شرح دعاء كميل

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

شرح دعاء كميل

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مؤسسة عاشوراء للتحقيقات والبحوث الإسلامية
المطبعة: مطبعة الكوثر
الطبعة: ١
ISBN: 964-7263-74-0
الصفحات: ٢٠٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

الممتدة وعوارضها هو الزمان. فهو تعالىٰ ( أوّل الأوّلين ) ؛ إذ منه بدء وجود كل أوّل في السلسلة النزولية ، و ( آخر الآخرين ) ؛ إذ إليه ينتهي كلّ آخر في السلسلة الصعودية ، وليس قبله ولا بعده تعالىٰ شيء ، حتّىٰ يكون هو أوّل الأولين وآخر الآخرين.

وفي ابتداء دعاء الاعتصام ، قال : ( اللهم أنت الأوّل فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دُونك شيء ) (١).

وتحقيق المقام : أنّه تعالىٰ لمّا كان في الاجادة والإفاضة علىٰ أهل مملكته هو المبدأ الأوّل والموجد الأعزّ الأجلّ ، ثم فاض منه الجود إلىٰ العقل الأول ، ومنه إلىٰ العقل الثاني ، ثم منه إلىٰ الثالث حتىٰ العاشر ، ثم منه إلىٰ أهل هذا العالم ، فهؤلاء العقول هم الأولون بعد الحقّ الأوّل تعالىٰ ، ووسائط جوده بالنسبة إلينا في [ النزول ] (٢) ، فهو ( أول الأوّلين ) ، وكذلك في الصعود : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) (٣) من البشرية إلىٰ الملكية ، ومنها إلىٰ العقل الفعّال ، ثم إلىٰ العقول الاُخر ، حتّىٰ العقل الأول ، ومنه إلىٰ الفناء في الحضرة الواحدية ، فهو تعالىٰ ( آخر الآخرين ).

أو بطريق آخر نقول : ثمَّ فاض منه تعالىٰ الجود إلىٰ العقل ، ومنه إلىٰ النفس ، ومنها إلىٰ المثال ، ومنه إلىٰ الأفلاك ، ومنها إلىٰ عالمنا : العناصر الهيولاني.

أو نقول : ثمّ فاض إلىٰ الجبروت ، ثم إلىٰ الملكوت بقسميها ، ثم إلىٰ الناسوت ، وتلك العوالم متطابقة.

وكذا نقول في العود إلىٰ الله تعالىٰ ، كما قال المولوي ؛ رحمه‌الله في المثنوي :

از جمادى مردم ونامى شدم

وز نما مردم از حيوان سر زدم

مردم از حيوان وپس آدم شدم

از چه ترسم كى ز هر من كم شدم

_____________________________

(١) « مصباح المتهجد » ص ٤٨٧.

(٢) في المخطوط « الزوال ».

(٣) « فاطر » الآية : ١٠.

٦١
 &

بار ديگر بايد هم مرد از بشر

تا بر آدم از عهد يك بال وپر

بار ديگر از ملك قربان شوم

آنچه اندر وهم نايد آن شوم

بار ديگر بايدم حبن نرجو

کل شيء هالك الا وجه هو

پس عدم کرم عدم چون ازغنون

گويدم کلنا إليه راجعون

والذي لا يبلغ الأوهام دركه هو العقل ، ولذا قال : « آنچه اندر وهم نايد آن شوم ».

والبيت الآخر إشارة إلىٰ الفناء التام في الحضرة الواحدية ، وهو قرّة عين العارفين.

أو نقول : هو تعالىٰ أو السلسلة الطولية النزولية ، ومبدأ المبادئ : ( كان الله ولم يكن معه شيء ) (١) ، وآخر السلسلة الطولية الصعودية ، وغاية الغايات ( أَلَا إِلَى اللَّـهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) (٢) ( إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) (٣). هذا ما عندي لأوّليته تعالىٰ وآخريته طولاً.

وأمّا عرضاً ، فتقول : هو تعالىٰ أوّل الأنبياء والمرسلين ، وما خلق من نوع الآدميين في الأدوار والأكوار ؛ إذ العلّة واجدة لكمال المعلول ، وهؤلاء معاليل الله تعالىٰ ، فهو أوّل الأولين وآخر الآخرين ؛ لأنّ إليه تعالىٰ تنتهي سلسلة الأنبياء والأولياء والكمّلين ، عليهم سلام الله أجمعين.

ثم لمّا سأل السائل عن الله تعالىٰ ، ووصف طائفة من أسمائه الحسنىٰ وصفاته العليا ، استشعر بجماله وجلاله ، وتحيّر في عظمته تعالىٰ وكماله ، فبهر في عقله والتفت إلىٰ ذنوبه وآثامه ، فارتعش من خوفه تعالىٰ فرائصه وعظامه ، فرفع يديه ملحّاً وفزعاً إليه ، فقال مستغفراً منه تعالىٰ :

_____________________________

(١) « جامع الأسرار » ص ٥٦.

(٢) « الشورىٰ » الآية : ٥٣.

(٣) « البقرة » الآية : ١٥٦.

٦٢
 &

( اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ ﭐلذّنُوبَ الّتي تَهْتِكُ ﭐلعِصَمَ )

الغفران والمغفرة : الستر ، ومنه قولهم : جاؤوا الجمّ الغفير ، أي الجمع الستير ، يعني : لكثرتهم كأنهم ستروا وجه الأرض من جوانبه. وهو تعالىٰ غفور وغفّار ، أي ستّار للجرائم والخطيئات الشرعية ، والنقائص الإمكانيّة ، بذيل رحمته الرحمانية ورحمته الرحيمية.

نقل كلام المحقّق السبزواري

و ( الذنوب ) جمع ( الذنب ) ، وهو الإثم والجريمة.

الذنوب والكبائر

والذنب والخطيئة كما قال صدر المتألّهين قدس‌سره ، نقلاً عن كلمات الفقهاء ـ رضوان الله عليهم ـ : « تنقسم إلىٰ ما هو ذنب وخطيئة بالنسبة إلىٰ أصل الشرع ، كشرب الخمر والميسر ، وغيرهما من الماهيات الشرعية ، وإلىٰ ما يصير ذنباً بالنية والعزم ، كالتزيين للزنا ، والأكل للتقوي علىٰ المعصية ، وإلىٰ ذنب الجوارح وذنب القلوب ، وكل منهما إلىٰ الصغيرة والكبيرة » (١).

نقل الأقوال في تعيين الكبيرة

ثمّ قال : « واختلفت آراء الأكابر في الكبائر علىٰ أقوال شتىٰ ، وليس للقلب اطمئنان علىٰ أدلّتهم ، ولعل في اختفائها حكمة ، وهي الاجتناب عن جميع المعاصي ، مخافة من الوقوع فيها.

فقال قوم : هي كلّ ذنب توعّد الله تعالىٰ عليه في الكتاب المجيد بالعذاب والوعيد (٤).

_____________________________

(١) « شرح الأسماء » ص ١١٦ ، بتفاوت.

(٢) « كتاب الكبائر » ص ٨ ؛ « الجامع لأحكام القرآن » ج ٥ ، ص ١٥٩.

٦٣
 &

وقال بعضهم : هي كلّ ذنب رتّب عليه الشارع جدّاً ، أو نصّ فيه بالعقاب (١).

وقالت فرقة : إنّها كلّ خطيئة تؤذن بأنّ فاعلها قليل الاعتناء في دين الله تعالىٰ.

وقال جماعة : إنّها كلّ ذنب ثبت حرمته بالبرهان.

وقالت طائفة : هي كلّ ذنب أوعد الله تعالىٰ فاعلها في القرآن الحكيم بالعذاب الأليم ، أو أوعد حججُه تعالىٰ في سنّتهم السديدة بالعقوبة الشديدة (٢).

وعن عبد الله بن مسعود أنّه قال : اقرؤوا من أوّل سورة النساء إلىٰ قوله تعالىٰ : ( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) (٣) ، فكلّ ما نهي عنه في هذه السورة إلىٰ هذه الآية فهو كبيرة.

وقالت الطائفة : الذنوب كلّها كبائر ؛ لاشتراكها في مخالفة الأمر والنهي ، لكن قد يطلق الصغيرة والكبيرة علىٰ الذنب بالإضافة إلىٰ ما فوقه وما تحته ، كما أنَّ القُبلة بالنسبة إلىٰ الزنا صغيرة ، وبالنسبة إلىٰ النظر بالشهوة كبيرة.

قال الشيخ الجليل أمين الإسلام أبو علي الطبرسي ـ طاب ثراه ـ في مجمع البيان بعد نقل هذا القول : « وإلىٰ هذا ذهب أصحابنا ـ رضي الله عنهم ـ فإنّهم قالوا : المعاصي كلّها كبيرة ، لكنَّ بعضها أكبر من بعض ، وليس في الذنوب صغيرة ، وإنما تكون صغيرة بالإضافة إلىٰ ما هو أكبر ، ويستحق العقاب عليه أكثر » (٤). انتهىٰ كلامه قدس‌سره.

وفي مجمع البحرين : قال : « الذنوب تتنوع إلىٰ : مالية وبدنية ، وإلىٰ : قولية وفعلية ، والفعلية تختلف باختلاف الآلات التي تفعل بها ، إلىٰ غير ذلك.

فمنها : ما يغيّر النعم ، ومنها : ما يُنزل النقم ومنها : ما يقطع الرجاء ، ومنها : ما يديل الأعداء ، ومنها : ما يردُّ الدعاء ، ومنها : ما يستحق بها نزول البلاء ، ومنها ما يحبس

_____________________________

(١) « التفسير الكبير » ج ١٠ ، ص ٦١ ، حكاه عن ابن عباس.

(٢) « التفسير الكبير » ج ١٠ ، ص ٦١.

(٣) « النساء » الآية : ٣١.

(٤) « مجمع البيان » ج ٣ ، ص ٥١.

٦٤
 &

غيث السماء ، ومنها : ما يكشف الغطاء ، ومنها : ما يعجّل الفناء ، ومنها : ما يُظلم الهواء ، ومنها : ما يورث الندم ، ومنها : ما يهتك العصم ، ومنها : ما يدفع القسم ، إلىٰ غير ذلك ».

ثمّ قال : « واعلم أنَّ جميع الذنوب منحصرة في أربعة أوجه لا خامس لها : الحرص ، والحسد ، والشهوة ، والغضب ، هكذا روي عنهم عليهم‌السلام » (١) انتهىٰ.

أقول : لعل مراده بالانحصار في الأوجه الأربع أنَّ أسباب الذنب منحصرة في هذه الأوجه ، بل منحصرة في الشهوة والغضب فقط ؛ لأنَّ الحرص والحسد من صفات الشهوة والغضب ، وخواصّهما : الهتك والمزق والخرق.

بيان العصمة

و ( العِصَم ) : جمع « عصمة » ، كـ « نِعَم » : جمع « نعمة » ، وهي لغةً (٢) : المنع. وفي اصطلاح الفقهاء والحكماء : كيفيّة روحانية يمتنع بها صدور الخطأ عن صاحبها ؛ لعلمه بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات.

فإذا بلغ الكلام إلىٰ هذا المقام ، فالأنسب أن نفصّل العصمة بأنّها ما هي وفي من هي ؟ وفي كم هي ؟ ومتىٰ هي ؟ وعمّ هي ؟ ولِمَ هي ؟

أما الأوّل : فقد ذكرتها.

وأمّا الثاني : فهي في الأنبياء والأئمة الاثني عشر ، وفي الملائكة.

والظاهريون الذين قالوا : إنّ الملائكة أجسام لطيفة هوائية ، تقدر علىٰ التشكّل بأشكال مختلفة ، مسكنها السماوات ، وفيهم داعية الشهوة والغضب ، يجوّزون عليهم المعصية ، واختلفوا في عصمتهم.

وعمدة ما أوقعهم في الشبهة والاختلاف في عصمة الملائكة أمران :

أحدهما : الاستثناء في قوله تعالىٰ : ( فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ) (٣).

_____________________________

(١) « مجمع البحرين » ج ٢ ، ص ٦١.

(٢) « لسان العرب » ج ٩ ، ص ٢٤٤ ، مادة « عصم ».

(٣) « البقرة » الآية : ٣٤.

٦٥
 &

والثاني : حكاية هاروت وماروت ، فإنّهما كانا ملكين ففسقا عن أمر ربهما.

واُجيب عن الأول : أنّه بني علىٰ التغليب ، أو يكون المستثنىٰ فيه منقطعاً.

وعن الثّاني بأنّها مؤوّلة ، وقد أوّلها العلّامة ، في التفسير الصافي (١) ، عند تفسير قوله تعالىٰ : ( وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ) (٢) ، بعد ذكر أحاديث كثيرة مختلفة الورود في قصتهما عن الأئمة عليهم‌السلام. والآيات الدالّة علىٰ عصمتهم في القرآن الحكيم كثيرة جداً.

وأمّا الثالث ، فجميع الفقهاء والحكماء والمتكلمين مطبقون علىٰ وجوب عصمة الأنبياء في اعتقاداتهم ، وقائلون بأنّهم معصومون عن الكفر ، إلّا الخوارج ـ لعنهم الله ـ فإنّهم يقولون : من صدر عنه الخطيئة فهو كافر (٣) ، ويجوّزون صدور الذنب عن النبيين عليهم‌السلام.

وأمّأ الرابع ، قال كثير من المعتزلة (٤) ، وجمّ غفير من الأشاعرة (٥) : إنّ العصمة مخصوصة بزمان البعثة في الأنبياء ، ولا يجب قبلها.

وأمّا الخامس ـ يعني العصمة عن الصغيرة والكبيرة ، عمدهما أو سهوهما ـ ففيه أقوال ومذاهب (٦) :

فالحشويّة قد جوّزوا تعمّد الصغيرة والكبيرة علىٰ الأنبياء ، وكثير من المعتزلة جوّز تعمّد الصغيرة ، بشرط عدم خساستها ، كسرقة اللقمة وتطفيف الكيل ، وأمثال ذلك.

والحنابلة قالوا : جاز صدور الذنب عن الأنبياء علىٰ سبيل الخطأ في التأويل.

_____________________________

(١) « التفسير الصافي » ج ١ ، ص ١٧٠ ـ ١٧٢.

(٢) « البقرة » الآية : ١٠٢.

(٣) انظر : « شرح المقاصد » ج ٥ ، ص ٤٩ ـ ٥٠ ، « مناهج اليقين » ص ٢٧٩.

(٤) انظر « تنزيه الأنبياء » ص ١٦.

(٥) انظر « قواعد المرام » ص ١٢٥.

(٦) انظر « شرح المقاصد » ج ٥ ، ص ٤٩ ـ ٥١ ، « كشف المراد » ص ٣٤٩ ، « الذخيرة في علم الكلام » للمرتضىٰ ، ص ٣٣٨ ، « مناهج اليقين » ص ٢٨٠.

٦٦
 &

والأشاعرة قالوا بصدور الصغيرة عنهم سهواً لا عمداً. وغيرها من أباطيلهم التي ما لاقت بالذكر.

فالمذهب الذي هو أحقّ وأليق بالذكر ما ذهب إليه الإمامية ، من وجوب العصمة في الأنبياء والأوصياء والملائكة مطلقاً ، وفي تمام عمرهم ، سواء كان في الاعتقاديات ، أو في التبليغ ، أو في الفتوىٰ ، أو في الأحوال والأفعال ، صغائر كانت الذنوب أم كبائر ، ولا يجوز السهو والنسيان عليهم عليهم‌السلام.

وأمّا السادس ـ أي الدليل عليها ـ فكما قالوا من أنَّ صحة الوجوب علىٰ الله كالوجوب من الله ، وقد تقرر عند المحقّقين من أهل الكلام (١) أنّ اللطف علىٰ الله واجب ، ومن هنا وجب علىٰ الله بعث النبي ونصب الإمام. قالوا : لا شكَّ أنَّ العصمة علىٰ الوجه المذكور أدخل وأمدّ في اللطف ، ولهذا يجب تنزّههم عن العيوب والنقائص الخُلقية كالخَلقية ، فلا يجوز علىٰ الحكيم الإخلال به.

وعن علي بن الحسين عليهما‌السلام : ( الإمام منّا لا يكون إلّا معصوماً ، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فتعرف ). قيل : فما معنىٰ المعصوم ؟ قال عليه‌السلام : ( المعتصم بحبل الله ، وحبل الله هو القرآن ، فلا يفترقان إلىٰ يوم القيامة ) (٢).

ثمّ المراد بالعصمة في قول السائل معناها اللغوي ، وهو زجر العقل ومنع النفس من الوقوع في المعصية.

و ( الذنوب التي تهتك العصم ) ـ علىٰ ما روي (٣) عن الصّادق عليه‌السلام ـ هي : شرب الخمر واللعب والقمار ، وفعل ما يضحك الناس من المزاح واللهو ، وذكر عيوب الناس ، ومجالسة أهل الريب. فليتجنب عن جميعها ؛ لئلا يهتك العصمة.

( اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ ﭐلذُّنُوبَ ﭐلَّتي تُنْزِلُ ﭐلْنِّقَمَ )

_____________________________

(١) « قواعد المرام » ص ١١٨ ؛ « إرشاد الطالبين » ص ٢٧٧.

(٢) « بحار الأنوار » ج ٢٥ ، ص ١٩٤ ، ح ٥.

(٣) « بحار الأنوار » ج ٧٠ ، ص ٣٧٥.

٦٧
 &

( النقم ) جمع « نقمة » ، كـ « نِعَم » جمع « نعمة » ، أصلها « نَقِمة » ـ بكسر القاف ـ وزان « كَلِمة » بمعنىٰ الأخذ بالعقوبة ، والجمع : « نَقِمات » و « نِقَم » ، كـ « كلمات » و « كَلِم » جمع « كلمة ».

ولكن قال الجوهري : « وإن شئت سكّنت القاف ، ونقلت حركتها إلىٰ النون ، فقلت : نقمة ، والجمع نقم ، كنِعْمة ونِعَم » (١) انتهىٰ.

بيان ما يترتب علىٰ الذنوب

و ( الذنوب ) التي تصير سبباً لنزول النقم هي ـ علىٰ ما جاءت به الرواية ـ : نقض العهد ، وظهور الفاحشة ، وشيوع الكذب ، والحكم بغير ما أنزل الله تعالىٰ ، ومنع الزكاة ، وتطفيف الكيل. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( خمس بخمس ). قالوا : يا رسول الله ، ما خمس بخمس ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ما نقض قوم العهد إلّا وسلّط الله عليهم عدوهم ، وما ظهرت عنهم الفاحشة إلّا قد فشا فيهم الموت ، وما شاع فيهم الكذب والحكم بغير ما أنزل الله إلّا وقد فشا فيهم الفقر ، وما منعوا الزكاة إلّا حبس عنهم القطر ، وما طفّفوا الكيل إلّا منعوا النبات واُخذوا بالسنين ) (٢).

كما قال المولوي :

ابر برنايد پی منع زكاة

وز زنا افتر وبا اندر جهات

قال تعالىٰ : ( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) (٣).

( اللّهُمَّ اغْفِرْ لِي الذُنوبَ الَّتي تُغَيّرُ النِّعَمَ )

( النِعَم ) : جمع « نعمة » ـ بكسر النون ـ وهي ما يلتذّ ويتنعّم به الإنسان من المال

_____________________________

(١) « الصحاح » ج ٥ ، ص ٢٠٤٥ ، مادة « نقم ».

(٢) « بحار الأنوار » ج ٧٠ ، ص ٣٧٠.

(٣) « البقرة » الآية : ٥٩.

٦٨
 &

والنساء ، والقوىٰ والآلات والأدوات ، والصحة والفراغة ، والمأكولات والمشروبات ، والأنعام من الأغنام والإبل والخيول والبغال والحمير والبقرات ، وغيرها ممّا أنعم الله به علىٰ عباده ، ( وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّـهِ لَا تُحْصُوهَا ) (١).

قال تعالىٰ : ( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) (٢).

في المجمع قال : « قال بعض الأعلام : يكتب في اللوح أشياء مشروطة وأشياء مطلقة ، فما كان علىٰ الإطلاق فهو حتم لا يغيّر ولا يبدّل ، وما كان مشروطاً ـ نحو أن يكون مثبتاً في اللوح أنّ فلاناً إن وصل رحمه مثلاً يعيش ثلاثين سنة ، وإن قطع رحمه فثلاث سنين ـ فإنما يكون ذلك يحسب حصول الشرط ، وقد قال الله تعالىٰ : ( يَمْحُو اللَّـهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٣) » (٤) انتهىٰ.

الذنوب المغيرة للنعم

و ( الذنوب التي تغيّر النعم ) ـ كما جاءت بها الرواية ـ : ترك شكر المنعم ، والافتراء علىٰ الله والرسول ، وقطع صلة الرحم ، وتأخير الصلاة عن أوقاتها حتّىٰ انقضت أوقاتها ، والدياثة ، وترك إغاثة الملهوفين المستغيثين ، وترك إعانة المظلومين.

وبالجملة ، قد قرّر الشارع لكلّ نعمة أنعم الله بها علىٰ عباده شكراً وطاعة ، كما قال تعالىٰ : ( لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) (٥).

ومعلوم أنّ تركه يصير سبباً لأخذه المنعم تلك النعمة عن المنعَم عليه.

وعن الصادق عليه‌السلام ، قال : « نحن والله نعمة الله التي أنعم بها علىٰ عباده ، وبنا فاز من فاز » (٦).

_____________________________

(١) « إبراهيم » الآية : ٣٤.

(٢) « الأنفال » الآية : ٥٣.

(٣) « الرعد » الآية : ٣٩.

(٤) « مجمع البحرين » ج ٣ ، ص ٤٣١ ، مادة « غير ».

(٥) « إبراهيم » الآية : ٧.

(٦) « بحار الأنوار » ج ٩ ، ص ١١٢ ، ٢١٨.

٦٩
 &

أقول : لمّا كانوا عليهم‌السلام وسائط فيض الله تعالىٰ وجوده ، ومجالي نوره وظهوره ، ومكامن سرّه ، كما قال عليه‌السلام ( بنا اهتديتم في الظلماء ، وتسنمتم العلياء وبنا انفجرتم عن السرار ... ) (١) ، أي صرتم ذوي فجر.

وقوله عليه‌السلام : ( تسنّمتم العلياء ) أي ركبتم سنامها.

فما من نعمة فاضت علىٰ الخلق إلّا بواسطتهم وبأيديهم ، فهم النعم العظمىٰ ، والدولة القصوىٰ من الله تبارك وتعالىٰ في الآخرة والاُولىٰ ، كما قيل :

من فضل ربّهم ولاته ارتوتْ

أنوارهم في نورهم قد انطوتْ

وقرب فرض الكلّ مثل النفلِ

كالفرع ثم قربهم كالأصلِ

بأرضهم تستنسر البغاثُ

والمستغيثين بهم أغاثوا

مجد بناته وفضل كرم

في غرف مبنية عليهم

ثم إنّ النعم تشتمل النعم الباطنة من العلم والحكمة والعرفان ، والإيمان بالله وباليوم الآخر ، والأنبياء والرسل والأوصياء الاثني عشر ، عليهم صلوات الله الملك الأكبر إلىٰ يوم المحشر.

بيان الذنوب المغيّرة للنعم

فالذنوب التي تغيّر تلك النعم وتذهب بنورها هي الخطيئات التي يعدّها أهل السلوك إلىٰ الله تعالىٰ أيضاً ذنباً ، كالتوجّه إلىٰ غيره تعالىٰ وترك الأولىٰ ، وكثرة الأكل والشرب والنوم ، وقلّة الاكتراث بالصلاة والصوم ، وكلّ ما كان من هذا القبيل من الهواجس النفسانية ، فضلاً عن الوساوس الشيطانية. فليتجنب العبد المؤمن عن جميع هذه الذنوب ، بعناية الله الحبيب المحبوب.

_____________________________

(١) « بحار الأنوار » ج ٣٢ ، ص ٢٣٧.

٧٠
 &

( اللّهُمَّ اغْفِرْ لِي الذُنُوبَ الّتي تَحبِسُ الدّعاء )

حبس يحبس ـ من باب « ضرب » ـ حبساً. الحبس : الوقوف والتوقيف ، خلاف الإطلاق والإرسال.

والذنوب التي تحبس الدعوات وتمنعها عن الوصول إلىٰ ذروة إجابة قاضي الحاجات ـ علىٰ ما روي عن سيّد الساجدين زين العابدين عليه‌السلام ـ ( هي : سوء النيّة ، وخبث السريرة ، والنفاق مع الإخوان ، وترك التصديق بالإجابة ، وتأخير الصلاة المفروضة حتىٰ تذهب أوقاتها ) (١).

بيان الذنوب الحابسة لغيث السماء

وقال عليه‌السلام في الذنوب التي تحبس غيث السماء : ( هي جور الحكّام ، وشهادة الزور ، وكتمان الشهادة ، ومنع الزكاة ، والمعاونة علىٰ الظّلم ، وقساوة القلب علىٰ الفقراء ) (٢).

وبالجملة ، من الذنوب التي تحبس الدعاء : فساد النيّات للأغراض الباطلة المتعلّقة بالاتجاه إلىٰ العاجلة والترك عن الآجلة ، الكاشفة عن الأهوية الفاسدة والعقائد الكاسدة ، كما قال الله تعالىٰ ( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ ) (٣).

فخير الدعوات وقربها من الإجابة هو تطابق لسان الحال مع لسان المقال ، كما قال المولوي :

ما درون را بنگريم وحال را

نى زبان را بنگريم وقال را

ناظر قبسيم اگر خاشع بود

گر چه كفت لفظ ناخاشع بود

قال صدر المتألهين قدس‌سره : « فاعلم أنّه لا دعاء بلسان الاستعداد والحال غير

_____________________________

(١) « معاني الأخبار » ص ٢٧١ ، ح ٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٦ ، ص ٢٨٢ ، أبواب الأمر والنهي ، ب ٤١ ، ح ٨.

(٢) « معاني الأخبار » ص ٢٧١ ، ح ٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٦ ، ص ٢٨٢ ، أبواب الأمر والنهي ، ب ٤١ ، ح ٨.

(٣) « المؤمنون » الآية : ٧١.

٧١
 &

مستجاب ، إلّا ما هو من باب لقلقة اللسان فقط ، كما يقول الجالس في مساكن ذكر الله ببدنه : اللهم ارزقني توفيق الطاعة ، وبُعد المعصية. ولكن جميع أركانه وجوارحه وملكاته الراسخة ، وأخلاقه الرذيلة ، وشياطينه الذين صارت قلبه عشهم ، وبهائم شهواته ، وخنزير حرصه ، وكلب غضبه اللاتي غدت باطنه مرتعها ، كلّهم ينادون ويقولون : اللهم اخذلنا بالمعصية ، ويستغيثون ويطلبون أرزاقهم ، وهو تعالىٰ مجيب الدعوات ( أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) (١).

وكما يقول الإنسان الطبيعي المطيع للوهم : اللهم أَبقني في الدنيا ، وهو بسرّه وعلانيته حتّىٰ وهمه متوجّه إلىٰ ربّه ، كلٌّ يبتغي وجهه ، والتمكّن في داره أو سجنه ، وأركان بدنه تطلب أحيازها الطبيعية ، وفروخه المحتبسة في بيوض المواد من قواه ـ العلّامة والعمّالة ـ تستدعي النهوض والطيران ، بل الأدوار والأكوار تقتضي آثارها ، بل الأعيان الثابتة التابعة اللازمة للأسماء يقولون لكل اُمة من الصور انطبعت وتعلّقت بالمادّة : إلىٰ متىٰ تلبثون هنا وتعطّلون المواد ، ألم تنقض نوبتكم ؟ فشمروا لسفركم ، وتأهّبوا للقاء أميركم ؛ ليصل التوبة إلىٰ طائفة اُخرى.

ولذا فالروح تتمنىٰ الموت وتفارق البدن بالاختيار ، والكاره له هو الوهم وإن كان هو أيضاً طالباً له بلسان الاستعداد : ( يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ) (٢).

ولسان المقال أيضاً دعاؤه مستجاب ؛ لكونه يستدعي غذاءه الذي هو النطق ، أيّ نطق كان. فهو تعالىٰ مجيب دعوتهم ومبلّغهم إلىٰ اُمنيتهم ، وقد لا يساعد الداعي لسان استعداد هويته وإن ساعده بحسب النوع ، كطلب كلّ واحدٍ مرتبة الآخر ، فلعلّه حيث ليس له علم محيط يضرّه ما استدعىٰ بلسان المقال ويفسده ، فحاله وعلله يطلبون له ما يصلحه ، كما في الحديث القدسي : ( إنّ من عبادي من لا يُصلحه إلّا

_____________________________

(١) « طه » الآية : ٥٠.

(٢) « الإنشقاق » الآية : ٦.

٧٢
 &

الغنىٰ لو صرفته إلىٰ غير ذلك لهلك ، وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الفقر ، لو صرفته إلىٰ غير ذلك لهلك ) (١).

وعلىٰ هذا فأجلُّ الأذكار ما اشتمل علىٰ توحيده وتمجيده تعالىٰ ، لا ما يشعر بالطلب والتكدّي ، ولذا قال عليه‌السلام : ( فوت الحاجة أحب إلي من قضاء الحاجة ).

وفي الحديث القدسي : ( من ترك ما يُريد لما اُريد ترك ما اُريد لما يريد ).

وفي الدعاء : ( اللهم أنت كما اُريد ، فاجعلني كما تُريد ).

وورد : ( المؤمن لا يريد ما لا يجد ).

وقال المولوي رحمه‌الله :

قوم ديكر ميشناسم از أولياء

كه زبانشان بسته باشد از دعاء

وإن كان السؤال أيضاً حسناً ؛ لأنّه أيضاً من أسباب سعادتك ، ومن موجبات تذكّرك ، ولهذا كان موسىٰ عليه‌السلام مأموراً بمسألة ملح طعامه منه تعالىٰ ؛ إذ كلّما يجلب إلىٰ جنابه فهو حسن ، وإن كان للحسن عرض عريض.

وفي كلمات الشيخ أبي سعيد أبي الخير قدس‌سره :

راه تو به هر روش كه ميدونيد نكو است

ذكر تو به هر زبان كه گويند خوش است » (٢)

انتهىٰ كلامه.

( اللّهمَّ اغفِرْ لِيَ الّذُنُوبَ الّتي تُنْزِلُ البَلاءَ )

البلاء والبليّة والبلوة ـ بالكسر ـ : الغمّ ، كأنّه يبلي الجسم.

_____________________________

(١) « الجواهر السنية » ص ١٠٠.

(٢) « شرح الأسماء » ص ١١٣ ـ ١١٥..

٧٣
 &

بيان الذنوب المنزلة للبلاء :

و ( الذنوب ) التي تصير سبباً لنزول البلاء ـ كما روي عن السجّاد عليه‌السلام ـ هي : ترك إغاثة الملهوف ، وترك إعانة المظلوم ، وتضييع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (١).

وفي بعض الأخبار (٢) : أنّها سبع ، وقد عدّوها من الكبائر ، وهي : الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرّم الله تعالىٰ ، وقذف المُحصنة ، وأكل مال اليتيم ظلماً ، والزنا ، والفرار من الزحف ، والسّرقة.

( اللّهُمَّ اغْفِرْ لِيَ الّذنُوبَ الّتي تَقْطَعُ الرَجاء )

( الرجاء ) : يجيء بمعنىٰ التمنّي والترجّي ، وبمعنىٰ : الخوف ، ومن هذا قول الشاعر :

لعمرك ما أرجو إذا مُتُّ مسلماً

علىٰ أيّ جنب كان في الله مصرعي (٣)

فالرجاء بالمعنىٰ الأوّل قسمان : رجاء ممدوح ، ورجاء مذموم.

فالممدوح : هو رجاء رحمة الله تعالىٰ ، وتوقّعها من العمل الصالح المعد لحصولها ، وترك الانهماك في المعاصي ، المفوّت لهذا الاستعداد.

والرجاء المذموم : الذي هو في الحقيقة حمق وغرارة ، وهي توقّع الرحمة من غير عمل صالح ، وعدم الاجتناب عن المعاصي والخطيئات ، كما قيل :

ايغره برحمت خداوند

در رحمت او كسى چگويد

هر چند مؤثر است باران

تا دانه نيفكنى نرويد

قال الله تعالىٰ : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أُولَـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّـهِ ) (٤).

_____________________________

(١) « بحار الأنوار » ج ٧٠ ، ص ٣٧٥.

(٢) « بحار الأنوار » ج ٧٦ ، ص ٥ ، ٩ ، ١٢.

(٣) انظر « مجمع البحرين » ج ١ ، ص ١٧٦ ، مادة « رجا ».

(٤) « البقرة » الآية : ٢١٨.

٧٤
 &

ومقابل هذا الرجاء : اليأس والقنوط والحرمان. والمؤمن ينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه متساويين ، بحيث لو وزن خوفه ورجاؤه لاعتدلا ، كما في الحديث : ( خف الله خوفاً ترىٰ أنّك لو أتيته بحسنات أهل الأرض لم يقبلها منك ، وارجُ الله رجاءً ترىٰ أنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك ).

الذنوب القاطعة للرجاء

والذنوب التي تقطع الرجاء ـ كما جاءت بها الرواية ـ : اليأس من رَوح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والثقة بغير الله ، والتكذيب بوعده (١).

وفي دعاء أبي حمزة الثمالي ، قال : ( إلهي لو قرنتني بالأصفاد ، ومنعتني سيبك من بين الأشهاد ، ودللتَ علىٰ فضائحي عيون العباد ، وأمرت بي إلىٰ النار ، وحُلتَ بيني وبين الأبرار ، ما قطعتُ منك رجائي ، ولا صرفت وجه تأميلي للعفو [ عني ] (٤) عنك ، ولا خرج حبك عن قلبي ، أنا لا أنسىٰ أياديك عندي ، وسترك عليّ في دار الدنيا ) (٣).

( اللّهُمَّ اغْفِرْ لِي كُلَّ ذَنْبٍ أَذنَبْتُهُ وَكُلَّ خَطيْئَةٍ أَخْطَأتُها )

وفي المصباح : « الخطيئة ـ علىٰ وزن « فعيلة » ، ولك أن تشدّد الياء ـ الاسم من الخطأ ـ بالكسر ـ : الإثم ، والجمع : الخطايا » انتهىٰ.

الفرق بين الذنب والخطيئة

وهي والذنب بمعنًى واحد ، وقد يفرّق بينهما بأنّ الآثام ما لم يتمكن صاحبها فيها تسمّىٰ ذنوباً ، وإذا تمكن فيها وصارت ملكة له فحينئذٍ تسمّىٰ خطيئة ، كأنه يخطو فيها ويعتملها.

وقول السائل : ( أخطأتها ) أي فاتني الصواب في عملها ، يقال : فلان أخطأ في

_____________________________

(١) « معاني الأخبار » ص ٢٧١ ، ح ٢.

(٢) من المصدر.

(٣) « المصباح » للكفعمي ، ص ٧٩٠.

٧٥
 &

الأمر ؛ إذا فاته الصواب فيه.

ثمّ إنّ السائل لمّا سأل من الله تعالىٰ المغفرة عن الذنوب الموصوفة بالأوصاف المذكورة ، انصرف عن التوصيف فقال : ( اللّهمَّ اغفر لي كلّ ذنبٍ أذنبته ) في مدة عمري ، صغيرة كان أو كبيرة ، عمداً كان أو سهواً ، قولاً كان أو فعلاً ، جناناً كان أو أركاناً ، سواءً كان صدوره عني في زمن الصبا والترعرع ، أو في أوقات البلوغ والتكليف ، فإنّك قلت في كتابك الكريم : ( إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ) (١). ومن ذا الذي يغفر الذنوب جميعاً إلّا أنت ).

( اللّهُمَّ إنِّي أَتَقرَّبُ إلَيكَ بِذِكْرِكَ )

بيان المراد من الذكر

أي بذكري إياك ، اُضيف المصدر إلىٰ المفعول.

المراد بالذكر : إمّا معناه المصدري ، يعني : بتذكّري إياك في كلّ حال أتقرّب إليك ، أراد : أنّ غاية تذكّري إياك هي التقرّب إليك ، وكمال التقرّب إليه تعالىٰ هو التخلّق بأخلافه ، كما ورد : ( تخلّقوا بأخلاق الله ) (٢). وورد ( تخلّقوا بأخلاق الروحانيين ).

وحقيقة الذكر حضور المذكور لدىٰ الذاكر ، وهو تعالىٰ أجلّ ذاكر لأبهىٰ مذكور ، هو ذاته لذاته ، كما في الدعاء : ( يا خير الذاكرين ) (٣). فذكره تعالىٰ في مرتبة ذاته كلامه الذاتي ، وعلا بذاته الذي هو حضور ذاته بذاته لذاته ، بمعنىٰ : عدم انفكاك ذاته عن ذاته تعالىٰ. وفي مرتبة فيضه المقدّس وفعله الأقدس ذكره أمره الإيجادي ، وكلمة : « كُنْ » الوجودية. ولذا قال الشاعر :

فلمّا أضاء الليل أصبحت عارفاً

بأنّك مذكور وذكر وذاكر

_____________________________

(١) « الزمر » الآية : ٥٣.

(٢) انظر « بحار الأنوار » ج ٥٨ ، ح ١٢٩.

(٣) « المصباح » للكفعمي ، ص ٣٣٤.

٧٦
 &

وإمّا المراد بالذكر : وجهه تعالىٰ ، فإنّ البرهان الصحيح بدلنا علىٰ التثليث : الذاكر ، والذكر ، والمذكور. فالذاكر هو الله تعالىٰ ، والذكر : الوجود المنبسط ، والمذكور : مخلوقه ومصنوعه. وقد مرّ أنّ ذلك الوجود وجهه تعالىٰ.

فحينئذٍ مراد السائل أنّه يقول : أتقرب إلىٰ ذاتك الحكيم القديم بوجهك الكريم.

وإمّا المراد بالذكر : وجود السائل ، إذ قد عرفت أنَّ الوجودات بأسرها ، كما أنَّها إشراق الله تعالىٰ ، كذلك كلماته وأذكاره ، كما قال الله تعالىٰ : ( بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ ) (١) وقال : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) (٢).

وخير الأذكار : هو أن يصير وجود الذاكر عين ذكره تعالىٰ ، يعني : استشعر الذاكر بالعلم ثم بالعيان أنّ وجوده ذكره تعالىٰ ، كما قيل :

أگر مؤمن بدانستي كه بت چيست

يقين کردی که دين در بت پرستى است

أگر کافر ز بت آگاه گشتی

کجا در دين خود گمراه گشتی

يعني : لو علم المؤمنون الذين دخلوا في أوائل درجات الإيمان ، وقالوا : لا إله إلّا الله ، تقليداً ولساناً لا برهاناً وعياناً ، أنّ وجودات الأصنام كلّها من الله وإشراقاته ، وهو تعالىٰ أحاط بكلّ شيء علماً وقدرة ، وفي الحقيقة معطي الكمالات ليس إلّا هو ؛ لأيقنوا ـ هؤلاء المؤمنون ـ بأنّ عبادة الأصنام بذلك الاعتبار عبادة الله تعالیٰ ، وفي الحقيقة كذلك ، ولكن عبدة الأصنام لم يكونوا مستشعرين بهذا الأمر ، بل يعبدون نفس الأصنام بأنّها آلهتهم أو أدلّاء ، وشفعاؤهم عند إلههم ، وذلك كفر وإلحاد وملعنة.

فحينئذٍ مراده : إنّي أتقرّب إليك ، بسبب وجودي الذي هو من صنعك ، وكونك موجداً إياي ، وآخذاً بناصيتي ، تجرّها إليك.

_____________________________

(١) « آل عمران » الآية : ٤٥.

(٢) « فاطر » الآية : ١٠.

٧٧
 &

وإمّا المراد بالذكر : هو القرآن المجيد والفرقان الحميد ، كما سمّاه الله تعالىٰ به ، قال : ( أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا ) (١) ، وقال : ( نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (٢).

فحينئذٍ مراده : أتقرّب إليك بكتابك ، يعني : بمواظبتي قراءته ، وممارستي التفكّر في محكماته ومتشابهاته ، وناسخه ومنسوخه ، وتأويله وتنزيله ، ومجمله ومفصّله.

والقرآن ـ من الفاتحة إلىٰ الخاتمة ـ وجوده الوجود اللفظي حين القراءة ، والوجود الكتبي حين عدمها لجميع الموجودات ، آفاقية والأنفسيّة ، إذ قُرّر في محله أنّ لكلّ شيء وجودات أربعاً : العينية ، والذهنية ، والكتيبة ، واللفظية. والعوالم كلّها متطابقة ، فكلّ ما في عالم من العوالم فهو في عالم أعلىٰ منه بنحو الأكملية والأتمّية ممّا في العالم الأدنىٰ ، كما قال تعالىٰ : ( وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (٣).

فالمراد بالكتاب المبين وإن كان هو العقل الأول والممكن الأشرف ، إلّا أن القرآن حقيقته ووجوده الكتبي كما قلنا ، فكلّ ما في اُم الكتاب بنحو اللف والبساطة فهو في الكتاب التدويني بنحو الكتابة والعبارة. والتفصيل يستدعي محلّاً آخر ونمطاً آخر غير ما سمعت.

وإمّا المراد بالذكر : أهل البيت عليهم‌السلام ؛ لأنَّهم أهل الذكر وحاملو القرآن كما هو حقّه ، كما روي عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالىٰ : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) (٤) ، قال : ( نحن والله أهل الذكر ). فقيل : أنتم المسؤلون ؟ قال : ( نعم ). قيل : وعليكم أن تجيبونا ؟ قال عليه‌السلام : ( ذاك إلينا إن شئنا فعلنا ، وإن شئنا تركنا ) (٥). فهم عليهم‌السلام بشراشر وجودهم ذكر الله تعالىٰ وفيضه.

وحينئذٍ مراده : أتقرّب إليك بأهل ذكرك ، يعني بمحبتهم وموالاتهم عليهم‌السلام. فحُذف المضاف واُقيم المضاف إليه مقامه.

_____________________________

(١) « ص » الآية : ٨.

(٢) « الحجر » الآية : ٩.

(٣) « الأنعام » الآية ٥٩.

(٤) « النحل » الآية : ٤٣.

(٥) « الكافي » ج ١ ، ص ٢١٠ ، ح ٣ ، باختلاف.

٧٨
 &

ثم إنَّ حرف الباء في قوله : ( بذكرك ) للسببيّة.

فبالجملة ، ذكره تعالىٰ في جميع الأحوال حسن ، والعقل الهيولاني في أوّل الأمر وابتداء الحال يتسدعي الصورة ، كالهيولىٰ الاُولىٰ التي تستدعي الصورة الجسمية. فصوّروا العقل بذكر ذاته تعالىٰ وذكر أسمائه وصفاته ، ولا ترتسموه بصور داثرات مخلوقاته من الأباطيل الزائلة الفانية ، والترّهات العادمة غير الباقية.

الله في كلّ شؤون اذكرا

فإنّ ذكر الله كان أكبرا

ومنه جا حثّ عليه في الخلا

وحائض وقاطئ وما خلا

( وَأَسْتَشْفِعُ بِكَ إلىٰ نَفْسِكَ )

أي أجعلك شفيعاً لشفاعة نفسي الخاطئة الجانية إِلىٰ ذاتك المقدّسة العالية في العاجلة والآجلة ، يوم لا يشفع الشافعون إلّا باذنك ، وهو يوم : ( لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) (١).

البحث في الشفاعة

والشفاعة ـ كالمغفرة والعفو ـ تقع لأصحاب الكبائر إذا ماتوا بلا توبة ، وجميع العلماء اتفقوا علىٰ هذا ، إلّا المعتزلة فإنّهم في كتبهم فسّروا الشفاعة بطلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب ، وقالوا أيضاً بمنع العفو لأصحاب الكبائر.

نقل كلام المحقّق السبزواري

وقال صدر المتألهين قدس‌سره : « إنّ حقيقة الشفاعة بروز صور دلالات الأدلّاء علىٰ الله في الدنيا بصور الشفاعات في الاُخرىٰ ، إذ الكلّ يسعدون بدلالة شرائع الأنبياء ورُشد طرائق الأئمة الهداة عليهم‌السلام في الاُخرىٰ ، وهداية النبي الداخل ـ أعني : العقل الذي هو الحجّة البالغة أيضاً ـ بهداية روحانية النبي والوصي والولي الخارجِيين ؛

_____________________________

(١) « الأنبياء » الآية : ٢٨.

٧٩
 &

لأنَّ كلّ العقول في تعقّلاتهم يتّصلون بالعقل الفعّال وبروح القدس ، كما هو مقرر عند الحكماء قاطبة ، فهي كمرائي حازت وجوهها شطر مرآة كبيرة فيها كلّ المعقولات ، فيفيض علىٰ كلٍّ قسطه بحسبه : ( وروح القدس في جنان الصاقورة ، ذاق من حدائقهم الباكورة ) (١).

بل الشفاعته منها : تكوينية ساريه ، ولكلّ موجود منها قسط بحسب دلالته علىٰ الله تعالىٰ ، كالنبوة التكوينيّة السارية ، وكالمعلّم بالنسبة إلىٰ الأطفال ، والرجل بالنسبة إلىٰ أهل بيته. ولهذا ورد (٢) أن المؤمن يشفع أكثر من قبيلة ربيعة أو مضر.

ومنه : شفاعة القرآن لأهله ، وأمثال ذلك.

لكن لمّا كان دلالتها بتعريف النبوّة وإرشاد الولاية في الظاهر أو في الباطن ـ وفي الشرائع والطرائق والحقائق : الفقهاء مظاهر الأنبياء ، والعرفاء مظاهر الأولياء والأوصياء ، ومناهج الظواهر والمظاهر في الأوائل والأواخر كأنهار أكابر وأصاغر ، من قاموس منهج خاتمهم ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( الشريعة أقوالي ، والطريقة أفعالي ، والحقيقة حالي ) (٣). وله السيدودة العظمىٰ علىٰ جميعهم ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أنا سيّد ولد آدم ولا فخر ) (٤) ، وقال : ( آدم ومَن دونه تحت لوائي يوم القيامة ) (٥) ـ ختم عليه الدلالة العظمىٰ في الاُولىٰ ، والشفاعة الكبرىٰ في الاُخرىٰ ، كما قال تعالىٰ : ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ ) (٦) » (٧).

ثم قال : « إن قلت : كيف تتحقّق الشفاعة في الاُخرىٰ لمن يرتكب الكبائر ، ولا دلالة ولا هداية له في الاُولىٰ ؟

قلت : لا يمكن ذلك ، اذ له عقائد صحيحة ـ ولو إجمالية ـ متلّقاة من الشارع

_____________________________

(١) « بحار الأنوار » ج ٧٥ ، ص ٣٧٨ ، ح ٣ ، وفيه : « حدائقنا » بدل : « حدائقهم ».

(٢) انظر : « بحار الأنوار » ج ٨ ، ص ٥٨ ، ح ٧٥.

(٣) « جامع الأسرار » ص ٣٤٦ ، ٣٥٩.

(٤) انظر : « بحار الأنوار » ج ١٦ ، ص ٣٢٥ ، ح ٢١.

(٥) انظر : « بحار الأنوار » ج ١٦ ، ص ٤٠٢ ، ح ١.

(٦) « الضحىٰ » الآية ٥.

(٧) « شرح الأسماء » ص ٦٢٥ ـ ٦٢٦.

٨٠