ قل هو الله أحد ثم يقوم فيفتتح خطبته ثم ينزل فيصلي بالناس ثم يقرأ بهم في الركعة الأولى بالجمعة وفي الثانية بالمنافقين».

وما روياه أيضا في الموثق عن سماعة (٢) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) ينبغي للإمام الذي يخطب الناس يوم الجمعة أن يلبس عمامة في الشتاء والصيف ويتردى ببرد يمني أو عدني ويخطب وهو قائم : يحمد الله ويثنى عليه ثم يوصي بتقوى الله ويقرأ سورة من القرآن قصيرة ثم يجلس ثم يقوم فيحمد الله ويثنى عليه ويصلى على محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وعلى أئمة المسلمين (عليهم‌السلام) ويستغفر للمؤمنين والمؤمنات ، فإذا فرغ من هذا قام المؤذن فأقام فصلى بالناس ركعتين يقرأ في الأولى بسورة الجمعة وفي الثانية بسورة المنافقين».

__________________

(١) الوسائل الباب ٦ و ٢٥ من صلاة الجمعة.

(٢) الوسائل الباب ٢٤ و ٢٥ من صلاة الجمعة.

٨٣

وما روياه في الصحيح عن محمد بن مسلم (١) قال : «إذا خطب الامام يوم الجمعة فلا ينبغي لأحد أن يتكلم حتى يفرغ الامام من خطبته فإذا فرغ الامام من الخطبتين تكلم ما بينه وبين ان يقام للصلاة وان سمع القراءة أم لم يسمع أجزأه». ونحوه صحيحة أخرى لمحمد بن مسلم بهذا المضمون (٢).

وما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام (٣) قال : «كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يصلى الجمعة حين تزول الشمس قدر شراك ويخطب في الظل الأول فيقول جبرئيل يا محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قد زالت الشمس فانزل فصل وانما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين فهي صلاة حتى ينزل الإمام».

(الثاني) القيام حال الخطبة ، ولا خلاف في وجوبه مع الإمكان ونقل عليه في التذكرة الإجماع ، والمستند فيه ما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن وهب (٤) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) ان أول من خطب وهو جالس معاوية واستأذن الناس في ذلك من وجع كان بركبتيه وكان يخطب خطبة وهو جالس وخطبة وهو قائم ثم يجلس بينهما. ثم قال : الخطبة وهو قائم خطبتان يجلس بينهما جلسة لا يتكلم فيها قدر ما يكون فصل ما بين الخطبتين».

وعن عمر بن يزيد في الصحيح عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٥) في حديث قال : «وليقعد قعدة بين الخطبتين».

وروى الثقة الجليل على بن إبراهيم في تفسيره في الصحيح عن ابن مسكان عن ابى بصير (٦) «انه سأل عن الجمعة كيف يخطب الامام؟ قال يخطب قائما ان الله تعالى يقول (وَتَرَكُوكَ قائِماً)» (٧).

__________________

(١ و ٢) الوسائل الباب ١٤ من صلاة الجمعة.

(٣) الوسائل الباب ٨ من صلاة الجمعة.

(٤ و ٥ و ٦) الوسائل الباب ١٦ من صلاة الجمعة.

(٧) سورة الجمعة الآية ١١.

٨٤

ولو منعه مانع فالظاهر جواز الجلوس كما صرح به جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) وفي وجوب الاستنابة في هذه الحالة إشكال.

قالوا : ولو خطب جالسا مع القدرة بطلت صلاته وصلاة من علم بذلك من المأمومين ، اما من لم يعلم بذلك فقد قطعوا بصحة صلاته بناء على ان الظاهر من حال المسلم خصوصا العدل أن يكون جلوسه في حال الخطبة لعذر ولم يفصلوا بين تجدد العلم بعد الصلاة وعدم تجدده ، وجعلوه مثل صلاة الإمام محدثا فإن صلاة من لم يعلم بحدثه صحيحة وان تجدد العلم بعد الصلاة. وفيه ان قيام الدليل في المحدث في صورة ما إذا علم المأموم بعد الصلاة على صحة الصلاة لا يستلزم الصحة في ما نحن فيه لعدم الدليل كما في المحدث.

قالوا : ويجب في القيام الطمأنينة كما في البدل لتوقف البراءة اليقينية عليه. وفيه إشكال.

وقال في المدارك : ويجب في القيام الطمأنينة للتأسي ولأنهما بدل من الركعتين.

وفيه (أولا) ما صرح به هو وغيره من المحققين من أن التأسي لا يصلح دليلا للوجوب كما حققوه في الأصول لان فعلهم (عليهم‌السلام) أعم من ذلك.

و (ثانيا) ان البدلية على تقدير صحة الاستدلال بها لا تقتضي أن تكون من كل وجه ، وغاية ما يمكن أن يقال ان المسألة لما كانت عارية من النص فالاحتياط فيها واجب وهو لا يحصل إلا بما ذكروه من الطمأنينة.

(الثالث) اتحاد الخطيب والامام على أظهر القولين وأشهرهما وهو اختيار الراوندي في أحكام القرآن ، وقواه العلامة في المنتهى والشهيد في الذكرى واختاره السيد السند في المدارك ، ونقل عن العلامة في النهاية القول بجواز المغايرة معللا بانفصال كل من العبادتين عن الأخرى ، وبان غاية الخطبتين أن يكونا كالركعتين ويجوز الاقتداء بإمامين في صلاة واحدة.

قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : ويتوجه على الأول منع الانفصال

٨٥

شرعا ، سلمنا الانفصال لكن ذلك لا يقتضي جواز الاختلاف إذا لم يرد فيه نقل على الخصوص لعدم تيقن البراءة مع الإتيان به. وعلى الثاني بعد تسليم الأصل انه قياس محض.

واستشكل في الذخيرة في هذا المقام فقال : والمسألة محل إشكال ينشأ من أن المنقول من فعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والأئمة (عليهم‌السلام) الاتحاد فيجب عدم التعدي منه وقوفا في الوظائف الشرعية على القدر الثابت المتيقن ، ومن إطلاق الأمر بالصلاة في الآية والأخبار والاشتراط يتقدر بقدر الدليل والدليل لا يقتضي الخصوصية المذكورة في الخطبتين. والاحتياط واضح. انتهى.

أقول : اما ما ذكره في الوجه الثاني من إطلاق الآية فمسلم واما إطلاق الأخبار فممنوع فان بعضها وان كان مطلقا كما ادعاه إلا ان جملة منها ظاهرة في الاتحاد كالأخبار المتقدمة في الأمر الأول ، ونحوها أيضا صحيحة أبي بصير المنقولة من تفسير على بن إبراهيم فإنها قد اشتملت على ان الخطيب هو الامام وانه بعد الخطبة يصلى بالناس ، وحينئذ فما أطلق من الأخبار ان وجد يحتمل على هذه الأخبار حمل المطلق على المقيد وبذلك يقيد إطلاق الآية أيضا.

ويدل على ما ذكرناه ما سيأتي ان شاء الله تعالى من الأخبار الدالة على النهى عن الكلام والامام يخطب ونحوها ، فان المراد بالإمام فيها هو إمام الجماعة الذي يصلى بعد الخطبة وإلا فلا معنى للتعبير بلفظ الإمام في المقام لو كان الخطيب غيره. وحمله على إمام في الجملة وان لم يكن في تلك الصلاة لا يرتكبه إلا من لم يكن له ذوق ولا رؤية في فهم معاني الكلام كما لا يخفى على ذوي الأفهام. وبالجملة فإن ما ذكره من الاستشكال من الأوهام السخيفة بلا اشكال.

(الرابع) الفصل بين الخطبتين بجلسة خفيفة على الأشهر الأظهر ، واستدل عليه في المدارك بالتأسي ، وقد عرفت ما فيه قريبا.

والأظهر الاستدلال على ذلك بالأخبار ، ومنها ما تقدم قريبا في صحيحة

٨٦

معاوية بن وهب (١) وهو قوله (عليه‌السلام) فيها «الخطبة وهو قائم خطبتان يجلس بينهما جلسة لا يتكلم فيها قدر ما يكون فصل ما بين الخطبتين».

وتقدم أيضا في صحيحة عمر بن يزيد (٢) قال : «وليقعد قعدة بين الخطبتين». وتقدم في موثقة سماعة (٣) بعد ذكر الخطبة الأولى قال (عليه‌السلام) «ثم يجلس ثم يقوم فيحمد الله تعالى».

وفي صحيحة محمد بن مسلم المروية في الكافي في خطبة يوم الجمعة عن الباقر (عليه‌السلام) (٤) قال بعد ذكر الخطبة الأولى بطولها «ثم اقرأ سورة من القرآن وادع ربك وصل على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وادع للمؤمنين والمؤمنات ثم تجلس قدر ما تمكن هنيهة ثم تقوم فتقول الحمد لله». ثم ساق الخطبة الثانية.

وفي صحيحة محمد بن النعمان أو غيره المروية في الكافي عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٥) انه ذكر خطبة أمير المؤمنين (عليه‌السلام) يوم الجمعة «الحمد لله أهل الحمد. ثم ساق الخطبة الى أن قال : ثم جلس قليلا ثم قام فقال الحمد لله». ثم ساق الخطبة الثانية.

وفي معناها ما رواه في الفقيه من خطبة أمير المؤمنين (عليه‌السلام) (٦) وفيها بعد ذكر الخطبة الاولى «ثم يجلس جلسة خفيفة ثم يقوم فيقول الحمد لله. الى آخر الخطبة».

وهذه الأخبار ونحوها ما بين ما تضمن حكاية فعلهم (عليهم‌السلام) ذلك وما بين ما تضمن الأمر باللام وما تضمن الأمر بالجملة الفعلية وهو ظاهر في الوجوب واشتمال الأخبار على بعض المندوبات لا يقدح في الدلالة لأن ما قام الدليل على استحبابه يجب ارتكاز التجوز في الأمر به وما لم يقم على استحبابه دليل فيجب حمل الأمر به على ظاهره من الوجوب وبه يتم المطلوب.

واما ما ذكره المحقق في المعتبر من ما يؤذن بتردده في المقام ـ حيث قال : وهل الجلسة بين الخطبتين واجبة؟ فيه تردد ، وجه الوجوب فعل النبي والأئمة

__________________

(١ و ٢) ص ٨٤.

(٣) ص ٨٣.

(٤ و ٦) الوسائل الباب ٢٥ من صلاة الجمعة.

(٥) روضة الكافي ص ١٧٣ وفي الوافي باب خطبة صلاة الجمعة.

٨٧

(صلوات الله عليهم) بعده. وما روى عن أهل البيت (عليهم‌السلام) من طرق أحدها ما رواه معاوية بن وهب ، ثم ذكرها كما ذكرناه ، ثم قال ووجه الاستحباب انه فصل بين ذكرين جعل للاستراحة فلا يتحقق فيه معنى الوجوب ، ولان فعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كما يحتمل أن يكون تكليفا يحتمل أن يكون للاستراحة وليس فيه معنى التعبد ، ولأنا لا نعلم الوجه الذي أوقعه عليه فلا تجب المتابعة. انتهى.

ولا يخفى ما فيه من النظر الظاهر في كل من الوجهين ، أما الأول فمرجعه إلى التأسي وقد عرفت انه ليس بدليل على الوجوب ، واليه أشار في آخر كلامه بقوله : ولأنا لا نعلم الوجه الذي أوقعه عليه يعنى من وجوب واستحباب لأن الإتيان به أعم منهما.

واما الثاني فيرجع الى العلة المستنبطة التي لا اعتماد عليها في الأحكام ، والوجه في الوجوب انما هو ورود الأمر بذلك في الاخبار المتقدمة ونحوها وان كان أمرا بالجملة الفعلية أو باللام ، فان التحقيق انه لا فرق بين الأمر بصيغة «افعل» ولا بين الصيغتين المذكورتين كما حققناه في مقدمات الكتاب وبه صرح جملة من محققي الأصحاب ، ويدل على ذلك أيضا صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة (١) وقوله فيها «يخرج الامام بعد الأذان فيصعد المنبر فيخطب. الى آخره». فإنه ظاهر في بيان الكيفية الواجبة ومن جملتها الجلوس بين الخطبتين.

قالوا : ويجب في الجلوس الطمأنينة وينبغي أن يكون بقدر قراءة سورة «قل هو الله أحد» كما تضمنته صحيحة محمد بن مسلم المذكورة.

قيل : ولو عجز عن القيام فخطب جالسا فصل بينهما بسكتة ، واحتمل العلامة في التذكرة الفصل بالاضطجاع.

وهل يجب السكوت حال الجلوس؟ قيل نعم لما تقدم في صحيحة معاوية ابن وهب (٢) من قوله «جلسة لا يتكلم فيها». ورد باحتمال ان يكون المراد لا يتكلم فيها بشي‌ء من الخطبة. والظاهر بعده.

__________________

(١) ص ٨٣.

(٢) ص ٨٤.

٨٨

ثم ان ههنا أشياء أخر وقع الخلاف فيها وجوبا واستحبابا في الخطبتين سيأتي ان شاء الله تعالى التنبيه عليها.

(المورد الثاني) اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ما يجب اشتمال كل من الخطبتين عليه ، فقال الشيخ في المبسوط : أقل ما تكون الخطبة أربعة أصناف : حمد الله تعالى والصلاة على النبي وآله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والوعظ وقراءة سورة خفيفة من القرآن. ومثله قال ابن حمزة.

وقال في الخلاف : أقل ما تكون الخطبة أن يحمد الله تعالى ويثنى عليه ويصلى على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ويقرأ شيئا من القرآن ويعظ الناس.

وابن إدريس وافق المبسوط في موضع من كتابه وأوجب السورة الخفيفة وخالفه في آخر ، وقال في وصف الخطبة : ويوشح خطبته بالقرآن ومواعظه وآدابه. ولم يذكر السورة.

وقال أبو الصلاح : لا تنعقد الصلاة إلا بإمام. الى ان قال : وخطبة في أول الوقت مقصورة على حمد الله تعالى والثناء عليه بما هو أهله والصلاة على محمد والمصطفين من آله (صلوات الله عليهم) ووعظ وزجر. ولم يتعرض لشي‌ء من القرآن بالكلية.

وقال الشيخ في الاقتصاد : أقل ما يخطب به أربعة أشياء : الحمد والصلاة على النبي وآله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والوعظ وقراءة سورة خفيفة من القرآن بين الخطبتين.

وقال في النهاية : ينبغي ان يخطب الخطبتين ويفصل بينهما بجلسة ويقرأ سورة خفيفة ويحمد الله تعالى في خطبته ويصلى على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ويدعو لأئمة المسلمين (عليهم‌السلام) ويدعو أيضا للمؤمنين ويعظ ويزجر وينذر ويخوف. ومثله قال ابن البراج وابن زهرة.

وقال القطب الراوندي في الرائع : الخطبة شرط في صحة الجمعة وأقل ما يكون أن يحمد الله تعالى ويصلى على النبي وآله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ويعظ الناس ويقرأ سورة قصيرة من

٨٩

القرآن ، وقيل يقرأ شيئا من القرآن.

وقال ابن الجنيد عن الخطبة الاولى : ويوشحها بالقرآن. وعن الثانية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ). إلى آخر الآية (١).

وقال المرتضى في المصباح : يحمد الله ويمجده ويثنى عليه ويشهد لمحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالرسالة ويوشح الخطبة بالقرآن ثم يفتتح الثانية بالحمد والاستغفار والصلاة على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والدعاء لأئمة المسلمين.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الذي يظهر من كلام الفاضلين ان وجوب الحمد والصلاة على النبي وآله (صلوات الله عليهم) والوعظ موضع وفاق بين علمائنا وأكثر العامة (٢) لعدم تحقق الخطبة عرفا بدون ذلك ، واستدل عليه في المنتهى بأمور واهية ليس في التعرض لها كثيرة فائدة.

وقد وقع الخلاف هنا في مواضع : (الأول) ـ هل تجب القراءة في الخطبتين كما هو المشهور أم لا كما هو مذهب ابى الصلاح؟ (الثاني) ـ انه على تقدير الوجوب هل الواجب سورة كاملة أو آية تامة الفائدة؟ (الثالث) ـ انه على الأول أعني السورة الكاملة هل الواجب سورة كاملة فيهما أو في الأولى

__________________

(١) سورة النحل الآية ٩٢.

(٢) في المغني ج ٢ ص ٣٠٤ «يشترط لكل واحدة من الخطبتين حمد الله تعالى والصلاة على رسوله «ص» ويحتمل ان لا تجب الصلاة على النبي «ص» لأن النبي «ص» لم يذكر في خطبته ذلك» وفي ص ٣٠٥ «وقال أبو حنيفة لو أتى بتسبيحة واحدة أجزأ» وفي شرح النووي على صحيح مسلم ج ٦ ص ١٥٠ «قال الشافعي لا تصح الخطبتان إلا بحمد الله والصلاة على رسول الله «ص» فيهما والوعظ وهذه الثلاثة واجبات في الخطبتين ، وقال مالك وأبو حنيفة والجمهور يكفى من الخطبة ما يقع عليه الاسم وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومالك في رواية عنه تكفى تحميدة أو تسبيحة أو تهليلة. وهذا ضعيف لانه لا يسمى خطبة» وفي المهذب ج ١ ص ١١١ «فرض الخطبة أربعة أشياء : يحمد الله تعالى ويصلى على النبي «ص» والوصية بتقوى الله وقراءة آية من القرآن».

٩٠

خاصة؟ وعلى الثاني أعني الآية التامة الفائدة فهل هي فيهما أو في الأولى خاصة؟ (الرابع) ـ هل تجب الشهادة لمحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالرسالة في الأولى كما هو ظاهر المرتضى أم لا؟ (الخامس) ـ هل يجب الاستغفار والدعاء لأئمة المسلمين كما هو ظاهر المرتضى أيضا أم لا؟ هذا ما وصل إلينا من كلام متقدمي الأصحاب في الباب.

والواجب الرجوع الى الأخبار إلا ان الظاهر انه ليس في شي‌ء منها تصريح بأقل الواجب كما وقع في عبائر الأصحاب بحيث لا يجزئ ما دونه.

وكيف كان فمن تلك الأخبار موثقة سماعة (١) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) ينبغي للإمام الذي يخطب الناس يوم الجمعة ان يلبس عمامة في الشتاء والصيف ويتردى ببرد يمني أو عدني ويخطب وهو قائم : يحمد الله ويثنى عليه ثم يوصي بتقوى الله ويقرأ سورة من القرآن قصيرة ثم يجلس ثم يقوم فيحمد الله ويثنى عليه ثم يصلى على محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وعلى أئمة المسلمين (عليهم‌السلام) ويستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات فإذا فرغ من هذا أقام المؤذن فصلى بالناس ركعتين. الحديث».

ومنها ـ ما رواه ثقة الإسلام في الكافي (٢) في الصحيح عن محمد بن مسلم «ان أبا جعفر (عليه‌السلام) خطب خطبتين في الجمعة ، ثم نقلهما بتمامهما ، والاولى منهما قد اشتملت على حمد الله والشهادتين والصلاة على النبي وآله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والوعظ ، قال ثم اقرأ سورة من القرآن وادع ربك وصل على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وادع للمؤمنين والمؤمنات ثم تجلس. وتضمنت الثانية الحمد والشهادتين والوعظ والصلاة على محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بقوله اللهمّ صل على محمد عبدك ورسولك سيد المرسلين وامام المتقين ورسول رب العالمين. قال : ثم تقول اللهمّ صلى على أمير المؤمنين ووصى رسول رب العالمين ، ثم تسمى الأئمة (عليهم‌السلام) حتى تنتهي إلى صاحبك ، ثم تقول اللهم افتح له فتحا يسيرا وانصره نصرا عزيزا اللهمّ أظهر به دينك وسنة نبيك حتى

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٤ و ٢٥ من صلاة الجمعة.

(٢) ج ١ ص ١١٧ وفي الوسائل الباب ٢٥ من صلاة الجمعة.

٩١

لا يستخفى بشي‌ء من الحق مخافة أحد من الخلق. ثم ساق الدعاء لصاحب الأمر الى ان قال : ويكون آخر كلامه ان يقول (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ). وذكر الآية كملا ، ثم قال ثم يقول اللهمّ اجعلنا ممن تذكر (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) ثم ينزل».

ومنها ـ ما رواه في الكافي (١) أيضا في الصحيح أو الحسن عن الحسن بن محبوب عن محمد بن النعمان أو غيره عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) انه ذكر هذه الخطبة لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) يوم الجمعة ، والاولى منهما طويلة مشتملة على التحميد والشهادتين والوعظ ثم سورة «العصر» ثم قال (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ثم ذكر الآية وأردفها بمزيد الصلاة والدعاء للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الى ان قال : «ثم جلس قليلا ثم قام فقال الحمد لله.».

وذكر الخطبة الثانية وهي مشتملة على الحمد والاستعاذة وطلب العصمة من الذنوب ومساوئ الأعمال ومكاره الآمال ثم الدعاء للمؤمنين والمؤمنات ومنها ـ ما رواه في الفقيه (٢) مرسلا ، قال : «خطب أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في الجمعة فقال. ثم ساق الخطبة الأولى وهي مشتملة على التحميد والثناء على الله سبحانه والشهادتين والوعظ ثم سورة التوحيد أو «قل يا ايها الكافرون» أو «إذا زلزلت» أو «ألهاكم التكاثر» أو «العصر» قال وكان من ما يدوم عليه «قل هو الله أحد» ثم يجلس جلسة خفيفة ثم يقوم فيقول.» ثم ذكر الخطبة الثانية وهي مشتملة على التحميد مختصرا وكذلك الشهادتان ثم الصلاة على النبي وآله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ثم الدعاء على أهل الكتاب ثم الدعاء بنصر جيوش المسلمين وسراياهم ثم الدعاء للمؤمنين ثم الآية «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ... إلى آخرها» (٣).

أقول : قد اتفقت هذه الأخبار بالنسبة إلى الخطبة الأولى على اشتمالها على التحميد والوعظ وقراءة سورة كاملة وهي تمام ما اختصت به موثقة سماعة ،

__________________

(١) الروضة ص ١٧٣ وفي الوافي باب خطبة صلاة الجمعة.

(٢) ج ١ ص ٢٧٥ وفي الوسائل الباب ٢٥ من صلاة الجمعة.

(٣) سورة النحل الآية ٩٢.

٩٢

واشتركت الروايات الثلاث التي بعدها في الاشتمال على الشهادتين زيادة على ذلك ، وحينئذ فيخص بها إطلاق موثقة سماعة ويجب تقييدها بها ، واختصت الرواية الثانية بزيادة الصلاة على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والأحوط إضافتها لذلك.

واما بالنسبة إلى الخطبة الثانية فقد اتفق الجميع على التحميد خاصة واشترك ما عدا الرواية الثالثة في إضافة الصلاة على النبي وآله (صلوات الله عليهم) واشتركت الاولى والثانية في إضافة أئمة المسلمين إلى الصلاة على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إجمالا في الاولى وتفصيلا في الثانية وبه يجب تقييد ما خلا ذلك من الأخبار المذكورة ، واشتركت الرواية الثانية والرابعة في إضافة الآية المتقدمة في آخر الخطبة وبه يقيد إطلاق الروايتين الخاليتين من ذلك ، واتفق الجميع في عدم ذكر الوعظ في الثانية (١).

ثم انه لا يخفى ما بين ما دلت عليه هذه الأخبار وبين ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) في المقام من المنافاة وعدم الالتئام ولا سيما بالنسبة إلى إيجابهم السورة في الخطبة الثانية كما هو ظاهر المشهور ، قال في الذكرى قال ابن الجنيد والمرتضى : وليكن في الأخيرة قوله تعالى «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ... الآية» (٢). وأورده البزنطي في جامعه. وبالنسبة إلى إيجابهم الوعظ في الخطبة الثانية وكذا بالنسبة الى عدم ذكرهم الشهادتين سوى المرتضى (رضى الله عنه) فإنه ذكر الشهادة بالرسالة ولم يذكر الشهادة بالتوحيد والأخبار قد اشتملت عليهما ونحو ذلك. إلا ان بعض الأخبار الواردة في ذكر الخطبة غير ما أشرنا إليه اشتمل على الوعظ في الثانية أيضا. والاحتياط لا يخفى.

وينبغي التنبيه على أمور

(الأول) قد صرح العلامة والشهيد وجماعة بأنه يجب في الخطبتين التحميد بصيغة «الحمد لله» ورده جملة ممن تأخر عنهم بصدق الخطبة مع الإتيان بالتحميد كيف اتفق.

__________________

(١) تقدم الوعظ فيها في الصحيحة ص ٩١.

(٢) سورة النحل الآية ٩٢.

٩٣

أقول : لا ريب ان موثقة سماعة وان اشتملت على مطلق التحميد لقوله «يحمد الله ويثنى عليه» إلا ان الثلاث التي بعدها كلها قد اشتملت على لفظ «الحمد لله» في أول كل من الخطبتين فلا يبعد ان يحمل عليها إطلاق موثقة سماعة المذكورة وبه يظهر قوة ما ذكره الأولون.

(الثاني) ذكر جمع من الأصحاب انه يجب الترتيب في اجزاء الخطبة بتقديم الحمد ثم الصلاة ثم الوعظ ثم القراءة فلو خالف أعاد على ما يحصل به الترتيب ، قال في المدارك : وهو أحوط وان كان في تعينه نظر.

أقول : ما ذكروه (رضوان الله عليهم) مبنى على ما تكرر في عبائرهم من إيجاب هذه الأربعة في كل من الخطبتين وقد عرفت ما بين كلامهم وبين الاخبار المتقدمة من المدافعة في البين ، والذي يتلخص من الاخبار بتقريب ما قدمنا ذكره من ضم بعضها الى بعض بالنسبة إلى الخطبة الأولى هو الإتيان بالتحميد أولا ثم الشهادتين بالتوحيد أولا ثم بالرسالة ثم اضافة الصلاة بعدهما احتياطا ثم الوعظ ثم قراءة سورة كاملة ، واما بالنسبة إلى الخطبة الثانية فالتحميد أولا ثم الصلاة على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ثم أئمة المسلمين تفصيلا ثم الآية المتقدمة. واما ان ذلك على جهة الوجوب أو الاستحباب فإشكال ينشأ من أن هذه الكيفية التي ورد بها النص فيقين البراءة يتوقف عليها ومن احتمال خروجها مخرج الاتفاق سيما ان الخطب المذكورة مشتملة على تكرار وزيادة أشياء أخر فيها. وبالجملة فالاحتياط في الوقوف على ما دلت عليه الاخبار وان كان لا اشعار فيها بالوجوب.

(الثالث) المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) المنع من الخطبة بغير العربية للتأسي ، قال في المدارك : وهو حسن.

أقول : قد عرفت ان التأسي لا يصلح لان يكون دليلا لحرمة ولا وجوب كما صرح به هو وغيره من المحققين ولكنه في أمثال هذه المواضع يستسلقه وهو غير جيد. نعم يمكن ان يقال ان يقين البراءة موقوف على ذلك وانها عبادة

٩٤

والعبادات توقيفية يتبع فيها ما رسمه صاحب الشريعة ، وهذا هو الذي جاء عنهم (عليهم‌السلام).

ولو لم يفهم العدد العربية ولا أمكن التعلم قيل تجب العجمية لأن مقصود الخطبة لا يتم بدون فهم معانيها. واحتمل في المدارك سقوط الجمعة لعدم ثبوت مشروعيتها على هذا الوجه.

أقول : والأقرب وجوب العربية في الصورة المذكورة ، والتعليل بان المقصود من الخطبة فهم العدد لمعانيها مع تسليم وروده لا يقتضي كونه كليا فان علل الشرع ليست عللا حقيقة يدور المعلول مدارها وجودا وعدما وانما هي معرفات وتقريبات إلى الأذهان كما لا يخفى على من راجع كتاب العلل وما اشتملت عليه اخباره من العلل. على ان البلدان التي فتحت من العجم والروم ونحوهما وعينت فيها الأئمة للجمعات والجماعات لم ينقل انهم كانوا يترجمون لهم الخطب ولو وقع لنقل ومنه زمان خلافة أمير المؤمنين (عليه‌السلام) وكيف كان فالأحوط الخطبة بالعربية وترجمة بعض الموارد التي يتوقف عليها المقصود من الخطبة.

(الرابع) قال شيخنا المجلسي (قدس‌سره) في كتاب البحار : والاولى والأحوط ان يراعى الخطيب أحوال الناس بحسب خوفهم ورجائهم فيعظهم مناسبا لحالهم وللأيام والشهور والوقائع الحادثة وأمثال تلك الأمور كما يومئ اليه بعض الاخبار ويظهر من الخطب المنقولة. انتهى. وهو جيد.

(الخامس) روى الصدوق في كتاب العلل والعيون في علل الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه‌السلام) (١) قال : «وانما جعلت خطبتين لتكون واحدة للثناء على الله تعالى والتمجيد والتقديس لله عزوجل ، والأخرى للحوائج والاعذار والإنذار والدعاء ولما يريدان يعلمهم من أمره ونهيه ما فيه الصلاح والفساد». انتهى.

أقول : ظاهره ان احدى الخطبتين انما تشتمل على الثناء والتمجيد والتقديس

__________________

(١) الوسائل الباب ٢٥ من صلاة الجمعة.

٩٥

لله عزوجل والأخرى لما ذكره (عليه‌السلام) وأنت خبير بأنه لا ينطبق على ما قدمناه من الأخبار ولا كلام الأصحاب وصاحبه (عليه‌السلام) اعلم بذلك.

(المورد الثالث) اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب الإصغاء للخطبة والطهارة فيهما من الحدث أو منه ومن الخبث وفي تحريم الكلام حال الخطبة من المأمومين والامام وكذا في وجوب رفع الصوت لاستماع العدد.

والكلام هنا يقع في مواضع (الأول) ـ في وجوب الإصغاء وعدمه ممن يمكن في حقه السماع والإصغاء والإنصات لها والاستماع ، والمشهور وجوبه وذهب الشيخ في المبسوط والمحقق في المعتبر إلى انه مستحب.

احتج الأولون بأن فائدة الخطبة لا تحصل إلا به. قال في الذخيرة : وفيه منع واضح لمنع كون الفائدة منحصرة في استماع كل منهم جميع الخطبة ، قال : ولو قصد بهذا الاستدلال على وجوب إصغاء الزائد على العدد كان أخفى دلالة. انتهى.

أقول : والأظهر الاستدلال على القول المشهور بالأخبار الدالة على النهى عن الكلام والامام يخطب (١) فإنه لا وجه للنهي في المقام إلا من حيث وجوب الإصغاء للخطبة والاستماع لها ، ونقل غير واحد من أصحابنا عن البزنطي في جامعه (٢) انه قال «إذا قام الامام يخطب وجب على الناس الصمت». وهو من قدماء الأصحاب وأجلاء الثقات من أصحاب الرضا (عليه‌السلام).

والأصحاب أيضا قد اختلفوا في تحريم الكلام ، فالمشهور التحريم فمنهم من عمم الحكم بالنسبة إلى المستمعين والخطيب ومنهم من خصه بالمستمعين ، وذهب الشيخ في المبسوط وموضع من الخلاف والمحقق إلى الكراهة ، وهو جار على نحو ما قدمناه عنهم من القول بعدم وجوب الاستماع ، والى القول بالكراهة مال الفاضل الخراساني في الذخيرة أيضا.

والأظهر عندي هو القول المشهور من وجوب الاستماع وتحريم الكلام

__________________

(١) الوسائل الباب ١٤ من صلاة الجمعة.

(٢) المعتبر ص ٢٠٦.

٩٦

للاخبار المشار إليها ، ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «إذا خطب الامام يوم الجمعة فلا ينبغي لأحد أن يتكلم حتى يفرغ الامام من خطبته فإذا فرغ الامام من الخطبتين تكلم ما بينه وبين أن تقام الصلاة».

ومنها ـ ما رواه في الفقيه مرسلا (٢) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) لا كلام والامام يخطب ولا التفات إلا كما يحل في الصلاة ، وإنما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين جعلتا مكان الركعتين الأخيرتين فهي صلاة حتى ينزل الامام».

وظاهر هذا الخبر كما ترى انه ما دام الامام يخطب فإن الامام والحاضرين معه في صلاة حتى ينزل فلا يتكلم هو ولا هم ولا يلتفتون إلا كما يلتفتون حال الصلاة ، ومنه يفهم وجوب الطهارة ايضا على الامام وعليهم من الحدث والخبث. هذا مقتضى ظاهر الخبر المذكور.

ومنها ـ ما رواه في الفقيه في الصحيح عن محمد بن مسلم عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «لا بأس ان يتكلم الرجل إذا فرغ الامام من الخطبة يوم الجمعة ما بينه وبين ان تقام الصلاة». فإنه يشعر بالبأس قبل الفراغ.

ومنها ـ ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن محمد بن مسلم (٤) قال : «سألته عن الجمعة فقال أذان واقامة يخرج الامام بعد الأذان فيصعد المنبر فيخطب ولا يصلى الناس ما دام الامام على المنبر. الحديث». فإنه إذا امتنعت الصلاة التي هي عبادة امتنع الكلام الذي هو لغو غالبا.

ومنها ـ ما رواه الصدوق في كتاب المجالس عن بكر بن محمد (٥) ورواه ايضا عبد الله بن جعفر الحميري في كتاب قرب الاسناد عن بكر بن محمد عن الصادق عن آبائه (عليهم‌السلام) (٦) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) الناس في الجمعة على ثلاثة

__________________

(١ و ٢ و ٣) الوسائل الباب ١٤ من صلاة الجمعة.

(٤) الوسائل الباب ٢٥ من صلاة الجمعة.

(٥ و ٦) الوسائل الباب ٥٨ من صلاة الجمعة.

٩٧

منازل : رجل شهدها بإنصات وسكون قبل الامام وذلك كفارة لذنوبه من الجمعة إلى الجمعة الثانية وزيادة ثلاثة أيام لقوله تعالى «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» (١) ورجل شهدها بلغط وملق وقلق فذلك حظه ، ورجل شهدها والامام يخطب فقام يصلى فقد أخطأ السنة وذلك ممن إذا سأل الله عزوجل ان شاء أعطاه وان شاء حرمه».

وروى الصدوق في المجالس بسنده في مناهي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٢) «انه نهى عن الكلام يوم الجمعة والامام يخطب ومن فعل ذلك فقد لغى ومن لغى فلا جمعة له».

وروى في كتاب قرب الاسناد عن السندي بن محمد عن أبي البختري عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) (٣) «ان عليا (عليه‌السلام) كان يكره رد السلام والامام يخطب».

وفيه بهذا الاسناد عن على (عليه‌السلام) (٤) قال : «يكره الكلام يوم الجمعة والامام يخطب وفي الفطر والأضحى والاستسقاء».

قال شيخنا المجلسي في كتاب البحار بعد نقل هذين الخبرين : بيان ـ كراهة رد السلام لعله محمول على التقية إذ لا يكون حكمها أشد من الصلاة. ويمكن حمله على ما إذا رد غيره ، قال العلامة في النهاية : ويجوز رد السلام بل يجب لانه كذلك في الصلاة ففي الخطبة أولى. وكذا يجوز تسميت العاطس ، وهل يستحب؟ يحتمل ذلك لعموم الأمر به ، والعدم لأن الإنصات أهم وانه واجب على الأقرب انتهى. والكراهة الواردة في الكلام غير صريحة في الكراهة المصطلحة لما عرفته مرارا. وظاهره شمول الحكم لمن لم يسمع الخطبة أيضا. قال العلامة في النهاية : وهل يجب الإنصات على من لم يسمع الخطبة؟ الأولى المنع لان غايته الاستماع فله ان

__________________

(١) سورة الانعام الآية ١٦١.

(٢) ص ٢٥٥ ورواه في الفقيه أيضا في المناهي ، راجع الوسائل الباب ١٤ من صلاة الجمعة.

(٣ و ٤) الوسائل الباب ١٤ من صلاة الجمعة.

٩٨

يشتغل بذكر وتلاوة. ويحتمل الوجوب لئلا يرتفع اللغط ولا يتداعى الى منع السامعين من السماع. انتهى كلام شيخنا المذكور وهو ظاهر في اختياره القول المشهور

ومنها ـ ما رواه في كتاب قرب الاسناد عن على بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن الإمام إذا خرج يوم الجمعة هل يقطع خروجه الصلاة أو يصلى الناس وهو يخطب؟ قال لا تصلح الصلاة والامام يخطب إلا ان يكون قد صلى ركعة فيضيف إليها أخرى ولا يصلى حتى يفرغ الامام من خطبته».

ومنها ـ ما ذكره في كتاب الفقه الرضوي (٢) قال : «وقال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) لا كلام والامام يخطب يوم الجمعة ولا التفات وانما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين جعلتا مكان الركعتين الأخيرتين فهي صلاة حتى ينزل الامام».

وفي كتاب دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) (٣) انه قال : «إذا قام الامام يخطب فقد وجب على الناس الصمت». وعن على (عليه‌السلام) (٤) انه قال : «لا كلام والامام يخطب ولا التفات إلا كما يحل في الصلاة».

وعن جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) (٥) انه قال : «لا كلام حتى يفرغ الامام من الخطبة فإذا فرغ منها فتكلم ما بينك وبين افتتاح الصلاة ان شئت».

وعن على (عليه‌السلام) (٦) انه قال : «يستقبل الناس الامام عند الخطبة بوجوههم ويصغون اليه».

وعن جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) (٧) انه قال : «انما جعلت الخطبة

__________________

(١) الوسائل الباب ٥٨ من صلاة الجمعة.

(٢) ص ١١.

(٣ و ٤ و ٥ و ٦) مستدرك الوسائل الباب ١٢ من صلاة الجمعة.

(٧) مستدرك الوسائل الباب ٦ من صلاة الجمعة.

٩٩

عوضا عن الركعتين اللتين أسقطتا من صلاة الظهر فهي كالصلاة لا يحل فيها إلا ما يحل في الصلاة».

أقول : ومن هذه الأخبار يظهر قوة القول المشهور وضعف ما ذكره في الذخيرة في الجواب عن صحيحة محمد بن مسلم الأولى (١) من أن لفظ «لا ينبغي» ظاهر في الكراهة ، فإن فيه ان ظهوره في الكراهة انما هو باعتبار عرف الناس واما باعتبار عرفهم (عليهم‌السلام) فان ورد هذا اللفظ في التحريم ولفظ «ينبغي» في الوجوب مما لا يحصى كثرة في الأخبار كما لا يخفى على من جاس خلال الديار ، فهو وان كان في عرفهم (عليهم‌السلام) متشابها محتملا للأمرين إلا انه ـ بانضمام ما ذكرناه من الأخبار سيما ما دل على النهى وما دل على انه في صلاة حتى ينزل الامام ونحو ذلك ـ يتحتم حمله على التحريم.

والظاهر تحريم الكلام أو كراهته على القولين المذكورين في ما بين الخطبتين لما تقدم في صحيح محمد بن مسلم وغيره (٢) من النهى حتى يفرغ من خطبته حتى إذا فرغ تكلم ما بينه وبين ان تقام الصلاة ، والمراد من الفراغ من خطبته الفراغ من كلتا الخطبتين.

والظاهر ان غاية النهي عن الكلام التحريم على تقدير القول به لا بطلان الصلاة أو الخطبة فإنه لم يصرح أحد من القائلين بالتحريم بالبطلان في هذا الموضع في ما اعلم ، وبذلك ايضا صرح بعض متأخري المتأخرين.

والظاهر انه يجب الإصغاء ويحرم الكلام على من يمكن في حقه السماع فالبعيد الذي لا يسمع والأصم لا يجب عليهما ولا يحرم لعدم الفائدة ، وقد تقدم في عبارة النهاية احتمال الوجوب وهو الأحوط.

قيل : ولا يحرم غير الكلام من ما يحرم في الصلاة خلافا للمرتضى. أقول : ظاهر خبر الفقه الرضوي المتقدم نقله المانع من الالتفات موافقة المرتضى (رضي الله

__________________

(١ و ٢) ص ٩٧.

١٠٠