شرح دعاء كميل

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

شرح دعاء كميل

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مؤسسة عاشوراء للتحقيقات والبحوث الإسلامية
المطبعة: مطبعة الكوثر
الطبعة: ١
ISBN: 964-7263-74-0
الصفحات: ٢٠٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

ظاهراً وباطناً ، وربما يكون له خصال حميدة ، ولا أقل من خواطر حقّة ثابتة ، علىٰ درجات متفاوتة ، ولا سيّما أنَّ العبرة بأخير حالاته ونهاية أوقاته ، [ كما قيل :

هيچ کافر را سنجراری منگريد

که مُسلمان مرونش باشد اميد ] (١)

لو فرض خلوّه عن جميع الوسائل وانبتات يده عن تمام الحبائل ، فنلتزم عدم حصول الشفاعة له ، ولهذا وقع في الدعاء : ( اللّهم قرّب وسيلته ، وارزقنا شفاعته ) (٢) » (٣) انتهىٰ.

ثمّ مراده من جعله تعالىٰ شفيعاً لجرائمه وآثامه عنده تعالىٰ ، هو طلب العفو والمغفرة منه تعالىٰ ، علىٰ سبيل الكناية التي هي أبلغ من التصريح وأدعىٰ منه.

( وَأَسْأَلُكَ بِجُودِكَ أَنْ تُدْنِيني مِنْ قُرْبِكَ )

الجود والكرم بمعنًى واحد ، والجواد الذي لا يبخل بعطائه ، وهو من أسمائه تعالىٰ ، كما في الدعاء ( اللهم أنت الجواد الذي لا يبخل ) (٤).

والجود منه تعالىٰ إفادة ما ينبغي لا لعوض ولا لغرض ، كالعطاء والكرم والهبة منه تعالىٰ ؛ إذ مرجعها إلىٰ صفة واحدة هي الإفاضة والفيّاضية.

وفي المجمع : « سئل الحسن عليه‌السلام ـ وهو في الطواف ـ فقيل : أخبرني عن الجواد ، فقال عليه‌السلام : ( إنّ لكلامك وجهين ؛ فإن كنت تسأل عن المخلوق فالجواد الذي يؤدّي ما افتُرض عليه ، والبخيل الذي يبخل بما افتُرض عليه. وإن كنت تسأل عن الخالق فهو الجواد إن أعطىٰ ، وهو الجواد إن منع ؛ لأنه إن أعطىٰ عبداً أعطاه ما ليس له ، وإن منع منع ما ليس له ) » (٥).

_____________________________

(١) ليست في المصدر.

(٢) « بحار الأنوار » ج ٨٧ ، ص ١٣٢ ، باختلاف.

(٣) « شرح الأسماء » ص ٦٢٦.

(٤) « بحار الأنوار » ج ٩٥ ، ص ٢٤١ ، باختلاف.

(٥) « مجمع البحرين » ج ٣ ، ص ٢٩.

٨١
 &

أقول : أراد عليه‌السلام أنَّ خالق جميع العطيات وموجدها ومعطيها ومالكها نفسه تعالىٰ ، لا شريك له في الإيجاد ، كما لا ثاني له في الوجود.

وقول السائل : ( أن تُدنيني من قُربِكَ ) أي تقرّبني إليك. يقال : زيد أدنىٰ عمراً إلىٰ بكر ، أي قرّبه إليه ، وأدنوه مني : أي قرّبوه منّي ، من الإدناء. كأنّه قال : أسألك بسبب جودك وكرمك أن تعطيني بعطاء هو قربك ، يعني : توفّقني لإقامة طاعاتك وإدامة عباداتك ، حتّىٰ يحصل لي التخلّق بأخلاقك الحسنة والاتصاف بصفاتك الكريمة ؛ لأنّك قلت : ( عبدي أطعني حتىٰ أجعلك مثلي ، أقول لشيء : كن ، فيكون ، تقول لشيء : كن ، فيكون ) (١) ، كما قيل :

حكايت كنند از بزرگان دين

حقيقت شناسان عين اليقين

که صاحبدلی بر پلنگی نشست

همی را ندار هوار وماری بدست

باو گفتم اى مرد راه خدا

بدين ره که رفتی مرا ره نما

چه کردی که درنده رام تو شد

نگين سعادت بنام تو شد

بکفت ار بينگم زبون دست ومار

وگربيل و گرگ هاست شگفتی مدار

تو هم گردن از حکم داود هيچ

که گردن به يچد ز حکم تر هيچ

وقال المولوي :

بر كه ترسيد از حق وتقوىٰ گزيد

ترسد از وی چن دانس وهر که ويد

وفي الحديث القدسيّ أيضاً : ( مَن تقرّب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً ، ومن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً ، من أتاني مشياً أتيته هرولة ) (٢).

وكأن غاية التقرّب إليه تعالىٰ هي الفناء في أسمائه وصفاته ، وبعبارة اُخرىٰ : الفناء في الحضرة الواحدية ، وحينئذٍ يسري حكم المفني فيه في الفاني ، ويبقىٰ ببقائه

_____________________________

(١) « الجواهر السنية » ص ٢٨٤ ، باختلاف.

(٢) « الأمالي » للسيد المرتضىٰ ، ج ٢ ، ص ٦.

٨٢
 &

لا بإبقائه كما في الموجودات اللايزالية ، فإنها باقية بإبقاء الله تعالىٰ.

فهذه الغاية القصوىٰ والبغية الكبرىٰ حصلت لسيد الأنبياء وخاتمهم ، وسيد الأوصياء والأولياء وخاتمهم ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( من رآني فقد رأىٰ الحقّ ) (١). وقال : ( لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرّب ولا نبي مرسل ) (٢). وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ( معرفتي بالنورانية معرفة الله ) (٣)

وقال المولوي ـ حكاية عن نوح عليه‌السلام ـ :

گفت نوح ای سرکشان من من نيم

من ز جان مردم بجانان ميزيم

چون بمردم از حواس ابو البشر

حق مرا شد سمع و ادراک و بصر

چونکه من من نيستم اين دم ز هواست

پيش اين دم هر که دم زد کافر او است

( وَأَن تُوزِعَني شُكرَك )

الإيزاع : الإلهام ، والجملة معطوفة علىٰ ما قبلها.

يريد : أنّه بعدما أنعمتني وأعطيتني بالنعمة التي هي قُربك ، أسألك أن تُلهمني شكرك ؛ لأنّه ـ كما مرّ ـ لكلّ نعمة شكر خاصّ يختصّ بها ، وشكر تلك النعمة العظمىٰ موقوف علىٰ إلهامة تعالىٰ ، ولعله نفس تلك النعمة ، بناءً علىٰ الحديث القدسيّ الذي قال تعالىٰ : ( مَن عشقني عشقته ، ومَن عشقته قتلته ، ومَن قتلته فعليّ ديته ، ومَن عليّ ديته فأنا ديته ) (٤) ( من كان لله كان الله له ) (٥).

والشكر في اللغة : فعل ينبئ عن تعظيم المنعم لكونه منعماً (٦). وعند العلماء وفي اصطلاحهم : صرف العبد جيع ما أنعمه الله تعالىٰ عليه فيما خُلق لأجله.

_____________________________

(١) « صحيح البخاري » ج ٦ ، ص ٢٥٦٨ ، ح ٦٥٩٥.

(٢) « جامع الأسرار » ص ٢٧ ، ٢٠٥.

(٣) « شرح الأسماء » ص ٦٢٣.

(٤) انظر « شرح الأسماء » ص ١١٩ ، ٣٩٤ ، ٦٧٠.

(٥) انظر « شرح الأسماء » ص ٢١٦ ، ٣٥٧ ، ٣٩٤.

(٦) « مجمع البحرين » ج ٣ ، ص ٣٩ ، مادة « حمد ».

٨٣
 &

بيان أقسام الخواطر

والإلهام من فعل الله تعالىٰ ، أو مِن فعل الملك ، وهو الخاطر الذي بالقوّة والتسلّط وعدم الاندفاع ؛ إذ الخواطر والواردات علىٰ القلب أربعة أقسام :

رباني : ويسمّىٰ نقر الخاطر أيضاً.

وملكي : وهو الباعث علىٰ مندوب أو مفروض ، ويسمّىٰ إلهاماً

ونفساني : وهو ما فيه حظّ للنفس ، ويسمّىٰ هاجساً.

وشيطاني : هو الباعث علىٰ مخالفة الحقّ والعقل ، ويسمىٰ وسواساً.

وسيأتي زيادة توضيح لتلك الأقسام عند شرح : ( ونفسي بخيانتها ، ومِطالي ) إن شاء الله تعالىٰ.

وإن كان الإلهام فعل الملك فقط ، كما قال به بعض المحققين ، فإسناده إليه تعالىٰ من باب إسناد الفعل إلىٰ فاعله الحقيقي ، وانقطاعه عن الفاعل المجازي الذي هو في الحقيقة معدّ لا فاعل للشيء ؛ إذ جميع الملائكة جهات قادريته تعالىٰ ، وجنوده وأياديه الفعّالة العمّالة ، ومعطي الوجود ـ كما مرّ غير مرّة ـ ليس إلّا هو ، وقد أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالىٰ في مواضع كثيرة :

منها قوله : ( اللَّـهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (١) ، ومنها قوله تعالىٰ : ( هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ) (٢) ، ومنها قوله تعالىٰ : ( يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ) (٣) إلىٰ غير ذلك.

( وَأَنْ تُلْهِمُني ذِكْرَكَ )

المراد بالذكر هنا : ما يتذكّر به الإنسان من الأذكار والأوراد التي بها يستمد من

_____________________________

(١) « الزمر » الآية : ٤٢.

(٢) « آل عمران » الآية : ٦.

(٣) « النحل » الآية : ٩٣.

٨٤
 &

الله تعالىٰ ويطلب قضاء حاجاته منه ، بل يستحضره في قلبه ، حتىٰ لا ينساه وينسىٰ نفسه به ، كما قال الله تعالىٰ : ( نَسُوا اللَّـهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ) (١).

فالأهم الأقرب والأولىٰ والأنسب أن يؤنس الإنسان نفسه بذكره تعالىٰ في جميع أوقاته ، وكان منظور نظره في جملة دعواته القربة إلىٰ وجهه الكريم ؛ ولذا قال سيد الساجدين زين العابدين عليه‌السلام ، في المناجاة الثالثة عشر : ( وآنسنا بالذكر الخفي ، واستعملنا بالعمل الزكي ) (٢) ؛ حتىٰ تنوّر بيت فؤاده بنور جماله ، واستتر نقائصه الإمكانيّة تحت شعاع عظمته وجلاله.

فإذا جاوز عن دار الغرور وتوجّه إلىٰ دار السرور استقرَّ في الأنوار الخمسة ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لا يزال المؤمن الذي يذكر الله في كلّ حال في أنوار خمسة : مدخله نور ، ومخرجه نور ، وكلامه نور ، وغذاؤه نور ، ومنظره يوم القيامة إلىٰ نور ) (٣).

فالذكر ينبغي أن يلتفت إلىٰ أن يكون في تذكاره تعالىٰ عمدة غرضه نفس الذكر ، ولا يدرج فيه مقاصد اُخر ، وإن أدرج ولم يقض أوطاره المندرجة لا يعبأ به ، فإنّه قال تعالىٰ : ( عَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ) (٤). كما قال المولوي رحمه‌الله :

آن يکی الله سيکفنی بشی

تا که شيرين گردد از ذکرش بی

گفت شيطان آخر ای بسيار گو

اين همه الله را لبيک گو

می نيايد يک جواب از پيش تخت

چند الله سيزنی باردی سخت

او پريشان دل شد ونهاد سر

ديدر خواب او خضر را در خضر

گفت هين از ذکر چون وا مانده

چون پشيمانی از آن گش خوانده

کفت لبيکم نميايد جواب

زان همی برستم که باشم در باب

_____________________________

(١) « الحشر » الآية : ١٩.

(٢) « بحار الأنوار » ج ٩١ ، ص ١٥١.

(٣) « بحار الأنوار » ج ٤ ، ص ١٨ ، باختلاف.

(٤) « البقرة » الآية : ٢١٦.

٨٥
 &

گفت او را که گفت اين بمن

که بر وبا أو بگو ای ممتحن

خود همان الله تو لبيك ما است

و ان نياز و در دو سوزت لبيك ما است

حيله‌ها وجاره جونهاى تو

جذب‌ها بود وگشودن پای تو

از خدا غير خدا را خواستن

اطن افزو نيسيت کلی کاستن

( اللّهُمَّ إنّي أَسْأَلُكَ سُؤالَ خاضِعٍ مُتَذَلّلٍ خاشِعٍ أن تُسامِحَني )

التذلل : المَسكنة والهوان والحقارة ، من الذل ـ بالضم ـ ضد العزة.

الخضوع ـ كالخشوع ـ : الخوف والخشية.

فالمراد بالخضوع هنا : هو التطامن والتواضع ، والخشية في القلب والأفعال.

وبالخشوع : التطامن والتواضع في الصوت والقول.

المسامحة : المساهلة ، تسامحني : أي تساهلني ولا تأخذني بالشدّة والقهر.

وفي الدعاء أيضاً : ( اللهم تفضّل عليَّ بالمياسرة إذا حاسبتني المياسرة ) (١).

مفاعلة من اليسر ، والمراد : المسامحة في الحساب يوم القيامة.

( وَتَرْحَمَني وَتَجْعَلَني بِقِسْمِكَ راضِياً )

أي بقسمك الذي قسمت لي من الأرزاق ، والعلم والمعرفة ، والعزّة أو الذلة ، والصحّة أو المرض. وبالجملة ، فجميعها بقدرته وحوله وتقديره وقضائه وقدره وعلمه ومشيئته وإمضائه.

قال الله تعالىٰ : ( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ ) (٢) ، وقال : ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) (٣).

الرضا : ضد السخط والكراهة.

_____________________________

(١) « المصباح » للكفعمي ، ص ١٩٣ ، « بحار الأنوار » ج ٨٣ ، ص ٣٥٤.

(٢) « الزخرف » الآية : ٣٢.

(٣) « الذاريات » الآية : ٢٢.

٨٦
 &

( قَانِعَاً )

القانع : هو الذي يقنع ويرضىٰ بالقليل ، ولا يسخط ولا يكره بقلّة المعيشة. وفي الصحاح : « القانع : الراضي بما معه وبما يعطىٰ من غير سؤال » (١).

أقول : فضيلة القناعة في الأخبار كثيرة ، كقوله عليه‌السلام : ( القانع غني وإن جاع وعرىٰ ، ومَن قنع استراح من أهل زمانه واستطال علىٰ أقرانه ، ومَن قنع فقد اختار الغنىٰ علىٰ الذل ، والراحة علىٰ التعب ) وقوله عليه‌السلام : ( القناعة كنز لا ينفد ) (٢). ولعل عدم نفاده لأنّ الإنفاق منه لا ينقطع كلّما تعذر عليه شيء من اُمور الدنيا قنع القانع بما دونه ورضي به.

وقوله عليه‌السلام : ( عَزّ مَن قنع ، وذلّ مَن طمع ).

وقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : ( إنّي طلبت الغنىٰ فما وجدت إلّا بالقناعة ، عليكم بالقناعة تستغنوا ، وطلبت القدر والمنزلة فما وجدت إلّا بالعلم ، تعلّموا يعظم قدركم في الدارين ، وطلبت الكرامة فما وجدت إلّا بالتقوىٰ ، اتقوا الله لتكرموا ، وطلبت الراحة فما وجدت إلّا بترك مخالطة الناس ، اتركوا الدنيا ومخالطة الناس تستريحوا ) (٣).

أو غير ذلك من الأحاديث التي تدلّ علىٰ فضيلة القناعة.

وسرّها واضح ؛ إذ من المعلوم أنّ من قنع بالقليل من الزاد في مسافرته إلىٰ الله تعالىٰ أمن من الكد والتكلّف والسعي في الطلب ، ولا يوقع نفسه في متاعب الكسب ومصاعب الاُمور ، ويتقّي بوجهه سوء الاكتساب ، حتّىٰ لا يقع في الشبهات والمحرّمات ، ولهذا يصان دينه وإيمانه ، وكان بمعزل من الصفات الخسيسة والسمات الخبيثة ، ويقبل بجميع وجوهه إلىٰ الله تعالىٰ ، ويجعل غاية عزيمته سرعة سيره من هذا الجسر ؛ ليلتحق بالمفردين (٤) ، يسلك في سلك المقرّبين أو في حزب أصحاب اليمين ، وتبرّأ عن الانخراط في زمرة المكذّبين الضالين.

_____________________________

(١) « الصحاح » ج ٣ ، ص ١٢٧٣.

(٢) « روضة الواعظين » ص ٤٥٤.

(٣) « بحار الأنوار » ج ٦٦ ، ص ٣٩٩ ، ح ٩١.

(٤) كذا في المخطوط.

٨٧
 &

مع أنّ الإنسان العارف يعلم أن قسّام الأرزاق بجملتها هو الحكيم علىٰ الإطلاق ، قد قدّر لكلّ فرد من أفراد الأناسي والحيوانات رزقاً معيّناً معلوماً ، مقسوماً في أوقات خاصة ، لا يقدّم ولا يؤخر طرفة عين.

بر سر هر لقمه بنوشته عيان

كز فلان بن فلان بن فلان

بل لكلّ غصن من أغصان الأشجار والنباتات وأوراقها رزق معيّن مشخّص ، مرزوقة به ، لا ترتزق ورقة رزق الاُخرىٰ ، بل جميع العالم مرزوقة من الله تعالىٰ من السماوات والأرضين ، كلّ برزق مخصوص يختصّ به ، كما مرّ في أوائل هذا الشرح.

فإذا كان أزمّة الاُمور من الأرزاق وغيرها بيده تعالىٰ ، فِلَم لا يرتضي العبد القانع بما تيسّر له من المعيشة ، واغتم بأقسام الآخرين ، وأخرج نفسه من سلسلة الصابرين والشاكرين ؟! والحمد لله رب العالمين.

( وَفِي جَمِيْعِ الأَحْوَالِ مُتَواضِعاً )

التواضع : التذلل ، وفي الحديث : ( ما تواضع أحد لأحد لله إلّا رفعه ).

فالعارف البصير ، والمسترشد الخيبر ، الناظر بنور الله إلىٰ وجهه الكريم ، في كلّ حال من الأحوال لابدّ أن يكون متواضعاً عند الجميع في جميع الأحوال ؛ لأنّه لا يرىٰ شيئاً إلّا وقد يرىٰ الله فيه أو معه أو بعده ، ما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ( ما رأيت شيئاً إلّا وقد رأيت الله قبله أو فيه أو معه ) علىٰ تعدّد الرواية (١).

وكان تواضعه وخضوعه وخشوعه كلّه لله تعالىٰ ، بل الكامل المرشد إذا ذهل طرفة عين عن استبصار أنواره تعالىٰ ، وأحياناً توجّه إلىٰ الغير بإسناده فعل من الأفعال أو موجود من الموجودات إلىٰ غيره تعالىٰ ، ثم التفت إلىٰ ذلك النظر ، استغفره تعالىٰ وأناب إليه ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ليغان علىٰ قلبي ، وإنّي لأستغفر الله في كل يوم سبعين

_____________________________

(١) انظر « علم اليقين » ج ١ ، ص ٤٩.

٨٨
 &

مرّة ) (١).

سرمايه دولت اى برادر بگف ار

وين عمر گرامی بخسارت بگذار

يعنی همه جا با همه کس در همه کار

ميدار نهضة جشم دل جان يار

ثم إنّ هذه الجملة معطوفة علىٰ الجملة التي قبلها ، أي ( وتجعلني في جميع الأحوال متواضعاً ).

( اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ سُؤالَ مَنَ اشْتَدَتْ فاقَتُهُ )

( أسألك ) معطوف علىٰ ( أسألك ) وتكرير لفظ الجلالة للالتذاذ ، إذ ذكر الحبيب علىٰ الحبيب أحلىٰ وألذّ من العسل المصفّىٰ الذي نهره في الجنّة موعود المتّقين ، بل أهنأ وأمرأ من الخمر التي هي لذة للشاربين ، كما قال الشاعر :

أعد ذكر نعمان لنا إنَّ ذكره

هو المسك ما كررته يتضوع (٢)

الفاقة والخصاصة والإملاق والمسكنة والمتربة ، جميعها بمعنًى واحد : هو الافتقار ، يقال : فلان اشتدت فاقته ، أي بلغت فاقته وحاجته في أمر إلىٰ النهاية ، بحيث لا يتصوّر فوقها حاجة وفاقة فيه ؛ إذ للاحتياج مراتب مختلفة ، بعضها في الشدّة واللزوم فوق بعض ؛ لأنَّ احتياج الإنسان إلىٰ طعامه أشدّ وآكد من احتياجه إلىٰ ملح طعامه ، واحتياجه إلىٰ الماء أشدّ من احتياجه إلىٰ القصعة والكوزة ، واحتياج الوجودات إلىٰ مقوّمها وقيّومها أشدُّ وآكد ممن احتياجها إلىٰ نفسها.

ولذا قال الله تعالىٰ ( يَا مُوسَىٰ أنا بدّك اللازم ) (٣) ؛ لأنه تعالىٰ مقوّم الجميع وقيّومها ، والوجودات كلّها روابط محضة وفقراء صرفة ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّـهِ وَاللَّـهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) (٤).

_____________________________

(١) « بحار الأنوار » ج ٢٥ ، ص ٢٠٤.

(٢) انظر « تاج العروس » ج ٥ ، ص ٤٣٦.

(٣) انظر « شرح الأسماء » ص ٤٦٣.

(٤) « فاطر » الآية : ١٥.

٨٩
 &

وربّما كانت الحاجة في شيء واحد ذات مراتب متفاوته في الشدّة والضعف ، كما إذا احتاج أحد في الليل إلىٰ سراج أنار بيته المظلم ولم يمكنه ، ثم يخطر بباله أن ينظر إلىٰ كتاب في مسألة ، فحينئذٍ يؤكد احتياجه إلیٰ السراج ، ثم يدخل سارق في بيته للسرقة ، فاشتدت حاجته إلىٰ السراج حينئذٍ ، ثم يقصد السارق قتل صاحب البيت ، فالحاجة إلىٰ السراج حينئذٍ بلغت إلىٰ النهاية ، ولا يتصوّر فوقها حاجة فيه.

( وَأَنْزَلَ بِكَ عِنْدَ الشدائِدِ حاجَتَهُ )

( الشدائد ) : جمع « شديد » ، وهو الأمر الصعب. وتقديم الظرف لقصد الحصر ، أي أنزل بك لا بغيرك ، ولمراعاة السجع.

والجملة معطوفة علىٰ ما قبلها ، يعني : ( أسألك سؤال من اشتدت فاقته ، وسؤال مَن أنزل بك عند الشدائد حاجته ) ، وذلك كمن حان أن تغرق سفينته وألقتها السوافن العاصفة في التهلكة ، فكيف حال السفان والربّان حينئذٍ ؟ فلابدّ أن يلتجئ بجميع مشاعره وقواه إلیٰ الله تعالیٰ ، ويتضرّع إليه حتیٰ ينجيه وسفينته من الغرق ، وإذن لا يلتفت إلىٰ نفسه ، فضلاً عن الالتفات إلىٰ الغير.

أو كمن ظهرت أمارات الموت عليه ، وكان في حالة الاحتضار والهلاكة ، فكيف حاله مع الله تعالىٰ ؟ وإلىٰ من يلتجئ هنالك ؟ ومن هو يكشف السوء عنه غيره تعالىٰ ؟

فالعبد المؤمن الذي استقرَّ بين الخوف والرجاء ينبغي أن يكون في جميع الأوقات ملتجئاً ومتضرّعاً إليه تعالىٰ ، كمن اشتدت فاقته ، وأنزل به عند الشدائد حاجته.

( وَعَظُمَ فيمَا عِنْدَكَ رَغْبَتُهُ )

معطوفة علىٰ ما قبلها ، كما مرّ.

٩٠
 &

الرغبة : تارةً تُستعمل مع « في » ، وهي بمعنىٰ : ميل النفس ، كما هاهنا. وتارةً تُستعمل مع « عن » ، وهي بمعنىٰ : الزهد وعدم الميل ، كما في قوله تعالىٰ : ( وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ) (١) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ( ومَن رغب عن سنّتي فليس مني ) (٢). والهاء فيها لتأنيث المصدر.

وفي الحديث : ( لا تجتمع الرغبة والرهبة في قلب إلّا وجبت له الجنّة ) (٣).

والرغبة : هي السؤال والطلب من الله تعالىٰ ، والرهبة هي الخوف منه تعالىٰ ، والرغبة في الدعاء هي أن تستقبل ببطن كفّيك إلىٰ السماء ، وتستقبل بهما وجهك.

فاعلم أنَّ جميع المتعاقبات في سلسلة الزمان من الجواهر والأعراض مجتمعات في وعاء الدهر ، وجميع ما في الدهور الأربعة منطويات في السرمد ، فجملة الموجودات ثابتة باقية بنحو كمالاتها عنده تعالىٰ ، كما قال : ( مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّـهِ بَاقٍ ) (٤).

فالطالب ينبغي أن يلتمس منه تعالىٰ جميع حوائجه ، وجملة مآربه ومطالبه ولو كان ملح طعامه وبلاغة كلامه ، كما قيل :

كان السؤال للعبيد ديدنا

طول الخطاب للحبيب استُحسنا

قال لموسىٰ عني اسأل ملحكا

وهكذا سلني شراك نعلكا

رفع اليدين كِديةً ثم الحذا

للوجه إيماءً للاستحيا خذا

( اَللَّهُمَّ عَظُمَ سُلْطانَكَ )

انصرف عن المسألة والاستغفار إلىٰ التوصيف ؛ ايماءً إلىٰ أنّه في دعواته

_____________________________

(١) « البقرة » الآية : ١٣٠.

(٢) « بحار الأنوار » ج ٢٢ ، ص ١٢٤ ؛ ج ٦٧ ، ص ١١٦.

(٣) « الفقيه » ج ١ ، ص ١٣٥ ، ح ٦٣٢ ، « وسائل الشيعة » ج ٥ ، ص ٤٧٧ ، أبواب أفعال الصلاة ، ب ٣ ، ح ٣.

(٤) « النحل » الآية : ٩٦.

٩١
 &

ومسألاته ليس مقصوده هو التكدّي والسؤال فقط ، بل قصده الحقيقي هو طول المكالمة والمخاطبة مع الحبيب.

وفيه قد يلتفت إلىٰ نفسه ، فما يرىٰ إلّا الجرائم والآثام ، فيطلب منه تعالىٰ المغفرة والرحمة.

وقد يلتفت ويستغرق في أوصافه تعالىٰ من الجمال والجلال واللطف والقهر ، فيصفه ويعظّمه علىٰ حسب ما يمكنه من ذلك ، وعلىٰ قدر تجلّيه تعالىٰ عليه ، وإذا حضرته غاية الاستغراق والهيمان لا يقدر علىٰ التكلّم والمخاطبة ، فكلَّ لسانه وارتعش أركانه ، وتزلزل فرائصه وعظامه.

ثمّ « السلطان » قد مرّ أنّه « فُعلان » ، يُذكّر ويؤنث ، وأنّه بمعنىٰ الحجّة والبرهان ، والقوّة والغلبة. فهو تعالىٰ عظيم حجّته وبرهانه ، وشديدة قوّته وغلبته. وقد عرفت معاني الكلّ ، تأويلاتها وتفسيراتها.

( وَعَلَا مَكَانُكَ )

أي ارتفع ، يقال : فلان مُكّن عند السلطان ، أي عظم وارتفع عنده. ومكانه تعالىٰ عرشه بجميع إطلاقاته ومعانيه ، إذ قد مرّ أنَّ للعرش إطلاقاتٍ أربعاً : علمه المحيط ، وفيضه المقدّس ، والعقل الأوّل ، والفلك الأقصىٰ.

وفي الأخبار : ( أنّ قلب المؤمن عرش الرحمن ) (١) ، كما قال المولوي :

گفت بيغمبر که حق فرمود است

من نگنجم هيچ در بالا و پست

در زمبن و آسمان و عرش نيز

اين يقين دان من نگنجم ای عزيز

در دل مؤمن بگنجيم همچو ضيف

بی ز چون و بی چگونه بی ز کيف

فالمؤمن الحقيقي الذي ورد في حقّه أنّه أعزّ من الكبريت الأحمر ، إذا وسع قلبه

_____________________________

(١) « بحار الأنوار » ج ٥٥ ، ص ٣٩.

٩٢
 &

بحيث اتّحد بأحد معاني العرش وانطبق عليه يصير عرش الله.

وفي الخبر أيضاً : ( قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن ، يقلّبه كيف يشاء ) (١).

مراتب الإيمان والمعرفة

وإنّما قلنا : المؤمن الموصوف بكذا صار قلبه كذا ، إذ للإيمان مراتب أربعة : من الايمان التقليدي ، والإيمان البرهاني ، والعياني ، والتحقّقي الذي هو حقّ الإيمان حقيقته ، وأخير درجاته ونهاية مقاماته.

نقل كلام المحقّق الطوسي في مراتب المعرفة

قال سلطان الحكماء : « اعلم أنَّ مراتب المعرفة مثل مراتب النار مثلاً ، وأنّ أدناها مَن سمع أنّ في الوجود شيئاً يعدم كلّ شيء يلاقيه ، ويظهر أثره في كلّ شيء يحاذيه ، ويسمّىٰ ذلك الموجود ناراً. ونظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالىٰ معرفة المقلّدين الذين صدّقوا من غير وقوف علىٰ الحجج والبراهين.

وأعلىٰ منها مرتبة ، من وصل إليه دخان النار ، وعلم أنّه لابدّ له من مؤثر ، فحكم بذات لها أثر هو الدخان. ونظير هذه المرتبة في معرفة الله معرفة أهل النظر والاستدلال الذين حكموا بالبراهين القاطعة علىٰ وجود الصانع.

وأعلىٰ منها مرتبة ، من أحسّ بحرارة النار بسبب مجاورتها ، وشاهد الموجودات بنورها ، وانتفع بذلك الأثر. ونظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالىٰ معرفة المؤمنين المخلصين الذين اطمأنت قلوبهم بالله ، وتيقّنوا أنّ الله نور السماوات والأرض كما وصف به نفسه.

وأعلىٰ منها مرتبة ، من احترق بالنار بكلّيته وتلاشىٰ فيها بجملته. ونظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالىٰ معرفة أهل الشهود والفناء في الله ، وهي الدرجة العليا

_____________________________

(١) « سنن ابن ماجة » ج ١ ، ص ٧٢ ، ح ١٩٩ ؛ « بحار الأنوار » ج ٦٧ ، ص ٣٩ ـ ٤٠.

٩٣
 &

والمرتبة القصوىٰ. رزقنا الله الوصول إليها والوقوف عليها ، بمنّه وكرمه » (١). انتهىٰ كلامه.

أقول : في كلام سيد الشهداء عليه‌السلام : ( اعرفوا الله بالله ) (٢). معناه : أنّه تارةً يعرف تعالىٰ بأقواله ، وتارةً يعرف بآثاره وأفعاله ، وتارة يعرف بصفاته ، أي بالاتصاف بها ، وتارةً يعرف الله بذاته المحيطة. وتلك المعارف بعضها فوق بعض ، وهذا بعينه مقصوده من تطبيق مراتب المعرفة بمعرفة النار ومراتبها.

فإن قلت : إنّك قد قصرت الإيمان الحقيقي وحقّ الإيمان بالمرتبة الرابعة ، وقلت : إنّها نهاية درجاته وغاية مراتبه ، فما تقول في إيمانه تعالىٰ بنفسه ، وأحد أسمائه هو ( المؤمن ) ؟

قلنا : قد عرفت أنّ الإيمان التحقيقي لا يتيسّر إلّا للمخلصين الذين أفنوا أنفسهم في الله وبقوا به ، فإذا حصل ذلك المقام لأحد ارتفعت الاثنينية من البين ، ويسري حكم المفنى فيه في الفاني ، كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ( إنَّ لله لأوليائه شراباً إذا شربوا طربوا ، وإذا طربوا سكروا ، وإذا سكروا طابوا ، وإذا طابوا ذابوا ، وإذا ذابوا خلصوا ، وإذا خلصوا تخلّصوا ، وإذا تخلّصوا طلبوا ، وإذا طلبوا وجدوا ، وإذا وجدوا وصلوا ، وإذا وصلوا اتصلوا ، وإذا اتصلوا لا فرق بينهم وبين حبيبهم ) (٣).

در خدا گم شو کمال اين است و بس

کم شدن کم کن وصال اين است و بس

( وَخَفِيَ مَكْرُكَ )

الخفية : الاستتار ، خفي مكره : أي استتر.

المكر من الخَلق : خدعة وخبّ ، ومن الله : مجازاة ، كما قال الله تعالىٰ :

_____________________________

(١) عنه في « مجمع البحرين » ج ٥ ، ص ٩٧.

(٢) « التوحيد » ص ٢٨٦ ، ح ٣.

(٣) انظر « شرح الأسماء » ص ٥٣٤.

٩٤
 &

( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّـهُ وَاللَّـهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) (١).

بيان ما قيل في معنىٰ المكر والتردّد من الله تعالىٰ

وقيل : مكره تعالىٰ : استدراج العبد الماكر من حيث لا يعلم.

وقيل : مكره : إرداف النعم مع المخالفة ، وإبقاء الحال مع سوء الأدب ، وإظهار خوارق العادات التي من قبيل الاستدراجات (٢).

وقيل : إنَّ المكر والغضب والحياء والخدعة والتردّد وسائر صفات المخلوقين إذا اُسندت إليه تعالىٰ يراد منها الغايات لا المبادئ ، مثلاً قوله تعالىٰ في الحديث القدسي : ( ما تردّدت في شيء أنا فاعله كترددي في قبض روح عبدي المؤمن ، إنّني لاُحبُّ لقاءه ويكره الموت فأصرفه عنه ) (٣).

فالمراد من معنىٰ التردد في هذا الحديث : إزالة كراهة الموت عنه ، وهذه الحالة تقدّمها أحوال كثيرة من مرض وهرم وزمانة وفاقة وشدّة بلاء ، تهوّن علىٰ العبد مفارقة الدنيا ، ويقطع عنها علاقته ، حتّىٰ إذا يئس منها تحقّق رجاؤه بما عند الله ، فاشتاق إلىٰ دار الكرامة ، فأخذ المؤمن عمّا تشبّث به من أسباب الدنيا وحبّها شيئاً فشيئاً بالأسباب المذكورة ، مضاهي فعل التردد من حيث الصفة ، فعبّر تعالىٰ به.

( وَظَهَرَ أَمْرُكَ )

بيان معنىٰ الأمر التكويني والأمر التشريعي

أمره التكويني : هو كلمة « كُن » الوجودية التي جميع الأشياء ظاهرة بها ، وهي ظاهرة بذاتها لا لذاتها ، بل لعلّتها التي هي ذات الله العليا.

وأمره التشريعي والتكليفي : هو ما جاء به الأنبياء من الأوامر والنواهي التي

_____________________________

(١) « آل عمران » الآية : ٥٤.

(٢) انظر « شرح الأسماء » ص ٢٢٠.

(٣) « الكافي » ج ٢ ، ص ٢٤٦ ، ح ٦ ، « بحار الأنوار » ج ٦٤ ، ص ٦٥ ـ ٦٦.

٩٥
 &

ظهورها بواسطة مظاهره تعالىٰ ، من الأنبياء والأولياء ، وهو أيضاً ظاهر غاية الظهور. وقوله تعالىٰ : ( وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ ) (١) ، أي ما أمرنا إلّا كلمة واحدة ، وهي كلمة « كن » التي هي وجود جميع الموجودات ، كما مرّ غير مرة.

وأمر الله الذي قال في القرآن ( أَتَىٰ أَمْرُ اللَّـهِ ) (٢) القيامة ، وقال الله تعالىٰ : ( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ ) (٣) أي ما أمر حشر الجميع إلّا في طرفة عين ، وفيه إظهار القدرة التامّة الكاملة ، ردعاً ومنعاً للجاهلين.

( وَغَلَبَ قَهْرُكَ )

القهر : الغلبة ، وقهره تعالىٰ : تسخير الكلّ ومسخّرية الجميع تحت سطوع نوره تعالىٰ ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ) (٤). وفي الدعاء : ( الحمد لله الذي علا فقهر ) (٥) أي علا علىٰ جميع الموجودات ، فقهر الكلّ بعلوّه تعالىٰ عليها.

( وَجَرَت قُدْرَتُكَ )

بيان ما قيل في معنىٰ قدرته

القدرة عند المتكلمين (٦) : صحّة صدور الفعل والترك. وعند الحكماء هذا التعريف مخصوص بقدرة الحيوان ، إذ الصحة إمكان ، والإمكان ذاتياً كان أو وقوعياً لا يليق بجناب الواجب الوجود بالذات الذي هو واجب الوجود من جميع الجهات ، بل هم قالوا في تعريف القدرة : كون الفاعل بحيث إن شاء فعل ، وإن لم يشأ لم يفعل ، ولكنّه تعالىٰ شاء وفعل ، وصدق الشرطية ـ كما قرّر في حلها ـ لا ينافي وجوب المقدّم ولا امتناعه ، فإنّها تتألف من صادقين ومن كاذبين ، ومن صادق وكاذب.

_____________________________

(١) « القمر » الآية : ٥٠.

(٢) « نحل » الآية : ١.

(٣) « النحل » الآية : ٧٧.

(٤) « الأنعام » الآية : ١٨.

(٥) « بحار الأنوار » ج ٧٣ ، ص ١٩٢ ، ١٩٦.

(٦) انظر « الباب الحادي عشر » ص ٩٩.

٩٦
 &

فالمعتبر في القدرة ـ كما قالوا ـ مقارنه الفعل للعلم والمشيئة ، ولا يعتبر حدوث الفعل فيها ولا ينافي دوامه معها. وقدم العالم باطل ، وحدوثه واقع بدليل آخر ؛ لأنَّ القدرة استدعت ذلك ، فإنَّ العقول كلّها صادرة عن الله تعالىٰ بالقدرة والاختيار ، مع أنّها دائمة بدوام الله.

وبالجملة ، فقدرته تعالىٰ في مقام ذاته عين ذاته ، وذاته كلّها قدرة واختيار وإرادة وعلم ومشيئة ، وفي مقام فعله أيضاً عين فعله ؛ إذ كما أنّه فعل الله كذلك هو قدرة الله. وفي العقول : جواهر مفارقة عن المواد ، ذاتاً وفعلاً ؛ لأنّها فيها نفس وجوداتها. وفينا : القدرة كيفية نفسانية. فجرت قدرته تعالىٰ بإخراج الممكنات من الليس إلىٰ الأيس ، واكتساء المواد بألبسه الصور ، ونفخ الأرواح في الأبدان ، وإماتة النفوس ، وإحياء الموتىٰ ، وإيصال النفوس إلىٰ الغايات في الاستكمال ، وأرزاق الخلائق ، وإعطاء المسألات ، وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب. وبالجملة :

كمترين كارش بود هر روز آن

كوسه لشكر ميكند آنسو روان

لشكرى از اصلاب سوى امرت است

بهر آن تا در رحم رديد نبات

لشكرى از ارحام سوى خاكدان

تا ز نر و ماده پرگردر جهان

لشکری از خاك آن سوى أجل

تا به بيند هر كسى حسن عمل

( وَلَا يُمكِنُ الفِرارُ مِنْ حُكُومَتِكَ )

فكيف يمكن الفرار من حكومته تعالىٰ ، وهو ذاته محيطة وفعله محيط بجميع الأشياء ، وقدرته جارية علىٰ الكلّ ولا يمتنع معها شيء ، وحكمه نافذ في أعماق الموجودات وآخذٌ بناصيتها ، وهي وجودات الأشياء ؟ إذ كما عرفت مراراً وجود الكلّ منه تعالىٰ وبه وإليه ، كما قيل :

ظهور تو بمن است

و وجود من از تو

فلست تظهر لولاي

إن لم أكن لولاك

٩٧
 &

نقل كلام أفلاطون الإلهي

ومن آثار أفلاطون الإلهي أنّه قال : « العالم كرة ، والأرض نقطة ، والأفلاك قسي ، والحوادث سهام ، والإنسان هدف ، والرامي هو الله ، فأين المفرّ ؟ ». روي أنه قيل هذه الكلمات في حضور علي عليه‌السلام ، قال : ( ففرّوا إلىٰ الله ) (١).

غير از تو پناه و مجدم نيست

هم در تو گريز هم از گريزم

أقول : استفهام أفلاطون من التابعين ليس من باب الغفلة وعدم الاستشعار بذلك ، كيف وأنه كما ورد في حقه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( كان نبياً جهله قومه ) ، وأنّه صدر حكماء الإشراق جميعاً ؟! بل من باب الامتحان والاستخبار عن مريديه ، ليعلم أنّهم ماذا يقولون في جوابه ؟!

( اللّهُمَّ لَا أَجِدُ لِذُنُوبي غافِراً وَلَا لِقَبائِحي ساتِراً )

أي ولا أجد لأفعالي وصفاتي القبيحة ساتراً.

القبائح : جمع « قبيحة » ، كمدائح : جمع « مديحة ».

روي عن صادق عليه‌السلام أنّه قال : ( ما من مؤمن إلّا وله مثال في العرش ، فإذا اشتغل بالركوع والسجود فعل مثاله مثل ذلك ، فعند ذلك تراه الملائكة ، فيصلون عليه ويستغفرون له ، وإذا اشتغل بالمعصية أرخىٰ الله علىٰ مثاله ستراً ، لئلا يطلع عليها الملائكة ) (٢).

ومن أسمائه تعالىٰ ، كما في الدعاء : ( يا من أظهر الجميل وستر القبيح ) (٣).

أقول : ومعنىٰ رؤية الملائكة حسنات المؤمنين وعدم رؤيتهم سيئاتهم ـ كما قيل (٤) ـ أنّهم يرون الأشياء باعتبار جهاتها النورية ، وبعبارة اُخرىٰ : باعتبار وجوهها

_____________________________

(١) انظر « شرح الأسماء » ص ٤١٥.

(٢) انظر « شرح الأسماء » ص ٢٧٩ ـ ٢٨٠.

(٣) « المصباح » للكفعمي ، ص ٣٣٧.

(٤) انظر « شرح الأسماء » ص ٢٨٠.

٩٨
 &

إلىٰ الله الحسنة ، لا باعتبار وجوهها إلىٰ أنفسها القبيحة ؛ لاستغراق الملائكة في مشاهدة جمال الله وجلاله.

وروي عن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما‌السلام : أنّه جاء رجل ، وقال : أنا رجل عاص ولا أصبر عن المعصية ، فعظني بموعظة ، فقال عليه‌السلام : ( افعل خمسة أشياء وأذنب ما شئت ، فأول ذلك : لا تأكل من رزق الله وأذنب ما شئت ، والثاني : اخرج من ولاية الله وأذنب ما شئت ، والثالث : اطلب موضعاً لا يراك الله وأذنب ما شئت ، والرابع : إذا جاء ملك الموت لقبض روحك فادفعه عن نفسك وأذنب ما شئت ، والخامس : إذا أدخلك مالك في النار فلا تدخل في النار ، وأذنب ما شئت ) (١) انتهىٰ.

( وَلَا لِشَيءٍ مِن عَمَلِيَ القَبِيْحِ بِالحَسَنِ مُبَدِّلاً غَيرَكَ )

القبيح والقبيحة : خلاف الحسن والحسنة ، وهو تعالىٰ مبدّل السيئات بالحسنات.

ومن أسمائه : ( يا مبدّل ) كما يبدّل الأرض غير الأرض ، ويبدّل وجودات الأبدال إلىٰ وجودات أنور وأقهر ، ويبدّل الجماد إلىٰ النبات ، والنبات إلىٰ الحيوان ، والحيوان إلىٰ الإنسان ، ويبدّل الإنسان بالقوّة إلىٰ الإنسان بالفعل ، ويبدّل النطفة إلىٰ العلقة ، والعلقة إلىٰ المضغة ، والمضغة إلىٰ الجنين ، وهكذا.

بالجملة ، هو تعالىٰ مبدّل جميع ما بالقوىٰ إلىٰ الفعليات ، والسيئات إلىٰ الحسنات.

( لَا إلهَ إلّا أنَتَ )

أي لا معبود إلّا أنت ؛ إذ لكلّ موجود نصيب من المعبودية ، من حيث الاحتياج إليه في نظام العالم ، وإن كان معبوديته أيضاً باعتبار وجه الله الذي هو في كلّ شيء.

_____________________________

(١) « بحار الأنوار » ج ٧٥ ، ص ١٢٦ ، ح ٧.

٩٩
 &

وفي الحقيقة ليس سوىٰ ذاته ووجهه تعالىٰ مألوه ، وموصوف بأنّه محتاج إليه ، كما قال المولوي قدس‌سره :

هر چه در چشم جهان نکوست

عکس حسن و پرتو احسان او است

گر بر آن احسان و حسن ايحق شاسن

از تو روزی در وجود آيد سپاس

در حقيقت آن سپاس او بود

نام اين و آن لباس او بود

ديدهٔ خواهم که باشد شد شناس

تا شناسه شاه را در هر سپاس

ومن أسمائه ( يا من لا يعبد إلّا إياه ) (١).

والحال أنّ المعبودات الباطلة كثيرة : من الأصنام والأحجار والأشجار ، والكواكب والنيران ، والصور والطيور ، حتّىٰ الكلاب والقطط ، والدراهم والدنانير ، والنساء والبنات والبنين ، والخيول والبغال والحمير. وبالجملة ، أكثر الأشياء أو جميعها بوجه.

فمعنىٰ هذا الاسم الشريف : أنّه وإن عبد القاصرون والكافرون كلٌّ معبوداً خاصاً ، بزعمهم الباطل واعتقادهم الكاسد الراجل ، ولكن في الحقيقة ما عبدوا إلّا وجهه الكريم ، وفيضه القديم العميم ، الذي أشار إليه في القرآن الحكيم : ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (٢) ، وما خلا وجهه تعالىٰ داثر زائل وفاسد باطل.

كلّ شيءٍ ما خلا الله باطل

إنّ فضل الله غيم هاطل

وقال لبيد :

ألَا كل شيءٍ ما خلا الله باطل

وكل نعيم لا محالة زائل (٣)

ولذا قال الله تعالىٰ : ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ

_____________________________

(١) « المصباح » للكفعمي ، ص ٣٣٩.

(٢) « البقرة » الآية : ١١٥.

(٣) انظر « مجمع البحرين » ج ٣ ، ص ١٤٠.

١٠٠