شرح دعاء كميل

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

شرح دعاء كميل

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مؤسسة عاشوراء للتحقيقات والبحوث الإسلامية
المطبعة: مطبعة الكوثر
الطبعة: ١
ISBN: 964-7263-74-0
الصفحات: ٢٠٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

وبتعيّن كونه خيراً محضاً وعشقاً خالصاً اسم « المريد ».

وملحوظاً بتعيّن الظاهر بالذات والمظهرية للغير اسم « النور » ، وبتعيّن الفياضيّة الذاتية للنورية عن علم ومشيّئة اسم « القدير ».

وبتعيّن الدراكيّة الفعّالية اسم « الحي » ، وبتعيّن الإعراب عمّا في الضمير المكنون الغيبي اسم « المتكلّم » ، وهكذا.

وكذا مأخوذ بتجلّ خاصّ علىٰ ماهيّة خاصّة ، بحيث يكون كالحصّة التي هي الكلّي المضاف إلىٰ خصوصيّة ، بكون الإضافة بما هي إضافة ـ وعلىٰ سبيل التقييد لا علىٰ سبيل كونها قيداً ـ داخلة ، والمضاف إليه خارجاً ، لكن هذه بحسب المفهوم ، والتجلي بحسب الوجود اسم خاصّ.

نقل كلام المحقّق السبزواري

وعند هذا قال صدر المتألّهين السبزواري قدس‌سره : « فنفس الوجود الذي لم يلحظ معه تعيّنٌ ما ، بل نحو اللا تعيّن هو المسمّىٰ ، والوجود بشرط التعيّن هو الاسم ، ونفس التعيّن هو الصفة ، والمأخوذ بجميع التعيّنات الكمالية اللائقة به المستتبعة للوازمها من الأعيان الثابتة الموجودة بوجود الأسماء ـ كالأسماء بوجود المسمّىٰ ـ هو مقام الأسماء والصفات ، الذي يقال له في عرف العرفاء : المرتبة الواحدية ، كما يقال للموجود الذي هو اللا تعيّن البحت : المرتبة الأحديّة.

والمراد من اللا تعيّن : عدم ملاحظة التعيّن الوصفي ، وأمّا بحسب الهويّة والوجود فهو عين التشخّص والتعيّن والمتشخص بذاته والمتعيّن بنفسه ، وهذه الألفاظ ومفاهيمها ، مثل الحيّ العليم المريد القدير وغيرها ، أسماء الأسماء » (١) انتهىٰ كلامه ، رفع مقامه.

قوله تعالىٰ : ( وَلِلَّـهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ) (٢) قيل : هي : « الله ، الرحمن ،

_____________________________

(١) « شرح الأسماء » ص ٥٧٤ ـ ٧٥٧.

(٢) « الأعراف » الآية : ١٨٠.

٤١
 &

الرحيم ، الملك ، القدّوس ، الخالق ، البارئ ، المصوّر ... » إلىٰ تمام ثلاثمائة وستّين اسماً ، كما في المجمع (١).

وفيه أيضاً قال الشيخ أبو علي قدس‌سره : « ( وَلِلَّـهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ) التي هي أحسن الأسماء ؛ لأنّها تتضمن معاني حسنة ، بعضها يرجع إلىٰ صفات ذاته ، كالعالم والقادر والحيّ والإله ، وبعضها يرجع إلىٰ صفات فعله ، كالخالق والرازق والبارئ والمصوّر ، وبعضها يفيد التمجيد والتقديس ، كالقدّوس والغنيّ والواحد » (٢) انتهىٰ.

وعن الصادق عليه‌السلام : ( إنّ الله تعالىٰ خلق اسماً بالحروف غير متصوّت ، وباللفظ غير مُنَطق ، وبالشخص غير مجسّد ، وبالتشبيه غير موصوف ، وباللون غير مصبوغ ، منفيّ عنه الأقطار ، مبعّد عنه الحدود ، محجوب عنه حسّ كلّ متوهّم ، مستتر غير مستور ، فجعله كلمة تامّة علىٰ أربعة أجزاء معاً ، ليس شيء منها قبل الآخر ، فأظهر منها ثلاثة أسماء لفاقة الخلق إليها ، وحجب منها واحداً ، وهو الاسم المكنون المخزون ، فهذه الأسماء التي ظهرت ، فالظاهر هو الله تبارك وتعالىٰ ، وسخّر لكلّ اسم من هذه الأسماء أربعة أركان ، فذلك اثنا عشر ركناً ، ثم خلق لكلّ ركن منها ثلاثين اسماً فعلاً منسوباً إليها ، فهو الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدّوس ، الخالق ، البارئ ، المصوّر ، الحيّ القيّوم لا تأخذه سنة ولا نومٌ ، العليم ، الخبير ، السميع ، البصير ، الحكيم ، العزيز ، الجبّار ، المتكبّر ، العلي ، العظيم ، المقتدر ، القادر ، السّلام ، المؤمن ، المهيمن ، البارئ ، المنشئ ، البديع ، الرفيع ، الجليل ، الكريم ، الرّزاق (٣) ، المُحيي ، المميت ، الباعثُ ، الوارث.

فهذه الأسماء وما كان من الأسماء الحسنىٰ ، حتّىٰ تتم ثلاثمائة وستّون اسماً ، فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة ، وهذه الأسماء الثلاثة أركان ، وحجب الاسم الواحد المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة ، وذلك قول الله تعالىٰ : ( قُلِ ادْعُوا اللَّـهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَـٰنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ) (٤) ) (٥).

_____________________________

(١) « مجمع البيان » ج ٤ ، ص ٦٢٢.

(٢) انظر « مجمع البيان » ج ٤ ، ص ٦٢٢ ، باختلاف.

(٣) في المصدر : الرازق.

(٤) « الإسراء » الآية : ١١٠.

٤٢
 &

نقل كلام المحقّق السبزواري في شرح الحديث المذكور :

أقول : قد ذكر هذا الحديث الشريف صدر المتألّهين قدس‌سره ، مشروحاً في « شرح الأسماء » ، عند شرح الاسم الشريف : ( يا مَن جعل في السماء بروجاً ) (٦) ، ونقل كلام الفاضل المازندراني الشارح لاُصول الكافي ـ عليه الرحمة ـ وزيّف بعض ما قال في شرح هذا الحديث. فالأولىٰ والأنسب أن ننقل كلامه الشريف ، وما حقّقه وما زيّف من كلام الشارح ، توشيحاً لهذا الشرح ، ولا بأس بالإطالة والإطناب ، إذ المقام مقام التفصيل والفحص في تحقيق أسمائه تعالىٰ جليل جميل.

فقال قدس‌سره : « قوله عليه‌السلام : ( إنّ الله تبارك وتعالىٰ خلق اسماً ... ) ، قال الفاضل المازندراني (٧) الشارح لاُصول الكافي ـ عليه الرحمة ـ : قيل : هو ( الله ) ، وقيل : ـ هو اسم دالّ علىٰ صفات ذاته جميعاً. وكأن هذا القائل وافق الأوّل ؛ لأنّ الاسم الدال علىٰ صفاته جميعاً هو « الله » عند المحقّقين ، ويرد عليهما أنّ « الله » من توابع هذا الاسم المخلوق أولاً ، كما يدلّ عليه هذا الحديث.

ويحتمل أن يراد بهذا الاسم اسم دالّ علىٰ مجرّد ذاته تعالىٰ ، من غير ملاحظة صفة من الصفات معه ، وكأنّه « هو ». ويؤيده ما ذكره بعض المحقّقين من الصوفيّة من أنّ « هو » أشرف أسمائه تعالىٰ ، وأنّ ( يا هو ) أشرف الأذكار ، لأنّ « هو » إشارة إلىٰ ذاته من حيث هو هو ، وغيره من الأسماء يعتبر معه صفات ومفهومات قد تكون حجباً بينه وبين العبد.

وأيضاً إذا قلت : ( هو الله الرحمن الرحيم الغفور الحليم ) ، كان « هو » بمنزلة الذات ، وغيره من الأسماء بمنزلة الصفات ، والذات أشرف من الصفات ، فهو أشرف الأسماء.

ويحتمل أن يراد به : ( العليّ العظيم ) ، لدلالة الحديث الآتي عليه ، حيث قال عليه‌السلام : ( فأوّل ما اختار لنفسه : العليّ العظيم ). إلّا إنّ ذكره في أسماء الأركان ينافي هذا

_____________________________

(٥) « الكافي » ج ١ ، ص ١١٢ ، ح ١.

(٦) « المصباح » للكفعمي ، ص ٣٤٦.

(٧) « شرح الكافي » للمازندراني ، ج ٣ ، ص ٣٦٩ ـ ٣٧٠.

٤٣
 &

الاحتمال ، ولا يستقيم إلّا بتكلّف ، وهو أنّ مزج الأصل بالفرع للإشعار بالارتباط وبكمال الملائمة بينهما » (١) انتهىٰ.

قال قدس‌سره : « وفيه مؤاخذة ؛ لأنّه ينبغي أن يقال : ذلك الاسم مجموع : ( هو الله الرحمن الرحيم ) ، أو مجموع : ( هو الله العليّ العظيم ) ، لا أنّه « هو » وحده مثلاً ، لقوله عليه‌السلام ( فجعله ... ) إلىٰ آخره.

قوله عليه‌السلام : ( بالحروف غير متصوّت ) ، جعله هذا الشّارح (٢) حالاً من فاعل ( خلق ) ، أي خلقه والحال أنّه تعالىٰ لم يتصوّت بالحروف ، ولم يخرج منه حرف وصوت ، ولم ينطق بلفظ ؛ لتنزّه قدسه عن ذلك ، ولا يخفىٰ أنَّ جعل هذا وما بعده ـ إلىٰ قوله عليه‌السلام : ( فجعله كلمة تامّة ) ـ صفة له تعالىٰ ، فيه بعدٌ غاية البُعد ، ولا سيّما التنزيه عن الجسمية والكيفية والكميّة وغيرها ليس فيه كثير مناسبة لخلق ذلك الاسم ، ولا خصوصية له به ، بل الـ ( متصوّت ) والـ ( منطق ) بصيغة المفعول ، والكلّ صفة الاسم ، علىٰ ما سنذكره.

وقوله عليه‌السلام : ( مستتر غير مستور ) أي مُستتر عن الحواس ، غير مستور عن القلوب ، أو معناه مستتر عن فرط الظهور.

قوله عليه‌السلام : ( علىٰ أربعة أجزاء معاً ) قال الشارح (٣) : أي علىٰ أربعة أسماء باشتقاقها وانتزاعها منه ، وهي غير مرتبة بعضها علىٰ بعض ، كترتّب ( الخالق ) و ( الرازق ) علىٰ ( العالم ) و ( القادر ) ، وعلىٰ ما نذكر فالمقصود نفي الترتّب المكاني.

وقوله عليه‌السلام : ( وحجب واحداً منها ) ، أي لا يعلمه إلّا هو ، حتّىٰ الأنبياء عليهم‌السلام ، فإنّه قد استأثر علمه لنفسه.

قوله عليه‌السلام : ( فهذه الأسماء التي ظهرت ، فالظاهر هو الله تبارك وتعالىٰ ).

قال الشارح (٤) : ( أي الظّاهر البالغ إلىٰ غاية الظهور ، وكماله من بينها هو الله تعالىٰ ، ويؤيّده أنّه يضاف غيره إليه فيعرف به ، فيقال : ( الرحمن ) ، اسم ( الله ) ، ولا يقال : ( الله )

_____________________________

(١) « شرح الأسماء » ص ٧١٢ ـ ٧١٣.

(٢) « شرح الكافي » للمازندراني ، ج ٣ ، ص ٣٧٠ ـ ٣٧١.

(٣) « شرح المازندراني » ج ٣ ، ص ٣٧٤.

(٤) « شرح الكافي » للمازندراني ، ج ٣ ، ص ٣٧٦ ـ ٣٧٧.

٤٤
 &

اسم ( الرحمن ) ، وليس المراد أن المتّصف بأصل الظّهور هو ( الله ) ؛ لأنَّ غيره أيضاً متّصف بالظهور ، كما قال عليه‌السلام : ( وأظهر منها ثلاثة ). وهذا صريح بأنَّ أحد هذه الثلاثة الظاهرة هو ( الله ). وأمّا الآخران فلم ينقلهما علىٰ الخصوص.

ويحتمل أن يراد بهما ( الرحمن الرحيم ) ، ويؤيده آخر الحديث ، واقترانهما مع ( الله ) في التسمية ، ورجوع سائر الأسماء الحسنىٰ إلىٰ هذه الثلاثة ، عند التأمّل.

ثمّ قال : إلّا إنّ عدّ ( الرحمن الرحيم ) في جملة ما يتفرّع علىٰ الأركان ينافي هذا الاحتمال ، ولا يستقيم إلّا بتكلّف مذكور.

ونسب إلىٰ بعض الأفاضل : أنّه يفهم من لفظ ( تبارك ) : جواد ، ومن لفظ : ( تعالىٰ ) أحد.

قوله عليه‌السلام : ( أربعة أركان ) ، قال الشارح (١) : اعتبار الأركان إما علىٰ سبيل التخييل والتمثيل ، أو علىٰ سبيل التحقيق باعتبار حروف هذه الأسماء ، فإنّ الحروف المكتوبة في كلّ واحد من الأسماء المذكورة أربعة.

ويحتمل أن يراد بالأركان كلمات تامّة مشتقّة من تلك الكلمات الثّلاث ومن حروفها ، وإن لم نعلمها بعينها.

قوله عليه‌السلام : ( وذلك قول الله تعالىٰ : ( قُلِ ادْعُوا اللَّـهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَـٰنَ ) (٢) ).

قال الشارح (٣) : إنّما لم يذكر الثالث لقصد الاختصار ، أو لأنّه أراد بالرحمن : المتّصف بالرحمة المطلقة الشاملة للرحمة الدنيوية والاُخروية » (٤).

قال قدس‌سره : « أقول : قد علمت حقيقة الاسم ، وأنّ هذه الألفاظ أسماء الأسماء ، فالمراد ـ وهم عليهم‌السلام أعلم بمرادهم بذلك الاسم ـ : الوجود المطلق المنبسط ، الذي هو تجلّيه وصنعه ورحمته الواسعة الفعلية ، وجمله أربعة عبارة عن تجلّيه في الجبروت والملكوت والناسوت ، ونفس ذلك التّجلي ساقط الإضافة عنها.

_____________________________

(١) « شرح الكافي » للمازندراني ، ج ٣ ، ص ٣٧٨.

(٢) « الإسراء » الآية : ١١٠.

(٣) « شرح الكافي » للمازندراني ، ج ٣ ، ص ٣٨٣.

(٤) « شرح الأسماء » ص ٧١٣ ـ ٧١٥.

٤٥
 &

وبعبارة اُخرىٰ : أصلها المحفوظ ، وسنخها الباقي ، وروحها الكامن. ومعلوم أنّه بهذا الوجه مكنون عنده ، فالخلق المفتاق إليها شيئيات ماهياتها ، والأسماء الثلاثة هي التجلّيات عليها ؛ إذ قد مرّ أنّه كما أنّ الوجود باعتبار تعيّن كمالي اسم من الأسماء ، كذلك باعتبار تجلّ فعلي اسم أيضاً.

وإن كنت من المتفطنين لحقيقة الخلق والإيجاد ، وأنّه اختفاء نور الحق تعالىٰ في حجب أسمائه ، وفي حجب صور أسمائه ، وأنَّ مدّة اختفاء النور دورة الخلق ، كما أنّ مدّة ظهور نوره واستتار حجبه دورة الحق وإفنائهم ( تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) (١) ، لوسع لك تجويز أن يكون ذلك الاسم أعمّ من الرحمة الصفتية والرحمة الفعلية.

والمكنون منه هو التجلّي اللاهوتي ، أعني : التجلّي في أسمائه وصفاته في المرتبة الواحدية ، والثلاثة الظاهرة ـ التجلّيات الثلاثة المذكورة ـ والاكتنان هنا أشدّ ؛ لأنّه إذا كان الرحمة الفعلية ساقطة الإضافة من صقع الذات ، كان الرحمة الصفتية أوغل في ذلك ؛ لأنّ الصفة أقرب من الفعل.

وقوله عليه‌السلام : ( فالظاهر هو الله تبارك وتعالىٰ ) معناه : أنّه لمّا كان الاسم عنواناً للمسمّىٰ وآلة للحاظه ، فالأسماء الثلاثة ظهورات المسمّىٰ ، فهو الظاهر ؛ لأنَّ معنىٰ ( الظّاهر ) ذات له الظهور ، فالذات التي هو ( الله ) ، له الظهورات ، فهو الظاهر بالأسماء.

أو المراد : أن الأسماء الثلاثة ظهورات الاسم المكنون المستأثر لنفسه ، الذي هو عنوان لذاته تعالىٰ عند ذاته ، لكنّه معنون بالنسبة إلىٰ الثلاثة. والدليل علىٰ هذا المراد أنَّ ( الله ) اسم واقع علىٰ الحضرة الواحدية كاللاهوت ، فإنّ معناه : الذات المستجمعة لجميع الصفات والكمالات ، وتلك الحضرة أيضاً مجمع الأسماء والصفات ، ولذا عبّر في حديث الأعرابي (٢) عن النفس اللاهوتية بذات الله العليا.

_____________________________

(١) « المعارج » الآية : ٤.

(٢) « قرة العيون » للكاشاني ، ص ٣٦٣.

٤٦
 &

والأركان الأربعة لكلّ واحد من هذه الأسماء عبارة عن الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة المعنويات ، أعني : حرارة العشق والابتهاج ، وبرودة الطمأنينة والإيقان ، ورطوبة القبول والإذعان ، أو الإحاطة والسريان ، ويبوسة التثبّت والاستقامة عند الملك المنّان ، نظير ما قال بعض أهل الذوق كجابر بن حيّان : إن السماوات وما فيها من العناصر الأربعة ، وحمل عليه قول أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبة المشيئة ، المذكورة في نهج البلاغة. والصواب : الحمل علىٰ ما ذكرنا.

والغرض كلّ الغرض منه : تطبيق العالمين الظّاهر والباطن ، بجعل ذلك الاسم كالنّير ، والاثني عشر ركناً بروجه ، والثلاثين اسماً درجات كلّ برج ، حتّىٰ تتم ثلاثمائة وستون درجة ، وهي تعيّنات الأسماء التي انطوت فيها ، وهي مظهرها ، فيكون بعدد درجات دورة الفلك الظاهر » (١).

ثمّ قال قدس‌سره : « أو نقول : المراد بذلك الاسم : الغوث الأعظم الذي هو خاتمة كتاب الوجود ، كما أنّ المعنىٰ الأول الذي هو فاتحته وروحانيته ، وهو ختم الكلّ والاسم الأعظم ، وقال خلفاؤه : ( نحن الأسماء الحسنىٰ ) (٢) فجعله أربعة أجزاء ثلاثة منها ظاهرة ، هي : العقل والقلب والنفس ، وواحد مستور ، هو أصلها المحفوظ الذي لا يعلمها إلّا الله.

وهذه الثلاثة هي المشار إليها بقوله تعالىٰ : ( حم * عسق ) (٣) أي حقّ لا باطل ، « محمد » الذي هو العقل والنفس والقلب ، أو ( حم ) أي التسعة والتسعون من الأسماء ، هو : العقل والنفس والقلب من الإنسان الكامل ، أو الثّمانية والأربعون من الصور التي هي مجالي شمس الحقيقة ، هي : العقل والنفس والقلب ، ثم الأركان الاثنا عشر والدرجات الثلاثمائة والستون كما سبق.

وكان بروج نوره الواحد التي هي خلفاؤه في هذا العالم أيضاً اثني عشر ، كلّ

_____________________________

(١) « شرح الأسماء » ص ٧١٥ ـ ٧١٦.

(٢) « بحار الأنوار » ج ٢٥ ، ص ٥.

(٣) « الشورىٰ » الآية : ١ ـ ٢.

٤٧
 &

واحد منها مظهر ثلاثين اسماً باعتبار من الأسماء المحيطة.

ثمّ المقصود من ذكر الأسماء : إمّا تعداد علىٰ سبيل التمثيل فلا كلام ، وإمّا تعيين ثلاثين ، فيكون بعضها من الأسماء المركّبة ، كـ ( الرحمن الرحيم ) و ( العليّ العظيم ) مثلاً ، فإنَّ ( العلي ) ـ مثلاً ـ مفرداً اسم من أسمائه وله خاصيّة علیٰ حدة ، وكذا لـ ( العظيم ) ، ومركّباً اسم وله خاصّية اُخرىٰ ، ومن المركّبة : ( البارئ المنشئ ). فلا تكرار من الناسخ ، كما زعمه الشارح المذكور » (١) انتهىٰ كلامه الشريف.

الأركان : جمع « ركن » ، وهو جانب الشيء.

قول السائل : ( ملأت أركانَ كلِّ شيء ) أي أطرافه وجوانبه.

ثم اعلم أنّه كما قال العرفاء الشامخون : إنَّ كل نوع من الأنواع تحت اسم من أسماء الله تعالىٰ ، وذلك النوع مظهر ذلك الاسم ، كما أن الإنسان مظهر اسم ( الله ) ، والملك مظهر ( السبوح ) و ( القدّوس ) ، والفلك مظهر اسم ( الرفيع الدائم ) ، والحيوان مظهر ( السميع والبصير ) ، والأرض مظهر ( الخافض ) ، والهواء مظهر ( المروّح ) ، والماء مظهر ( المحيي ) ، والنار مظهر ( القهّار ) وهكذا.

وعلمت ممّا سبق أنّ الاسم عبارة عن المسمّىٰ مأخوذاً بتعيّن من التعيّنات الكماليّة ، فكما أنّ ماء الحياة الذي هو الوجود المطلق سارية في جميع الأودية ، ونفذت في أعماق الأشياء ، كذلك توابع الوجود التي تدور رحاها علىٰ قطب الوجود سارية في جميع الموجودات ، ولكن في كلٍّ بحسبه وقدره ، علىٰ ما اقتضته الحكمة الإلهية.

ثمّ إنَّ من الموجودات ما له أربعة أركان :

منها : أركان عرش علم الله تعالىٰ من العناية ، والقلم ، والقضاء ، والقدر. وأركان عرشه العيني من الركن الأبيض ، والركن الأصفر ، والأخضر ، والأحمر.

_____________________________

(١) « شرح الأسماء » ص ٧١٦.

٤٨
 &

ومنها : أركان عرش قلوب المؤمنين من العقل بالقوّة ، والعقل بالملكة ، والعقل بالفعل ، والعقل المستفاد.

ومنها : أركان علم الإنسان من التعقّل والتوهّم والتخيّل والتحسّس ، وأركان بدنه من الماء والتراب والهواء والنار ، هذه وسائطه ، أو مركباته من الدم والبلغم والصفراء والسوداء.

وأركان بيت الله المعنوي أيضاً ، التي هي : جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ، ويقال لها : حملة العرش.

وأركان بيته الظاهري من الركن اليماني ، والحجازي ، والشامي ، والعراقي ، وغيرها ممّا لا نطيل الكلام بذكرها ، فجميعها مالية (١) من صفاته وأسمائه تعالىٰ ، كما قيل :

اجزاى من وجود من همه اوست گرفت

نامی است ز من بر من وباقی همه او است

( وَبِعلْمِكَ الَّذي أحاطَ بِكُلِّ شَيءٍ )

المراد : علمه الذاتي الذي أحاط بعلمه الفعلي ، وهو أحاط بجميع الأشياء ( أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ) (٢) وقدرة ( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ ) (٣) ( وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ) (٤) ومن يشاء من عباده.

تحقيق معنىٰ العلم ، وأنَّ أي قسم منه لائق به تعالىٰ

العلم : ما به ينكشف الشيء لدىٰ العالم ، فهو إما بحصول صورة الشيء في الذهن ، أو بحضور ذلك الشيء لدىٰ المجرّد.

بتقسيم آخر : العلم فعليّ وانفعالي ، والعلم اللائق بجنابه تعالىٰ هو العلم الفعلي

_____________________________

(١) كذا في المخطوط.

(٢) « الطلاق » الآية : ١٢.

(٣) « يونس » الآية : ٦١.

(٤) « البقرة » الآية : ٢٥٥.

٤٩
 &

الحضوري الذي هو نحو وجود كلّ شيء ، وإحاطته محاطية وجودات الأشياء وحضورها لديه تعالىٰ ؛ لأنّه لمّا كان تعالىٰ بسيط الحقيقة ، محض الوجود وصرفه ـ وصرف الشيء واجد لما هو من سنخ ذلك الشيء ، ومجرّد عمّا هو من أجانبه وأباعده ، وبعيد الوجود لا يكون إلّا ما هو من سنخ العدم ـ كان كلّ وجود حاضراً له أشدّ من حضوره لنفسه ، إذ كما قلنا : نسبة الشيء إلىٰ فاعله بالوجوب ، وإلىٰ قابله بالإمكان.

ولا نعني بنفس الأشياء وقابلها إلّا الماهيات التي هي قابلة للوجودات الخاصة ، فكما لا يشذّ عن حيطة وجوده تعالىٰ وجود ، كذلك لا يعزب عن حيطة علمه مثقال ذرّة.

قال الحكماء : إنَّ الله تعالىٰ ظاهر بذاته لذاته ، لكون ذاته بريئاً من جميع الحيثيّات ، ومجرّداً عن كلّ الأحياز والجهات والأوقات ، وكلّ مجرّد عالم بذاته ، وذاته علّة لجميع ما سواه ، والعلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول.

قال المعلم الثاني : الأوّل تعالىٰ هو الغني المغني الذي ينال الكلّ من ذاته (١).

فكما أنّ بوجود واحد مُظهر لجميع الموجودات بنحو البساطة ، كذلك بعلم واحد يعلم جميع المعلومات ، فكأن ذاته تعالىٰ كالصورة العلمية التي بها ينكشف ذو الصورة الخاصة ، إلّا إنّ ذاته تعالىٰ بذاته ما به ينكشف جميع الأشياء ، لا بصورة حاصلة زائدة.

وها هنا كلام ينبغي أن يذكر ، وهو قول المتكلّمين : إنَّ العلم أعمّ من القدرة ؛ لتعلّقه بالممتنعات دون القدرة ؛ لأن المقدور لابدّ أن يكون ممكناً. ومعنىٰ قوله تعالىٰ : ( إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٢) أي كلّ شيء ممكن مستقيم قدير.

أقول : قال الحكماء : لا وجه لقولهم هذا ؛ إذ الممتنع من حيث حقيقته التي هي

_____________________________

(١) « فصوص الحكم » للفارابي ، ص ٥٩ ، فص ١١.

(٢) « البقرة » الآية : ٢٠.

٥٠
 &

عين اللاشيئية كما أنّه ليس مقدوراً كذلك ليس معلوماً ، كيف والمعدوم المطلق لا [ يخبر ] (١) عنه ، ومن حيث وجوده في نشأة الأذهان عالية كانت أو سافلة كما هو معلوم كذلك هو مقدور.

فإن قيل : علمه تعالىٰ يتعلّق بذاته ، وذاته معلومة له تعالىٰ بخلاف قدرته ، فكيف الاتحاد للعلم والقدرة ؟

قلنا : تعلّق العلم والعالِمية بذاته تعالىٰ ـ كما قالوا ـ معناه : أنّ ذاته عين العلم ، لا أنّ ذاته شيء وعلمه بذاته شيء آخر ، فكذلك تعلّق القدرة والقادرية معناه أنّه عين القدرة ، فالمساواة والاتحاد محقّقة بين مفهومي العلم والقدرة من حيث المصداق والوجود ، وكلامنا ليس في اتحاد مفهومي المعلوم والمقدور. فثبت أنّ كلّ ما هو معلوم لله تعالىٰ بلغت إليه قدرته.

ثمّ إنّه ليت شعري بأيّ لسان أصف محاسن العلم ومحامده ، وفي أي بيان أذكر شرافته وإنافته : العلم نعم القائد في طريق المشاهدة ، ونعم الدليل في سبيل العيان ، ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( اطلبوا العلم من المهد إلىٰ اللّحد ) (٢) ، وقال : ( اطلبوا العلم ولو بالصّين ) (٣) ، وقال : ( طلب العلم فريضة علىٰ كل مسلم ومسلمة ).

العلم ثم العلم حبّذا رصد

فلتطلبوا من مهدكم إلىٰ اللحد

ولتبتغوا ولو بسفك المهج

ولتفحصوا ولو بخوض اللجج

وحق علم لهو التوحيد

وحقّ قبلة هو المجيد

قال المولوي :

خاتم ملك سليمان است علم

جمله عالم صورت جان است علم

_____________________________

(١) في المخطوط « خبر ».

(٢) « عوالي اللآلي » ج ٤ ، ص ٧٠ ، ح ٣٧ ؛ « بحار الأنوار » ج ١ ، ص ١٧٧.

(٣) « عوالي اللآلي » ج ٤ ، ص ٧٠ ، ح ٣٦ ؛ « بحار الأنوار » ج ١ ، ص ١٧٧.

٥١
 &

آدمى ازين هنر بيچاره گشت

خلق درياها وخلق کوه ودشت

( وَبِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِيْ أَضاءَ لَهُ كُلَّ شَيءٍ )

أي بضياء فيضك المقدّس الذي استضاء به جميع الأشياء ، واستنار به كلّ الموجودات.

الفرق بين النور والضياء

قد فرّق بين النور والضياء بأنَّ الضياء : ما كان من ذات الشيء كالشمس ، والنور : ما كان مكتسباً من غيره كما في القمر ؛ ولذا قال تعالىٰ : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ) (١).

وفيما نحن فيه قد علمت مراراً أنَّ وجهه تعالىٰ كالمعنىٰ الحرفي ، داخل في صقع الذات ، ليس له استقلال في نفسه ، بل إضافة وإن كان بذاته ، ولكن لا يكون لذاته ، بل لعلّته التي هي ذات الله تعالىٰ ، ولهذا قال السائل : ( بنور وجهك ) ولم يقل : بضياء وجهك ، وإن أطلق عليه لفظ ( الضياء ) و ( الإضاءة ) ـ كما قلنا في شرحه ـ فباعتبار أنّه عين الوجود كسائر الصفات ، لا مكتسبة.

ولكن قوام الضياء والنور في الوجه لمّا كان بذاته الله العليا ؛ لأنّه مقوّم الوجود وقيّومه ، فكأنّه مكتسب ضوؤه من ذاته تعالىٰ ، والتفاوت بين نوري الوجه والذات بالشدّة والضعف ، كما قال عليه‌السلام ( توحيده تعالىٰ تمييزه عن خلقه ، وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة ) (٢) ، أي بينونة في صفة الشدّة والضعف.

وفي الحديث : ( إنّ لله تعالىٰ سبعين ألف حجاب من نور وسبعين ألف حجاب من ظلمة ، لو كشفها لأحرقت سبحاتُ وجهه كلّ ما انتهىٰ إليه بصره ) (٣).

_____________________________

(١) « يونس » الآية : ٥.

(٢) « بحار الأنوار » ج ٤ ، ص ٢٥٣ ، ح ٧.

(٣) « بحار الأنوار » ج ٥٥ ، ص ٤٥ ؛ ج ٧٣ ، ص ٣١.

٥٢
 &

والمراد بـ ( سبحات وجهه ) تعالىٰ : إشراقاته وأنواره ، كما في القاموس ، قال : « سُبحات وجه الله : إشراقاته » (١). وهي الأنوار القاهرة التي إنّا متكافئة من الطبقة العرضية ، وإما مترتّبة من الطبقة الطولية.

والحجب التي بينها وبين عباده : المنشآت والمخترعات والمكوّنات ، ونوريّتها بالنسبة إلیٰ جهاتها الربانية ، وظلمتها بالنسبة إلیٰ جهاتها النفسية.

وإطلاق عدد السبعين عليها إشارة إلىٰ كثرتها ، كما أطلق علىٰ الأيام الربوبية تارةً ( أَلْفَ سَنَةٍ ) (٢) وتارةً ( خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) (٣) إشارةً إلىٰ سعة تلك الأيام وطولها.

ويمكن أن يراد بالسُبحات الأنوار الذاتيّة ، فحينئذٍ الحجب تكون أنواره الفعلية بجملتها ونوريتها وظلمتها ، علىٰ قياس ما مرّ.

وقوله : ( أضاء ) من الإضاءة ، وهو هنا لازم ، وفاعله قوله : ( كلّ شيء ) إذ باب الأفعال قد يجيء لازماً. واللام في قوله : ( له ) للتعليل ، والضمير راجع إلىٰ النور المضاف إلىٰ الوجه.

ويحتمل أن يكون متعدّياً ، وفاعله ضمير مستتر راجع إلىٰ مرجع ضمير الخطاب ، وهو الله تعالىٰ ، من باب الانصراف من الخطاب إلىٰ الغيبة ، والجملة الصلة مشتملة علىٰ ضمير عائد إلىٰ الموصول ، وهو الهاء في ( له ) ، وحينئذٍ قوله : ( كلّ شيء ) كان مفعولاً به ، ولكن الأوّل أقوام.

و ( أضاء ) بمعنىٰ : استضاء.

_____________________________

(١) « القاموس المحيط » ج ١ ، ص ٤٦٠ ، مادة « سبح » ، وفيه : « أنواره » ، بدل : « إشراقاته ».

(٢) « البقرة » الآية : ٩٦.

(٣) « المعارج » الآية : ٤.

٥٣
 &

( يا نُور )

بيان قسمي النور الحسّي والمعنوي

النور قسمان :

حسّي : وهو الذي يجري علىٰ ظواهر السطوح ، وعُرّف بأنّه كيفيّة ظاهرة بذاتها مُظهرة لغيرها ، كالأنوار السراجية والكوكبية ، حتّىٰ أظلالها وأظلال أظلالها ، إلىٰ أن ينتهي إلىٰ الظلمة ، وهي عدم قاطبة النور.

ومعنوي : وهذا حقّ حقيقة الوجود ؛ لأنّها ظاهرة بذاتها ومظهرة لغيرها ، وهذا هو القدر المشترك بين جميع مراتب النور المعنوي أيضاً ، من الظل وظل الظل ، والضوء وضوء الضوء إلىٰ نور الأنوار ، والنيّر الحقيقي : ( اللَّـهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (١).

فمراتب الوجود ، من الحقائق والرقائق والأمثلة والأرواح والأشباح والأشعة والأظلّة ، كلّها أنوار بحقيقته النورية لتحقّق هذا المعنىٰ فيها ؛ لأنَّ حقيقة الوجود ظاهرة بذاتها ، ومظهرة بها جميع الماهيات والأعيان الثابتات التي بذاتها لا موجودة ولا معدومة ، ولا نورانية ولا ظلمانية ، بل الماهية من حيث هي.

قال الحكماء : إذا سُئل بطرفي النّقيض فالجواب السلب لجميع الأطراف.

بيان فروق كثيرة بين النورين الحسّي والمعنويّ

ثمّ بين النورين الحسّي الظاهري العرضي والمعنوي الوجودي الحقيقي الذاتي فروق كثيرة ، كما قال صدر المتألّهين (٢) قدس‌سره وغيره من الحكماء.

منها : أنّ النور الحسّي العرضي ـ كنور الشمس مثلاً ـ قائم بغيره ، ونور الوجود قائم بذاته.

ومنها : أنّ النور الحسّي يجري علىٰ ظواهر السطوح والألوان المبصرة ، ونور

_____________________________

(١) « النور » الآية : ٣٥.

(٢) « شرح الأسماء » ص ٢٦٩.

٥٤
 &

الوجود وسع كلّ شيء من المعقولات والمحسوسات ، من المبصرات والمسموعات والمذوقات والمشمومات والملموسات والمتخيّلات والموهومات ، وما وراء الحسّ والعقل.

ومنها : أنّ النور الحسّي انبسط علىٰ ظاهر الألوان ، ونور الوجود نفذ في أعماق المستنيرات وبواطنها ، حتىٰ لم يبق من المستنير سوىٰ الاسم.

ومنها : أنّ النور الحسّي لا شعور له ، وأنوار الوجود كلّها أحياء ، بعضها بالحياة العامّ ، وبعضها بالحياة الخاصّ ، وبعضها بالحياة الأخصّ ؛ إذ الحياة ثلاثة أقسام :

بيان ثلاثة أقسام للحياة أولها : الحياة العامة

الأوّل : وهي الحياة العامة ، وهي التي في جميع الموجودات ، من الدرّة إلىٰ الذرّة ، هي نحو وجود الأشياء ، ولهذا قال تعالىٰ : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) (١) ؛ إذ التسبيح فرع الشعور والحياة ، ومن الأشياء : الجماد والنبات ، ولو لم تكن حية لما تسبح بحمده تعالىٰ ، ولكنها حية بالحياة العامة.

ثانيها الحياة الخاصّة

الثاني : وهي الحياة الخاصّة ، هي التي مبدأ الدرك والفعل ، أدناها حياة الخراطين ، وأعلاها هي الحياة الواجبة بذاتها.

ثالثها : الحياة الأخصّ

الثالث : وهي الحياة الأخصّ ، التي تختص بأهل العلم والعرفان والإيمان بالله ، وإلىٰ هذا أشار أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله : ( الناس موتىٰ وأهل العلم أحياء ) (٢). وقال تعالىٰ : ( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (٣).

والمقتول هاهنا أعمّ من المقتول الاضطراريّ كما في الشهداء ، والمقتول

_____________________________

(١) « الإسراء » الآية : ٤٤.

(٢) « ديوان الإمام علي » ص ٥.

(٣) « آل عمران » الآية ١٦٩.

٥٥
 &

الاختياري كما في العلماء المجاهدين الذين قتلوا أنفسهم بالرياضات والمجاهدات ، وارتكاب الأعمال الشاقة والمخالفة مع نفوسهم ، كما قال الله تعالىٰ : ( اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ) (١) و ( تُوبُوا إِلَى اللَّـهِ ) (٢).

بيان أقسام الموت الاختياري :

فإذا بلغ الكلام إلىٰ هذا المقام فالأنسب أن نذكر الموتات الاختيارية الأربعة التي هي معتبرة عند أهل السلوك ، ومشار إليها في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( موتوا قبل أن تموتوا ) (٣).

فاعلم أنّ أقسام الموت الاختياري أربعة ، وقيل : ثلاثة ، بجعل أحد الأقسام ـ وهو الموت الأسود ـ في الموت الأحمر.

الأوّل : هو الموت الأبيض ، وهو عبارة عن الجوع الذي يصفو القلب به ، بل هو سحاب يمطر الحكمة ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( الجوع سحاب يمطر الحكمة ) (٤) وقال : ( الجوع طعام الله تعالىٰ ). فإذا اعتاد السالك نفسه بالتجوّع وقلّة الأكل والشرب ، ابيّض قلبه وسرىٰ الابيضاض في وجهه ، فحينئذٍ مات موتاً أبيض.

والثاني : الموت الأخضر ، وهو عبارة عن لبس المرقّع ، وهو الثوب الموصل من الخرق الملقاة في الطّرق ، التي لا قيمة لها ، كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ( والله لقد رقَّعت مدرعتي هذه ، حتّىٰ استحييت من راقعها ، فقال لي قائل : ألا تنبذها عنك ؟ فقلت : اعزب عنّي ، فعند الصباح بحمد القوم السرى ) (٥).

فإذا قنع السالك من اللباس بالثوب المرقّع اخضرّ عيشه ، ووجدت نضارة في وجهه ، مات بالموت الأخضر.

والثالث : الموت الأحمر ، وهو عبارة عن المجاهدة مع النفس ، ويسمّىٰ بالجهاد

_____________________________

(١) « النساء » الآية : ٦٦.

(٢) « النور » الآية : ٣١.

(٣) « بحار الأنوار » ج ٦٦ ، ص ٣١٧ ، ج ٦٩ ، ص ٥٩.

(٤) انظر « الاُصول الأصيلة » ص ١٦٥.

(٥) « نهج البلاغة » الخطبة : ١٦٠.

٥٦
 &

الأكبر ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله حين رجوعه من بعض غزواته : ( قد رجعنا من الجهاد الأصغر ، عليكم بالجهاد الأكبر ) قالوا : وما الجهاد الأكبر ؟ قال : ( مخالفة النفس ) (١).

فإذا خالف السالك أهوية نفسه ، وعَبدَ الله تعالىٰ ، وقوىٰ عقله في الطاعات وتحصيل المعارف ، فقد مات بالموت الأحمر ؛ لإهراق دم النفس.

والرابع : الموت الأسود ، وهو عبارة عن تحمل الملامة والأذىٰ من الشامتين اللائمين ، في حبّ الله تعالىٰ ، ومحبّة أوليائه من النبيين والشهداء والصدّيقين ، كما قال الله تعالىٰ : ( يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ) (٢). وقال الشاعر :

أجدُ المَلامَةَ في هَواكَ لَذيذَةً

حُبّاً لِذِكرِكَ فَلْيَلُمني اللُّوَّمُ (٣)

فإذا لم يكترث السالك بتشنيع الواشين ولوم اللائمين في الحبّ ، مات بالموت الأسود.

وسرّ التسمية والتوصيف بهذه الأوصاف واضحة.

أمّا في الأوّل ؛ لابيضاض وجه السالك بالجوع ، كما مرّ ، وفي الثاني لاخضرار عيشه بالقناعة ، وفي الثالث لإهراق دم النفس في الرياضة ، وفي الرابع لاسوداد وجه السالك بملامة الواشين.

ومنها : أنّ النور الحسّي له أوّل وله ثان ، وله مقابل ، ونور الوجود ليس له أوّل ولا ثانٍ ولا مقابل ؛ لأنّه واحد بالوحدة الحقّة الحقيقية ، ولا مضادّ له.

نقل كلام شيخ الاشراقيّين

قال الشيخ المقتول شهاب الدين السهروردي ، رئيس الحكماء الإشراقيّين قدس‌سره : « وإخوان التجريد يشرق عليهم أنوار ، ولها أصناف :

_____________________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٢ ، ح ٣ ، « الحكمة البيضاء » ج ٥ ، ص ١٣ ، باختلاف.

(٢) « المائدة » الآية : ٥٤.

(٣) « مختصر المعاني » ص ٣٠٦ ، والقائل : هو أبو الشيص.

٥٧
 &

الأول : نور بارق يرد عليهم ، وينطوي كلمعة بارقة لذيذة.

والثاني : وهو بعد الأول ، نور بارق أعظم من النور الأوّل ، وأشبه منه بالبرق ، إلّا إنّه برق هائل ، وربما سمع معه كصوت رعد ، أو دوي في الدماغ.

والثالث : نور وارد لذيذ ، يشبه وروده ورود ماء حار علىٰ الرأس.

والرابع : نور ثابت زماناً طويلاً ، شديد القهر ، يصحبه خدر في الدماغ.

والخامس : نور برّاق لذيذ جدّاً ، لا يشبه البرق ، بل يصحبه بهجة لطيفة حلوة ، تتحرّك بقوّة المحبّة.

والسادس : نور محرق ، يتحرّك من تحريك القوّة العزّية ، وقد يحصل من سماع طبول وأبواق واُمور هائلة للمبتدئ.

والسابع : نور لامع في خطفة عظيمة ، يظهر مشاهدةً وإبصاراً ، أظهر من الشمس في لذة مغرقة.

والثامن : نور برّاق لذيذ جدّاً ، يتخيّل كأنّه متعلّق بشعر الرأس زماناً طويلاً.

والتاسع : نور سانح مع قبضة مثالية ، تتراءىٰ كأنّها قبضت شعر رأسه ، وتجرّه شديداً وتؤلمه ألماً لذيذاً.

العاشر : نور مع قبضة ، تتراءىٰ كأنّها متمكّنة في الدماغ.

الحادي عشر : نور يشرق من النفس علىٰ جميع الروح النفساني ، فيظهر كأنّه تدرّع بالبدن شيء ، ويكاد يقبل روح جميع البدن صورةً نوريةً ، وهو لذيذ جداً.

الثاني عشر : نور مبدؤه في صولة ، وعند مبدئه يتخيّل الإنسان كأنّ شيئاً ينهدم.

الثالث عشر : نور سانح ، يسلب النفس وتتبيّن معلّقة محضة ، منها تشاهد تجرّدها عن الجهات.

الرابع عشر : نور يتخيّل معه ثقل لا يكاد يطاق.

الخامس عشر : نور معه قوّة تحرّك البدن ، حتّىٰ يكاد يقطع مفاصله.

وهذه كلّها إشراقات علىٰ النور المدبّر ، فتنعكس علىٰ الهياكل علىٰ الروح

٥٨
 &

النفساني ، وهذه غايات المتوسّطين.

وقد تحملهم هذه الأنوار فيمشون علىٰ الماء والهواء ، وقد يصعدون إلىٰ السماء مع أبدان ، فيلتصقون ببعض السيارة العلوية ، وهذه أحكام الإقليم الثامن ، الذي فيه جابلقا وجابرصا وهورقليا ذات العجائب.

وأعظم الملكات ملكة موت ، ينسلخ النور المدبّر من الظلمات البدنيّة وإن لم يخل عن بقية علاقة مع البدن ، إلّا أنّه يبرز إلىٰ عالم النور ويصير معلّقاً بالأنوار القاهرة ، ويصير كأنّه موضوع في النّور المحيط.

وهذا [ المقام ] (١) عزيز جدّاً ، حكاه أفلاطون عن نفسه وهرمس وكبار الحكماء ، وصاحب هذه الشريعة وجماعة من المُنسلخين عن النواسيت ، ولا يخلو الأدوار عن هذه الأمور ، وكلّ شيء عنده بمقدار.

ومن لم يشاهد في نفسه هذه المقامات فلا يعترض علىٰ أساطين الحكمة ، فإنّ ذلك نقص وجهل وقصور ، ومن عبد الله علىٰ الإخلاص ، وتاب (٢) عن الظلمات ، ورفض مشاعره ، يشاهد ما لا يشاهد غيره » (٣) انتهىٰ كلامه رفع مقامه.

ثم إنّ من المعلوم أنّ مراد السائل بالنور هاهنا هو حقيقة الوجود التي أنارت كلّ الظلمات الإمكانية ، من الدرّة البيضاء إلىٰ الذرّة الهباء ، واستشرقت بها جميع الماهيات ، من الجواهر والأعراض وما فوقها ، وهو نور الأنوار ، بهر برهانه وقهر سلطانه.

( يا قُدّوسُ )

( سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والرّوح )

( القُدُّوس ) ـ بضم القاف وتشديد الدال مع ضمّها ـ وكذا ( السُبُّوح ) ، بمعنى :

_____________________________

(١) من المصدر.

(٢) في المصدر : ومات.

(٣) « حكمة الإشراق » ضمن مجموعة مصنفات شيخ الإشراق ، ج ١ ، ص ٢٥٢ ـ ٢٥٥ ، باختلاف.

٥٩
 &

الطاهر ، المنزّه عن العيوب والنقائض. وقد يفتح القاف في ( القدّوس ) والسين في ( السبوح ).

فهو تعالىٰ قدّوس ، أي منزّه عن جميع النقيصة والعيب حتّىٰ عن الماهيّة ؛ لأنه تعالىٰ ماهيته إنيته ، وهي تأكدّ الوجود والوجوب وشدّة النورية ، كما قرّر في محلّه ، ومجرّد عن جميع المواد ، سواء كانت المادّة بمعنىٰ المحلّ المستغني فيها ، كما في المادّة بمعنیٰ الموضوع بالنّسبة إلیٰ العرض ، أو كانت المادّة بمعنیٰ المتعلّق ، كما في البدن بالنسبة إلىٰ النفس ، أو كانت المادّة العقلية ، كالجنس إذا أخذ بشرط ( لا ) في البسائط الخارجيّة ، كالأعراض أو كالمادة التبعية ؛ لأنَّ هذه معنىٰ المادّة العقلية في الأعراض ، وكالماهية بالنسبة إلىٰ الوجود ، فإنَّ الماهية مادّة للوجود. فعلت ساحة كبريائه تعالىٰ عن أن يصل إليها أغبرة النقائص والحاجات والماهيات والموادّ علوّاً كبيراً ، كما قيل :

أنت المنزّه عن نقصٍ وعن شينٍ

حاشاي حاشاي عن إثبات اثنين (١)

( يا أَوَّلَ الأَوَّلينَ وَيا آخِر الآخِرينَ )

هاتان الأولية والآخرية ليستا زمانيتين كما يتبادر إلىٰ بعض الأوهام ؛ لأنّه تعالىٰ ليس في حدّ من حدود الزمان حتّىٰ يحيط به ، وكيف يسع للزمان الذي هو من مبدئه إلىٰ منتهاه كالآن الواحد بالنّسبة إلىٰ مقرَّبي حضرته تعالىٰ ، فكيف بجنابه أن يظهر الزمان في سطوح نوره تعالىٰ ؟

بل هذه الأوليّة والاخريّة سرمديّتان وذاتيتان ؛ إذ وعاء وجوده تعالىٰ هو السرمد ، كما أنّ وعاء وجودات العقول والنفوس المفارقة هو الدهر ، ووعاء الطبائع السيّالة

_____________________________

(١) لم نعثر عليه بهذا النظم وفي « ديوان الحلاج » ص ١٦٠ :

أأنت أم أنا هذا في إلهين

حاشاك حاشاك من إثبات اثنين

٦٠